كَتَبَة العرب وجغرافية سورية

ذكرنا في مقالتنا السابقة بطيب الثناء أحد جغرافيِّي الإسلام «شمس الدين المقدسي»، وليس هو الكاتب الوحيد من العرب الذي ضمَّن تأليفه الفوائد المتعددة في وصف سورية، وفي نيتنا أن نعود مرارًا إلى ذكر هؤلاء الكَتَبَة في أثناء مقالاتنا الآتية عن هذه البلاد، وعليه أردنا أن نفرد لهم فصلًا كاملًا ليكون القراء على بصيرة من شهاداتهم، ويقدروا كتاباتهم قدرها.

***

الجغرافيون العرب الأقدمون

كان أول فتح سورية على يد القائد الكبير خالد بن الوليد، الذي دخل دمشق بعد أواسط السنة ٦٣٥ للميلاد، ثم أتم فتح بقية بلاد الشام في السنين التالية، فلما انتشرت العلوم بين العرب في القرن التاسع أخذ كَتبتهم في ذكر الشام ووصف محاسنها، وواصلوا هذه المصنفات إلى أواخر القرن الخامس عشر، فمنهم من اتَّسع في وصفه، ومنهم من اقتصر على بعض الفوائد، فلو جُمعت كل هذه المآثر المدونة في زمن لا يقل عن ستة قرون لانْذهل الأدباء من وفرتها، والحق يُقال: إن كَتَبَة العرب في الأبحاث الجغرافية — كما في غيرها من الفنون — قد خلَّفوا لنا من الآثار ما لا يجاريهم في كثرته غيرهم من الشعوب. فيتحتم علينا أن نبين شأن هذه التآليف، ونعرف قدرها وما يمكن العلماء أن يستخلصوا من فوائدها.

•••

لو تتبعنا تاريخ العرب في الأزمنة العريقة في القدم، لوجدناهم مزدانين بخلالٍ فريدة للضرب في البوادي وللسياحة في البلدان، تصفَّحْ سفر التكوين لموسى كليم الله، فإنه قد ذكر غير مرة عرب البادية في أيام الآباء بعد الطوفان منذ إبراهيم الخليل إلى يوسف الحسن، وغاية ما يُستنتج من أوصافه أن العرب كانوا في ذلك الوقت ما عهدهم التاريخ في الأجيال التابعة، فإنهم يظهرون لنا كقوم رُحَّل يقودون القوافل ويتجشمون الأسفار للمتاجرة، وقد جعل الله في يدهم زمام حيوان صبور يزيد نفعه على منافع الخيل المطهَّمة، نريد الإبل المعروفة بسفن البر، وهذا الوصف لا يختلف ذرَّة عن أحوال العرب في كرور الدهور حتى القرن السابع بعد الميلاد؛ حيث ترى قريشًا تتولى قيادة الأقفال وتَمْتَار المِيَرَ، وتنقل السلع إلى أسواق العراق والشام واليمن والحبشة ومصر.

وليس بين التاجر الرحالة والجغرافي المخطِّط للبلدان مدًى واسع؛ فإن المِسْفَار يحتاج كالجغرافي إلى التنقيب عن أحوال الأمم والأمكنة التي يتردد إليها، فيتبصر في مرافقها ويدرس طباعها، ويبحث عن ثروة تربتها وغلَّاتها وطرقها وطوارئ هوائها من حر وقرٍّ، وكل ذلك يباشره الرحالة لمنفعته الخاصة، كما يتولاه الجغرافي لنفع العلوم، ومن هنا تعرف أن درس الجغرافية من أنجع الوسائل، وأكفلها بالربح في التجارة الواسعة.

ومما زاد العرب نشاطًا في درس البلدان وأعانهم على الرصود الجغرافية التي خُصَّت بمراقبتها طباعهم، ما أتاحهم الله من الفتوحات العظيمة في القرنين السابع والثامن؛ فإن سلطتهم بلغت ما وراء البلاد التي اتصلت إليها يد الإسكندر ذي القرنين، فلا غرو أنهم حاولوا معرفة الأقطار التي جعلها الله في حوزتهم، فأسرعوا إلى تقويمها وتحديد ثغورها، واستطلاع خواصها، وقد ساعدهم على ذلك ما وقفوا عليه من المصنفات الجغرافية السابقة لعهدهم من أوضاع الهنود والفرس واليونان والرومان، مما نُقل الكثير منه إلى العربية، وكان العرب من أجدر الناس بأن يبنوا لعلم الجغرافية صرحًا شاهقًا منيفًا بما توفر لديهم من الوسائل الضامنة لبلوغ هذه الغاية الشريفة، وذلك بأن يضيفوا معلوماتهم إلى معلومات أسلافهم، وسوف نذكر سبب قصورهم عن هذه البُغْيَة الجُلَّى، وإن نال البعض منهم من ذوي المدارك العالية أسهما رابحة من المجد، فكادوا يفوزون بقصبة السبق في هذا الميدان الجليل.

ومما يجب الإقرار به فضل كَتَبَة العرب في وصف البلدان وتعريف خواصِّها، وذلك مدخل العلوم الجغرافية ومقدمتها يكفي للقيام به أن يكون الكاتب باصرًا متروِّيًا، يُحسِن مراقبة المرئيات دون أن يحتاج إلى شيء من الآلات الرصدية، أو من العلوم الإعدادية.

فمن ذلك أنهم أحكموا معرفة أواسط آسية، فأصلحوا أمورًا عديدة مما رواه قبلهم اليونان والرومان رامين كلامهم على عواهنه، مثال ذلك: ما أفادنا الرومان عن الصين حدسًا وسمعًا. أما العرب فإنهم تفقدوا مملكة ابن السماء، بل بلغوا بلاد كورية، ولعلهم أدركوا حدود اليابان. وقِس على ذلك قارة أفريقية، فإن الرومان جعلوا الصحراء حدودها، فلم يعرفوا ما وراء تلك المفاوز المجهولة. أما العرب فإنهم تجاوزوا تلك الحدود، وطافوا في مجاهل أفريقية إلى قلب تلك البلاد، وهم أول من أبحر إلى جزيرة مدغسكار فعرفوا موقعها.

أما الجغرافية العلمية فإن معلومات العرب فيها محصورة ضيقة النطاق، فإن معرفتهم مثلًا لأعراض البلاد قد تعقبوا فيها آثار القدماء، فأصابوا أو أخطئوا كلما أصاب أو أخطأ أسلافهم، أما خوارطهم ورسومهم لهيئة البلدان فإنها غريبة الأشكال بعيدة عن مظانِّ الحق،١ وقد أثبت منها المشرق مثالًا ملوَّنًا، فراجعه (المشرق ٣: ١١٢٨)، وها نحن ندوِّن هنا مثالًا آخر ننقله ببعض ألوانه، عن كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» للشريف الإدريسي، كما يُرى في أحد مخطوطات مكتبة باريس العمومية، ولعله أحكمُ وأتقنُ ما وضعه العرب من الخرائط، فإن البحر فيها مرسوم باللون الأزرق ومجاري الأنهار بالأخضر،٢ وأغرب ما في هذا الأثر أن صاحبه سعى بتصوير سلسلة الجبال بتخطيطات مقطعة٣ كما يشير إليها الجغرافيون المحدثون بعد أن حسَّنوا هذه الطريقة وزادوها دقة.
figure
خريطة للشريف الإدريسي.

هذا وإن في رواياتهم وأوصافهم نفسها مبالغات هي من الغرابة بمكانٍ، ينبغي على العاقل ألَّا يقبلها إلا بعد الرَّوَيَّة والانتقاد، وهذه النقيصة تعمُّ زمانهم حيث كانت العلوم الطبيعية في مهدها.

ومما يُؤخذ على كثيرين منهم آفة النقل والسرقة، فإنهم يروون ما سبق إليه غيرهم بحرفهِ دون الإشارة إلى التآليف التي نقلوا عنها، وربما خُدع القارئ بكثرة الشواهد في بعض الأمور، ولو تروَّى لوجد أنها كلها راجعة إلى مصدر واحد، وأن الخلَف نسخوا عن السلف دون فرق يُذكر في اللفظ والمعنى، ودونَك ما كتبه في هذا الصدد شمس الدين المقدسي، وغايته أن يبين بقوله فضل تأليفه على تآليف مَن تقدَّمه، وكلامه مع طوله جدير بالاعتبار، يوقفنا على طريقة بعض كَتَبَة العرب في مصنفاتهم إلى زمن المؤلف في القرن العاشر، قال: «اعلم أني أسست هذا الكتاب على قواعد محكَمة، وأسندته بدعائم قوية، وتحريت جهدي الصواب، واستعنت بفهم أولي الألباب، فما وقع عليه اتفاقهم أثبتُّه، وما اختلفوا فيه نبذته، وما لم يكن لي بدٌّ من الوصول إليه والوقوف عليه قصدته، وما لم يقرَّ في قلبي ولم يقبله عقلي أسندته إلى الذي ذكره، أو قلتُ: زعموا، ووشَّحته بفصول وجدتها في خزائن الملوك.

وكل من سبقنا إلى هذا العلم لم يسلك الطريق التي قصدتها ولا طلب الفوائد التي أردتها، أما أبو عبد الله الجيهاني، فإنه كان وزير أمير خراسان، وكان صاحب فلسفة ونجوم وهيئة، فجمع الغرباء وسألهم عن الممالك ودَخْلها، وكيف المسالك إليها، وارتفاع الخُنَّس منها وقيام الظل فيها؛ ليتوصل بذلك إلى فتوح البلدان، ويعرف دخلها، ويستقيم له علم النجوم ودوران الفلك. ألا ترى كيف جعل العالم سبعة أقاليم؟ وجعل لكل إقليم كوكبًا، مرة يذكر النجوم والهندسة، وكرة يورد ما ليس للعوامِّ فيه فائدة، وتارة ينعت أصنام الهند، وطورًا يصف عجائب الهند، وحينًا يفصل الخراج والردَّ، ورأيته ذكر منازل مجهولة، ومراحل مهجورة، ولم يفصِّل الكُوَر، ولا رتب الأجناد، ولا وصف المدن، ولا استوعب ذكرها، بل ذكر الطرق شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا مع شرح ما فيها من السهول والجبال والأودية والتلال والمشاجر والأنهار، وبذاك طال كتابه وغفل عن أكثر طرق الأجناد، ووصف المدائن الجياد. وأما أبو زيد البلخي فإنه قصد بكتابه «الأمثلة وصورة الأرض» بعدما قسَّمها على عشرين جزءًا، ثم شرح كل مثال واختصر، ولم يذكر الأسباب المفيدة، ولا أوضح الأمور النافعة في التفصيل والترتيب، وترك كثيرًا من أمهات المدن فلم يذكرها، وما دوَّن البلدان، ولا وطأ الأعمال، ألا ترى أن صاحب خراسان استدعاه إلى حضرته ليستعين به؟ فلما بلغ جيحون كتب إليه: «إن كنت استدعيتني لما بلغك من صائب رأيي، فإن رأيي يمنعني من عبور هذا النهر»، فلما قرأ كتابه أمره بالخروج إلى بلخ. وأما ابن الفقيه الهمذاني فإنه سلك طريقة أخرى، ولم يذكر إلا المدائن العظمى ولم يرتب الكُوَر والأجناد، وأدخل في كتابه ما لا يليق به من العلوم؛ مرة يُزهِّد في الدنيا، وتارة يرغِّب فيها، ودفعة يُبكي، وحينًا يُضحك ويُلهي. وأما الجاحظ وابن خرداذبة، فإن كتابيهما مختصران جدًّا، لا يُحصل منهما كثير فائدة.»

ثم عاد المؤلف بعد هذا بأسطر إلى تبرئة نفسه من جناية السرقة، فقال (ص٦): «لا نذكر شيئًا قد سطروه، ولا نشرح أمرًا قد أوردوه إلا عند الضرورة، لئلَّا نبخس حقوقهم لا نسرق من تصانيفهم.»

ومع هذا ترى المقدسي نفسه بعد قوله عن ابن خرداذبة إنه: «مختصر جدًّا لا يحصل منه كثير فائدة» ينقل عنه كل أقيسة مراحله وتفاصيل أخرى عديدة، دون أن يذكر اسمه، وهو يفعل بابن الفقيه فعله بابن خرداذبة، فيأخذ عنه نصوصًا كثيرة، ولا يذكر اسمه أكثر من ثلاث مرات، مع أنه يلومه لإدراجه أشياء عديدة في كتابه لا طائل تحتها.

ومما نأخذه على جغرافيِّي العرب أنهم لم يكتفوا بوصف بلاد مخصوصة، بل وسعوا نطاق عملهم إلى جغرافية الأرض كلها بأقاليمها، وقد جروا في ذلك جرْي المؤرخين الذين أرادوا تدوين أخبار العالم كله والممالك جمعاء، فكانت نتيجة هذا العمل أنهم لم يعطوا البلاد حقها من الوصف، وكذا يُقال عن بلاد الشام التي لا تشغل في تآليفهم إلا مكانًا ضيقًا، ولو قصروا النظر إليها وحدها لأدوا حقوقها واستوفوا معانيها، ولعلهم فعلوا ذلك لعلمهم بندرة الكتب؛ لتكون تآليفهم جامعة لشتات التاريخ ولوصف البلدان، ونحن مع إقرارنا بهذه المنفعة نتأسف على قلة من تعمقوا في تعريف بلادنا، ألا ترى مثلًا أبا الفداء وموطنه بلاد الشام، لو اجتزأ بوصف بلاده بدلًا من وصف كل البلاد لكان كتابه «تقويم البلدان» أجزل نفعًا وأكمل وصفًا، يحتوي من التفاصيل ما لا يُرى في غيره كما فعل الهمداني في «صفة جزيرة العرب».

وقد بقي علينا أن نورد هنا أخَصَّ المطبوعات الجغرافية؛ لأننا في المقالات التالية سوف نشير إليها مرات عديدة، فها نحن نذكرها مع بيان خواصِّها وفضل أصحابها. وقد اكتسب المستشرقون شكر العلماء؛ إذ وجهوا الأنظار إلى أخص النصوص التاريخية والجغرافية فنشروها، وقرَّبوا بنشرها منافعها، وأدْنَوا مواردها بحيث أمكن المنتقد أن يتبين ما تتضمنه من الفوائد والفرائد.

وكان الشرق حقيقًا بأن يؤازر المستشرقين بالعمل، لكن أهل الشرق قد شُغلوا عن ذلك بما صرفهم في نشر التآليف الجغرافية القديمة، اللهم إلا القليل منها، وهذه المطبوعات نفسها خالية من النظر الانتقادي، لا ترى فيها شيئا مما يدل على البحث والتنقيب، كالروايات المختلفة والمقابلة مع النصوص المتشابهة والفهارس الواسعة، ولا نستثني من هذا النقد طبعة صبح الأعشى للقلقشندي التي أبرزتها آخرًا المطبعة الخديوية، وإن كانت تفْضُل غيرها من الطبعات الشرقية في هذا الباب، لكن همة المستشرقين قد سدَّت هذا الخلل فيما نشروه في ألمانية وفرنسة من النصوص الجغرافية.

وبين البلاد التي أصابت السهم الأفوز في نشر التآليف الجغرافية بلاد هولندة، فإن هناك طُبع ذلك المجموع الفريد في ثمانية مجلدات، المعروف بمجموع جغرافيِّي العرب Bibliotheca geographorum arabicorum، وقد قام بهذا العمل رجل هُمام من كبار المستشرقين، أحرز له بذلك مجدًا أثيلًا، ألا وهو العلَّامة دي غوي de Goeje أحد أساتذة كلية ليدن، وقد أودع هذا المجموع أجلَّ المصنفات، كالمسالك والممالك «للإصطخري» و«لابن حوقل»، والمسالك والممالك «لابن خرداذبة»، ومختصر كتاب البلدان «لابن الفقيه الهمذاني»، وكتاب الأعلاق النفيسة «لابن رستة»، والتنبيه والإشراف «للمسعودي»، وكتاب البلدان «لابن الواضح اليعقوبي»، ومما سعى بطبعه «داود مولر» — من أساتذة فيينَّة — كتاب صفة جزيرة العرب، ولكل هذه التآليف حواشٍ وتذييلات معتبَرة وفهارس واسعة، فضلًا عن جداول لغوية للألفاظ الغريبة، والمفردات العويصة التي تفرد بها بعض الكَتَبَة دون البعض، وفي هذه الجداول من الفوائد ما لا يُنكر، ومن شأنها أن تساعد على تأليف معجم مطول للغة العربية يكون مبنيًّا على النصوص القديمة، لا يكتفي فيه صاحبه بنقل القواميس السابقة.

ومن أفضل ما عُني المسيو دي غوي بنشره كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» للإمام شمس الدين المقدسي، فإن في هذا الكتاب من المحاسن ما لا تراه في غيره، لا سيما في أحوال الشام على عهده، أي في القرن العاشر، ولذلك قد أحببنا أن نكتب فيه فصلًا منفردًا.

١  اطلب تاريخ الجغرافية لسان مرتين وفول Vivien de St Martin: Histoire de la Géographie, 265, K. Weule: Geschichte der Erdkenntnis und der geogr. Forschung, 125–129.
٢  راجع Bulletin de L’Académie d’Hippone, 1896–1898, p. 12-13، وأشار صاحب الخريطة إلى المدن بأنجم أو دوائر مذهبة.
٣  وأشار كذلك بألوان مختلفة إلى طبقات الجبال الجيولوجية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤