مكية الحريري

ترامى صوتُ ارتطام ما، في داخل حديقة رأس التين. أذهلته عافيتُها وهي تهوي بالبلطة على شجرة التين الهائلة.

بدَت في حوالي الخامسة والعشرين. خلا وجهُها من الزينة، ما عدا الكحل الذي ظلَّلت به عينَيها. ربطت شعرها الأسود الطويل بربطة شعر ذهبية. ترتدي بلوزة بيضاء من الحرير، يَبِين من تحتها قميصٌ أسود اللون، وجونلة تويد ذات مربعات ملونة صغيرة، ودسَّت قدمَيها في حذاء ذي سيور مذهَّبة.

سرَت في جسده نشوة، لم يشعر بها، ولا جرَّبها من قبل. تمنَّى أن تطول اللحظة، أو تمضي بلا نهاية.

رمقَته بنظرة زاجرة، فابتلع عرض مساعدته لها فيما تفعل.

تابعَها. تأمَّل شعرَها المضفور وراء كتفَيها، تأوُّدَ جسدِها، خطواتِها الطفلة، ساقَيها الملفوفتَين العاجيَّتَين، عقبَيها الورديَّتَين من خلال سيور الحذاء.

قَدِم طاهر شومان إلى الموضع نفسه في اليوم التالي، والأيام التالية. يكتفي بالملاحظة والإعجاب في داخله.

فاجأَته — ذات ظهر — بالقول وهي تدفع ناحيته بكتلة خشبية: خذ عني!

تلفَّت طاهر حوله كأنما ليتأكد من أنها تقصده بكلامها. كانت الحديقة خالية إلا من طلبة يذاكرون تحت الأشجار البعيدة، الشمس تتوسط السماء. البيوت ذات النوافذ الطويلة، والأسقف العالية، أكلت واجهاتِها الرطوبةُ ومياه الرشح. على الشاطئ نورس دار حول نفسه، ثم مال نحو الموج. التقط سمكة. علا بها في اتجاه الأفق.

أعادت القول وهي تلامس كتلةَ الخشب بصدره: خذ عني!

لم يدخل بدوي الحريري مع طاهر شومان في تفصيلات مادية. اكتفى بأن اشترط عليه ألَّا يُهينَ ابنتَه، ولا يتزوج عليها، ولا تطول مدةُ ركوبه البحر بما يُحزنها.

أثبتت مكية — في عقد زواجها — ألَّا تُطيعَ زوجها إلا فيما يُقره عقلها وقلبها، وأنها تكون طالقًا في حالة ركوب زوجها البحر، وغيابه في رحلات الصيد أكثر من عشرة أيام متوالية، إلا إذا سبقت التبريرات قدومَه، وأن تُعَد مطلقة إذا اقترن الزوج بأخرى.

أَذِن لها أبوها — المعلم بدوي الحريري — أن تخرج مع أم طاهر إلى منطقة وسط البلد: العطارين والمنشية وسوق راتب وشارع توفيق وشارع شريف والنبي دانيال وغيرها. تشتري ما يحتاجه بيتها قبل الزفاف. دفع لماهر الصاوي فوق المطلوب لإحياء حفل الزفاف. تعاقد مع سيد حلال عليه ليتقدم الموكب في جولته أمام أبي العباس. وجَّه الدعوات لأصدقائه ومعارفه داخل بحري وخارجه. تحصَّن بالجرأة، فاستأذن في مقابلة أم البحرية.

زايله الحرج بابتسامتها الهادئة: هل هي ابنتك الوحيدة؟

– لي ولدان وثلاث بنات … مكية هي الصغرى.

أعادت ترديد الاسم: مكية! … اسم جميل!

ثم وهي تتجه ناحية السلم: إذا لم أكن خارج مصر، فتوقع مشاركتي في حفل زفاف … ما اسمها؟ مكية … حفل زفاف مكية.

•••

كان عفريت الخرابة قد رأى مكيةَ في شارع الميدان. تحوُّله إلى قط أتاح له أن يتأمل جمالها الذي يفوق ما يملكه الجان والبشر. وضعها في رأسه. تابعها على شاطئ البحر، ومن تحت الأرض.

رأت — في وقفتها مع طاهر على الكورنيش — تراقُص سمكات فوق الصخور الصغيرة المدببة، أمام شاطئ كليوباترة. رافق هتافها إشارة إلى موضع الصخور.

نفى طاهر شومان أنه رأى ما رأَته. الأمواج ترتطم بالصخور، تُغطيها، تتخطاها إلى المصدات الأسمنتية، أسفل الكورنيش. تتصاعد نثارات الرذاذ. يغطي الوجهَ إحساسُ البرودة.

أخفى العفريت نفسه إلا عن عينَيها، هما اللتان تريانِه، وتلحظانِ متابعته لها، وتحوُّر أشكاله بما يُثير اهتمامها.

اعتادت نزول الأنفوشي في الصباح الباكر، ما بين بداية انحسار الظلمة، وبداية طلوع النهار. تغطس — لا تخلع ثوبها — بالقرب من الشاطئ، إلى ما فوق ركبتَيها، تُكرر الغطس. تسير خطوات بامتداد الساحل، وتعود.

لاحظت تحرُّك الجوال الملقى على هيكل بلانس في ورش القزق.

حدَّقت.

تحوَّل الجوال إلى هيئة إنسان، هيئة رجل يرتدي زيَّ الصيادين: السروال الملتصق من أسفل الساقين، الفانلة السوداء ذات الرقبة، الصديري المقلم بأزراره الكثيرة، الطاقية البيضاء.

تحرَّك في موضعه. كأنه يتثاءب ويتمطَّى، كأنه يُعِد نفسه للصحو من النوم.

قبل أن تجريَ لَحِقها صوتُه: لا تخافي!

أبطأت خطواتها، والتفتَت.

في حوالي الثلاثين. وجهُه قمحيٌّ مستطيل. له عينان سوداوان عميقتَا النظرة. بريقهما يُربك مَن يتطلَّع إليه. يرتدي بدلة كحلية، وكرافتة حمراء، ويضع على عيَنيه نظارةً شمسية. يَبِين في جيب الجاكتة العلوي منديلٌ أحمر، ووضع في إصبعه فصًّا من العقيق الأخضر، وتدلَّت من ساعده ساعةٌ ذهبية، وأمسك بإصبعَيه مبسم سيجارة.

شيء ما في عينَيه، أخافها. حوَّلت نظرتها إلى الناحية المقابلة، تحاول مداراةَ ارتباكها.

أسقط اليأس.

تمنَّى أن تمنحه نظرةً في متابعته لها. لو أنها قذفته بكلمة قارصة، أو عبارة ساخرة، أو غمزة استهزاء.

ظل يلاحقها، حيث يتاح له الحركة بعيدًا عن البيت المهجور.

ارتدَت ملاءة أمها. أسدلَت البرقع على وجهها، كي لا يُفلحَ في تعقُّبها. تشمَّم رائحتها، ففطن إلى ما فعلت. شكَّل نفسه في الهيئة التي رأتها فيه، وظل يتابعها.

– مَن أنت؟

– أعرفك ولا تعرفينني … أنا من بحري.

في لهفة الخوف: ابن مَن؟ بيت من؟ من أنت؟

– مكية بنت شيخ الصيادين بدوي الحريري.

ثم في لهجة متوسلة: أحبك. أطلب موافقتك على زواجي بك.

اكتفت بتكرار السؤال: من أنت؟ من أنت؟.

اتجهت بنظرها إلى الطريقِ وصفِّ البيوت المقابلة.

لما تشمَّم رائحتها. امتدَّت يداه دون أن تلحظ مكية، ولا طاهر الذي يرافقها. صرخت مكية بآخر ما عندها، وهي تهبط في هوة الابتلاع. اجتذبها العفريت إلى داخل الأرض، وأعاد سدَّ فجوة الطريق.

ما أثار القلق — وربما الخوف — في النفوس، أن مكية اختُطفت في عز النهار. لم تجد الفرصة للاستغاثة بطاهر شومان إلى جانبها، ولا بالمارة وراكبي السيارات والواقفين أمام البيوت وداخل المحال. كأن الأرض اجتذبَتها، ابتلعَتها.

رفض خليل الفحام تصديق أن عروس البحر اختطفت مكية. حياة عروس البحر في قلب الأمواج، لا تتركها إلى ما بعد الشاطئ. لا روايات عن عرائس بحر اختطفن النساء. ما يُروى عن تسلل عروس البحر من بقايا بنايات الإسكندرية القديمة يصعب تصوره. حتى نسبة خطف مكية لسلطان البحار، تؤكد الكتب القديمة أن مخلوقات البحر منها الأسماك الهائلة والحيتان والدلافين والجان، والمردة، وعرائس البحر بوجوه البشر، وأجساد الدلافين. لا حديث عن سلطان للبحر.

رجَّح الرجل أن الموضع من بقايا الإسكندرية القديمة في شارع النبي دانيال قد انهار. شكَّل فجوة واسعة، احتضنت المرأة، ابتلعَتها، ثم التأمت الفجوة. تمامًا، كما يحدث في تشققات الأرض بفعل الزلازل والبراكين.

روَت نعمات أنها شاهدَت حميدو شومة يقتحم الفتاة بكلمات غزل، في أول الطريق إلى الموازيني، وأن الفتاة تأبَّت عليه، ومالت ناحية شارع ابن وكيع. نفى جودة هلال أن يكون حميدو شومة وراء خطف مكية.

قال: حميدو شومة فتوة. أما الآخرون فبلطجية!

قال خليفة كاسب: ما الفرق؟

– الفتوة يدافع عن الغلابة. البلطجي يبتزُّهم!

روى ما شاهده بنفسه: طرد أحد صبيانه لأنه تعرَّض لامرأة في الحجاري. ما كان الرجل ليفعل ذلك لولا انتسابه إلى حميدو.

أكد عمران الخولي — نقلًا عن خادم في قصر رأس التين — أن مكية الحريري صارت واحدةً من النساء اللائي يستمتع بهن الملك فاروق. رآها من سيارته، وأعطى أوصافها. توصَّل إليها رجال حمدي درويش، ودبروا حادثةَ اختفائها.

ثمة من رآها — مكية — تسبح في المينا الشرقية. هي مكية بنت المعلم بدوي الحريري. تحوَّل شعرها إلى زعانف، وأنفها الصغير إلى خيشوم سمكة، وغاب البريق في العينين، فصارتا كعينَي السمكة.

قالت سيسبان — كودية الزار — إن البنت لم تُفاجئها الجذبة المختطفة. رآها عفريت الخرابة منذ سنوات، فاستهوَته.

تشكَّكت في رجل يقف على ناصية شارع سراي محسن باشا. جاوزَته بخطوات مهرولة. فاجأها الرجل بالوقوف على باب بيت، على بُعد أمتار. جرَت بالخوف. تلفَّتت وراءها، ثم واصلت طريقها.

وهي تميل إلى شارع الكناني، طالعها الرجل متربعًا على السور المحيط بأطلال مدرسة البوصيري الأولية.

أدركت أن الرجل ليس من البشر — هو عفريت أو جني — لعله عفريت الخرابة الذي تتناوله الحكايات.

تحوَّل العفريت في أكثر من هيئة، حتى راق لها في صورة الشاب الوسيم. استجابت — بعد طول ممانعة — لمغازلته. تواعدَا على الزواج. فاجأهما إصرارُ أهلها على تزويجه بمن لا تحبه. بدا اختطافُها وسيلةً وحيدة لاجتذابها إلى عالمه.

قال بدوي الحريري: من يُغيِّبه البحر نقف على الشاطئ نترقب عودته.

ثم وهو يرسم التصعُّب على ملامحه: ماذا نفعل لترقُّب الغائب في البر؟!

تقافزت الأسئلة: أين اختفت مكية؟ هل اختطفها أهل العوالم السفلية؟ هل ابتلعَتها بقايا المدينة القديمة؟ هل قُتلت في ظروف قاسية، وأُلقيَت في البحر، طعامًا للأسماك؟.

أبدى جودة هلال توجُّسَه من أن يكون رجال الملك هم الذين خطفوا مكية. أودعوها — ضمن مئات المحظيات — داخل أسوار القصر.

قال بدوي الحريري: أن يختطفها الجن أفضل عندي من أن يسجنها فاروق في قصره.

وشرد في الفراغ: لا حيلة لنا أمام الجن … أما الملك.

ثم وهو يُظهر التأثر: يقال إنه يقتل المخطوفة بعد أن يؤذيَ عفَّتَها.

جاءه في المنام رجلٌ شحبَت ملامحه، فلم يستطع تبيُّنَها تمامًا. طمأنه بأن مكية لم تغرق في البحر، ولا تحت الأرض. قال إنها لا تنعَى في حياتها — حيث تُقيم — همًّا. وقال إن أباها إذا لم يكن يراها في موضع اختفائها، فإنها تراه في الموضع نفسه، وتطمئن عليه. زيارته للحريري لكي يطمئن هو أيضًا على ابنته.

حين أدرك اليأس بدوي الحريري من عودة مكية، اعتبرها كأنها لم تكن، كأنه لم يُنجبها، ولا عاشت في حياته. تعزَّى بكلمات الشيخ جميل أبو نار المواسية. ما يعطيه لنا الله من حقه أن يستردَّه، لا اعتراض على مشيئته.

قال الشيخ: كل حي يموت، ما عدا بركات أولياء الله، فإنها متجددة.

يظل طيف مكية يُطالعه — في فترات متباعدة: عبارة، تلويحة يد، سؤال، إيماءة، يُعاني التأثر ساعات، أو أيامًا، ثم يعود إلى مألوف حياته. يُعزِّي نفسَه بأن ما تعرَّضت له مكية قدرٌ من الله، امتحان منه، عليه أن يتحمله بصبر المؤمن المبتلى.

أظهرت سيسبان إشفاقها على مصير مكية الحريري. فاجأها الشابُّ الوسيم بانتسابه إلى عالم الجن. لن تعود إلى دنيا البشر بدون زار يُخلِّصها من العفريت ودنيا الجان.

كان العفريت قد وعدها بإعادتها إلى طاهر شومان. هو ليس الشاب الوسيم الذي استهواها. طالبها بالانتظار حتى يُعيدَها بهدايا، تساعدها في زواجها من طاهر.

ما لم تفطن إليه كودية الزار أن طعنةَ الموت فاجأَت عفريت الخرابة في لحظة تحوُّله إلى هيئة إنسان.

مات في صورة البشر — وإن ظل جنيًّا — قبل أن يحمِّلها الهدايا، ويُعيدها إلى ذويها.

ظلت مكية في العالم السفلي.

•••

انظر: بدوي الحريري، حمدي درويش، حميدو شومة، خليل الفحام، سيسبان، عفريت الخرابة، فاروق الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤