أحمد خليل

آخر لحظات أحمد خليل في هذا العالم، عندما سقط ميتًا — وفي يده الراية — على حافة الملعب.

بعد أن اعتزل أحمد خليل لعبَ كرة القدم، تعدَّدت اختياراته: يعمل إداريًّا في ناديه الترام؟ يتجه إلى التدريب؟ يُمارس التحكيم، أو التعليق في وسائل الإعلام؟ أو يركن إلى حياة مغايرة؟

لم تَطُل مفاضلة أحمد خليل بين الاختيارات. اختار التحكيم، فلا تشغله نتائج الفريق الذي يتولَّى تدريبه، أو إدارته. التحكيم يقصر مسئوليته على تطبيق القانون.

قرأ كل ما يتصل بكرة القدم، حفظ قانون اللعبة. تردَّد على مقاهي شرق، والمحروسة بالإبراهيمية، وعلولة بمحطة مصر، وسالبو باللبان. يتابع المناقشات حول مباريات الاتحاد السكندري والأولمبي والترام والسواحل. يلتقط نثارَ التعليقات عن سيطرة الحكم على المباراة، أو العكس. قرأ عن مواصفات الحكم المثالي الذي أراد أن يكونه: الشجاعة، العدالة، السرعة، الحزم، اللياقة البدنية، المرونة.

التحق بدورة تدريبية، أجرى اختبارات فنية، وصحية، رشَّحَته للتحكيم.

لم يحاول المحاكاة، أو التقليد. حرص على أن تكون له شخصيته المستقلة.

•••

مع تعدُّد الروايات التي تنسب بدايةَ تاريخ لعبة كرة القدم إلى الصين، أو اليونان، أو الرومان، أو اليابان، فإن التاريخ المؤكد لبداية اللعبة في ١٨٦٣م، حين تأسَّس في إنجلترا أول اتحاد لكرة القدم في العالم. وفي ١٨٧١م أُقيمت أول بطولة للفوز بالكأس. بعدها بسبعة عشر عامًا، أُقيمت أول مسابقة للدوري. وجرت — في ١٨٧٩م — أول مباراة دولية لكرة القدم بين فريقَي إنجلترا واسكتلندا.

كان يلعب كرة القدم في مدن العالم — زمن أحمد خليل — أكثر من مائتي مليون لاعب، يشاهد مبارياتهم الآلاف، ويتابعها الملايين من خلال أجهزة الراديو.

شاهد أحمد خليل — في صباه — مباريات نادي موظفي الحكومة بمحرم بك، ونادي الأبطال المتحدة بالقرب من مدرسة رأس التين، ونادي الحديثة المطل على المينا الشرقية.

بدأ بلعب الكرة الشراب في شارع حالابو، المتفرع من شارع رأس التين. سُمي شارع الطلبة؛ لأن أولاده من تلاميذ المدارس، ويرتدون الأحذية. كوَّن — مع زملائه — فريق الطلبة. قوامُه طلبةٌ في المدارس الثانوية والتجارية المتوسطة وجامعة فاروق الأول.

لعب الفريق في الساحة المجاورة للحلقة، أو الساحة الخالية في موضع سينما التتويج، أو الأرض الخلاء بين حديقة سراي رأس التين وقصر أم البحرية. تبادل الزيارات والمباريات مع فرق السيالة الرياضي، السلام والأهلي والذهبي بالجمرك، المختلط بالميرغني، الحضرة الرياضي، شباب النيل بكرموز، الناصرية بكوم الشقافة، السعادة الرياضي، سيدي جابر، المصري بالحضرة، التحرير والترسانة وباكوس بالرمل، ومع فِرَق قوات الإنجليز في منطقة فنارة رأس التين، وفِرَق المعسكرات الإنجليزية، وفِرَق الأسطول البريطاني في ميناء الإسكندرية.

المرة الوحيدة التي عمل فيها شحاتة عبد الكريم حجابًا، تميمة، لمنع الفوز، لمَّا طلب منه الفريق أن يصنع عملًا عكسيًّا، يُدَسُّ في شبكة فريق الأسطول البريطاني.

قَدِم الفريق الإنجليزي إلى بحري بصيت الأقوى. وجد فريق الطلبة في هزيمته مسألةَ كرامة. أن تنتهيَ المباريات مع فِرَق الأحياء بالفوز أو العكس، فالكرة مستديرة. أما اللعب مع الفريق الإنجليزي فلا يقبل سوى نهاية وحيدة.

أصرَّ أحمد خليل — عند فوز فريق الطلبة بهدفين لهدف واحد — أن الفضل لمهارات اللاعبين.

ما أثاره أن بقية أفراد الفريق شاركوا شحاتة تصورَه بأن العمل العكسي هو الذي حقق النصر لهم.

عُرف عن أحمد خليل تعلُّمه أصول اللعبة.

أجاد السرعة، والترقيص، واللعب بقدميه، والتوافق، والجري بالكرة، والتمرير، وتصويب ضربات الجزاء. قلَّد فهمي جميعي، وكمال الصباغ، وسعد راشد، وكامل صرصار، ويسري سليمان، والديبة، والحاج شتا، وأحمد الخولي، ومحمد بيومي، وغيرهم من نجوم الكرة في صباه.

حين اختار كرم حامد الساحة الملاصقة للحلقة — في أثناء تدريب الفريق — اصطدمَت الكرة بقدمه. شاطها. تابع اللاعبون — بعينَي الذهول — طيرانَها إلى أفق البحر.

قال أحمد خليل: لو أنه ينضم إلينا، سنفوز في كل المباريات!

رفضَت ابتهال المنسي أن يلعب رضا أصغر أبنائها مع فريق الطلبة. إذا فشل في الدراسة، فإن مكانه بجانبي في الحلقة.

لمَّا أصرَّ الولد على الانضمام لفريق الطلبة، حرصت ابتهال المنسي على الجلوس على الخط، يُحيط بها اثنان أو ثلاثة من صبيانها. تشاهد المباريات. تُبدي الملاحظات. تُوبِّخ ابنها على إخفاقه في التسجيل، أو تعيب على اللاعب الخصم عنفَه. وكانت تُنادي، وتصيح، وتشتم. ثم صحبت الولد — في لحظة غضب — إلى خارج الملعب، فلم يَعُد.

•••

استعاد سؤال بيبي حين همس وهما يتجهان إلى الساحة، قبالةَ سراي رأس التين: ألَا تريد العكش؟

سأل بالدهشة: ماذا؟

لم يكن قد التقى بعبد الفتاح العكش، ولا رآه، قبل أن يلتقيا في مباراة بالساحة الملاصقة للحلقة. كان ضمن فريق نسب نفسه إلى عمال الدائرة الجمركية.

قَدِم العكش إلى بحري — بعد المباراة — بمفرده. براعتُه في المحاورة، والترقيص، وتسجيل الأهداف، أتاحَت له المشاركة — مع فريق شباب السيالة — في المباريات التالية. لم يتحدث عن اسمه الكامل، ولا عن عمله، ولا أين يُقيم، ولا من أين يُنفق؟ وضع نفسه خلف جدار مصمت من الخصوصية، لا تستطيع العين المتلصصة أن تنفذ منه. اقتصرت أحاديثُه على المباريات، ونصيبه من الدخل.

انشغل أحمد خليل — في الأيام التالية — بملاحظة العكش: القامة الضئيلة، الجبهة المسحوبة إلى الوراء، الحاجبين الملتحمين يشكِّلان خطًّا أسودَ فوق عينيه، خصلة الشعر المثبتة بالزيت على مقدمة الرأس، الزائدة الجلدية المتدلية من أسفل عينه اليسرى، تهدل معها الجفن، الشارب الرفيع المتدلِّي على جانبَي الفم، السنة الأمامية الناتئة بصورة واضحة. يرتدي قميصًا وبنطلونًا ضيقًا، وبنطلونًا ملونًا مفتوحًا حتى السرة، لا يُغيرهما في أيام متواصلة.

•••

عمل عبد الفتاح العكش أعوامًا في خيال الظل. يلون صوته، يعبِّر عن تباين المشاعر: الفرحة والحزن والشوق واللهفة والحنين والغضب، اللهجات ما بين عامية ونوبية، ومحاكاة لجنود الإنجليز وجنود قوات الحلفاء.

تنقَّل بين الموالد والأعياد، في ميدان المساجد، وبالقرب من الحلقة، وإلى جانب المحكمة الوطنية، وفي سوق العيد بميدان الخمس فوانيس.

بعد أن اختفى خيالُ الظل بظهور السينما، عَمِل العكش في الأراجوز. يضع الصفيحة في حلقِه، يُدير الحوار بين الأراجوز الزوج والزوجة، يتعاتبان، يتشاتمان، يتعاركان، يستجيب العكش لضحكات الجمهور، وتعليقاته، ومطالبه بالإعادة.

عَمِل مهرجًا في تياترو أحمد المسيري. دوره بين الفقرات. يتقافز على المسرح، يُدخل رأسه في جسده، يتشقلب، يتبادل النكات مع الجمهور، يتشابك بالقافية، يُجيد الرد على التعليقات، تُسعفه بديهتُه بما يفرض الصمت.

•••

لم يجد عبد الفتاح العكش حرجًا في تذكُّر أول علاقة له. كانت مع ريس الصيادين نصار مطاوع زوج ابتهال المنسي.

التقيا أمام سينما الكونكورديا القريبة من ميدان المنشية. صَحِبه إلى الطابق الثالث في الدار الشبيهة بدار أوبرا. اختليا في الظلمة، وانشغال القلة من المشاهدين بمتابعة فيلم ذهب مع الريح لكلارك جيبل وفيفيان لي.

رسم على وجهه ابتسامة للسؤال: لمن القيادة في الفعل؟

قال في نبرة متواطئة: مَن أتَى يُؤتَى!

يتحدث عن أشواق جنسية، تجتاحه، تهبط به إلى الطريق. يتلفت حوله. يلتقط الملامح التي يتصور استجابتها، يغالب التردد، ويهمس بمطلبه. يتمنى الموافقة، وإن فرضت الاحتمالات — في اللحظة التالية — نفسها. حتى الإهانة والشتم والضرب، اعتادها. صارت من ردود الأفعال المتوقعة.

صحب ولدًا إلى داخل قلعة قايتباي. أغواه بالفاحشة ما سرى في ساحة القلعة وطوابقها من الهدوء.

وهو يفكُّ حزام بنطلونه، ترامى صوتٌ من ناحية ضريح سيدي الأنفوشي: أمَا تستحي من ولي الله؟!

جرى العكش بآخر ما عنده. سبق الولد إلى خارج القلعة، دون أن يحاول حتى التلفُّت ناحية الصوت.

لمَّا تحدَّث الشيخ عبد الستار عن وجوب إلقاء اللوطي من شاهق جبل، ويُتبع بالحجارة، كما فُعل بقوم لوط، قال حميدو شومة: هذا هو العكش، أستبدل بشاهق الجبل شاهق الصخرة، وأُلقيه من فوقها.

وضرب راحتَه بقبضته: لولا أني لا أقتل!

كان أحمد خليل يحرص على عدم ملامسة العكش في اللعبات المشتركة، ربما ترك له الكرة، يحاور بها لاعبًا آخر من فريقه، لا ينطلق بمفرده.

قصد الشيخ عواد القدوسي إمام جامع نصر الدين. استعصَت الكلمات، فلجأ إلى التعبير بيديه، وهو ينفض رأسه كالمعتذر: ما عقاب مرتكب الفعل؟

أومأ الشيخ دلالة الفهم: الأحاديث في ذم الفعل كثيرة. هو من الكبائر، وأجمعت الصحابة على قتل الفاعل، وإن اختلفوا في كيفية قتله!

واتجه إلى أحمد خليل بنظرة مستريبة.

وشَى صوتُ أحمد بالاستياء: إنه شخص أكرهه!

خطر لأحمد خليل وهو يجري بالكرة، أن يشوطها بين ساقَي العكش. يُخلصه مما يُثير حنقَ الناس وسخطهم.

لم يَعُد يشغله الانتصار ولا الهزيمة. كبرَت في مخه أن يبتعد العكش عن مباريات الساحة، يهزم فريقه بما يدفعه إلى حلِّه.

هو ليس من أهل بحري، ربما يذهب فلا يعود.

•••

تردَّد أحمد خليل في الرد على مناداة بيبي من بئر السلم. تصوَّر أنه سيُعيد عرضه بلقاء العكش.

كرَّر بيبي نداءَه. اكتفي أحمد خليل بالوقفة المتسائلة، في البسطة المطلة على بئر السلم.

– هل تُلاعب فريقًا من القاهرة؟

استطرد لنظرته المندهشة: ليس ناديًا … إنهم مجموعة لاعبين، يريدون تغطيةَ تكاليف المصيف.

– مَن يدفع لهم؟

– يحصلون على نسبة أعلى من إيراد المباراة.

قبل أن تبدأ المباراة، انتحى به بيبي: لا داعي للجدية الزائدة.

ثم وهو يُبدي قلة الاكتراث: هؤلاء لاعبون كبار، يجب أن يفوزوا!

– فإذا هزمناهم؟

– لن نهزمهم!

وحكَّ أنفه بإصبعه: هذا شرطهم للعب.

قال أحمد خليل في استغراب: لماذا؟

زوَى عينَيه في هيئة مَن لم يتوقع السؤال: يكفي أنهم أتاحوا لنا فرصةَ اللعب أمامهم.

– لماذا لا يكون الملعب هو الفيصل؟.

– وافق زملاؤنا على الشرط!

شعر — بانقضاء الوقت — أن هزيمة فريقه وشيكة، وأن انتصار لاعبي القاهرة يقترب. تحور لاعبو الفريقين في هيئة العكش، كأنهم قد صاروا هو، أو كأنه قد صار هم. اختلطَت الملامح، وشحبَت، وتشابكَت.

رفض فكرةَ أن يترك المباراة للاعبي القاهرة.

لماذا المباراة إذن ما دامت الهزيمة مفروضة على فريقه؟ لماذا لا يحاول الفوز؟

لم يَعُد أمامه سوى أن يهزمَه، يهزمهم.

اندفع في المحاورة، وفي محاولة تخطِّي لاعبي فريق العكش، وفي استخدام رجلَيه في الشوط على المرمى.

لم يأبَه بملامسة العكش في المحاورة، ولا محاولات انتزاع الكرة من قدمَيه، ولا حتى دفعه. لا بد أن يحاوره، ويتخطاه، ويندفع نحو المرمى.

لاعب، وحاور، وانطلق نحو المرمى، وسدَّد في المرمى، وسجَّل هدفين.

•••

مات العكش وهو يُطارد ولدًا في البحر. غَرِق وهو يهمُّ بالوقوع عليه. ذاب في الأمواج كما يذوب الملح في الماء.

ضم أحمد خليل شفتَيه يُغالب ضحكة: مات وهو يؤدي وظيفته!

قال بيبي: مَن يدري، غرقُه قد يجعله شهيدًا.

قال أحمد خليل: فليحاسب السمك الذي أكله.

قال بيبي: حتى لو أكله السمك لا بد أن يُحاسَب!

استعاد أحمد خليل قولَ الشيخ عبد الستار في خطبة الجمعة: إذا كان لامرئ أن يُقذف في النار مرتين، فهو اللوطي!

شغل أحمد خليل السؤال: مَن ابتلعَته الأمواج، وأكله السمك، كيف تجتمع أجزاؤه ليُحاسَب؟

قال الشيخ جميل أبو نار إمام أبي العباس: خلقنا الله من نطفة، ومن نطفة يُعيدنا إلى الحياة!

ولجأ إلى يدَيه في التعبير: إذا نُفخ في الصور، خرج أهل القبور والغرقَى ومَن أكلَتهم الوحوش والذين احترقوا وصاروا رمادًا. خرجوا جميعًا على هيئاتهم الأولى، ورجع كلُّ ذي روح إلى جسده بإذن الله تعالى.

ظلَّت الفكرة تشغل أحمد خليل: الأسماك التي أكلَت العكش، أكلها البشر والأسماك. ثم أكلت الأسماك الآكلة أسماك أخرى، أكلَتها أجيال تالية، ووُضعَت على موائد البشر. هكذا، إلى غير نهاية.

أي صور يجمع كلَّ ذلك؟!

خشيَ الاتهام بعدم تثبيت الإيمان، والكفر، والسؤال فيما قد يجني منه شرًّا.

اكتفى بتقليب الأمر بينه وبين نفسه، حتى نسيَه تمامًا.

•••

مالَت الشمس إلى الغروب.

أبطأت خطوات أحمد خليل، ضعفَت تصويباته، شحبَت قدراتُه في المحاورة والترقيص والتمرير.

اختار التحكيم.

شارك في الدورات المتخصصة. التحق بمعسكر الحكام الدوليِّين. تابع المحاضرات عن آخر قرارات الاتحاد الدولي، وعن التعديلات التي أُدخلت على قانون التحكيم. حاول تنميةَ معارفه بمشاهدة المباريات المحلية، والأجنبية، وتحليلها، وسماع الوصف، والتعليقات، وقراءة كتب كرة القدم، وحفظ القواعد الفنية والخططية والقانونية. عُنيَ بالمحاضرات الطبية عن الصحة العامة والتشريح والتغذية واللياقة وإصابات الملاعب. تدرَّب على الجري الخفيف، والجري السريع، والجري بتغيير السرعات، وعلى التحمُّل، والمرونة، والتوافق، والحركة، وإجادة التركيز، والانتباه.

استغرقه الأمل في أن يدخل القائمة الطويلة. يسافر للتحكيم في دول أخرى.

فاجأه الموت — ذات عصر — وهو يقف على الخط، حاملًا للراية في مباراة بالدوري العام.

•••

انظر: ابتهال المنسي، أحمد المسيري، حميدو شومة، شحاتة عبد الكريم، عبد الستار، كرم حامد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤