ياقوت العرش

أعلى المقامات في القرب من الله، هو مقام الرسل. ثم مقام النبوة، وبه مقامان، مقام نبوة الرسالة، ومقام نبوة النبوة. تندرج النبوة تحت الرسالة اندراج النجم تحت أشعة الشمس. ثم مقام الصدِّيقين، فمقام الشهداء، فمقامات الصالحين، كما في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.

ياقوت بن عبد الله الحبشي العرش من صفوة الأولياء الصالحين. خلَّف — ولا يزال — الكثير من البركات والمكاشفات وغريب العجائب.

وُلد ببلاد الحبشة، ثم قَدِم إلى مصر. فرَّغ نفسه للتلمذة علي أبي العباس، والإفادة من علمه. أخذ عن القطب وتأدَّب، وقام على خدمته. أحبَّه أبو العباس، وقرَّبه، جعله من خواص مريديه وتلاميذه. تأكيدًا لمحبة السلطان، زوَّجه من ابنته مهجة، حفيدة الإمام أبي الحسن الشاذلي.

أعلن حاكم الإسكندرية ضيقه؛ فهو يمر على أبي العباس بين أصحابه. يقف الأصحاب احترامًا، ويظل المرسي في جلسته. زاد من ضيق الحاكم أن أبا العباس كان يقف إذا مرَّ عليه أحد خدمه.

قال الحاكم: كيف تقف لخادمك، ولا تقف لي؟

لم يردَّ أبو العباس، وطلب الخادم.

قال الأصحاب: إنه يجمع فتات الخبز الذي أكله الآكلون.

قال أبو العباس: ليأتِ، ومعه فتات الخبز في يده.

وطلب أبو العباس من الخادم أن يفتح يده التي تقبض على فتات الخبز.

فتحها الخادم، فهتف الحاكم في عجب: ياقوت!

وسمِّي الخادم «ياقوت».

وحين شكا بعض مريدي أبي العباس وتلامذته من أن «ياقوت» يصلي الفرائض قبل أن يؤذِّن حسب التوقيت المحلي لثغر الإسكندرية، كان السلطان يعلم أن خادمه يسمع الأذان من السماء.

قال أبو العباس لياقوت: انخرط معنا يا ياقوت، وصلِّ في جماعتنا.

سُمي بذلك ياقوت العرش.

•••

لازم ياقوت أبا العباس في روحاته وغدواته، لا يكاد يتركه ليلًا أو نهارًا، إلا إذا أسلم القطب رأسه للنوم. إن لم يكن ياقوت نائمًا، يظل بالقرب من موضع نوم السلطان حتى يستيقظ، فيكون أول مَن تقع عليه عيناه.

جعل نفسه في خدمة قطب الإسكندرية. يتلقَّى عنه أوامره وإرشاداته. يُبلغها إلى مريديه في المساجد والزوايا والساحات. يتابع خطوات التنفيذ.

خرج عن الحياة المادية إلى حياة روحية، قوامها العناية بأمر الدين، والمراعاة الصادقة لأحكام الشريعة.

أمعن في الحياة الروحية. زهد في الدنيا. عُنيَ بتصفية القلب عن شوب النفس. تقشَّف في العيش، قلَّل من المأكل والمشرب والملبس. صفت نفسه، وصقلت مرآة قلبه، عرف العلوم الظاهرة والباطنة، ظهرت له مكاشفات وأحوال.

اطمأن — بينه وبين نفسه — إلى أنه لم يصدر عن حبِّه للذات العليَّة عن خوف من النار، ولا عن طمع في الجنة، وشوق إليه، إنما أقبل على الله لذاته. لازم مجاهدات النفس. سار في طريق التصوف والورع والزهادة. استغرق في حب الله تعالى.

•••

أفاد ياقوت العرش من علم أبي العباس ونصائحه.

قال: «كنت أتعبَّد في مسجد خارج الإسكندرية، فبقيت فيه مواصلًا أيامًا، فأصابني الجوع. دخلت الإسكندرية قاصدًا الشيخ. وجدت في طريقي درهمًا، فأردت أن أشتريَ به خبزًا وإدامًا. رأيت في السوق زبيبًا طيبًا — كنت أعلم أنه يحبُّه لأنه من بلاد الأندلس، وهو كثير في بلاده — اشتريت بالدرهم منه، وآثرتُه على نفسي …»

قصدت إلى الشيخ، فوجدتُه جالسًا في القلعة لأنه كان يسكنها بعد القطب الشاذلي. وضعت الزبيب بين يديه، وأردت أن أقوم.

قال لي سيدي المرسي: اجلس.

جلست، وإذا برجل وصل إليه بمائدة فيها كبش سمين مشوي، ورقاق طيب.

قال لي الشيخ: هذا فتوحك، لما آثرتني على نفسك وأنت جائع، فكُل.

أكلت وحدي، حتى امتلأت.

أمر الشيخ للفقراء بأكل ما تبقَّى، وقال لي: ارفع الزبيب وتصدَّق به، فإنَّا لا تباح لنا اللُّقَطة.

•••

قدَّم رجل لسيدي ياقوت طعامًا لم تسترح له نفسه. قال في نفسه: هذا طعام حرام. ورفض أن يتناوله.

لمَّا دخل عليَّ المرسي، ابتدره بالقول: ومن جهل بعض المريدين أن يُقدَّم له طعام، فيرى عليه ظلمة، فيقول: هذا حرام.

واتجه ناحية ياقوت العرش بنظرة مشفقة: يا مسكين، ما يساوي ورعك بسوء ظنك بصاحبك المسلم؟! … هلَّا قلت: هذا طعام لم يُردني الله به؟

أكَّد أبو العباس محبته لياقوت العرش، بتزويجه ابنته مهجة. جاوز كل الصفات إلى صفة النسب، بالإضافة إلي تخلُّقه بالدين.

•••

قال أبو العباس لياقوت العرش: ليس الشأن أن تسلك كل يوم ألفًا من العوام، بل أن تسلك فقيهًا واحدًا في مائة عام.

وأثنى عليه كثيرًا، وأشار إليه بالولاية التامة.

•••

صار لياقوت العرش استقلاله في الولاية والقطبية والكرامات.

عرف عنه تنبُّؤه بالغيب في الحال والاستقبال، واطلاعه على ما في السرائر، وإحساسه بالأحداث في الأماكن البعيدة، ورؤيته لنعيم الجنة، ومشاهدة فيض أنوار الذات الإلهية، وكشف ما في ملكوت السموات. صار من أرباب القلوب، والأحوال، والدوائر الكبرى.

لم تكن عيناه تملَّان التطلُّع إلي السماء. يشاهد — بقلبه — ما لا يراه الناس من الأسرار والأقدار والعجائب. يرى الأماكن البعيدة من وراء الحجب. يكاشف مريديه بما في صدورهم. يتصرف بإلهام يُشبه الوحي. يفاجئ زوَّاره بما تناولوه من طعام، وما فعلوه حيث كانوا. يبين عما تصمت عنه ألسنتهم. يكشف عن حال الموتى، ويسمع كلامهم عن الماضي والمستقبل. يخضع الجن لطاعته دون تعازيم، ولا طلسمات ولا إقسام. يطير في الهواء. يمشي على الموج. يُنفق من الغيب. إذا أراد الحج، أو زيارة البيت الحرام، طارت به السجادة التي يجلس عليها إلى حيث يشغله الذهاب، ثم عاد إلى موضعه.

رُوي أن من حضور دروسه العلمية ملائكة وجان.

أقبل عليه الكثير من المريدين.

يرى اسم المريد — الذي يأخذ عليه العهد — مكتوبًا في اللوح المحفوظ.

امتدت بركاته إلى مريديه وتلامذته، فهو يأذن ببركات تخص الأولياء، وأرباب الكرامات والأحوال.

وجَّه تلميذه علي البدوي الشاذلي — مرات كثيرة — لتحقيق منافع في أسفار من الإسكندرية إلى بلاد الأندلس، في مدى نهار واحد، دون أن تُطوى له الأرض.

•••

كان غريب أبو النجا يزور مقام سيدي ياقوت — قبل كل رحلة صيد — يستأذن ولي الله في السفر. يأتي صوت الولي من داخل القبر: توكل على الله!

وقع الشيخ شمس الدين محمد بن اللبان الأسعردي في حق الغوث الكبير والقطب الشهير سيدي أحمد البدوي، البحر الذي لا يدرك له قرار، منقذ الأسرى من بلاد الإفرنج، مغيث الناس من قطَّاع الطريق، أحد أركان الولاية الذين اجتمعت الأمة على اعتقادهم ومحبتهم. كان ابن اللبان قاضيًا للقضاة بدمشق. استحضره السلطان، فامتثل للأمر، وحضر. في مصر استقبله قاضي القضاة ورحب به. بات ابن اللبان ليلة وصوله بالجامع، حيث أمَّ الناس في صلاة العشاء. بعد الصلاة خرج ابن اللبان وقاضي القضاة يتمشَّيان. صادفَا رجلًا من أتباع السيد أحمد البدوي يذكر الله تعالى، ويقول بصوت مرتفع: السلام عليك يا رسول الله، والسلام عليك يا أحمد يا بدوي.

عجب ابن اللبان لما سمع. التفت إلى قاضي القضاة متسائلًا عن ذلك الذي أشرك السيد البدوي مع رسول الله في السلام. قال: هذا الرجل يستحق التعزير البليغ!

حاول قاضي القضاة أن يلتمس العذر للرجل. قال لابن اللبان: لعل حب شيخه قد غلب عليه باعتقاده في شيخه.

لكن ابن اللبان أصرَّ على تعزيره وتأديبه.

رأى الشيخ ابن اللبان — في منامه تلك الليلة — كأن سقف الجامع قد انشق، ونزل منه رجلان، جلس أحدهما عند رأسه، وجلس الثاني عند قدميه.

قال الرجل الأول للثاني: اسلبه الإيمان!

ردَّ عليه الرجل الثاني: لا، بل نسلبه العلم والقرآن، ونُبقي عليه الإيمان، فإنه وقع في حق سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه تعالى.

ثم أمسكه الرجلان، كلٌّ من ناحية، وهزَّاه هزًّا شديدًا «فطمس الله — سبحانه — على قلبه، وانتزع العلم والقرآن من صدره».

قام ابن اللبان من نومه فزعًا. استعاد ما يحفظه من آيات القرآن ومسائل الدين. تبيَّن أنه لم يَعُد يذكر آية قرآنية، ولا مسألة من مسائل الدين. ولمَّا أُذِّن لصلاة الفجر، اعتذر الشيخ عن إمامة المصلين. ظنوا أنه يريد دخول الحمام، فصلُّوا، وانصرفوا.

روى الشيخ ابن اللبان لقاضي القضاة ما جرى له أثناء الليل، نتيجة قوله في مريد السيد أحمد البدوي. عرض عليه قاضي القضاة أن يعتذر عما قال للفقراء الأحمدية، ربما رفع السيد البدوي غضبه عنه.

ذهب ابن اللبان إلى الفقراء الأحمدية في زاويتهم، فاعتذروا جميعًا بأنهم لا يقدرون أن يدخلوا في أمره.

تذلَّل ابن اللبان، واستعطف، وبذل الرجوات، وبكى.

قال له فقير أحمدي: هل تتوب إلى الله تعالى؟

قال ابن اللبان: نعم، ولا أعود لمثلها!

– إن كان ولا بد، فسافِرْ إلى الإسكندرية، والتقِ بسيدي ياقوت العرش، تجد الفرج على يديه بإذن الله.

سافر ابن اللبان — يصحبه قاضي القضاة — إلى سيدي ياقوت العرش. لم يكادا يدخلان زاوية سيدي ياقوت، حتى ابتدر وليُّ الله ابنَ اللبان بالقول: يا شمس الدين! ما الذي أوقعك في مثل هذه الورطة العظيمة؟!

أدرك أن ولي الله يُعري دخائله، ويكشف أسراره، وما يُضمره من نيات.

اعتذر ابن اللبان عن عدم التوضُّؤ والصلاة، بأنه نسيَ القرآن، فلا يستطيع الصلاة وهو لا يذكر إلا البسملة.

أمره ياقوت العرش أن يشتغل بالذكر والتوحيد. وظل ابن اللبان على تلك الحال ثلاث ليال، حتى رأى نورًا، فاستبشر خيرًا.

في الليلة الرابعة، رأى الشيخ رسول الله جالسًا على كرسيٍّ عالٍ من النور، والأنبياء من حوله جلوس على كراسٍ، والسيد أحمد البدوي بين يدَي النبي.

اتجه الرسول بكلامه إلى السيد البدوي: يا أحمد! لأجلنا طيِّب خاطرك على محمد بن اللبان.

ثم التفت إلى ابن اللبان بقوله: أما علمت أن من أولياء الله تعالى مَن تحت جناحي الأيمن، ومنهم مَن تحت جناحي الأيسر، وأحمد البدوي تحت جناحي الأيمن.

قال ياقوت العرش لأحمد البدوي: أنت أبو الفتيان … رُدَّ على هذا المسكين رأسماله.

قال البدوي: بشرط التوبة.

قال ياقوت العرش لابن اللبان: يا محمد! أبشر، فقد قضيت حاجتك. سُقْت على السيد أحمد البدوي جميع الأولياء، فلم يقبل، فسُقْت عليه سيد الأولين والآخرين — رأيت ذلك بعينيك — فسافر في الحال إلى طندتا. طفْ حول صندوق سيدي أحمد البدوي، أقِم عنده ثلاثة أيام، فإن حاجتك قد قضيت إن شاء الله.

أقام ابن اللبان في مقام السيد البدوي ثلاثة أيام، يطوف، ويتضرع، ويبكي، وينام — حين يغلبه النوم — تحت قدمي البدوي. ثم قال له السيد في المنام: لا تَعُد لمثلها، فوالله لولا جدي رسول الله ، لسلبتك الإيمان!

ووضع يده على صدر ابن اللبان. ردَّ عليه حفظه للقرآن، وعلمه.

زاد اعتقاد ابن اللبان في ياقوت العرش — من يومها — ولزم مجلسه. قدَّمه في المسائل على غيره من أولياء الله، لا يزور وليًّا من أهل العصر إلا بإذنه وموافقته، ولا يسمع من سواه، ولا يعرض ما يواجهه من مسائل ومشكلات إلا عليه. جعل التصرُّف كلَّه لسيدي ياقوت العرش، هو الذي يقضي ويفصل.

زوَّجه سيدي ياقوت ابنته، فلما أدركه الأجل، دفن تحت رجلَيها بالقرافة.

الوساطة نفسها بذلها ياقوت العرش، حين هاجم رجل سلطان الإسكندرية المرسي أبو العباس، بقول جارح، وهو يُلقي درسه داخل الجامع.

قال السلطان: اخرج يا ممقوت!

أخرج مريدو القطب الرجل. سلبه المرسي — قبل أن يبلغ الباب — ما كان يحفظه من القرآن والعلم. سار في الطرقات دون غاية. دلَّه الناس على ياقوت العرش، صفيِّ السلطان وتلميذه وزوج ابنته. تشفع ياقوت العرش عند المرسي. سامح أبو العباس الرجل، وإن تركه على حاله من السلب، حتى مات.

علا في مجلسه الزعيق والتشويش. طلب من مريديه أن يُعطوا المجلس توقيره.

عاود ولي الله تحذيرَه من الهرج. ظل حسونة التابعي على ارتفاع صوته. عاب عليه ولي الله الكذب في الأقوال والأفعال والأحوال. عاب عليه ضعفَ اليقين ورقة الديانة، وارتفاع الصوت بما قد يشرد بالمجلس عن طريق الله.

اكتفى سيدي ياقوت العرش بالشرود في الفراغ، وإن انعكس الاستياء واضحًا في ملامحه.

لم يكد حسونة التابعي يمضي خطوات، حتى تأوه، وأسلم الشلل جسده إلى الأرض. التفَّ المريدون حول الرجل. أخفقوا في تحريكه. كان ساكنًا تمامًا إلا من عينين اتجهتا بالاستغاثة إلى عينَي ولي الله.

داخلَ وليَّ الله إشفاقٌ. عفا عن التابعي بإيماءة ذقن.

وقال ياقوت العرش لشيخ الصيادين إدريس بركة، حين التقيا في طريق البحر: كن دائنًا، ولا تكن مدينًا.

ثم في نبرة محذِّرة: قبل صباح غد تترك دنياك، فلا تبدأ آخرتك وأنت على دين!

واختلط الصُّوات من بيت إدريس بركة، مع رفع أذان الفجر من جوامع بحري.

•••

لم يترك مؤلفات. وكان قوام شهرته، خلقه، وما حصَّله من علم. عرف عنه التبحر في العلم، والورع، وخشية الله، والتواضع لعباده. وكان يقينه — الذي لا يني يردده: نحن لا نملك لأنفسنا، ولا لأحد، نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ذلك كله مستور في الكتاب، لا يصل إليه علم بشر.

فنيَ عن هوى النفس وما تدعو إليه، وعن سائر الأمور الخلقية. فنيَ عن الأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والغيبة والنميمة والكره وغيرها. أشفق على فقراء، دعا لهم فصاروا أغنياء.

كان يؤثر الإشارة على العبارة، والتلميح بدلًا من التصريح. يسكت عن الحديث، ويشرد، يعروه ما يُشبه الذهول. يدرك مريدوه أنه يُصغي إلى وحي إلهي.

إذا جلس قاموا على رأسه، وإذا سار مشوا في ركابه، وإذا لزم الخلوة، أو مضى إلى النوم، ظلُّوا على باب حجرته، لا يتركونه حتى يأذن، فيفتح الباب. يبدو كالطيف النوراني، لا يقوى مريدوه على النظر إليه لشدة ضيائه.

أكثر من الخروج لطلب الخلوة والرياضة الروحية. يمشي فتظلِّله غمامة من وهج الشمس.

قدم المجاهدة. أسقط الصفات المذمومة. تخلَّى كلية عن شواغل الدنيا. اكتفى بالله تعالى. ظهر على يدَيه الكثير من خوارق الكرامات. يكشف الغيب، وما في الضمائر، يعلم بالعديد من الحوادث قبل أن تنشأ، يسمع الهواتف من الهواء، يتنبأ بالأخبار، يهرول على وجه الماء، كما يهرول الإنسان على الأرض، يطوي الأرض دون أن يبرح موضعه، يشاهد الكعبة وهو في موضعه، يستغرق في نور معرفة الله تعالى.

•••

قُدِّر لياقوت العرش أن يصبح من خواص مريدي سلطان الإسكندرية، لازم خدمته، لا يغادره إلا لضرورة، صحبه في لزومه المسجد، وجولاته في الأسواق. أخذ عنه، وتأدَّب بآدابه، وعرف إشاراته، حتى مات في ١٣٣٢م/٧٣٢ﻫ. دفن في جامعه الحالي القريب من جامع أستاذه المرسي أبي العباس.

سأله أحد المريدين: لماذا أوصيت أن يقام مسجدك في هذا المكان؟

قال ياقوت العرش: لأكون بالقرب من شيخي المرسي أبي العباس.

وأشار إلى ما حوله: ولأن هذا الحي سيضم — في قادم السنين — مساجد الكثير من أولياء الله وأضرحتهم ومقاماتهم.

هذا ما تحقق — فيما بعد — في حي بحري.

لما تهدَّم الجامع، جدَّده المعلم أحمد الدخاخني، شيخ طائفة البنائين بالإسكندرية في ١٨٦٣م، ووقف عليه أوقافًا. ثم أُعيد بناؤه، بعد أن تهدَّم للمرة الثانية في تسعينيات القرن العشرين بتأثير أعمال بناء ابتلعت ما حول الجامع، وجامع أبي العباس، ومقامات الأولياء الاثنَي عشر.

أيقن الناس أنه امتلك الأسباب. عرفوا أنه يتصرف — بعد موته — تصرُّفَ الأحياء. صاروا يلجئون إلى شفاعته في عودة غائب اختطفه البحر، أو ترك بحري فلم يَعُد، شفاء مريض عجز الأطباء عن مداواته، قضاء حاجة سدَّت إليها كل المنافذ. يأتيه الناس من مدن بعيدة، يستفتونه فيما يعرض لهم من المسائل.

كان يُخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويُخرج لهم ما لم يرَوه، ولا تذوقوه، من ألوان الفاكهة.

احتفال مولده ليلة واحدة كل سنة في رمضان. يحرص مريدوه وزوَّار مقامه على شراء رضائه بتقدمات الصدقات والنذور، وإقامة مولد يشغَى بحلقات الذكر، وقراءة الأوراد، ودلائل الخيرات، والمدائح النبوية.

مَن استغاث بولي الله، لا يقدر أحدٌ أن يناله بمكروه.

•••

انظر: أبو العباس، غريب أبو النجا. اقرأ روايتنا «ياقوت العرش».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤