محمود فياض

يا قوة الله!

أطلق الصيحةَ البطل المصري سيد نصير، وهو يرفع الثقل ١٩٢٨م. رفع، خطف، نطر. فاز ببطولة العالم. كرَّر الصيحة البطل المصري خضر التوني ١٩٣٦م. رفع، خطف، نطر. فاز ببطولة العالم. هتف محمود فياض: يا قوة الله! ١٩٤٩م. رفع، خطف، نطر. فاز ببطولة العالم.

كان محمود فياض يعرف أن الرفع هو المشكلة التي ينبغي أن يتدبرها. ليست مشكلته هو بالتحديد، لكنها مشكلةُ كلِّ الربَّاعين، سواء من المصريين أم الأجانب. يحقق الربَّاع أرقامًا مدهشة. يصعد المنصة لرفع الثقل فيخفق. تضيع أرقام الخطف والنطر. يراعي فلا يتجه بالثقل إلى الخلف، لا يستطيع حفظ توازنه فيسقط الثقل. لا يكفي رفع الثقل. لا بد من إبقاء الرفعة فوق الكتفين، أو فوق الرأس، ثوانٍ تؤكد ثباتَ حمل الثقل. يظل الثقل في موضعه حتى يُعطي الحكام إشارة إنزاله.

في السنة نفسها، فاز إبراهيم شمس، بالميدالية الذهبية، وفاز عطية محمد محمود بالميدالية الفضية.

•••

وُلد في ١٩٢٥م.

كان قد صدر تصريح فبراير ١٩٢٤م، لكن ظلت بصمات السيطرة الاستعمارية واضحة في المناهج الوزارية الدراسية. كان من بين الكتب المقررة لتدريس التاريخ بالمدارس الثانوية كتابٌ يقول إن مصر — منذ ١٨٨٢م — قد دخلت في طور جديد، وهو الاسترشاد بدولة أوروبية عظمى في السير في سبيل تهدئة أحوالها، وتنظيم إدارتها، وأن «إنجلترا لم تقصد بقاءها بمصر أمدًا طويلًا، بل كانت — على العكس من ذلك — عازمةً على الجلاء عنها، بعد أن ترسَّخ قدمُ الإصلاح فيها، وتخرج من الأزمة التي كانت سببًا في نزول الجيش البريطاني الديار المصرية، غير أنه حدثت أمور ومشاكل عاقت تقدُّم مصر على الوجه الذي تريده إنجلترا، فاضطرت للبقاء فيها إلى اليوم». وضمَّت الحكومة الجامعة المصرية إليها، وأضافت إليها الكليات القائمة من قبل، فضلًا عن إنشاء كلية للعلوم، وبدأ إنشاء كورنيش الإسكندرية من رأس التين إلى المنتزه، وتواصلت احتفالات أبناء مدن القناة ضد اللنبي، يصنعون — ليلة شم النسيم — دميةً يرمزون بها لكل شيء يكرهونه، مثلما كرهوا اللنبي من قبل، ويُشعلون النار فيها، واكتملت مدينة بور فؤاد، وانتشرت بين الشباب موضة رباط الرقبة الأخضر المزدان بالهلال والنجوم، وأصبحت عادة كبار الموظفين أن يرسلوا أبناءهم إلى المدارس الأجنبية. وكان من بين جيل أصحاب الابتدائية رجالٌ مفتولو الشوارب. ثم تجاوز الزمن الابتدائية، وأصبحت البكالوريا هي المناسبة، وتألفت لجنة لإصلاح الأزهر، وأصبحت غالبية الأُسَر المصرية توافق، بل تلحُّ أحيانًا، على تعليم الفتاة، وإن ترددت في مسألة توظيفها، وبدأت المرأة في التخلي عن النقاب، ثم عن الحجاب، انطلاقًا من تخلِّي المجتمع عن الكثير من القيود التي تُكبِّل انطلاقه، وأصبح «الأفندي» مطمحًا لغالبية الفتيات المصريات، وفتيات الأُسَر المتوسطة بخاصة، يحلمنَ بالزي الإفرنجي والطربوش الأحمر فوق الرأس، والمنشة، والوظيفة المضمونة، والمرتب الثابت، والهيبة التي تلازم صاحبها أينما حلَّ. أصبحت الوظيفة «الميري» هي مطمح كل الفتيات، وغنَّت المطربة سكينة حسن — تعبيرًا عن مطلب الفتاة المصرية آنذاك — «الأفندي يا نينة أنا حبيته، حيَّاني بوردة وحييته». وأعلن الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية استنكاره لتلاوة القرآن في الراديو: «وأي استهانة بكلام الله القويم واستخفاف بشأنه، أشنع من نقل ألفاظه الشريفة وآياته المقدسة، بآلات لا تُدار إلا للطرب بالأناشيد الغرامية والمداعبات الفكاهية واللهو»، وتخرَّجت في جامعة لندن أول طبيبة مصرية، هي خديجة حفني ناصف، شقيقة باحثة البادية، وسافرت سعاد فريد وفردوس حلباوي إلى لندن — على نفقة الدولة — لمتابعة تحصيلهما العلمي هناك، وأُنشئ الاتحاد المصري للصناعات، من بعض الاقتصاديِّين المصريِّين مثل طلعت حرب وإسماعيل صدقي. وكان ناديَا الأهلي والمختلط — الزمالك فيما بعد — هما ناديَا القمة في كرة القدم، وانشغل الناس بأحاديث كرة القدم، وأسماء حسين حجازي وسيد أباظة ومحمود حودة، وبالمباريات الشهيرة مثل مباريات منتخب القاهرة مع الفرق الأجنبية، وأُنشئت شركة مصر للتمثيل والسينما، وصدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق.

•••

معظم الروايات التي حصلت عليها عن طفولة محمود فياض ونشأته، شفاهية، يغيب عنها التوثيق، والترتيب الزمني للأحداث. ما زاد من صعوبة مهمتي تبايُن الروايات، فلا حقيقة مؤكدة.

لم يتفق تعدد الروايات حول الظروف الأسرية لمحمود فياض، كثرت الحكايات، تضاربت الأرقام والوقائع، اختلفت الروايات، لكنها أجمعت على طفولة فياض ونشأته في بحري.

راجعت اختلاف الروايات.

حاولت التوصل إلى ما يقرب من الحقيقة. ترددت على نصبة الشاي خلف زاوية جميعي، وعلى حلواني الطيبين، ودكان صانع الطرابيش المقابل، وأندية الاتحاد السكندري والأولمبي والترام. راجعت أرشيف مكتبة البلدية، وصحف «البصير» و«السفير» و«العهد الجديد» و«الاتحاد المصري». جلست إلى رياضيِّين من زملائه وأصدقائه. اختلفت كلُّ رواية مع الروايات الأخرى، أو نفَتها تمامًا.

فضَّلت أن أُجاوز ما عانَى الشحوب، فأسجِّل ما أكده تلاقي الروايات.

•••

حين بدأ محمود فياض في ممارسة لعبة رفع الأثقال ١٩٤٠م لم يكن قد بلغ السادسة عشرة.

كان قد مضى عام على بدء الحرب العالمية الثانية. القيود مفروضة على الإضاءة، وصفارات الإنذار تقتحم ليل المدينة، والكشافات تلحس السماء في بحثها عن طائرات الألمان، والأخبار تتوالى عن انتصارات الألمان في الصحراء الغربية، وجنود الإمبراطورية البريطانية يزاحمون الأهالي في شوارع الإسكندرية، وكوم بكير، وبارات شارع اللبان، والكازينوهات المطلة على طريق الكورنيش، ورجال حمدي درويش يطبقون قانون الطوارئ — على الناس — بقسوة بالغة. وعانى أحمد المسيري انصراف أفراد فرقته إلى الكازينوهات المطلة على الكورنيش، وافتتحت علية عشماوي شققًا عدة في منطقة الرمل، بأسماء رجال خاضعين لسطوتها. وكان من أشهر الرقصات الحديثة «الرابسا» و«تشيكا بوم تشيك»، ورقصات البرازيلية كارمن ميرندا، وظل جيل الآباء على حبِّه لرقصة «الفالس».

بعد عامين، فاز محمود فياض ببطولة مصر والإسكندرية. وفي ١٩٤٦م فاز بالميدالية الذهبية في بطولة العالم بباريس. ثم فاز في ١٩٤٨م بذهبية أولمبياد لندن.

في العام التالي، حصل على ذهبية بطولة العالم بلاهاي. ثم فاز في العام التالي بذهبية بطولة العالم بباريس.

تحامل محمود فياض على نفسه، وهو يتهيأ للنزول في محطة مصر. ظل — منذ عامه السادس عشر — يعاني آلام الانزلاق الغضروفي، وظل يحصد البطولات.

رفض أن ينزل في محطة سيدي جابر، ليَسْهل على أهل بحري لقاؤه.

اختلط الزحام والأعلام والزينات والفرق الموسيقية والورود ونثارات الملح والكلاكسات والهتافات والزغاريد ودقات الدفوف والطبول والمزمار البلدي ورقصات سيد حلال عليه وأغنيات ماهر الصاوي وتوزيع الشربات على مقاهي المينا الشرقية والسيالة والأنفوشي ورأس التين.

•••

رفَع الأثقال — للمرة الأولى — في النصبة الزجاجية الصغيرة، على ناحية تقاطع شارعَي جميعي والشوربجي. تحتل معظم مساحة الطريق الضيق. إلى جانبها أثقال الحديد بأرقامها المتصاعدة. يأكلون ساندوتشات الفول والفلافل والجبنة البيضاء والزيتون. يشربون الشاي على الدكة الخشبية المجاورة للعربة، يغسلون أيديَهم ببيكربونات المغنسيوم الجاف. ثم يتناوبون رفع الأثقال. يُضيفون إلى الثقل، ينقصون منه.

يبدأ محمود فياض بما يثق أنه أقرب إلى قدرته على حمله. يُفلح، فيزيد الثقل. أسخف شيء أن تنتهيَ المحاولات الثلاث بالفشل.

أجاد فياض رفع الأرقام المرتفعة، فسعى للانضمام إلى النادي الأولمبي.

أَلِف المشوار اليومي — بعد خروجه من العمل — بين بحري والنادي الأولمبي، بجوار وابور المياه.

تعلَّم كيف يسيطر على جسده، على عضلاته وحركاته. يعرف ما إذا كان الوزن مناسبًا أم لا، وكيف يُجيد كل رفعة فلا يخلط بين أداء الرفعات. مارس ألعاب الجمباز، وحمل الأثقال الخفيفة، والجري. ربما أدى مباراة في تنس الطاولة داخل نادي الأنفوشي الرياضي. دكان مستطيل، واسع المساحة، يُطل على شارع قصر رأس التين.

كان يحرص على الوزن، والإقلال من الدهن والزيت، ويُكثر من شرب الماء، ويُجري قياس الضغط والسكر، وتحليل الكولسترول. وبنصيحة من الحاج الطيبين، كان يداوم على شرب الزعتر المحلَّى بالعسل لتقوية القلب.

•••

اعتذر محمود فياض لخليل الفحام عن عدم الجلوس على قهوة فاروق. تأمل عبارة «قتل الوقت»، رفضها.

وهو يزفر: نحن لا نستطيع أن نقتل الوقت. الوقت هو الذي يقتلنا. ننتهي، ويبقى الوقت!

رفض الأخذ والعطاء في عرض أحمد المسيري، أن يبدِّل جلسته أمام دكان الطيبين. إذا جلس أمام باب السرادق، فسيجتذب الكثيرين ممن عرفوا فوزه ببطولة العالم. يدخلون السرادق بشعور الثقة، أن رفع محمود فياض الأثقال فقرة في البرنامج.

– هل أتحول من بطولة العالم إلى بطولة تياترو المسيري؟!

ظلت ابتسامة أحمد المسيري: مجرد جلسة للدعاية. أنت لن ترفع كوب الشاي لتشربه!

رفض تلميح المسيري بأنه سيتقاضَى مقابلًا للجلسة الصامتة.

مشواره — كل صباح — بين السلسلة وقلعة قايتباي.

يشم رائحة البحر: ملوحة الماء واليود والطحالب والأعشاب والقواقع والأصداف. يتأمل البلانسات والفلايك واللنشات والصخور وألق الشمس على وجه البحر والصواري والأشرعة. تناثر صيادو السنارة — في مواضع متقاربة — على صخور الشاطئ. الأمواج العالية تضرب مكعبات الصخور، أسفل الكورنيش الحجري. تغمر الشاطئ وهي تهدر. يرتفع الرذاذ، ينهمر إلى ما بعد وسط الطريق. قد ترتطم بجدران البنايات المقابلة. يمضي — في أوقات الصحو — داخل مرسى المينا الشرقية، ترسو على جانبَيه لنشات وقوارب وفلوكات كبيرة وصغيرة، تتضاعف بالصور التي تعكسها المياه بتحرك الأمواج، وهي تمضي نحو الشاطئ.

تباعدَت هرولته — كل صباح — ما بين السلسلة والقلعة. اكتفى بالسير المتمهل في المسافة نفسها. ثم اختار الجلوس أمام دكان الطيبين الحلواني. يرتدي بنطلونًا، وفانلة بكمَّين قصيرَين، يكشفان عضلاته. تمتد جلسته ساعتين، أو ثلاثًا، ثم يعود إلى البيت. يسير — في صباحات متباعدة — بين السلسلة والقلعة، لا ينظر إلى الأمام كما كان الحال في الأيام الفائتة، يتأمل الأفق والبلانسات وصيادي الجرافة والطرَّاحة والواقفين بالبوص فوق المصدات الأسمنتية وطيور البحر.

إذا كان الجو شتويًّا، زاد من مدة المشي. يُعطي عضلاته فرصة الاستجابة للتمرينات.

اقتحمَته الآلام فجأة.

أحسَّ بتخدير وتنميل، وشعور بالحرقة في أعلى الساق. زال الألم، وعاد. تكرر، واشتد في الفخذ والساق وظهر القدم.

قام من كرسيه للسلام.

شعر أنه لا يستطيع الوقوف، وأنه يوشك على التهاوي. ثم زالت الآلام، كأنها لم تكن. عادت السخونة متمازجةً في ساقه بالخشية من ملامسة أي شيء لموضع الألم. إذا حاول القيام من كرسيه، عاودَته الآلام حادة، قاسية. زادت الآلام في ظهره وساقه اليمنى. تقتصر على فترة الصباح، وتشحب بمرور وقت النهار. تشتد ليلًا، ولا تهدأ بالحركة. تنزل بطول الساق من الخلف.

أدرك أنه يعاني روماتزمًا.

زار الصيدلية ذات البابين على ناصية شارع إسماعيل صبري والتتويج. اشترى مراهم وكريمات وأدوية لعلاج آلام العنق والظهر وعرق النسا والتهاب الأعصاب وآلام العمود الفقري.

نصحه الصيدلي بحبوب، يجرعها في أثناء الوجبات حتى لا تُؤذيَ المعدة.

أطال التحمل حتى استقرت الآلام في جسده تمامًا، لا تُغادره في أي وقت. تعلو بمحاولة التحرك. مزَّقت عظام ظهره وساقه. يشعر أنها مثل النار الملتهبة، تسري ما بين نهاية العمود الفقري وأطراف القدم.

حاول أن يدفع ساقه، يحرِّكها. لم يجد استجابة. أعاد ما فعل، فتكرر فشله. أدرك أنه لم يَعُد يستطيع ثنْيَ ركبته.

طمأنه الحاج محمد الطيبين بأن الألم مبعثه تيارات الهواء.

قال الطبيب: هذه الآلام عارضة، وليست مرضًا.

– هل هو عارض بلا سبب؟

– الأسباب كثيرة … علينا أن نعرفها لنبدأ في علاجها!

ومسح — بتلقائية — على ظهره: مهم أن نعرف أن حوال ٨٠٪ من آلام أسفل الظهر يصعب الوصول إلى سبب واضح لها.

بحلقَت عيناه: هل أظل أُعاني بلا سبب؟!

– قد نعرف السبب لو أننا لجأنا إلى الأشعة.

زار مستشفى المواساة.

لاحظ الطبيب ارتفاع درجة الحرارة، يصحبها التهابُ الساق واحمرارها. شخَّص الطبيب الحالة بأنها حمرة متكررة.

أجرى محمود فياض فحوصًا وتحليلات وأشعة.

لمَّا تأمل الطبيب صور الأشعة، تحدَّث عن تقدُّم السن، ما يُحدثه من تبدلات في العمود الفقري، نتوءات تضغط على الأعصاب، فتُسبب آلام الظهر.

رفع الطبيب ملامح متسائلة: كما أرى … أنت في مرحلة الشباب.

– رياضتي رفع الأثقال.

هزَّ الطبيب رأسه: هذا هو السبب إذن!

ناقش الطبيب في تسمية المرض: عرق النسا؟

ألَا تعني التسمية اقتصاره على النساء؟

نطق الطبيب التسمية الصحيحة: النون بالفتحة.

لما أقبل على الصلاة، لم يمكِّنه ظهره من الركوع ولا السجود. بدَا كلوحٍ من الخشب، لا يقوى على ثنيِه لأية حركة صلاة. امتد الألم، كأنه النار المشتعلة، بلغَت أطراف أصابعه.

أثَّر المرض على قدمه. يتأوَّه لمجرد ملامسة الأرض. يستعين بمن معه، أو يراهم بالقرب منه. يسند راحته على كتفه، يُعينه على السير دون أن يطأ الأرض بالقدم الملتهبة.

قال الحاج الطيبين: هناك أطباء مشهورون وأطباء شطار.

أضاف في لهجة محرِّضة: ابحث عن الطبيب الشاطر.

طالبه الطبيب بألَّا يُطيل الوقوف على قدمَيه، فلا تشد عضلات الفخذين والساقَين، وتهتاج الأعصاب. نصحه بأن يحافظ على صحته بتمرينات المشي، المشي بتمهُّل، حتى لا تسترخيَ العضلات، وتتراكم الدهون، ويزيد الوزن.

قال: هل المرض نتيجة عدم الحركة بعد الاعتزال؟

– لمرضك سبب وحيد، هو تأثير رفع الأثقال على العمود الفقري وأعصاب الساقين.

– وإمكانية الشفاء؟

– قوية! … لكنك تحتاج إلى علاج دوائي وطبيعي.

رأى فيما يرى النائم، ماردًا هائل الجثة، كثيف الشعر، له مخالب وأنياب، كذلك الذي تدور حكايات راكبي البحر عنه.

التفَّ المكان بضبابية أخفَت تضاريسه، وإن بدا المارد كأنه يهمُّ بالتهامه.

همَّ محمود فياض بالتراجع، بالفرار من أمام المارد … لكن الثقل في ساقه ثبَّت قدمه بالأرض. حاول تحريك الساق، فأخفق.

انحنى المارد.

أدرك فياض أنه يُحيط عنقه بيديه، ليخنقه، لكنه احتواه في صدره، وطار به في الظلمة.

صحا فياض على صراخ استغاثة، لم يدرِ إن جاء في الحلم، أم أنه صراخ حقيقي؟!

عرض عليه الحاج الطيبين أن يصحبه إلى جودة هلال، أو يأتيَ بالرجل إليه. لا يكاد يلامس موضع الألم بيده، حتى تعود إليه العافية، كأنه لا يُعاني مرضًا ما. تتحرك ساقه، ويقف على قدميه، ويجري كما خيل الملك.

رفض محمود فياض الفكرة. المرض محنة، خص الله علاج الأطباء برفعها.

وشرد في الفراغ: الله هو الشافي في كل الأحوال.

•••

كانت البنت الصغيرة تعبُر الشارع من الناحية المقابلة.

ارتبكَت — بلا سبب — في منتصف المسافة.

انتفض في جلسته. تحامل على نفسه، وجذب الفتاة، رفعها، واحتضنها في صدره.

عرف من الأب، صانع الطرابيش، في الدكان المقابل، أنها ابنته.

أَلِف عبورَ البنت للشارع. لا تتحرك من حافة الرصيف، قبل أن يطمئن لها، وهو يقف على الحافة المقابلة، فتجري. يجتذبها إلى صدره. يُجلسها على كرسيٍّ مجاور.

يحرص — في جلسته — على أن يحرِّك ساقَيه، يطويهما، ويمدُّهما، في توالٍ، ليزول الخدر، ويجري الدم في العروق.

هو في حاجة إلى حب هذه البنت الصغيرة، مثلما هي في حاجة إلى حبه.

أحدث ظهورُها تغيُّرًا في حياته، يُدركه في حرصه على القعود أمام دكان الطيبين. يده تستند على الدرابزين، واليد الأخرى تستند على العصا. يمضي — بخطوات متثاقلة — إلى الدكان. تغيب، فيستعيد وجهها في خياله. يتأمل الشعر الأسود الناعم، عقصته في ضفيرتَين ملونتَين، وألقَته على جانبَي كتفَيها، العينين الحوراوَين، الأنف الدقيق، الشفتين الرقيقتين، الفستان الأبيض، المطرز الحواشي بالدانتيلا الحمراء.

تلين ملامحه، يشرد في كلام، أخذ ورد، أسئلة وأجوبة.

ملأت البنت عليه حياته. يترك لها نفسه. تُسلِّي عنه بعض ما يجد في داخله.

لم يَعُد يتصور أنها تبتعد عنه، أو تُفارقه. تعلَّق بها بما فاق تصوره هو نفسه، كأنه — رغم أبوَّته لأبناء — أبوها، وكأنها ابنته. يلفُّه إحساسٌ بالسعادة عندما تطلب منه شيئًا ما، أو تقبل ما يعطيه لها.

قال له الحاج الطيبين: أعرف مشاعرك، الأبوة إحساس.

قالت: هل أنت صاحب الدكان؟

– أنا ضيف على الحاج الطيبين.

– ألَا تعمل؟

– كنت أعمل، لكن رفع الحديد أتعبني.

– لماذا ترفع الحديد؟

– رياضة.

– مثل الكرة؟

أومأ برأسه.

قالت: هل الرياضة تؤذي؟

– إذا لم نُحسن أداءها.

– هل ستظل طول العمر بلا عمل؟

– حتى يذهب المرض.

– متى يذهب المرض؟

– بعد أن يُعالجني الأطباء.

•••

قالت البنت: أين كنت؟

طالت أيام بقائه في البيت. لا ينزل إلا للتردد على المستشفى، أو على الأطباء. يتحامل على نفسه. يعود إلى الجلسة التي يحبها أمام دكان الطيبين. دقائق، ثم تصرخ الآلام في ظهره وساقه. يطلب مَن يساعده في العودة إلى البيت.

أغضبه عمود كتبه عبد اللطيف النشار، طالب فيه بعلاج فياض على نفقة الدولة. وصفه النشار بأنه واحد من العظماء الستة الذين سطَّروا تاريخ مصر العالمي والأولمبي بحروف من ذهب: سيد نصير، خضر التوني، أنور مصباح، إبراهيم شمس، إبراهيم مصطفى، ومحمود فياض. قال النشار إنهم ملوك الحديد في العالم. وقال إن الأبطال الأولمبيِّين السكندريِّين لهم البصمة الكبرى في تاريخ مصر الرياضي. وقال إن فياض هو آخر الأبطال الأولمبيِّين الذهبيِّين.

هل شكوت له؟ هل شكوت لأحد؟

سمع عن الكلمات، وإن لم يقرأها. لم يكن قد سمع باسم الجريدة، واعتذر بائع الصحف في محطة ترام التتويج بأنه لا يعرفها.

قال: هل أذهب إليه حيث يكون لأوبِّخه؟

قال الحاج الطيبين في نبرة تهوين: أراد الرجل الخير!

داهمَته — في نومه — رؤًى وخيالات وأحلام وكوابيس، لا يفهمها، ولا يستطيع تفسيرها. النفق — بلا نهاية — يجتذبه في ظلمته، الفيل الهائل يسقط بجناحَيه فوقه، يضغط بقدمَيه على صدره، كأنه يخنقه، الطيور السوداء تصمُّ أذنَيه بصراخها، أذرع الأخطبوط تحيط بجسده، يحاول التملص، يرفع كتفيه ويهبط بهما، لكن الأذرع تُواصل اعتصارها، قطرات الدم المتساقطة على وجهه من السقف، لا يعرف مصدرها، ولا كيف يتقي سخونتها.

ملأه الشعور بالمرارة والخيبة والحنق.

أزمع الرحيل عن بحري، عن الإسكندرية كلها.

•••

روى محمود فياض للحاج محمد الطيبين حلمًا رآه في نومه:

وقف على باب الحجرة شيخ نوراني الوجه والتكوين والملابس.

قال: طال مرضك. يجب أن تُشفى.

قال محمود فياض في تذلل: ساعدني!

أخرج الشيخ من سيالة قفطانه مرهمًا، غمس فيه إصبعه، ومسح موضع الألم.

لحق الشيخ بالسؤال، وهو يخترق باب الحجرة المغلق: مَن شيخي؟

قال الشيخ: أنت لا تزورني في قلعة قايتباي … لكنني أحبك لحب ولي الله علي تمراز.

أدرك محمود فياض أن زائره هو ولي الله الأنفوشي. ضريحه في القلعة، وضريح علي تمراز في الجامع القريب.

حرَّك ساقه — عند استيقاظه — يطمئن إلى شفائها. لفَّه الانبساط عندما انحنى، ولمس أصابع قدمه. تحرَّكت ساقه بما يَشِي بقرب الشفاء، وإن ظل في حاجة إلى عصًا يتوكأ عليها.

قال الحاج محمد الطيبين: ثِق في بركات الأنفوشي.

وفي لهجة متأثرة: الحالة صعبة، ولن تبرأ في يوم وليلة.

وربت كتفه في ودٍّ: نحن نعيش بفضل بركات أولياء الله.

•••

انظر: أحمد المسيري، الأنفوشي، جودة هلال، خليل الفحام، عبد اللطيف النشار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤