محمود سعيد

هو الأب الحقيقي لفن التصوير المصري الحديث. عبَّر عن الشخصية المصرية في فن التصوير، وعبَّر عنها محمود مختار في فن النحت.

وُلد بالإسكندرية في الثامن من أبريل عام ١٨٩٧م. كان بيت أبيه — محمد سعيد باشا رئيس وزراء مصر أعوام الحرب العالمية الأولى — مجاورًا لجامع أبي العباس.

درس في كلية فيكتوريا ومدارس الجزويت، ثم في المدرسة السعيدية بالقاهرة، واستكمل تعليمه الثانوي في مدرسة العباسية بالإسكندرية. نال البكالوريا عام ١٩٢٥م. حصل على ليسانس الحقوق الفرنسية عام ١٩٢٥م. عيِّن فى ١٩٢٩م مساعدًا للنيابة بالمحاكم المختلطة بالمنصورة.

لا يذكر متى أمسك بالفرشاة — للمرة الأولى — وحاول الرسم. علَّم نفسه الفن. تلقَّى دروسًا أولية — هو والمصور محمد ناجي — في مراسم فنانين إيطاليِّين هواة، كانوا — مطلع القرن العشرين — يقيمون في الإسكندرية. اعتمدا على موهبتهما بأكثر مما اعتمدا على المهارة الأكاديمية وأساليب الاحتراف. اقتصرت المناهج الدراسية في مدرسة الفنون الجميلة على تخريج فنانين يجيدون الرسم الواقعي والتسجيلي، يرتبط بالفن الأوروبي، ويحاكيه. أبانت موهبته عن ذاتها في مرحلة مبكرة.

صقَّل موهبته الفنية بالدراسة الحرة، إلى جانب اشتغاله بالعمل القانوني فترةً طويلة من حياته. عمق من صقل موهبته كوزموباليتنية المدينة، والمراسم المتعددة للفنانين الأجانب، وأسفاره خارج البلاد، وزيارته للمتاحف والمعارض العالمية.

لم يكن الفن التشكيلي — في صباه — من المهن المعتبرة. كانت عائلته تراه مضيِّعًا وقتَه فيما لا يُجدي. المحامي يسمَّى السفيه، الصحفي يسمَّى الجورنالجي، الفنان اسمه الأرتست. معظم الأفندية يرتدون الطرابيش، بينما يرتدي علماء الدين والأزهريون الجبب والقفاطين، ويرتدي أبناء البلد الجلابيب البيضاء، والفلاحون الجلابيب الزرقاء. ترتدي بنات البلد الملاءات اللف والمنديل بأويه المزين بالترتر. تقتصر العباءة السوداء والحبرة واليشمك على الطبقة الوسطى وما فوقها. اكتسبت موهبته — فيما بعد — أبعادها. صارت أسلوبًا للفنان، يتجاوز التسجيل إلى الإضمار والإيحاء والرمز.

كان همُّه الفن. أسقط المعاني التي تمثِّل دوافع للآخرين: الشهرة والمظهرية والعائد المادي. جعل فنَّه رسالةً ورؤية. استوحى الفنون الفرعونية والقبطية والإسلامية والغربية، ضفَّرها في نسيج متشابك الخيوط، متناغم التكوينات.

مال إلى ارتياد معارض الربيع الأولى بالقاهرة، ومعارض الفنانين الأجانب بالإسكندرية، ينتمون إلى جنسيات مختلفة، ويتجهون بمعارضهم إلى الجاليات التي ينتسبون لجنسياتها.

لم يقتصر على زيارة معارض الفن التشكيلي. حرص على سماع الموسيقى الشرقية والغربية. وكان يحرص على مشاهدة عروض الفِرق الأجنبية في دار الأوبرا: حلاق إشبيلية وشمشون ودليلة لسان صانس، ومفستوفيليس لبويتو، وتوسكا ومدام بترفلاي لبوتشيني، وتانهويزر لفاجنر.

سافر عام ١٩١٩م إلى باريس — بضغط من أبيه — للحصول على ليسانس الحقوق. لم يكن جاوز التاسعة عشرة، لكنه زاوج بين الدراسة الأكاديمية وزيارة المعارض والمتاحف. وسافر في زيارات متقطعة للدراسة الشخصية في متاحف إيطاليا وإسبانيا وهولندة.

رائحة بحر الإسكندرية لا تُزايل أنفه، بعيدًا عن المدينة. اختلاط اليود والملح والأعشاب والطحالب، وما يتداخل معها مما يصعب تبيُّنه.

توزَّعت حياته — بعد العودة إلى مصر — بين وظيفته في القضاء، وإبداعه الفني. حاول أن يُضيف إلى موهبته، بزيارة المعارض والمتاحف والكنائس في هولندة وبلجيكا وسويسرا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا. يسافر إليها في أوقات إجازاته من عمله الوظيفي.

ظل على حرصه في زيارة باريس. يزور المعارض والمتاحف، يُطالع الدوريات الفنية، يطَّلع على كتب تاريخ الفن. تردَّد على الأوبرا وحفلات الموسيقى ومسرح الكوميدي فرانسيز والأوديون ومتحف اللوفر (صار — بتوالي تردده على اللوفر — على معرفة بالبهو الكبير والقاعات والأجنحة والممرات ومواضع اللوحات والتماثيل، حتى حجرات موظفي المتحف عرف أماكنها) والفيوكولومبيه والأتيلييه وقاعة الموسيقى الكبرى في ليل. يقضي — يومًا في الأقل كل أسبوع — في مشاهدة حفلات موريس شيفالييه، وسماع الموسيقى السيمفونية في قاعات جافو وإيرار وبليل، وكونسرفتوار باريس وكولون وباولو ولاموريه. حفظ وجدانه سيمفونيات بيتهوفن وشوبان وبرامز وهايدن وموزار وشوبرت ومندلسون، وكونشرتات موزار وبيتهوفن وشوبان وبرامز ومندلسون، ورباعيات بيتهوفن وهايدن وموزار. استمع إلى الموسيقى الدينية في كنيسة السوربون. ربما أغمض عينيه. أعمل ذهنه في تأليف تراكيب هارمونية وتحويرها. الانتقال من مقام إلى مقام، الدندنة، الصفير. لا يلتفت إلى النظرات التي قد تلحظ انغماسه في لحظات الموسيقى.

وصفه عبد اللطيف النشار بأنه شاعر، يكتب قصائده بالريشة واللون. أطال دراسة أعمال فناني الغرب. استوعبها تمامًا. حاول أن يفرز ما هضمه في لوحات تعبِّر عن الكيان المستقل.

أحب الإسكندرية: البحر والصيادين والشمس وزرقة السماء والسحب، وألقَ ضوءُ القمر على الأمواج والسحب والمد والجزر والمراكب والأشرعة والصخور والأفق والظلمة الساكنة والظل والضوء والنسائم الهادئة وهبوب الريح والنوات. تشرَّب المدينة في داخله. الناس والطبيعة والبيئة والأحياء الشعبية والأسواق وباعة العرقسوس وحلقات الذكر والموالد والزار والمعتقدات والعادات والتقاليد. حتى المرئيات الساكنة يشعر أنه يحبها. عبَّر — بالريشة والألوان — عن الرؤى والملامح والقسمات. نطقت لوحاتُه بالعفوية. لم يحاول التقليد ولا المحاكاة. ما يريد وجدانه أن يعبر عنه، جرَت به ريشته على اللوحة. صنع لغته التشكيلية الخاصة. أفاد من الأساليب الأوروبية، ضفَّرها بأسلوبه الخاص، تربطه بالوجدان المصري وشائجُ مهمة، واضحة. أسرَته فكرة الفن القومي، الطابع المصري المستقل عن الأشكال الأوروبية، الممتد — بجذوره — في أعماق البيئة. رفض أن يكون النموذج الأوروبي هو المثل الوحيد الذي ينبغي أن يُحتذَى، التعبير عن البيئة المصرية، الشخصية المصرية. تفرد الفن المصري بقدر اختلاف لغته عن أية لغة فنية أخرى، وتقديم إضافات جديدة في استخدام اللون والظل وطرق التعبير. لجأ إلى تقابل الخطوط الرأسية والأفقية، الأضواء البراقة والظلال الداكنة، البنائية الهندسية ذات التكوين المحدد، الهارموني الموسيقي المتكامل العناصر والمفردات، المسحة الصوفية بإيمائها إلى المجهول، الإبحار في عوالم بلا آفاق.

مال إلى الطلاقة المتحررة في التعبير. استبدل بالفرشاة سكين الباليت. خلق لنفسه واقعًا فنيًّا خاصًّا، له أبعاده الاجتماعية والجمالية. عكسَت لوحاته رؤاه للشخصية المصرية، فهمه لها، وتعبيره عنها. التواصل مع التراث بالأخذ منه، والاختلاف عنه، التعبير عن البيئة واللحظة المعاشة.

•••

تعددت الأبعاد في حياته، الجنس، العبادة، الموت. محاور تلتقي من حولها رؤيته للعالم، وللحياة التي يعيشها. في لوحاته، كل ما ينتمي إلى العالم الذي يعيش فيه: الرجال، النساء، الأطفال، بنات بحري، المدينة، الأسرة، الصلاة، الدراويش، الزار، الباعة، الحمير، الجاموس، الجياد، القطط، الأسماك، المراكبية، الصيادون، الصيد العجيب.

عُنيَ بالبعد الثالث، وقواعد المنظور، عكس ما يطلبه الفن الإسلامي من التجريد الزخرفي. أجاد استخدام الألوان الداكنة، وانعكاسات الضوء والظلال.

عبَّر في تكوينات أشبه بأعمال النحت المصري القديم، وبإبراز العمق النفسي للشخصيات، إلى جانب دقة الملامح، وما يُشبه الروح الصوفي المضمخ بأريج البخور.

لم يكن يميل إلى التعبير عن أفكاره وآرائه في الفن، بالكتابة. اكتفى بأن يكون الفن وسيلته الوحيدة للتعبير، يعكس رؤيته للبيئات التي يحبها. يستعيد الملامح والقسمات والجزئيات والتفاصيل. هذا الخليط من الأسرار والقلق والمخاوف والرغبات والأحزان والغضب والتطلعات والتصرفات التي بلا معنًى.

ربما اختار الأرض الخلاء بين ميدان إبراهيم الأول وشارع جودة، نظراته موزعة بين صفوف البيوت القزمة المتساندة، والشوارع الضيقة، الطافحة بالطين والعطن كالمزاريب.

يفضل الساحة الترابية قبالة صخرة الأنفوشي.

إلى اليمين قصر الملك، ومقابر البطالمة، وانحناءة الطريق إلى نهاية خط الترام، ومستشفى رأس التين. إلى اليسار امتدادات الطريق إلى الأنفوشي، والسيالة، وميدان المساجد، حتى المنشية، فتفرعات الشوارع إلى أحياء المدينة.

يحمل له الخادم الحامل الخشبي والباليتة والحقيبة الجلدية، بها الفرشاة وقلم الرصاص وسكين المعجون والألوان الزيتية وألوان الجواش والأوراق.

يتنقل — في الساحة الترابية — بين البيوت المطلة على ساحل الأنفوشي وشاطئ البحر. يلحظ تبدلات الطبيعة بتوالي الأيام، تحول أوراق الشجر ما بين الخضرة والصفرة فالسقوط، السكون، والهياج، ورذاذ الأمواج، والطحالب، والأعشاب، وتراكم السحب، وتداخلها، وتيارات الهواء، وهبوب الريح، والنوات، والحصيرة، والتقلب، والتمرد، والثورة، والفنار، وأضواء السفن البعيدة، وقوارب الصيادين.

يحلو له التُّطلع إلى الصخرة الساكنة. صعودها في قلب المياه، يحرك في داخله مشاعر يشغله التعبير عنها. تَصِل أسراب النورس المسافة بين الشاطئ والصخرة في أسراب متلاحقة. يُمسك الفرشاة، يغمسها في الألوان، يحركها على اللوحة، يرسم عوالم يصنعها امتزاج الواقع والخيال ولمسة الفن. طالت حواراته مع الطبيعة الساكنة، ليست خرساء، لكنها تنبض بالحياة. تنعكس في لوحاته أصداء ما أَلِفه من سماع الأذان، وتلاوة القرآن، ونداءات الباعة، وصياح الأطفال وهم يلعبون.

استهوَته الحكايات عن الصخرة، ما جرى بين عروس البحر وكرم حامد، خيط الدم المتسرب من الصخرة، إخفاق حمدي درويش في تدميرها، جلوس الشبان والفتيات إليها، يحتمون بها، يتسامرون، يتأملون آفاق البحر. لا يشغلهم انعكاس حرارة الشمس، ولا حكايات عروس البحر مع الذين تجتذبهم إلى الأعماق بالهوى، فيعودون محملين بالخيرات، أو تجتذبهم بالعداء، فلا يعودون.

كان قد أنصت إلى تعدد الحكايات عن عروس البحر، جنية البحر. لم يكن رآها من قبل، ولا كوَّن لها — في مخيلته — صورة محددة. تبدلت الصورة باختلاف الحكايات، ترسم كل حكاية لجنية البحر ما يلغي الصورة الواحدة، الواضحة.

اختلف — في فنه — حتى عن أبناء جيله: يوسف كامل، محمد ناجي، راغب عياد، أحمد صبري. جاوز فنه مجرد الحرفية في الأداء واللون والظل والعمق ولمسة الفرشاة. أعماله تعبير عن الشخصية المصرية، هويتها المجتمعية والثقافية.

لم يكن يملُّ السير في الأحياء القديمة.

يخترق الميادين والشوارع والحواري والأزقة. يتأمل البنايات المتهالكة والمقاهي والدكاكين والباعة الجائلين وباحات المساجد والجالسات أمام البيوت والمطلات من النوافذ وألعاب الأولاد: السيجة، عنكب يا عنكب، أولها إسكندرني.

اختار للوحاته أسماء تظهر انتماءه إلى البيئة الشعبية: الشواديف، الذكر، الصيادون في رشيد، الصيد العجيب، المدينة، الصلاة، العائلة، بنات بحري.

كرر مفردات البيئة. أعاد صياغتها في أشكال وتكوينات شكلية. أضاف اللمسة المعاصرة إلى الفنون القديمة. لم يفصل بين العناصر المختلفة، في إيقاعات سحرية. ينفض الغبار عن اللوحات بنفسه، يلامسها بالمنفضة فلا يخدشها. يرفض أن يترك الأمر للخدم.

لأن عبد الهادي الجزار استوحى لوحته «أدهم» من السيرك الشعبي، فقد حرص محمود سعيد على اقتنائها. أحب المصرية في تكويناتها، وإفادتها من الثقافات والأساليب الفنية، المحلية والغربية. تمازج الفرعونية والإفريقية. الرؤى والألوان والظلال.

عاب على أبناء طبقته أن المظهرية تغلب على اهتمامهم بالفنون. هي ليست للتذوق، ولا للتثقف، ولا حتى للاستمتاع، لكنها للمناسبات الاجتماعية التي يلتقون فيها حول شيء ما، لا يعنيهم الفن، وإنما تعنيهم المناسبة. يجلسون، يخوضون في أحاديث تبدأ ولا تنتهي.

•••

– محمود سعيد.

راجع حرس قصر رأس التين اسمه في دفتر التشريفات. ثم أذنوا له بالدخول.

ست سنوات، أو سبع، لم يدخل القصر. لا يعرف متى ينزل فيه الملك فاروق أشهر الصيف، ومتى ينزل في قصر المنتزه. باعث الاستدعاء شغله عن كل ما حوله. الأسوار العالية، والخضرة، والنافورات، والساحة الرخامية، تحيط بها أشجار صغيرة متلاصقة، والأبنية المتداخلة بين الأبيض والبنِّي.

مضى وراء التشريفاتي ذي البذلة السوداء المزينة بالقصب، إلى باب مغلق، على جانبَيه حارسان يرتديان زيًّا ملونًا بالأحمر والأزرق، وموشَّى بالذهب، ويضعان الطربوش فوق الرأس.

فتح التشريفاتي الباب، وقال: ضيف صاحب الجلالة!

هل إغفال اسمه مقصود، أو أن الخادم نسيَ الاسم؟ أو أن هذا هو ما يطلبه البروتوكول؟

هزَّ الملك رأسه بإيماءة ترحيب، في جلسته وراء المكتب.

اختلفت ملامحه عمَّا يتذكره من آخر لقاءاتهما، اختلفت حتى عن الصور التي تُنشر له في الصحف. أقرب إلى البدانة، أضفى عليه شاربه المنسدل على شفته مظهرَ القسوة، وإن بدَت عيناه ساجيتَين.

تحدَّث الملك عن حبِّه للفن. تردَّد في أوروبا على معارض، حضر حفلات موسيقية، شاهد عروضًا سينمائية ومسرحية.

علا صوته فجأة: أحب كذلك اللوحات الفنية.

واصطنع ابتسامة متوددة: لوحاتك تعجبني.

ربت صدره: تقدير يُسعدني.

قال الملك: لم تَعُد معظم لوحاتك — كما كانت — في مستوى مكانتك.

لاحظ أن الملك يكثر — في أثناء حديثه — من الالتفات ناحية الرجال المتناثرين حوله، كأنه يسألهم: هل أبديت الملاحظة الواجبة؟ هل قلت السؤال المناسب؟

تصوَّر أنه سيلتقي بالملك منفردًا. لاحظ الرجال المتناثرين في مساحة المكتب. مَن التقى بهم داخل القصر، وفي حفلات الأسرة المالكة، وثمة من رأى صورهم في الصحف: كريم ثابت، إلياس أندراوس، إدجار جلاد، إسماعيل شيرين، يوسف رشاد، أنطون بوللي، حلمي حسين، محمد حسن.

قال الملك: أنت الآن ترسم نساء يرتدين الملاءات اللف.

همس: لوحة بنات بحري؟

ثم وهو يحاذر أن يتسرب الانفعال إلى صوته: هذه لوحة قديمة.

هل رسم بنات بحري لأنه أحبَّ الحي، أم لأنه أراد أن يُخلده؟ أم لأن المشهد ظل عالقًا في وجدانه، حتى نقله من الذاكرة إلى المساحة البيضاء؟

أحب الملاءة اللف، ومنديل العياقة فوق الحاجبين، والبرقع، والقصبة المذهبة، والقبقاب، والخلخال ذي الوسوسة.

قال الملك: لوحات أخرى كثيرة.

واتجه إلى الواقفين حوله بنظرة متسائلة: الفتاة ذات الحلي؟

أوحَت له الفتاة — بمجرد رؤيته لها — بالخلو إلى القماش والاستاند والفرش والألوان: الشعر الأكرت، أو الأسود المفروق من أوسط الرأس، الملامح الأقرب إلى الزنجية: العينان المكحولتان الواسعتان، الشفتان الممتلئتان، الحسيتان، الأنف الطويل، الحاجبان الكثيفان كقوسَين. القرط المتدلِّي من أُذُنَيها، والحلي حول عنقها وساعدَيها، والجسد الأقرب إلى الامتلاء. بنت البلد تجمع بين الإنسانية والحيوانية، الصفار الروحي والاشتعال الجنسي، الروح الباسم والحزن القاتم. وعاء كبير، تغلي فيه المتناقضات، وتتصارع الأضداد.

رفَّت ابتسامةُ سخرية على شفتَي الملك: لن أفاجأ بزواجك من امرأة ترتدي الملاءة اللف، أو تتعرَّى بالثمن … ذلك ما فعله أحمد تيمور باشا.

وكسا صوته بجدية: أنت خال الملكة … فأنت عضو في الأسرة المالكة.

ورمقه بنظرة متسائلة: ألم يَعُد في العائلة المالكة مَن تستحق ريشتك؟

لم تكن الفتاة ذات الحلي الوحيدة التي جرَت فيها ريشته بالبعد الحسي. ثمة فاتنات بحري، ذات العيون الخضراء، ذات القرط اللؤلؤي، ذات الجدائل الذهبية، راقصة وتخت، أعلى الوسائد، بدرية، موديل، القط الأبيض، راقصة، السابحات، حاملة القلة، عروس البحر، فتاة على الكرسي، على الأريكة الخضراء.

وهو يغالب استياءه: ليست المسألة فيمن يستحق. هذا فن.

وقف فاروق دلالة انتهاء المقابلة.

•••

في ١٩٤٧م حسم محمود سعيد الصراع في داخله بين حب الفن وممارسة القانون: أعطيت عائلتي والمجتمع خمسةً وعشرين عامًا في وظائف القضاء.

وفي لهجة واثقة: أظن أنه يجب أن أُمضيَ ما تبقَّى من العمر في مزاولة الفن.

أعلن تخلِّيه عن وظيفته بالقضاء، وتفرُّغه للفن تمامًا.

أشفق على نفسه من الوظيفة، لا تُتيح له الإنتاج كما يريد. خشيَ أن يُصيبَ فرشاتَه الصدأ. رفض أن يصبح مثل فناني يوم الأحد الأوروبيِّين، لا يجدون وقتًا لفنهم إلا أيام العطلات وأوقات الفراغ. قال: كانت ألواني، وكان الضوء عندي داخليًّا، أشعر به بداخلي، ويحاول الخروج. كان عندي شعور طيلة مدة اشتغالي بالمحاكم أني أرسف في أغلال. وكنت أريد الانطلاق من هذه الأغلال إلى دنيا الحرية.

تحرَّر من أسْر الوظيفة، تفرَّغ للإبداع وحده. ما يريده هو الرسم، والرسم، والرسم. تُرادفه قراءات وتأملات وخبرات شخصية وخبرات للآخرين. جعل من بيته في جناكليس مرسمًا، يقضي فيه معظم وقته. يقرأ، ويتأمل، ويرسم. تتحرك فرشاته على اللوحة بطلاقة تعبيرية، أبعادها الخطوط والألوان والظلال والخطوط الحادة والمستقيمات والزوايا والكثافة والضخامة والعمق والقوة والثقل.

إذا توقف — لفترة تطول أو تقصر — فلمراجعة النفس، وإعادة التأمل.

لم يَعُد الفن في حياته مجردَ استمتاع، وشغل أوقات الفراغ. ربط نفسه بالفن. يسيطر على أدوات التعبير. يتغلغل إلى ما وراء أسطح الأشياء، يتلمس الأعماق والجوهر. يتجاوز سقوط الضوء فوق الأجسام من مصدر خارجي: نافذة، كوة صغيرة، انفراجة باب، مصباح. جعل الضوء ينبع من داخل الأجسام كأنها تتلقى الضوء، تمتصه، تتشبع به، ثم تُفرزه في تكوينات اللوحة، الظل والنور ودرجات الألوان.

نسب حسين بيكار فنَّ محمود سعيد إلى المدرسة الباطنية، تختزن النور في أعماقها، وتتركه يشعُّ من مسام عناصر اللوحة، وينضح فوق السطح كما ينضح الماء من مسام آنية من فخار.

واحتضن محمود سعيد بنظرة إعجاب: لوحاتك تُقنعنا بضرورة الغوص في أعماق البيئة لاستخراج ما تبطن من عصارات الأصالة، وانتزاع المضمون من طيات تربتنا العريقة.

ثم وهو يُعيد النظر إلى اللوحة أمامه: كما أرى، فأنت فنان متأمل بطبيعتك، صوفي النزعة، ترفض الضوء المباشر، تُخاطبنا بلهجة شعبية أصيلة من وراء ظلمة داكنة، كأنها أستار الزمن، ينبثق من ورائها نور غامض متلألئ في غير ابتذال، يصدر من الداخل، ويشعُّ في الخارج، يختلج، وينبض، ويرتعش في صمت وقور.

أحب في الشخصية الإنسانية تناقضها، تبايُن أفكارها وتصرفاتها، تلاقي الخير والشر، البراءة والدنس، القديس والشيطان، في داخلها. لكن البعد الديني يبين في لوحات: الصلاة، صلاة الجمعة، حلقة الذكر، القارئ، الدراويش، زيارة القبور، ما بعد الدفن.

•••

حين بدأ رحيل الأجانب من مصر، أظهر محمود سعيد إشفاقه من أن يحملوا معهم مجموعات اللوحات لفنانين مصريِّين وعالميِّين. هذه ثروة قومية، يجب أن تظل في مصر. ثم عرف أن لوحات له، ولسيف وانلي وأدهم وانلي ومحمد ناجي وراغب عياد، ولوحات أصلية لفان جوخ ورامبرانت وسيزان وروبنز، حملها المهاجرون من الأرستقراطية اليونانية إلى بلادهم.

•••

توفي في نفس يوم مولده في ١٩٦٤م.

عاش سبعةً وستين عامًا، مارس — في معظمها — الفن التشكيلي. وكان أول فنان تشكيلي يحصل على جائزة الدولة التقديرية في أول أعوامها ١٩٦٠م.

وافقت أسرته على أن يتحوَّل قصرُه في جناكليس إلى متحف باسمه.

لم تستطع اللجنة — التي ترأَّسها حسين بيكار — أن تتسلم القصر في الموعد المحدد. اكتفى أفرادها — مؤقتًا — بتأمل البناية القديمة الطراز. منعهم من تفقُّد حجرات الطابق العلوي، كلب ضخم اقتناه محمود سعيد في أعوامه الأخيرة، وأَنِس لصحبته.

•••

انظر: حسين بيكار، عبد اللطيف النشار، عروس البحر، فاروق الأول، كرم حامد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤