أبو العباس المرسي

شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن علي الخزرجي الأنصاري المرسي البلنسي. عربي، من ذرية الأنصار المهاجرين إلى الأندلس، صاحب، وتلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي. وُلد في مرسيه شرقي الأندلس، ٦١٦ﻫ.

لقِّب بالمرسي نسبةً إلى المدينة. كانت حاضرةَ الإقليم في العصر العربي. من علمائها محيي الدين ابن عربي، ابن سبعين، أبو عبد الله محمد يوسف المرسي، وغيرهم. حفظ — في صباه — القرآن الكريم، وتعلَّم القراءة والكتابة والخط والحساب، وتفقه على مذهب الإمام مالك، ولامس مبادئ الصوفية وطقوسها.

في ٦٤٠ﻫ/١٢٤٢م خرج أبو العباس إلى الحج مع أبيه وأمه وأخيه أبي عبد الله. ركبوا البحر عن طريق الجزائر. تعرَّضَت السفينة لنوَّة قاسية عند ساحل بونة التونسي، أغرقَتها، ونجا ولداهما من الغرق، فاستقرَّا في تونس. عمل أبو عبد الله بالتجارة، وفتح أبو العباس مكتبًا في زاوية الفقيه محرز بن خلف، لتلقين الصبية سور القرآن الكريم، وتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة والخط والحساب.

سمع أبو العباس عن صوفي، هو الشيخ أبو الحسن الشاذلي، يُقيم مجالسَ للعلم في زاوية أسفل جبل زغوان.

سعى أبو العباس للقاء الشاذلي. حضر مجالسه، وأنصت إلى دروسه وإرشاده ونصائحه، سأله فيما استعصى عليه فهمه. أجاب الشاذلي بما أفاد كلَّ المريدين.

صحب أبو العباس أستاذَه — منذ ذلك الحين — ولازمه بقيةَ حياته، وأخذ عنه.

قال الشاذلي لأبي العباس: يا أبا العباس، ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا، وأنا أنت. وقال له: يا أبا العباس، فيك ما في الأولياء، وليس في الأولياء ما فيك. وقال الشاذلي للشيخ زكي الدين الأسواني: يا زكي، عليك بأبي العباس، فوالله إنه ليأتيه البدوي يبول على ساقَيه، فلا يمس عليه الماء إلا وقد وصله إلى الله. يا زكي، عليك بأبي العباس، فو الله ما من ولي لله كان، أو هو كائن، إلا وقد أظهره الله عليه. يا زكي، أبو العباس هو الرجل الكامل.

أحب الشاذلي أبا العباس. اختصه بأسراره، وما يشغله في أمور دينه ودنياه. زوَّجه ابنتَه. أنجب منها أبناءَه جمال الدين محمد، وأبا العباس أحمد، ومهجة التي زوجها — فيما بعد — من مريده ياقوت العرش.

سافر أبو العباس إلى مصر. نزل الإسكندرية سنة ٦٤٢ﻫ. ظل بها بقية حياته، وإن تنقَّل بين المدن المصرية، حتى مات في ٦٨٦ﻫ عن حياة قاربَت السبعين تمامًا. دفنه أصحابه ومريدوه في مقبرة باب البحر. في السنة التالية. في ٧٠٦ﻫ أُقيم بناء على قبر أبي العباس، فيميزه الناس عن القبور الأخرى الكثيرة حوله.

كان أحمد الدخاخني — شيخ بنائي الإسكندرية — من أهل الصلاح، ومحبًّا لآل البيت والعلماء والصالحين. رأى — في منامه — سلطان الإسكندرية.

سأله: لماذا لا تعتنون بضريحي؟

جعل الدخاخني تجديد الضريح وبناء المسجد شاغلَه وهمَّه، حتى أتمَّ بناء المسجد فوق ضريح السلطان. وفي سنة أربع وأربعين وتسعمائة وألف ميلادية أُعيد بناء المسجد في صورته الحالية. المئذنة الوحيدة ذات الطوابق الأربعة (٧٣ مترًا). الأعمدة الستة عشر من الجرانيت الإيطالي الوردي. الجدران المغطاة من أسفلها بالرخام الموزايكو. تتوسط السقف شخشيخة مثمنة الأضلاع، تحيط بها أربع قباب.

جامع المرسي أبي العباس يُطل على ميدان المساجد. الميدان ليس مساحةً خالية أطل عليها الجامع بالمصادفة فصارت ميدانًا. كان الميدان جزءًا من مشروع لوزارة الأوقاف بإعادة بناء مجموعة المساجد المتقاربة، وإنشاء ميدان فسيح أمامها، يمتد أُفُقه إلى المينا الشرقية. سُمِّي بهذا الاسم لتعدد الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة والمقامات المحيطة بجامع سلطان الإسكندرية، والقريبة منه: ياقوت العرش، البوصيري، نصر الدين، كظمان، الواسطي، الشيخة مدورة، المسيري، الموازيني، طاهر بك، بركات، علي الفتح، رقية الشاذلية، محمد بن وكيع، محمد إمام الحرمين، محمد أبو وردة، يوسف الجعراني، محمد إجابة، محمد الشريف المغربي، محمد الغريب، محمد بركة، محمد الحلواني، محمد الغريب اليمني، محمد المطرودي، محمد صلاح الدين، محمد المنفعي، محمد مسعود.

تتفرع الشوارع من الميدان، تبدأ به، وتنتهي فيه. أَلِف المظاهرات والاجتماعات السياسية وفِرَق الطرق الصوفية وجولات الانتخاب ومواكب الزفاف والأعلام والبيارق والميكروفونات والأكشاك والخيام والسرادقات والابتهالات الدعوات وحلقات الذِّكر ومعارك الفتوَّات.

تستطيع التعرف إلى موضع الجامع منذ انحناءة السلسلة. هي — وحدها — مآذن أبي العباس تعلو كل البنايات. تتصور ما يُطل عليه، وما يحيط به، وقبابه، وصحنه، ومقام ولي الله، وضريحه، أسفل الجامع، بجواره ضريحَا ابنَيه جمال الدين محمد وأبي العباس أحمد، وأضرحة تلاميذه ابن أبي شامة، وابن الحاجب، وأبي حفص، والفاكهاني، وابن اللبان، بالإضافة إلى ضريح الأمير قجماس الظاهري، نائب الإسكندرية في القرن التاسع الهجري.

•••

شاهد أبو العباس — وهو صبي — خيالَ الظل. لما أتى الصباح، ذهب إلى المؤبد، وكان من أولياء الله تعالى، فقال حين رآه:

يا ناظرًا صور الخيال تعجبًا
وهو الخيال بعينه لو أبصرا

وكان يكتب في لوح، فقال له بعض الناس: الصوفي لا يسوِّد بياضًا.

فأجابه الصبي: ليس الأمر كما علمت، ولكن لا يسوِّد الصحائف بسود الذنوب!

•••

رأى أحدُ الأولياء بالمغرب دائرةً من الرجال، يتوسطها رجل، كلُّ مَن في الدائرة متوجهٌ إليه.

قال الولي في نفسه: هو القطب!

وعرف الرجل بصفته. وظل كلما ذُكر له عن رجل يأتي إليه، ويقول: عسى أن يكون ذلك الرجل. حتى قيل له عن أبي العباس المرسي، فأتاه، فإذا هو ذلك الرجل الذي رآه في وسط الدائرة.

قال أبو العباس: نعم، أنا القطب. أما الذين يقابلون بطني فلهم المدد من باطن حقيقتي، والذين يقابلون ظهري لهم المدد من ظاهر علمي، والذين يقابلون جنبي لهم المدد من العلوم التي بين جنبيَّ.

•••

كانوا يقرءون كتاب «المواقف» للنفري، في دار الزكي السراج بالقاهرة.

سأل أبو الحسن: أين أبو العباس؟

فلما جاء، قال له أبو الحسن: يا بني، تكلَّم، بارك الله فيك، تكلَّم، ولن تسكت بعدها أبدًا.

واحتدَّ أبو العزائم ماضي — يومًا — على أبي العباس، فهتف الشاذلي بتلميذه: يا ماضي، الزم الأدب مع أبي العباس؛ فوالله إنه لأعرف بأزقة السماء أكثر مما تعرف أنت أزقة الإسكندرية.

وقال الشاذلي: هذا هو أبو العباس، منذ نفذ إلى الله لم يحجب، ولو طلب الحجاب لم يجده.

ووارث علم الشاذلي حقيقة
وذلك قطب فاعلموه وواحد
رأيت له بعد الممات عجائبًا
تدلُّ على مَن كان للفتح يجحد

وَليَ أبو العباس شئون الطريقة الشاذلية، بعد أن استخلفه لذلك أستاذه أبو الحسن الشاذلي. قال لأصحابه: إذا أنا مت، فعليكم بأبي العباس المرسي؛ فإنه الخليفة من بعدي، وسيكون له مقامٌ عظيم بينكم، وهو باب من أبواب الله تعالى.

في سنة اثنتين وأربعين وستمائة، أضاءت الإسكندرية بمقدم سيدي العارف بالله سيدي المرسي أبي العباس، بدايةً لإقامة متصلة، بلغت ثلاثًا وأربعين سنة. تحدَّث، شرح، علَّم، أفاض في التفسير، وفي الفقه، وإعانة الناس على أمور دينهم ودنياهم. سكن دارًا قبالة كوم الدكة. وكان يُلقي دروسه على مريديه بمسجد العطارين، وكان يسمَّى الجامع الغربي. ولم يبدأ بإلقاء دروسه إلا عندما بلغ الأربعين، وسمح له شيخه بذلك.

بثَّ علوم الشاذلي، نشر أنوارها، أبان عن أسرارها وغوامضها. بصر أصحابه وتلامذته ومريديه بالمقال والفعال، وانتشر في البلاد أصحابه، وأصحاب أصحابه، وظهرَت علوم الشيخ في كل مكان.

•••

قال أبو العباس: كنت في ابتداء أمري بالإسكندرية، فجئت إلى بعض مَن يعرفني، فاشتريت منه حاجة بنصف درهم، فقلت في نفسي: لعله لا يأخذه مني. فهتف بي هاتف: السلامة في الدين بترك الطمع في المخلوقين.

•••

يصفه علماء عصره بأنه «كان نافذَ الفراسة، سريع الخاطر، حسن السمت، نظيف الثياب، كثَّ اللحية، جميل المنظر، كثير الوقار. يَأسِر سامعيه في كلامه عن التفسير والحديث والفقه والأصول، والتعليق على أقوال بعض الصالحين.»

لم يكن التصوف عند أبي العباس تبطلًا، ولا تعطلًا، ولا تركًا للسعي أو الأسباب، ولم يكن يحب المريد الذي بلا سبب. كان يقتني الخيل، ويربيها، ويعرضها للبيع. قدوته في ذلك أستاذه أبو الحسن الشاذلي. كان من كبار المزارعين. وكان يقول: لكلِّ وليٍّ حجاب، وحجابي الأسباب. التصوف توفيق بين العقل والقلب، جمع بين الشريعة والحقيقة.

سُئل أبو العباس في قول بعضهم: لا يكون الصوفي صوفيًّا حتى لا يكتب عليه صاحبُ الشمال عشرين سنة. فقال: ليس معنى ذلك ألَّا يقعَ منه ذنب عشرين سنة، وإنما معناه عدم الإصرار، وكلما أذنب تاب واستغفر على الفور. وكان يُكرم الناس على نحو رُتْبتهم عند الله، وربما دخل عليه عابد فلا يأبه له، وربما دخل عليه عاصٍ فيحتفي به. لأن العابد جاء وهو متكبر بعلمه، ناظر لفعله. أما العاصي فقد دخل بكسر معصيته وذله ومخالفته. وكان لا يُثني على مريد، ولا يرفع له علَمًا بين إخوانه كي لا يُحسد. صلى قيام رمضان سنة، وقال: قرأت القرآن في هذه السنة كأنما أقرؤه على رسول الله . وفي رمضان من العام التالي، قال أبو العباس: قرأت القرآن في هذه السنة كأنما أقرؤه على جبريل عليه السلام. فلما جاء رمضان من العام الثالث قال: قرأته في هذه السنة كأنما أقرؤه على الله.

وقال بعض مريديه: صلَّيتُ وراء أبي العباس، فشهدت الأنوار ملأت بدنه، وانبثقَت من وجوده، حتى إني لم أستطع النظر إليه.

وصحب أحدُ الصوفية الشيخَ أبا عبد الله البجائي، صاحب أبي الحسن الشاذلي، فكان يقع له الأمر، يسأل عن الشيخ البجائي، فيُجيبه: ليس هذا الأمر لي، ولكن إن جمع الله بينك وبين أبي العباس المرسي، تجد عنده ما تريد.

وقال الشيخ أمين الدين جبريل لصوفي من البهنسا: تريد أن أُريَك وليًّا من أولياء الله تعالى؟

قال الصوفي: نعم.

قال جبريل: امضِ بنا.

وأتى به إلى الشيخ أبي العباس المرسي، وقال: هو هذا.

ودخل رجل على الشيخ أبي العباس الدمنهوري، فسمعه يقول: يا رب، هذاك أبو العباس، وأنا أبو العباس. وكرر ذلك.

قال الرجل: مَن أبو العباس؟

قال: يا بني، ما من أسوان إلى الإسكندرية رجل مثله.

وقيل: ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحديث أبهى من مجلس الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحقائق أبهى من مجلس أبي العباس المرسي.

وقال أبو العباس: لن تهلك أمة فيها أربعة: إمام، وولي، وصديق، وسخي. قيل إن الإمام هو أبو العباس.

وقال الشيخ أبو العباس الدمنهوري: سيدي أبو العباس المرسي ملك من ملوك الآخرة.

•••

كان يتوجَّه إلى البحر، يمشي على الماء دون أن يبدِّل ثيابه، كأنه يمشي في الأرض تمامًا، لا يشغله عمَّا حوله، ولا يتلفت.

أكثر ما كانت رؤيته وهو في هذه الحال، عندما يكون القمر في السماء بدرًا. وكان يطير بلا جناحَين، ويغطس في مياه الميناء الشرقية، فلا يظهر إلا في المنتزه أو أبي قير. ربما طار إلى مكة، يطوف حول البيت الحرام، ويزور قبر الرسول، ثم يعود إلى مجلسه وسط مريديه، كأنه لم يغادره.

•••

طلب رجل من أبي العباس أن يزورَه لأمر بعد صلاة الجمعة. وعدَه أبو العباس بالحضور.

جاء أربعة رجال، طلب كلٌّ منهم الأمرَ نفسَه من ولي الله، فوعدهم بالحضور.

صلَّى أبو العباس مع الجماعة، ثم اتخذ مجلسه بين الفقهاء، ولم يذهب إلى أي مكان، لكن الرجال الخمسة قَدِموا إليه، يشكرونه على حضوره عندهم.

•••

أقسمت الست صبيحة أن السلطان كان يزور — بجسده — أضرحةَ أولياء الله: السيدة زينب، والسيدة نفيسة، والشهيد الحسين، والسيدة فاطمة النبوية وغيرهم، دون أن يبرحَ مجلسه وسط المريدين، وكان لا يغيب عن الله، ولو في حالة الجماع.

من بين ما أحصاه علوم الشريعة كلها، وعلوم الحقيقة كلها، وعلم لغات الإنس والملائكة والجن والطير والوحوش والهوام، وعلم ضرب الرمل والتنجيم ورصد الأفلاك. وكان يتفرَّس في لغات الحيوان، يعرف ما تقوله وما تريده، فيُعيد حكايته على الناس. وكان يُسخِّر الجن، وتُطيعه، ويسمع تسبيح السمك في البحر.

روَت أنه ألقى على الأرض — ذات يوم — رءوسَ فجل، تناثرَت، وتحوَّلت إلى ثعابين وحيَّات، تفرَّقت وسط ذهول المريدين، فلم يلحَظ أحدٌ أين ذهبت. وعُرف عنه تبحره في علم السيميا، يسهل عليه به أن يتصرف على ما بالكائنات من خير وشر وجلب وطرد، أعماله في الخير كالترياق، وأعماله في الشر كالسم الناقع. يأتي للحوامل والمرضى بالفاكهة في غير أوانها، يُتمتم بكلمات، ويمدُّ يده في الهواء، فتلتقط الثمار المرجوة، يدفع بها إلى مَن يطلبها، فيُرضي بها رغبتَه. يعرف أشياءَ تخفى على البشر العاديِّين، ويُكاشف الناس بما في صدورهم. حتى الأفعال التي يكتمونها، يحرصون على عدم البوح بها، يرويها كأنه يراها، ويُكاشف كل واحد من مريديه بما حدث له في يومه وليلته. يتصرَّف — في مجلسه، وبين مريديه — بإلهام يُشبه الوحي، يُخاطب مَن لا تراه عيونهم، يأخذ ويعطي، يسأل ويجيب، ثم يتجه إلى المريدين بالرأي الصواب. وعُرف عنه المقدرة على الكشف عن حال الموتى، وسماع كلامهم، وقد يستطيع — بقدرة الله — إحياءَهم.

•••

أنكر ابن عطاء الله السكندري — في مقتبل شبابه — على التصوف ورجاله. ذهب إلى أبي العباس المرسي لينظر ماذا يقول. وجده يتكلم في الأنفاس، ودرجات السالكين إلى الله، ومدى معرفتهم به — سبحانه — وقُرْبهم وتقرُّبهم إليه، فما زال يتحدث ويتحدث عن الإسلام والإيمان والإحسان، ومقامات الشريعة والحقيقة والتحقق.

قال ابن عطاء الله: «… إلى أن بهر عقلي وسلب لُبِّي، فعلمت أن الرجل يغترف من فيض بحر إلهي ومَدَد رباني، فأذهب الله ما كان عندي من إنكار واعتراض».

لزم ابن عطاء الله — فيما بعد — أبا العباس، وصار من مريديه.

وقال أبو العباس: أوقاتُنا كلُّها ليلة القدر، أي عبادتنا كلها مضاعفة مع خفائها، وتحقيق الإخلاص فيها؛ إذ لا يطلع عليها ملك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده.

وأمسك بلحيته — يومًا — وقال: لو علم علماء العراق والشام ما تحت هذه الشعرات لأتَوها ولو سعيًا على وجوههم. وقال: والله ما جلست حتى جعلت جميع الكرامات تحت سجادتي. وقال: والله لولا ضعف العقول لأخبرت بما يكون غدًا من رحمة الله، وأن تنزل إلى علوم المعالمة. وقال: والله ما سار الأولياء والأبدال من «ق» إلى «ق» حتى يلقَوا واحدًا مثلنا، فإذا لقوه كان بغيتَهم. أضاف: والله الذي لا إله إلا هو، ما من وليٍّ لله كان أو هو كائن إلا وقد أطلعني الله عليه، وعلى اسمه ونسبه، وكم حظه من الله تعالى. وقال: العامة إذا رأوا إنسانًا يُنسب إلى الولاية، جاء من البراري والقفار، أقبلوا عليه بالتعظيم والتكريم. وكم مَن بدَّل وولَّى بين أظهرهم فلا يُلقون إليه بالًا، مع أنه هو الذي يحمل أثقالهم، ويدفع أغيارًا عنهم، فمثلهم في ذلك كمثل حمار الوحش، يدخل البلد فيطوف به الناس متعجبين لتخطيط جلده، وحسن صورته، والحُمُر التي بين أظهرهم تحمل أثقالهم إلى مواضع أغراضهم، وتنقل ترابَهم وآلات بنائهم، لا يلتفتون إليها.

•••

قيل للشيخ الإمام العارف نجم الدين عبد الله الأصفهاني، وهو ببلاد العجم: إنك ستلقَى القطب بديار مصر.

خرج الشيخ من بلاده في طريقه إلى القطب الذي تمنَّى لقاءَه. صادفه في بعض الطريق جماعةٌ من التتار، ألقَوا القبض عليه، ووثقوا جسده، وقالوا: هذا جاسوس!.

عندما تشاوروا في أمره، انقسموا إلى فريقين ما بين مؤيد لقتله، ومعارض لقتله، ثم تركوه مقيدًا حتى يصلوا إلى رأيٍ محدد.

قال الإمام الأصفهاني لنفسه: خرجت من بلادي، أريد لقاء مَن يعرِّفني بالله. والله ما جزعت من الموت … ولكن كيف أموت قبل أن أنال ما قصدت؟.

وقال أبياتًا ضمَّنها شعرًا لامرئ القيس، منه:

وقد أوطأت نعلي كل أرض
وقد أتعبت نفسي باغتراب
وقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب

فما أتمَّ إنشاده، حتى رأى رجلًا كثَّ اللحية، ظاهر الهيبة، هبط كالباز عندما ينقضُّ على الفريسة، فحلَّ وثاقَه، وقال له: قم يا عبد الله، فأنا مطلوبك.

ووصل الشيخ إلى مصر، دلَّه الناس على أبي العباس المرسي، فذهب إليه. كان هو الرجل الذي حلَّ وثاقه، وقال له: أعجبني تضمينُك ليلةَ أُسرت، وقولك … وذكر الأبيات إلى آخرها.

•••

قال أستاذ الشيخ نجم الدين الأصفهاني لتلميذه: إذا لقيت القطب، فلا تصلينَّ وهو وراءك.

وجاء إلى أبي العباس — يومًا — وهو بالإسكندرية، عند صلاة العصر.

ابتدره المرسي: أصليت العصر؟

قال: لا.

قال: قُم فصلِّ!

وكان في الموضع الذي هو فيه إيوانان، قبلي وبحري. وكان أبو العباس جالسًا في الإيوان البحري. وتذكَّر الأصفهاني عند قيامه للصلاة ما قاله أستاذه، وعلم أنه إذا صلَّى، كان الشيخ وراء ظهره، فأقام الله بقلبه حالة، وقال: حيثما كان الشيخ هناك القبلة.

وتوجَّه ناحية أبي العباس، وهمَّ أن يُكبِّر.

قال أبو العباس: لا … هو لا يرضيه خلاف السنة!

•••

قال العالم الشيخ محمد السراج: كنت — ذات ليلة — نائمًا، فرأيت في المنام قائلًا يقول لي: اذهب إلى خارج الإسكندرية، ومن باب سدرة، فأول بستان تلقاه من الجانب الأيسر، فادخل فيه، فإنك تجد هناك جماعة من الناس، الجالس منهم تحت أطول نخلة هناك، رجل من الرجال. ثم قيل لي إن في الجامع حلقة، مَن دخل فيها فهو آمن. فلما أصبحت، خرجت إلى ظاهر الإسكندرية، فدخلت أول بستان من الجانب الأيسر، فوجدتُ حلقةً هناك، فرفعت بصري لأنظر إلى أطول نخلة، فإذا قائل يقول: كلها طوال. فإذا هو الشيخ أبو العباس المرسي. فسلَّمتُ، وجلست، وقلت: يا سيدي، رأيت البارحة كذا وكذا.

وقصصت عليه الرؤيا.

قال: أنا الجامع، والحلقة هم أصحابي، ومَن دخل فيها فهو آمن، أي مَن دخل في شروطنا فهو آمن.

ثم قال: أنا الليلة آتيك.

قلت: يا سيدي، أنتظرك على الباب، أو أترك لك الباب مفتوحًا …؟

قال: لا، ولكن أغلق الباب وأنا آتيك.

قال: فلما كان الليل، أخذني شبهُ الوهم، وصِرت أقول: مَن أين يأتي؟ … من هنا يأتي؟ … لا، بل من هنا يأتي؟ … فلم أَطِق المكث، فخرجت إلى رباط الواسطي، فصعدت المئذنة، ووقفت لأصلِّي، وإذ أنا أصلِّي، أتى الشيخ أبو العباس في الهواء، وقال: يا محمد، أتظن أنك إذا جئت إلى هنا يخفى عليَّ مكانك؟

قلت: يا سيدي، إنما جئت ها هنا لأني لم أَطِق. وهالني الأمر، وكان المخاطِبَ له مني لسانٌ آخر غير الذي كنت أقرأ به.

•••

قال أبو العباس — يومًا — للعارف نجم الدين الأصفهاني: ما اسم كذا وكذا بالعجمية؟

توهَّم الأصفهاني أن أبا العباس يحب أن يقف على اللغة العجمية، فأتى إليه بكتاب «الترجمان».

قال أبو العباس: ما هذا الكتاب؟

قال: كتاب الترجمان.

ضحك الشيخ، وقال: سَلْ ما شئت بالعجمية أُجِبْك بالعربية، أو سَلْ ما شئت بالعربية أُجِبْك بالعجمية.

وسأل الأصفهاني بالعجمية، فأجابه أبو العباس بالعربية. وسأله بالعربية، فأجابه بالعجمية، وقال: يا عبد الله، ما أردت بقولي ما اسم كذا إلا مباسطتك، وإلا فلا يكون صاحب هذا الشأن، ويخفى عليه شيءٌ من الألسنة.

وقال أبو العباس للأصفهاني يومًا: كم بين بلدة كذا وكذا من نهرٍ لبلدتَين من بلاد العجم؟

قال الأصفهاني: أربعة أنهار.

قال: والنهر الذي غرقت فيه؟

فتذكَّر الأصفهاني أنه نسيَ نهرًا أتاه ليخوضه، فكاد أن يغرق فيه.

ونزل أبو العباس ضيفًا على الشيخ أبي الحسن المرسي بمدينة قوص. وكان الشيخ يعاني حدَّة في الطبع، فنزل أحدُ أبنائه للعب، فنهره أبو الحسن، وقال له: اطلع لا أطلعك الله.

سمع أبو العباس ما قاله الرجل، فقال: يا أبا الحسن، حسِّن خُلُقك مع الناس. بقيَ لك عام وتموت.

ومات الرجل في نهاية العام.

•••

قَدِم أبو العباس على البهنسا. قال لبعض أهلها: خمس وعشرون سنة ما حُجبت فيها عن الله طرفةَ عين.

ثم غاب خمسة عشر عامًا، قدم — بعدها — على البهنسا، فقال: الآن أربعون سنة، ما حُجبت عن الله طرفةَ عين.

وكان يَعِظ الناس، حين دخل عليه أحدهم، وقاطعه بسوء أدب.

قال له المرسي دون أن يهزمَه الانفعال: اخرج يا ممقوت!

وجُنَّ الرجل في لحظتها. سلبه الله عقله وذاكرته، وكل ما كان تعلَّمه. خرج إلى الشوارع والحواري، لا يعرف مستقرًّا، حتى مات.

•••

قال ابن عطاء الله السكندري. وكان قد أنكر على الصوفية، وعلى أبي العباس المرسي، دون أن يلتقيَ بالمرسي، أو يعرف عنه شيئًا: دعني أذهب إلى هذا الرجل لأعرف حاله عن قرب، ولأتبيَّن ما يقوله عنه الناس من أنه وليُّ هذا الزمان.

استأذن ابن عطاء الله على أبي العباس، ودخل عليه. تلقَّاه بحفاوة وبشاشة، حتى استصغر نفسه، وهو شابٌّ صغير، والمرسي شيخ عالي المقام.

قال: فلما اقتربتُ من الشيخ، سألني عن أحوالي. فقلت له: يا سيدي، إنى أشكو الهموم والأحزان.

قال الشيخ: أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة والبليَّة والطاعة والمعصية. فإذا كنت في النعمة، فمقتضى الحق منك الشكر، وإذا كنت في البليَّة، فمقتضى الحق منك الصبر، وإذا كنت في الطاعة، فمقتضى الحق شهودها منَّة عليك، وإذا كنت في المعصية، فمقتضى الحق منك الاستغفار.

قال ابن عطاء الله: فقمت من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوبًا نزعتُه عني.

قال لأبي العباس: يا سيدي، إني — والله — أحبك.

قال المرسي: أحبك الله كما أحببتني.

وقال ابن عطاء الله: سمعت طلبة الشيخ يقولون: مَن يصحب أهل المعرفة، لا يجيء منه في العلم الظاهر شيء. فشق عليَّ أن تفوتني صحبةُ الشيخ، فيفوتني هذا العلم. أتيت إلى الشيخ، فوجدتُه يأكل لحمًا بخلٍّ. قلت في نفسي: ليته يُطعمني منها لقمة … فما استممت الخاطر إلا وقد وضع الشيخ أبو العباس لقمةً منها في فمي.

وقال ابن عطاء الله: سمعت شيخنا يقول: سافرت إلى قوص ومعي جماعة من أصحابي، هم: الحاج سليمان، وأحمد بن الزين، وأبو الربيع، وأبو الحسن المرسي، وخامس لم يذكره. سألني إنسان: ما الذي تقصده بسفرك يا سيدي؟

قلت: لأدفن هؤلاء بقوص وأعود، فدفنت الخمسة بها.

وقال ابن عطاء الله: دخلت على الشيخ أبي العباس — يومًا — وفي نفسي تركُ الأسباب والتجرد، وترك الاشتغال بالعلم الظاهر، قائلًا: إن الوصول إلى الله لا يكون على هذه الحال.

قال لي من غير أن أُبديَ شيئًا: صحبني بقوص إنسان يقال له ابن ناشئ، كان نائب القضاء في قوص، ومدرِّسًا بها، فذاق من هذا الطريق شيئًا على أيدينا.

قال: يا سيدي، أترك ما أنا فيه، وأتفرَّغ لصحبتك.

قلت له: ليس الشأن ذا، ولكن امكث فيما أقامه الله لك، وما قسم لك على أيدينا هو واصل إليك.

ثم قال: هكذا شأن الصديقين، لا يُخرجون منه شيئًا حتى يكون الحق هو الذي تولَّى إخراجهم.

•••

قال جمال الدين بن أبي العباس: ورد رسول الإفرنج إلى الإسكندرية، فذهبت لأراه، ولم أعلم الشيخ. فلما رجعت، سألني الشيخ: أين كنت؟.

قلت: ها هنا.

قال لي: بل ذهبتَ لرؤية رسول الإفرنج. أتظن أن شيئًا من أحوالك يخفى عليَّ؟ … كان رسول الإفرنج لابسًا كذا وكذا، راكبًا على هيئة كذا، عن يمينه فلان، وعن يساره فلان … ووصف الحالة كما كانت عليه.

•••

قال عبد العزيز المديوني، خادم أبي العباس: قال لي الشيخ مرة: يا عبد العزيز، أسقيتَ الفرس؟.

وما كنت سقيتها.

قلت: نعم، خوفًا من الشيخ.

فكرَّر عليَّ ذلك، وأنا أقول: نعم.

في المرة الأخيرة، قال: يا عبد العزيز، ما الذي يدعوك أن تقول غير الحق؟ … وماذا كنت أصنع بك إذا لم تكن قد سقيتَها.

•••

قال أحد المريدين: صليت خلف شيخي صلاة، فشهدت ما أبهر عقلي؛ وذلك أني شهدت بدنَ الشيخ والأنوار قد ملأَته، وانبثت الأنوار من وجوده، حتى إني لم أستطع النظر إليه. فلو كشف الحق عن مشرقات أنوار قلوب أوليائه، لانطوى نور الشمس والقمر في مشرقات أنوار قلوبهم. وأين نور الشمس والقمر من أنوارهم؟ … الشمس يطرأ عليها الكسوف والغروب، وأنوار قلوب أوليائه لا كسوف فيها ولا غروب.

•••

لبَّى وأصحابه دعوة رجل صالح من أبناء الإسكندرية، في بستان له بالرمل. شغلَتهم أحاديث الدين، حتى وصلوا إلى بستان ظنوه المكان الذي دعوا إليه. وكان مخضرًّا بأشجار التوت، فأقبلوا على تناوله، وإن أهمله أبو العباس. تذوق واحدة، فأحس ألمًا في بطنه، فأهمله، ولَحقهم صوت رجل من بعيد: كيف يحلُّ لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغير إذن؟

فطنوا إلى أنهم أخطئوا البستان، وأكلوا ما ليس من حقهم، في حين أفلت أبو العباس من أكل الحرام، وقال: ألم أَقُل لكم: الورِع من ورَّعه الله؟!

•••

كان إذا قرصه الجوع، خرج إلى ساحل بحر الإسكندرية. يلتقط ما يرميه البحر على الساحل من القمح الذي يُرفع من السفن.

يشكر الله، ويحمده على نعمائه.

•••

قال رسول الله : «سبعة يُظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلَّق بالمسجد، لا يخرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه، ورجل دعَته امرأة ذات حسن وجمال، فقال: إنى أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه من خشية الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُه ما تُنفق يمينه».

قال المرسي: اعلم أن هؤلاء السبعة جاءهم الحق — سبحانه وتعالى — من حيث معاملتهم إياه. أما الإمام العادل، فإنه عدل في عباد الله، فأوى المظلوم إلى ظل عدله، فأوى الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وأما الشاب الذي نشأ في عبادة الله فإنه أوى إلى الله معرضًا عن هواه، آويًا إلى كنف مولاه، فصنع الحق معه ذلك في الآخرة جزاء، كما صنع هو ذلك مع الله في الدنيا معاملة. وأما الرجل الذي قلبُه معلَّق بالمسجد، لا يحب البراح عنه، لأنه يجد فيه روح القربى وحلاوة الخدمة، فأوى إلى الله مؤثِرًا لربوبيته، فآواه الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، جزاء لما سبق من معاملته. وأما الرجل الذي دعَته امرأة ذات حسن وجمال، فقال: إني أخاف الله، فإنه عرف نارَ مخالفة الهوى، مخافةً من المولى، وخالف بواعث الطبع المعارضة للتقوى. فلما خاف من الله، هرب إليه. ولما هرب إليه، أواه الله إليه في الآخرة مواصلة، فأظله الله بظلِّه يوم لا ظل إلا ظله. وأما الرجل الذي تصدَّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفق يمينه، فإنه قد آثر الله على نفسه، ببذل الدنيا إيثارًا لحب الله على ما تُحبه نفسه، لأن شأن النفس حبُّ الدنيا وعدم البذل لها، فلا يبذل لها إلا مَن آثر الله عليها. ولذلك قال رسول الله: الصدقة برهان، أي برهان يدل على أن العبد آثر مولاه على نفسه وهواه، فلما قال هذا العبد إلى الله بالمعاملة، منَّ الله عليه في ظلِّه عليه بأن أظلَّه في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله. وقال: السماء عندنا كالسيف، والأرض كالبيت، وليس الرجل عندنا مَن يحصره هذا البيت. وقال: العارف لا دنيا له، لأن دنياه لآخرته، وآخرته لربه، والزاهد غريب في الدنيا لأن الآخرة وطنه، والعارف غريب في الآخرة، فإنه غريب عند الله. ولن يَصِل الوليُّ إلى الله حتى تنقطع عنه شهوةُ الوصول إلى الله. وقال: إن لله — تعالى — عبادًا محق أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته، وحملهم من أسراره ما يعجز عامة الأولياء عن سماعه، وهم الذين غَرِقوا في بحر الذات وتيار الصفات، فهي إذن فئات ثلاث: أن يُغنيك عن أفعالك بأفعاله، وعن أوصافك بأوصافه، وعن ذاتك بذاته؛ ولذلك قال قائلهم:

وقوم تاه في أرض بقفر
وقوم تاه في ميدانِ حبِّه
فأفنوا ثم أفنوا ثم أفنوا
وأبقَوا بالبقا من قربِ قربِه

فإذا أفناك عنك أبقاك به، فالفناء دهليز البقاء، ومنه يدخل إليه، فمَن صدق فناؤه صدق بقاؤه، ومَن كان عمَّا سوى الله تعالى بقاؤه، وقال: نحن في الدنيا بأبداننا مع وجود أرواحنا، وسنكون في الآخرة بأرواحنا مع وجود أبداننا، وقال: إذا أتانا مريد له شيء من الدنيا، لا نقول له: اخرج عن دنياك، وتعالَ إلينا، ولكن ندعه حتى ترسخ فيه أنوارُ المعرفة، فيكون هو الخارج عن الدنيا بنفسه، ومثل ذلك قوم ركبوا سفينة، فقال لهم رئيسها: غدًا تهبُّ ريح شديدة، لا يُنجيكم منها إلا أن ترموا ببعض أمتعتكم، فارموا بها الآن، فلا يسمع أحد قوله، فإذا هبَّت العواصف كان الكيِّس مَن يرمي متاعه بنفسه، كذلك إذا هبَّت عواصف اليقين، يكون المريد هو الخارج عن الدنيا بنفسه. وقال: طريقتنا هذه لا تُنسب للمشارقة ولا للمغاربة، بل واحد عن واحد، إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو أول الأقطاب، وإنما يلزم تعيين المشايخ الذين يستند إليهم طريق الأنساب. وقد يجذب الله العبد إليه، فلا يجعل عليه منَّة لأستاذ. وقد يجمع شمله برسول الله فيكون آخذًا عنه، وكفى بهذا منَّة. وقال: وليُّ الله تعالى مع الله تعالى، كولد اللبؤة في حجرها. أتراها تاركةً ولدَها لمن أراد اغتياله؟ وقال: والله ما نطالع كلام أهل الطريق إلا لنرى فضل الله علينا. ودعا، فقال: اللهم إنَّا نسألك الخوف منك، والرجاء فيك، والمحبة لك، والشوق إليك، والأنس بك، والرضا عنك، والطاعة لأمرك على بساط مشاهدتك، ناظرين منك إليك، وناطقين بك عندك. لا إله إلا أنت سبحانك. ربنا ظلمنا أنفسنا، وقد تُبْنا إليك قولًا وعقدًا، فتُبْ علينا جودًا وعطفًا، واستعملنا بعمل ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتنا. إنَّا تُبْنا إليك، وإنَّا من المسلمين. وكان عند الكروب يدعو بحزب البحر، يقول: يا قدير، يا مريد، يا عزيز، يا حكيم، يا حميد. إنَّا نسألك بالقدرة العظمى والمشيئة العليا، وبالآلات والأسماء كلها، وبهذا العظيم منها، أن تسخِّر لنا هذا البحر، وكل بحر هو لك في الأرض والسماء والملك والملكوت، كما سخَّرت البحر لموسى، وسخَّرت النار لإبراهيم، وسخَّرت الجبال والحديد لداود، وسخَّرت الريح والشياطين، والجن لسليمان، وسخِّر لنا كلَّ شيء يا مَن بيده ملكوت كل شيء، وهو يُجير، ولا يُجار عليه. يا عليُّ، يا عظيم، يا حليم، يا عظيم.

•••

عاش أبو العباس المرسي — كما روى أحباؤه — نظيف الثياب، بشوش الوجه، طَلْق المحيَّا، وضَّاء الجبين، عفَّ اللسان، لا يُضمر سوءًا لأحد، متوسطًا، معتدلًا في حياته ومعيشته، يتحرز في دينه، ويحذر الحرام، ويحفظ حقوق أصحابه، ولا يُحرم على نفسه الطيبات؛ لأن ربه — سبحانه — يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

امتدَّت أحاديثه في القلب الأكبر، والاسم الأعظم، وشعبه الأربعة، والأسماء، والحروف، ودوائر الأولياء، ومقامات الموقنين، والأملاك المقرَّبين عند العرش، وعلوم الأسرار، وأمراء الأذكار، ويوم المقادير، وشأن التدبير، وعلم البدء، وعلم المشيئة، وشأن القبضة، ورجال القبضة، وعلوم الأفراد، وما سيكون يوم القيامة.

رُويت حكايات عن طيِّه للأرض، ومشيه على الماء، وطيرانه في الهواء، واطلاعه على كائنات كانت، وكائنات لم تكن بعد، وكشفه عن أحوال الموتى وسماع كلامهم، وإتيانه بثمار في غير أوانها، وإنباع ماء من غير احتفار، وتسخير الحيوانات الضارية، وإجابة الدعوة بإتيان مطر في غير وقته، وصبر على المكاره، وانعدام القوت مدة تخرج عن طور العادة. وقيل إنه تعلَّم لغة الطير والوحوش والدواب والنبات والجماد، ولغة الماء، وحفيف الأشجار، وسراج الأقمار والضوء، ولغات الملأ الأعلى والأفلاك والأملاك ومساكنهم، ولغات أهل الإشارة والعبارة، ولغات البيت المعمور.

كان إذا أُهديَ إليه شيء يسير، تلقَّاه ببشاشة وقبول، وإذا أُهدي إليه شيء كثير، تلقَّاه بعزة نفس، وإظهار الغنى عنه.

فإذا نزل بلدة، وعلم أن متوليها يريد لقاءه غدًا، سافر قبل أن يَفِد النهار، وظل في الإسكندرية ستًّا وثلاثين سنة، لم يرَ وجه متوليها، ولا أرسل إليه. فلما طلب المتولي لقاءه، أبى المرسي ذلك.

قال له الزكي الأسواني: يا سيدي، متولي الإسكندرية قال إنه يؤثر الاجتماع بك لتكون شيخَه.

قال أبو العباس: يا زكي، لستُ ممن يُلعب به، والله إني ألقى الله ولا يراني ولا أراه، فكان الأمر كذلك.

مع سعي أبي العباس إلى العمل الصالح، فإنه لم يُهمل حظَّه من الحياة. وكان يقتني الخيل، ويُعنَى بتربيتها، وإطعامها، وتفقُّد أحوالها.

قال: دخلت على الشيخ — الشاذلي — وفي نفسي أن آكلَ الخشن، وألبس الخشن، فقال لي: يا أبا العباس، اعرف الله، وكن كيف شئت.

وكان يفرض الخصوصية في زيِّ الصوفي، ويقول: مَن لبس الزي فقد ادعى.

وخرج من الدنيا، ما وضع حجرًا على حجر، ولا اتخذ بستانًا، ولا استنتج سببًا من أسباب الدنيا، ولا خلَّف وراءه ما يدل على الثراء.

•••

كان يُعاني أمراضًا كثيرة، لكنه لم يكن يشكو، ولا يتألم. يحرص على حلقات درسه، ويقول لأصحابه: لا تنظروا إلى حمرة وجهي؛ فحمرة وجهي من قلبي.

دخل عليه ابن عطاء الله — يومًا — فوجد به ألمًا، فقال له: أظنك يا سيدي ضعيفًا؟

قال أبو العباس: الضعيف مَن لا إيمان له ولا تقوى.

كان يرى أن العمل هو عين العبادة والتسبيح، وأنه كمال المجاهدة. ويقول لأصحابه: عليكم بالسبب (العمل)، وليجعل أحدُكم مكوكَه سبْحته، أو قادومه سبْحته، أو تحريك أصابعه في الخياطة، أو الضفر، سبْحته. وكان يشعر أن انقطاعه عن الدرس ربما يُفضي إلى سلبه. يقول: والله ما جلست للخلق حتى هددت بالسلب، وقيل لي: لئن لم تجلس للناس، سلبناك ما وهبنا لك.

كان متواضعًا للناس، باشًّا في وجوههم. يلتزم بحق مريديه وتلاميذه وإخوانه، من التعاطف والمشاركة الوجدانية، ويُحب لهم ما يُحب لنفسه. وكان يُحسن معاملة المريدين، ويحض على حسن معاملتهم. وأعلن استنكاره لما فعل بعض الأتباع، حين قالوا للمريد الذي طلب لقاءه: قف ساعة. قال: إن المريد يأتي إلى الشيخ بهمته المتوقدة، فإذا قيل له: قف ساعة، طُفئَ ما جاء به. ولم يكن يحب المريد الذي لا سبب له.

لم يؤلِّف كتبًا. وكان يقول: كُتُبي أصحابي. تخرَّج على يديه كبارُ الأئمة الأقطاب؛ كالبوصيري، وياقوت العرش، وابن عطاء الله السكندري، والخزرجي، وابن اللبان، وابن الحاجب، وابن أبي شامة، وقجماش الظاهري، وغيرهم.

تعدَّدت حلقاته الدراسية بين مساجد الإسكندرية ومساجد القاهرة. يقوم بأمر الدعوة في جامع الحاكم المقس بالقاهرة، ويُلقي دروسه فيه، ثم يذهب — كل ليلة — إلى الإسكندرية، يسمع ميعاد شيخه أبي الحسن الشاذلي، ويرجع إلى القاهرة.

قيل: ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحديث أبهى من مجلس الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحقائق أبهى من مجلس أبي العباس المرسي.

كراماته ومكاشفاته جعلَته قطبًا لأولياء المدينة — كلهم — فيما عدا أستاذَه أبا الحسن الشاذلي، الذي مات في حميثرة، ودُفن فيها. تتلمذوا على يديه، ونهلوا من علمه. صاروا — لأعوام طالت أو قصرت — مريدين له، قبل أن تتحقق لهم الولاية في عهده، أو بعد رحيله. لكن الناس اختاروا له اسمَ السلطان، الكلمة المفردة، تنطق فتعبِّر عن المعنى دون ما يسبقها أو يلحقها، ودون شرح أو توضيح. هو السلطان بمكاشفاته وكراماته وخوارقه ومعجزاته، تُحمَى الإسكندرية من شرور الفتن والزلازل والنوات وظلم الحاكمين.

هو وليُّ الله، والقطب، والسلطان. لا أحد من أولياء الإسكندرية يُدانيه في أفضاله وإعجازه.

•••

قال أبو العباس: الولي إذا أراد أغنى، والله ما بيني وبين الرجل إلا أن أنظر إليه نظرةً وقد أغنيتُه. وقال: والله لو حُجب عني رسول الله، ما عددتُ نفسي من المسلمين. وقال: لو فاتني الوقوف بعرفة، ما عددت نفسي من المسلمين. وقال: والله لو حُجبت عني جنة الفردوس طرفةَ عين، ما عددت نفسي من المسلمين.

•••

قَدِم السلطان على مريده أبي عبد الله الحكيم بأشموم. فلما جاء الليل، دعاه أبو العباس. دنا الرجل منه، فوضع أبو العباس يدَه خلف ظهره، وفعل أبو عبد الله الأمرَ نفسه، وتعانقا. بكى أبو العباس، وبكى الرجال لبكائه، دون أن يدريَ السبب.

قال أبو العباس: يا حكيم، ما جئتكم إلا مودِّعًا. يا حكيم، سأذهب إلى المقسم لأودعَ أخي، ثم أعود إلى الإسكندرية، أقضي بها ليلتي، وأدخل في اليوم التالي قبري.

وسافر أبو العباس إلى أخيه. أقام عنده أيامًا قليلة. ثم رحل إلى الإسكندرية، فأقام بها ليلة، لحقَته الوفاة فيها، وشُيع إلى قبره في اليوم التالي. كان قد أمضى في الإسكندرية أربعةً وأربعين عامًا من حياته.

قال ابن عطاء الله: خرج من الدنيا، وما وضع حجرًا على حجر، ولا اتخذ بستانًا، ولا استفتح سببًا من أسباب الدنيا، ولا خلَّف وراءه رزقة.

•••

ظل قبر أبي العباس قائمًا وحده، دون بناء يضمُّه، أو أسوار تحيط به.

زاره — ضمن الآلاف الذين قصدوه للتبرك — زين الدين بن القطان شيخ تجار الإسكندرية. بنى — على القبر — ضريحًا وقبة، وأنشأ جامعًا، له منارة مربعة الشكل. أوقف على مصاريف الجامع وملحقاته.

وضعَت وزارة الأوقاف حجر الأساس للجامع الجديد في أوائل عام ١٩٢٩م. استغرق البناء خمسة عشر عامًا. ثم افتتحه الملك فاروق في سنة ١٩٤٤م.

لم ينقطع المدد بوفاة السلطان، ولا انتهت كراماته. أمكن له — داخل قبره — أن يرعَى مريديه وأتباعه وقصَّاد مقامه. قال أحد مريديه: قبر سيدي أبي العباس عندنا ترياق مجرَّب، ما قصد اللهَ عنده أحدٌ في شيء إلا استجاب له.

صار مقصود الناس، يأتون إليه من الإسكندرية؛ أحيائها القريبة والبعيدة، ومن المدن والقرى خارج المدينة، يلتمسون بركاته ودعواته ومدده، مولده ثمانية أيام — بعد مولد الرسول — وليلة في منتصف رمضان، تُتلى فيها آيات القرآن، وتُنشد القصائد الدينية والتواحيش، منذ صلاة العشاء إلى منتصف الليل.

اشتهر عنه بين الناس، أنه يُجيد — حتى وهو في موته — مخاطبةَ الأنبياء والملائكة والجان والأولياء والموتى والغائبين والطير والحيوان والجماد. يلجأ الناس إليه، يقفون — متلهفين — أمام ضريحه، يبثونه شكاياتهم، يثقون أنه يُحسن الإنصات والتصرف، وفعْل ما يجب فعله. حتى المعجزات ليست بعيدةً عن قدرته. اعتقدوا فيه، ليس بينه وبين الله حجاب. الموت يُصيب البشر العاديِّين. أما أولياء الله الصالحون، مَن كانت لهم مكانة السلطان، فإنهم يملكون — حتى في وفاتهم الظاهرة — مكاشفةً وبركة، وقدرة على قضاء الحاجات، ورفْع الظلم، وتحقيق الدعوات، والشفاعة لقاصديه. أما مَن يحتمي بمقامه، فإنه يطمئن إلى قدرة السلطان على حمايته، والنصفة له من تدبيرات الخصوم.

رُويَ أنه لا ينام — كل ليلة — قبل أن يغادر قبره. يستعيد مألوف عادته — قبل أن ينتقل إلى جوار ربه — يمضي ناحية ما كان موضعه باب البحر، ومنه إلى موضع فنار الإسكندرية. ينفرد — بجسد أثيري — عن أهل المدينة، يَسْبح بخاطره بين السماء والأرض. يسير في الأنفوشي ورأس التين والشوارع والحواري والأزقة المحيطة، يطلع على أحوال الناس، يُنصت إلى ما يعانون، يلبِّي الخير مما طلبوا.

لا تزال ذاكرة الناس في بحري تستعيد مكاشفةَ المرسي، حين انتصر للغلابة من أهل الحي، في حلم كاليقظة، أو يقظة كالحلم.

•••

انظر: أبو الحسن الشاذلي، البوصيري، صبيحة الدخاخني، ياقوت العرش. راجع روايتنا «أبو العباس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤