المقدسي وجغرافية سورية في القرن العاشر للميلاد

المقدسي من أفضل كَتَبَة الجغرافية بين قدماء العرب، فنتخذه كمثال يوقفنا على ما بلغه أولئك الأئمة من الكمال في هذا الفن، وأخَصُّ ما نطلبه منه المعلومات التي أثبتها في كتابه عن سورية وطنه كما عرفها في زمانه، أعني في القرن العاشر للمسيح، وهذا ما حدا بنا إلى إرصاد مقالة خاصة للنظر في تأليفه.

***

المقدسي وتأليفه

ليس المقدسي أول من تولى وصف الشام، لكنه يفوق على من تقدَّمه بوفرة معلوماته وبحسن أسلوبه، والحق يُقال: إنه تحرى في عمله طريقة نظامية تجعل تأليفه في مقام رفيع.

ولد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البنَّاء نحو (السنة ٣٣٦ﻫ/٩٤٧م) في القدس الشريف، فدُعي لذلك بالمقدسي، وهو الاسم الذي ندعوه به اختصارًا فيما يأتي، وكان جده مهندسًا بارعًا في الشام، وهو الذي ابتنى ميناء عكَّا كما أفادنا حفيده؛ إذ قال فيه (ص١٦٢ و١٦٣): «لم تكن «عكا» على هذه الحصانة حتى زارها ابن طيلون (طولون)، وقد كان رأى صور ومنعتَها واستدارة الحائط على ميناها، فأحبَّ أن يتخذ لعكا مثل ذلك المينا، فجمع صُنَّاع الكُورة وعرض عليهم ذلك، فقالوا: لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان، ثم ذُكر له جدنا أبو بكر البنَّاء وقيل: إن كان عند أحد علم هذا فعنده. فكتب إلى صاحبه على بيت المقدس أن يُنهضه إليه، فلما صار إليه وذكر له ذلك قال: هذا أمر هيِّن عليَّ بفِلَق الجُمَّيْز الغليظة. فصَفَّها على وجه الماء بقدر الحصن البري وخيَّط بعضها ببعض، وجعل لها بابًا من الغرب عظيمًا، ثم بنى عليها بالحجارة والشِّيد، وجعل كلما بنى خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء، وجُعلت الفِلَق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها قد جلست على الرمل تركها حولًا كاملًا حتى أخذت قرارها، ثم عاد فبنى من حيث ترك كلما بلغ البناء إلى الحائط القديم داخَله فيه وخيَّطه به، ثم جعل على الباب قنطرةً، فالمراكب في كل ليلة تدخل الميناء، وتجرُّ السلسة مثل صور.»

تعاطى «المقدسي» في أول أمره التجارة، وتجشم لذلك أسفارًا أعدته للدروس الجغرافية، وكان يشعر في قلبه ميلًا عظيمًا إلى معرفة البلدان، ولم يزل يقوى فيه ميله إلى أن انقطع إلى ذلك الفن بتمامه، فطاف كل بلاد الإسلام — اللهم إلا السند والأندلس، ثم باشر نحو السنة ٩٨٥ تصنيف كتابه، فبلَّغه كماله بعد ثلاث سنوات، أما سنة وفاته فلا تزال مجهولة، وكذلك تفاصيل ترجمته لا نعلم منها إلا القليل مما أثبته عن نفسه في مطاوي كتابه، الذي دعاه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم».

ومن البديهي أن الكاتب أحكم القسم المختص ببلاد الشام مسقط رأسه فتوسع فيه، لكن تأليفه كله يستحق الثناء، قال المستشرق غلدميستر Gildemeister: «إن المقدسي قد امتاز بين بقية أرباب أوصاف البلدان بكثرة ملحوظاته وسعة نظره.»١ وقال سبرنغر Sprenger: «ليس من سائح تجول في البلاد كما تجول المقدسي، ولا أحد لحظ ما لحظه أو روى معلوماته مثله بنظام وترتيب.» وكذلك العلامة بربيه دي مينار B. de Meynard يعد تأليفه ذا قيمة لا تقدَّر.٢ وكل هذه الأقوال عين الصواب، أما حسن الأسلوب فله المقام الأول فيه بين وصفائه السابقين، والذين أتوا بعده لم يبلغوا شأوه بل زادوا تقهقرًا، ومن تصفح كتاب المقدسي استحسن طريقته في الكتابة، فإنك لا تراه يضيف إلى عمله الإضافات النافلة والاستطرادات الزائدة كما يفعل ابن رستة وابن الفقيه، وكذلك لم يدخل في أوصافه تعداد المراحل أو مبالغ الخراج على طريقة مملة، شأن ابن خرداذبة في تأليفه، هذا فضلًا عن حسن نظر وأصالة رأي مع ما يبدي لوطنه من الحب الواجب دون أن يبخس حقوق بقية البلاد.

ومما يستحبه القارئ فوق ذلك في مطالعة تأليف المقدسي حرصه على سياق الأخبار وتنسيق الأوصاف، فترى الأبواب متواصلة على أحسن طريقة وأضبط أسلوب، لا يفارقه همه في النظام وترتيب المواد، على خلاف ما ترى في كتب مَن تقدَّمه، مثال ذلك أنه في كلامه عن كُورَة قنسرين جعل قصبتها حلب، وقد أحس بأن القارئ يعترض عليه في ذلك، فسبَّق بالرد على اعتراضه بما حرفُه (ص١٥٦): «فإن قال قائل: لم جعلت قصبة الكُورَة حلب وههنا مدينة على اسمها؟ قيل له: قد قلنا إن مثَل القصبات كالقُوَّاد والمدن كالجند، ولا يجوز أن تجعل حلب على جلالتها وحلول السلطان بها وجميع الدواوين إليها وأنطاكية ونفاستها وبالس وعمارتها أجنادًا لمدينة خربة صغيرة، فإن قال: هلَّا استعملت هذا القياس في شيراز؟ فأضفت إليها إصطخر ومدنها؟ قيل: لما وجدنا بإصطخر مدنًا أحدقت بها وتباعدت عنها استحسنَّا ما فعلناه ثَمَّ، والاستحسان في علمنا هذا ربما غلب القياس.»

وهي لعمري خطة محمودة أنْ لا يصف الكاتب إلا ما رآه عيانًا، وعليها جرى المقدسي فزاد في اعتبارنا مقامًا، وكذلك تراه ينبه القارئ إذا ما احتاج إلى وصف شيء لم يعاينه، مثال ذلك قوله (ص١٢) عن اليمن: «أما طريق اليمن فلا أكاد أضبط مراحلها كغيرها من الكُوَر، غير أني أذكر ما عرفت وأُجمل ما سمعت.»

أما طبعة هذا الكتاب، فحسبنا القول بأن الذي تولى أمرها إنما هو أحد أفاضل المستشرقين، العلامة دي غوي، وكان طبعها أولًا سنة ١٨٧٧، ثم نفدت هذه الطبعة بعد مدة، فاضطر جناب ناشرها إلى إعادة طبعها، فأنجز العمل في السنة المنصرمة، وفي ذلك دليل واضح على إقبال العلماء على هذا الكتاب، وقلَّما تجد كتابًا علميًّا عربيًّا يحتاج إلى طبعتين، ومن محاسن هذه الطبعة المستحدثة أن صاحبها أثبت فيها عدة فوائد جديدة استفادها من درسه الخاص ومن ملحوظات العلماء، فجاءت هذه الطبعة الثانية غاية في الحسن سواء كان لضبط المتن،٣ أو لدقة الحواشي التي علقها في ذيل كل صفحة من الكتاب، فيا ليت أدباء الشرق يحذون في طبعهم للتآليف القديمة حذو المستشرقين في طبعاتهم، فيخدموا العلم كما فعل ناشر جغرافية المقدسي.

ولكن دعنا الآن نواصل بحثنا في التأليف الذي نحن بصدده.

بلاد الشام على عهد المقدسي

أول ما افتتح به المقدسي كتابه نظرٌ عمومي في أحوال الشام، وهذه المقدمة حسنة إجمالًا، لولا أن المؤلف أفقدها شيئًا من فوائدها بزخرف سجعها، والأَولى بمثل هذه المقدمات العلمية أن تُكتب بسذاجة وكلام بعيد عن كل تصنُّع؛ لئلا يحيد الفكر عن الجوهر فينصرف إلى الأعراض، لا سيما إذا اتسع الكَتَبَة في السجع وتجاوزوا الحدود كما فعل ابن جُبير، فدونك ما كتب المقدسي في وصف الشام (ص١٥١): «(إقليم الشام) جليل الشأن، دار النبيين، ومركز الصالحين، ومعدن البدلاء، ومطلب الفضلاء، به القبلة الأولى، وموضع الحشر والمسرى، والأرض المقدسة، والرباطات الفاضلة، والثغور الجليلة، والجبال الشريفة، ومهاجَر إبراهيم وقبره، وديار أيوب وبئره، ومحراب داود وبابه، وعجائب سليمان ومدنه، وتربة إسحاق وأمه، ومولد المسيح ومهده، وقرية طالوت ونهره، ومقتل جالوت وحصنه، وجُبُّ أرميا وحبسه، ومسجد أوريا وبيته، وقبة محمد وبابه، وصخرة موسى، وربوة عيسى، ومحراب زكريا، ومعرك يحيي، ومشاهد الأنبياء، وقرى أيوب، ومنازل يعقوب، والمسجد الأقصى، وجبل زيتا، ومدينة عكا، ومشهد صدِّيقا، وقبر موسى، ومضجع إبراهيم ومقبرته، ومدينة عسقلان، وعين سلوان، وموضع لقمان، ووادي كنعان، ومدائن لوط وموضع الجنان، ثم به دمشق جنة الدنيا، وصُغر البصرة الصغرى، والرملة البهية، وخبزها الحُوَّاري، وإيليا الفاضلة بلا لأوى، وحمص المعروفة بالرخص وطيب الهواء، وجبل بصرى وكرومه فلا تُنسى، وطبريَّة الجليلة بالدخل والقرى، ثم البحر يمد على طرفيه، فالحمولات فيه إليه أبدًا، وبحر الصين٤ متصل بطرفه الأقصى، له سهل وجبل وإغوار وأشياء، والبادية على تخومه كالزقاق منه إلى تيماء، وبه معادن الرخام وعقاقير كل دواء، ويسَّار وتجَّار ولباقة وفقهاء وكتَّاب وصنَّاع وأطباء.»
فترى من هذا الوصف أن بلاد الشام كانت وقتئذ غنية بمحصولاتها مُثرية بتجارتها، تزينها المدن العامرة والدساكر الخصبة، لم تزل بحسن موقعها وعِظم شأنها على ما كانت عليه سابقًا (اطلب المشرق ١٠: ١٠٩)، فتحفظ مقامها الخطير بين الأقطار، وكانت الشام مشحونة بالديار الواسعة والمنازل العامرة، حتى يكاد الناظر يسهو عنها لكثرتها، قال المقدسي (ص١٥٥، راجع أيضًا ١٧٦): «وفي هذا الإقليم قُرى أجلُّ وأكبر من أكثر مدن الجزيرة٥ (مثل داريا وبيت لهيا وكفر سلام وكفر سابا)، غير أنها على رسوم القرى معدودة فيها، وقد قلنا إن عملنا موضوع على التعارف.»

وكان صاحب هذه الأسطر قد ألحق بوصفه للشام خارطةً كما فعل بسائر الأقاليم، إلا أن هذه الخارطة لم تُنشر بالطبع فلا يسعنا الحكم عليها لنوجه إليه الثناء أو اللوم، كفعلنا بالخوارط التي رسمها كَتَبَة العرب.

وبعد هذه المقدمات ترى المقدسي يستقري كُوَر الشام واحدةً واحدة مباشرة من جهة الشمال، وهو يحصيها ستة: قنسرين، ثم حمص، ثم دمشق، ثم الأردن، ثم فلسطين، ثم الشَّراة، وهذه الكُوَر توافق الخمسة الأجناد التي قُسمت إليها بلاد الشام منذ أول الفتح الإسلامي، والكُورَة الأولى أي قنسرين تنطبق مع ولاية حلب الحالية تقريبًا، لكننا لا نفهم كيف استطاع المقدسي (ص١٥٤) أن يدخل فيها جوسيَّة الواقعة على مسافة ست ساعات جنوبي شرقي حمص، ولعل النُّسَّاخ تصرفوا بتقديم بعض الأسطر أو تأخيرها فشوشوا الترتيب، أما كُورَة الأردن فكانت تشمل في جملة مدنها طبريَّة وقدس وصور وعكا واللجون وكابل وبيسان وأذرعات، وذلك ما يوافق من أنحائنا الحالية كل متصرفية عكا وقسمًا من متصرفية نابلس وقائمقامية صور وبعض متصرفية حوران، أما كُورَة الشَّراة فإن المقدسي (ص١٥٥) قد جعل «قصبتها صُغر ومدنها مآب ومعان وتبوك وأذرُح ووَيْلة ومَدْيَن.» وصُغر هذه هي المذكورة في التوراة، كان موقعها جنوبي بحيرة لوط، وقد استولى عليها الخراب منذ زمن طويل وسنعود إلى ذكرها. هذا مُحصَّل تقسيم كُوَر الشام كما كانت في القرن العاشر.

وها نحن نستقري كل كُورَة؛ لنرى ما يقول المقدسي فيها، قال عن حلب (ص١٥٥): «وأما حلب، فبلد نفيس خفيف حصين، وفي أهلها ظُرف ولهم يسار وعقول، مبني بالحجارة عامر، في وسط البلد قلعة حصينة واسعة فيها ماء وخزائن السلطان، والجامع في البلد، شربهم من نهر قُوَيق يدخل إلى البلد إلى دار سيف الدولة في شباك حديد، والقصبة ليست بكبيرة إلا إن بها مستقَرَّ السلطان، لها سبعة أبواب: باب حمص، باب الرقة، باب قنسرين، باب اليهود، باب العراق، باب دار البطيخ، باب أنطاكية، وباب الأربعين مسدود.»

وكانت أنطاكية في أيام المقدسي قد انحطت عن رتبتها السابقة، بعد تقدمها على كل مدن الشام؛ ولذلك يكتفي الكاتب بذكرها دون وصفها، وعلى خلاف ذلك حمص، فإنها كانت نالت نصيبًا وافيًا من الفخر، قال المقدسي في تعريفها (ص١٥٦): «حمص ليس بالشام بلد أكبر منها، وفيها قلعة متعالية عن البلد تُرى من خارج، أكثر شربهم من ماء المطر، ولهم أيضًا نهر، ولما فتحها المسلمون عمدوا إلى الكنيسة فجعلوا نصفها جامعًا، عنده بالسوق قبة على رأسها شبه رجل من نحاس، واقف على سمكة تديرها الأرياح الأربع، وفيه أقاويل لا تصح، والبلد شديد الاختلال متداعٍ إلى الخراب.»

ويلُوح من قول المقدسي (ص١٥٦) أن تَدْمُر كانت بعدُ في عهده على حالة من العمران «قريبة من البادية رحبة طيبة»، وهاك وصف دمشق قال (ص١٥٦ و١٥٧): «دمشق هي مصر٦ الشام ودار المُلك أيام بني أمية وثَمَّ قصورهم وآثارهم، بنيانهم خشب وطين، وعليها حصن — أُحْدِث وَأَنَا بِهِ — من طين، أكثر أسواقها مغطاة، ولهم سوق على طول البلد مكشوف حسن، وهو بلد قد خرقته الأنهار، وأحدقت به الأشجار، وكثرت به الثمار، مع رخص أسعار، وثلج وأضداد، لا ترى أحسن من حماماتها، ولا أعجب من فواراتها، ولا أحزم من أهلها. الذي عرفته من دروبها باب الجابية، باب الصغير، باب الكبير، باب الشرقي، باب توما، باب النهر، باب المحامليين. وهي طيبة جدًّا، غير أن في هوائها يبوسة وأهلها غاغة، وثمارها تفهة، ولحومها عاسية، ومنازلها ضيقة، وأزقتها غامَّة، وأخبازها رديَّة، والمعايش بها ضيقة، تكون نحو نصف فرسخ في مثله في مستوى.»
ثم يُردف المقدسي كلامه بوصف الجامع الأموي الشهير «المعدود كإحدى عجائب الدنيا»، ووصفه أقدم ما ورد إلينا في ذلك البناء العظيم، ولولا طوله لأثبتناه هنا، وهو يعرفنا بمحاسن ذلك العمل الجليل ورونقه البهي، قبل أن يُصاب ثلاثًا بمُصاب الحريق، ونحن نكتفي بذكر رواية نقلها المؤلف عن نفسه حيث قال (ص١٥٩): «قلت يومًا لعمِّي: يا عمُّ، لم يُحسن الوليد٧ حيث أنفق أموال المسلمين على جامع دمشق، ولو صرف ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورمِّ الحصون لكان أصوب وأفضل. قال: لا تغفل بُنَيَّ أن الوليد وُفِّق وكُشف له عن أمر جليل، وذلك أنه رأى الشام بلد النصارى ورأى لهم فيها بِيَعًا حسنة، قد أفتن زخارفها وانتشر ذكرها، كالقمامة، وبيعة لُدٍّ والرها، فاتخذ للمسلمين مسجدًا أشغلهم به عنهن، وجعله أحد عجائب الدنيا، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عِظم قبة القمامة وهيئتها خشي أن تعظُم في قلوب المسلمين، فنصب على الصخرة قبة على ما ترى.»

وهو قول جليل يدل على ما بلغه فن البناء والهندسة في بلاد الشام بين أهل الذمة.

أما المدن الساحلية فإنها على ما يظهر كانت قليلة الشأن بالنسبة إلى حمص ودمشق، فإن المقدسي لا يكاد يزيد على ذكر أسمائها، حيث قال (ص١٦٠): «صيداء وبيروت مدينتان على الساحل حصينتان، وكذلك طرابلس إلا أنها أجلُّ.» بخلاف بانياس فإنها كانت في ذلك العهد مدينة عامرة واسعة الثروة بما يأتيها من غلال كُورَة الحُولة، التي يدعوها المؤلف «معدن الأقطان» قال (ص١٦٠): «ومدينة بانياس على طرف الحُولة وحدِّ الجبل أرخى وأرفق من دمشق، وإليها انتقل أكثر أهل الثغور لما أُخذت طرسوس، وزادوا فيها وهي كل يوم في زيادة، لهم نهر شديد البرودة يخرج من تحت جبل الثلج، وينبع وسط المدينة، وهي خزانة دمشق رفقة بأهلها بين رساتيق جليلة، غير أن ماءها رديٌّ.»

ومن المدن التي أفاض المؤلف في وصفها طبريَّة، وكانت إذ ذاك أعظم خطرًا منها اليوم. مع انطباق وصفها إجمالًا مع وضعها الحالي، قال (ص١٦١): «طبريَّة قصبة الأردن وبلد وادي كنعان، موضوعة بين الجبل والبحيرة، وهي ضيقة كربة في الصيف مؤذية، طولها نحو من فرسخ بلا عرض، وسوقها من الدرب إلى الدرب، والمقابر على الجبل، بها ثمانية حمامات بلا وقيد ومياضٍ عدة حارة الماء، والجامع في السوق كبير حسن، قد فُرش أرضه بالحصى على أساطين حجارة موصولة، ويقال: «أهل طبريَّة شهرين يرقصون، وشهرين يقمقمون، وشهرين يثاقفون، وشهرين عراة، وشهرين يزمرون، وشهرين يخوضون.» يعني يرقصون من كثرة البراغيث، ويلوكون النبق، ويطردون الزنابير عن اللحم والفواكه بالمَذابِّ، وعُراة من شدة الحر، ويمصون قصب السكر، ويخوضون الوحل. وأسفل البحيرة جسر عظيم عليه طريق دمشق وشربهم منها، عليها بما يدور قرى نخيل، والسفن فيها تذهب وتجيء، وماء الحمامات والدواميس إليها، لا يستطيبها الغرباء، كثيرة الأسماك، خفيفة الماء، والجبل مطلٌّ على البلد شاهق.»

والجسر الذي يذكره الكاتب ليس هو على ما نظن جسر المجامع الذي يُرى اليوم جنوبًا، بل يريد جسرًا آخر خرِبًا تُرى بقاياه عند مخرج الأردن من بحيرة طبريَّة، وكان أكبر من جسر المجامع وأقرب من طبريَّة، ويتضح من وصفه أيضًا أن الطريق من دمشق إلى طبريَّة كانت تقطع ذلك الجسر مارَّة بأفيق سواء، وبينهما بريد واحد (ص١٩٠)، وهكذا كانت تسهل المواصلات مع طبريَّة دون عطفة جسر المجامع، وهذا ما يحملنا على مخالفة رأي المسيو دي غوي الذي ارتأى أن الجسر المذكور هو جسر المجامع (ص١٦١، في الحاشية h)، ويُؤخذ أيضًا من كلام المقدسي أن ملاحة بحيرة طبريَّة كانت ذات بالٍ، وأن الكُورَة كانت في نمو وعمران، أما اليوم فلا تكاد ترى على بحيرة طبريَّة سوى قوارب قليلة، والأمل معقود بأن سكة الحديد الحميدية سوف تعيد قريبًا إلى هذه المحالِّ حركتها السابقة وتقدُّمها.

ثم أتبع المؤلف وصفه بذكر بلاد فلسطين، وقد قدمنا فُوَيْق هذا تعريف عكا وميناها الخطير، المشابه بحسنه مينا صور الذي وصفه بما يلي (ص١٦٣): «وصور مدينةٌ حصينة على البحر، بل فيه، يُدخل إليها من باب واحد على جسر واحد، قد أحاط البحر بها، ونصفها الداخل حيطان ثلاثة بلا أرض، تدخل فيه المراكب كل ليلة ثم تجر السلسلة التي ذكرها محمد بن الحسن في كتاب الإكراه، ولهم ماء يدخل في قناة معلقة، وهي مدينة جليلة نفيسة، بها صنائع ولهم خصائص، وبين عكا وصور شِبه خليج؛ ولذلك يقال: «عكا حذاء صور إلا أنك تدور.» يعني حول الماء.»

ولم يكن المؤلف لينسى وطنه بيت المقدس، فأفرد له وصفًا مطوَّلًا يُستشفُّ من ورائه حب الكاتب لمسقط رأسه، وأورشليم كانت إذ ذاك كما هي اليوم مدينة معتبرة؛ ولذلك أحببنا أن ننقل قسمًا من كلامه، وليس شاهدٌ أدلَّ على فضل المقدسي من هذه المنقولات التي نُثبتها في كلامنا مع حُسن بيانها لأحوال الشام في عصره، قال بعد ذكره للرملة قصبة بلاد فلسطين (١٦٥–١٦٧): «بيت المقدس ليس في مدائن الكُوَر أكبر منها، وقصَبات كثيرة أصغر منها كإصطخر وقابن والفرما، لا شديدة البرد، وليس بها حَرٌّ، وقلَّما يقع بها ثلج، وسألني القاضي أبو القاسم ابن قاضي الحرمين عن الهواء بها، فقلت: سَجْسَجٌ لا حر ولا برد شديد. قال: هذا صفة الجنة. بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعفَّ من أهلها، ولا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها، عنبها خطير، وليس لمُعتَّقتها نظير، وفيها كل حاذق وطبيب، وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب، وكنت يومًا في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بن بهرام بالبصرة، فجرى ذِكر مصر إلى أن سُئلت: أيُّ بلدٍ أجلُّ؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيُّها أطيب؟ قلت: بلدنا؟ قيل: فأيُّها أفضل؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيُّها أحسن؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيُّها أكثر خيرات؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيُّها أكبر؟ قلت: بلدنا. فتعجب أهل المجلس من ذلك وقيل: أنت رجل محصل، وقد ادَّعيت ما لا يُقبل منك، وما مثَلك إلا كصاحب الناقة مع الحجاج، قلت: أما قولي: «أجلُّ»؛ فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة، فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد سوقها، ومن كان من أبناء الآخرة، فدعته نفسه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب الهواء فإنه لا سمَّ لبردها ولا أذى لحرِّها، وأما الحُسن فلا ترى أحسن من بنيانها، ولا أنظف منها ولا أنزه من مسجدها، أما كثرة الخيرات فقد جمع الله — تعالى — فيها فواكه الأغوار والسهل والجبال، والأشياء المتضادة كالأُتْرُجِّ واللوز، والرُّطَب والجوز، والتين والموز، وأما الفضل فلأنها عَرْصَة القيامة، ومنها المحشر وإليها المنشر، فتحوي الفضل كله، وأما الكِبَر فالخلائق كلهم يُحشرون إليها، فأيُّ أرضٍ أوسع منها؟! فاستحسَنوا ذلك وأقرُّوا به.»

ويلي فلسطين ذكر الكُورَة السادسة وهي كُورَة الشَّراة، دُعيت بذلك باسم جبل الشَّراة الذي يمر بها، وقد سبق لنا في أحد أعداد المشرق الأخيرة (١٠: ٥٧٧) ما اكتشفه في تلك الجهات الدكتور لويس موسيل، وها نحن نثبت هنا نُتَفًا مما جاء في تأليف المقدسي عن بعض بلدانها، قال في وصف صُغر التي أشرنا آنفًا إلى موقعها جنوبي بحيرة لوط في موقع تُنِيف حرارته على لظى كل البلاد (ص١٧٨): «صُغر أهل الكُورَتين يسمونها صقر. وكتب مقدسي٨ إلى أهله: من صقر السفلى إلى الفردوس الأعلى. وذلك أنه بلد قاتِل الغرباء، رديء الماء، ومَن أبطأ عليه ملكُ الموت فليرحل إليها، ولا أعرف في الإسلام لها نظيرًا في هذا الباب، ولقد رأينا بلدانًا وَبِيَّةً ولكن ليس كهذه، أهلها سودان غلاظ، وماؤها حميم وكأنها جحيم، إلا أنها البصرة الصغرى والمتجر المربح، وهي على البحيرة المقلوبة وبقية مدائن لوط، وإنما نجت لأن أهلها لم يكونوا يعملون الفاحشة، والجبال منها قريبة.»

ودونك ما كتب عن مآب (ص١٧٧): «مآب في الجبل كثيرة القرى واللوز والأعناب، قريبة من البادية، ومؤتة من قراها، وثَمَّ قبر جعفر الطيار.»

ومؤتة المذكورة هنا موقعها معروف، على بعد نحو أربع ساعات جنوبي الكرك، وهذا دليل على موقع مآب، لكنه غير كافٍ للحكم الباتِّ في ذلك كما سبق لنا القول في المشرق (١٠: ٥٨٠). أما الكرك فإن المقدسي لم يروِ اسمها ولا دفعة واحدة، بخلاف مآب التي يكرر اسمها ويعدها كمكان ذي شأن، وما أدرانا أن الكرك نفسها كانت تسمى مآب، كما يُشعر بذلك اسمها اليوناني القديم، فإن البوزنطيين كانوا يسمونها كركموبا χαράχμωβα.
وليست مآب وحدها التي باد أثرها في تلك الناحية التي كانت بعدُ عامرةً في أيام المقدسي، ومما ذكره أذرُح الشهيرة بمعسكرها الروماني، وفيها جرت حكومة الحكَمين من أعظم حوادث الدولة الأموية.٩ وبقيت أذرُح في مقامهما الصالح إلى القرن الثاني عشر، وهي اليوم خراب، وقد زرنا بقاياها في شهر آب من السنة ١٩٠٥ عند رجوعنا من وادي موسى ومدينة بترا التي كان الخراب استولى عليها قبل عهد المؤلف بزمن طويل فلم يتعرض لذكرها.

•••

قد تبعنا المقدسي في تعريفه لأعظم مدن الشام الباقية في زمنه طبقًا لأوصافها الطبيعية وتقاسيمها النظامية، ولا نشك أن القارئ قدَّر الكاتب قدْره بما نقلنا من نصوصه المتعددة، وهي كما ترى كافية لتجعل له مقامًا ممتازًا بين أرباب رسوم البلدان، إلا أن للمقدسي فضلًا آخر بما ألحقه بهذا القسم، وهو فصل علمي دعاه «بجمل شئون هذا الإقليم»، وأودعه عدة ملحوظات لتعريف جغرافية الشام الطبيعية والاقتصادية والنسبية، وفي هذا الفصل أيضًا معلومات أخرى في العادات والنقود والأوزان والمكاييل ومال الخراج على مقتضى عادة كل كُورَة، وعندنا أن المؤلف يظهر في هذا الفصل من المزايا الفنية وحسن النظر الجغرافي الذي يرقِّي مقامه بين الكَتَبَة، وله من الملحوظات ما لو كُتب في زماننا لنال بسببه الكاتب ثناء، وهو القسم الذي لأجله يطري المستشرقون عمل المقدسي ويعظمونه١٠ فمن ذلك ما روينا عنه في تقاسيم بلاد الشام ما يشهد له بثقوب العقل ودقة النظر.١١
والكاتب يفتتح كلامه بوصف أحوال الجو في بلاد الشام كما كان حقيقًا به، قال (ص١٧٩): «هو إقليم متوسط الهواء إلا أوسطه من الشَّراة إلى الحُولة، فإنه بلد الحر والنيل، والموز والنخيل، وقال لي يومًا غسان الحكيم ونحن بأريحا: ترى هذا الوادي؟ قلت: بلى. قال: هو يمتد إلى الحجاز، ثم يخرج إلى اليمامة ثم إلى عُمان وهجر، ثم إلى البصرة، ثم إلى بغداد، ثم يصعد إلى ميسرة الموصل إلى الرَّقَّة، وهو وادي الحر والنخيل، وأشد هذا الإقليم بردًا بعلبك وما حولها، ومن أمثالهم: قيل للبرد: أين نطلبك؟ قال: بالبلقاء، قال: فإن لم نجدك؟ قال: بعلبك بيتي. وهو إقليم مبارك، بلد الرخص والفواكه والصالحين، وكلُّ ما علا منه نحو الروم كان أكثر أنهارًا وثمارًا وأبرد هواءً، وما سفُل منه فإنه أفضل وأطيب وألذ ثمارًا وأكثر نخيلًا ليس فيه١٢ نهر يسافَر فيه.»

وهذا القول الأخير غاية في الصواب؛ فإن المقدسي لم يكن ليصادق على مذهب أسطرابون ومن حذا حذوه، بأن العاصي يمكن ركوبه على الأقل من أنطاكية. وهو زعم لا صحة له حتى مع حصر الكلام وتخصيصه بهذا القسم الصغير، فإننا قد تحققنا بنفسنا الأمر؛ إذ سِرنا في وادي العاصي من أنطاكية فوجدناه لا يصلح لمرور القوارب.

ومن الظواهر الجوية التي ذكرها المقدسي الندى في أنحاء الشام، وخصوصًا في بعض جهات فلسطين، فقال (ص١٨٦): «ينزل على فلسطين في كل ليلة الندى في الصيف إذا هبت الجنوب حتى يجري منه مزاريب المسجد الأقصى.» ومما رأيناه بالعيان أننا بتنا في دئبان بين الكرك ومادبا في شهر آب سنة ١٩٠٥ تحت ظل السماء، فلما قمنا صباحًا شعرنا بالندى قد بلل أغطيتنا، حتى أمكننا عصرها لو شئنا، ومثل هذا الندى يسقط في الناصرة من عمل الجليل، وفي بزيزًا في ناحية الكُورَة (لبنان). ووفرة الندى كما هو معلوم من البركات التي يستدرُّها الناس من السماء، ويعِد بها الكتاب الكريم كالغيث والمطر.

وقد أعقب المقدسي ذكر الظواهر الجوية بوصف التجارات أي الغلات الصادرة من الشام، وفي تعداده دليل واضح على تقدم التجارة والصناعة في ذلك العهد كما يشهد على كثرة تلك الصادرات وثمنها١٣ وها نحن نورد كلامه لفائدته (ص١٨٠-١٨١): «والتجارات به — أي الشام — مفيدة، يرتفع من الفلسطين الزيت والقطين والزبيب والخرنوب والملاحم والصابون والفوط، ومن بيت المقدس الجبن والقطن وزبيب العينوني، والدوري غاية والتفاح، وقضم قريش الذي لا نظير له، والمرايا وقدور القناديل والإبر، ومن أريحا نيل غاية، ومن صُغر وبيسان النيل والتمور، ومن عمَّان الحبوب والخرفان والعسل، ومن طبريَّة شقاق المطارح والكاغد وبز، ومن قدس الثياب المنيرة والبلعسية والحبال، ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات، ومن مآب قلوب اللوز، ومن بيسان الرز، ومن دمشق المعصور والبلعيسي وديباج ودهن بنفسج دون والصفريات والكاغد والجوز والقطين والزبيب، ومن حلب القطن والثياب والأشنان والمغرة، ومن بعلبك الملابن ولا نظير لقطين وزيت الأنفاق وحوَّاري وميازر الرملة ولا لمُعتَّقة وقضم قريش وعينوني ودوري وترياق وترذوغ وسُبَح بيت المقدس، واعلم أنه قد اجتمع بكُورَة فلسطين أربعة وثلاثون شيئًا لا يجتمع في غيرها، فالسبع الأولى لا توجد إلا بها، والسبع الثانية غريبة في غيرها، والاثنان والعشرون لا تجتمع إلا بها، وقد يجتمع أكثرها في غيرها، مثل: قضم قريش والمُعتَّقة والعينوني والدوري وأنجاص الكافوري وتين السباعي والدمشقي والقلقاس والجميز والخرنوب العكُّوب والعنَّاب وقصب السكر والتفاح الشامي والرُّطَب والزيتون والأُتْرُجُّ والنيل والراسن والنارنج واللُّفَّاح والنيق والجوز واللوز والهليون والموز والسماق والكرنب والكمأة والترمس والطري والثلج ولبن الجواميس والشهد وعنب العاصمي والتين التمري.»

وكذلك عدَّد المعادن الشامية، وتعداده مهم لشئون الصناعة في زمانه، قال (ص١٨٤): «به — أي إقليم الشام — معادن حديد في جبال بيروت، وبحلب مغرة جيدة، وبعمان دونها، وبه جبال حمر يُسمى ترابها الصمغة، وهو تراب رخو، وجبال بيض تسمى الحوَّارة، فيه أدنى صلابة يُبيَّض به السقوف، ويُطيَّن به السطوح، وبفلسطين مقاطع حجارة بيض ومعدن للرخام ببيت جبريل، وبالأغوار معادن كبريت وغيره، ويرتفع من البحيرة المقلوبة ملح منثور وخير العسل ما رعى السعتر بإيليا وجبل عاملة، وأجود المري ما عُمل بأريحا.»

وهذا التعداد يدل كما ترى على فقر بلاد الشام بالمعادن كما أشرنا إليه غير مرة،١٤ وللمقدسي أسطر قليلة كتبها في مجاري المياه والعيون في بلاد الشام تفيد معرفتها محبي الأسفار، قال (ص١٨٤): «ومياه هذا الإقليم جيدة، إلا ماء بانياس، فإنه يُطلِق، وماء صور يحصر، وماء بيسان ثقيل، وماء الرملة مري، وماء نابلس خشن، وفي ماء دمشق وإيليا أدنى خشونة، وفي الهواء أدنى يبوسة.»
ولم يسهُ المؤلف عن ذكر حمامات طبريَّة المعدنية وحمامات الحمَّة،١٥ قال (ص١٨٥): «وبطبريَّة عين تغلي تعمُّ أكثر حمامات البلد، وقد شُقَّ إلى كل حمام منها نهر، فبخاره يُحمِي البيوت، فلا يُحتاج إلى وقيد، وفي البيت الأول ماء بارد يمزج مقدار ما يتطهرون به، ومطاهرهم من ذلك الماء، وفي هذه الكُورَة ماء مُسخن يسمى الحمَّة حارٌّ، من اغتسل فيه ثلاثة أيام ثم أغتسل في ماء آخر بارد وبه جرَب أو قروح أو ناسور أو أي علة تكون برأ بإذن الله.»

ومن غريب ما رواه (ص١٨٤) في مجاري الأنهار، قوله عن بردى عند خروجه من دمشق، فزعم «أنه ينقسم قسمين، بعض يتبخر نحو البادية وبعض ينحدر فيلقى نهر الأردن»، وبديهي أن نهر بردى ليس هو مطلقًا من سواعد الأردن. ومن مزاعمه أيضًا (ص١٨٤) أن في بحيرة لوط جبالًا. وهو رأي تفرَّد به المقدسي ولا أصل له، وكذلك يسمِّي بحر القلزم «بحر الصين» ويُطلق الاسم عينة على خليج العجم، وفي قوله دليل على اتساع تجارة الصين في زمانه، وشيوعها في مدن بحر القلزم الساحلية، أما الجبال فقد وصفها المقدسي وصفًا خفيفًا غير وافٍ بالمرام، ومما قال في لبنان (ص١٨٨) إنه «كثير الأشجار والثمار المباحة»، ثم ذكر عبَّاده ويلوح من قوله فيه أن جنوب هذا الجبل لم يكن مأهولًا على عهده.

فيرى القراء من هذه التفاصيل سبب إعجاب المستشرقين بتأليف المقدسي، فيا ليته كان وجد له أخلافًا مثله ذوي عقل ثاقب يفقهون الأبحاث الجغرافية، فكان هذا العلم أصاب ترقِّيًا عظيمًا، إلا أن أغلب الكَتَبَة الذين جاءوا بعده كانوا دونه، اللهم إلا الشريف الإدريسي.

ومما استفاده القارئ أيضًا من هذا البحث كما نظن أنه يرى ما طرأ على بلاد الشام من التقلبات، واختلاف الأحوال في أطوار التاريخ فمنها ما يزيد وينمو، ومنها ما ينقص ويتقهقر على حسب كوارث الدهر، وهذا يلوح من درس كل الكَتَبَة الجغرافيين من العرب، فإنهم وإن لم يبلغوا شأو المقدسي، إلا أنهم تركوا لنا معلومات ثمينة تؤدي بنا إلى معرفة بلادنا في قرون شتى، مع ما جرى فيها من الماجريات في نظامها وتقاسيمها وتجارتها وبقية أمورها، مما يستفيد منه المؤرخ لاستطلاع أحوال البلاد، وإدراك الحوادث الجارية فيها جيلًا بعد آخر.

١  في المجلة الفلسطينية الألمانية ZDPV, VII, p. 143.
٢  اطلب المجلة الآسيوية JA, 18792, 271 وكتاب بروكلمان في آداب العرب Brockelmann: Gesch. D. arab. Litter., I, 230، ولا سيما مقدمة الدكتور «دي غوي» على القسم الرابع من مجموع جغرافيِّي العرب.
٣  قد ضبط جناب الدكتور اسم سَلَمِيَّة — بلدة شرقي حمص — بتشديد الياء المثناة، وعندنا أن الصواب كتابتها بتخفيف الياء كما هو شائع في تلك الجهة.
٤  يقصد ببحر الصين بحر قلزم كما سنرى.
٥  يريد جزيرة العرب كما ارتأى بصواب المسيو دي غوي.
٦  يريد بالمصر هنا المدينة الكبيرة والحاضرة، كما يُقال عن الكوفة والبصرة أنهما مِصْرَا العراق أو العراقان.
٧  هو الوليد بن عبد الملك.
٨  أي رجل من بيت المقدس، ليس هو المؤلف.
٩  راجع مقالاتنا في أخبار الخليفة معاوية Etudes sur le Calife Mo’awia.
١٠  اطلب تاريخ الآداب الشرقية لفون كريمر Von Kremer: Cultur geschichte II, 429–433.
١١  وقد نقل مع هذا روايات ضعيفة ومزاعم غريبة تجدها في غيره من الكَتَبَة كابن الفقيه. ومعظم عدد الجغرافيين من ذلك قوله (ص ١٢٤): «سئل ابن العباس عن الجزْر والمد، قال: مَلاك موكَّل بقاموس البحر إذا وضع رجله فاض، فإذا رفع رجله غاض الماء.»
١٢  أي في إقليم الشام.
١٣  راجع في المشرق (٩: ٩١٩) مقالتنا في تجارة سواحل سورية.
١٤  اطلب في كتابنا تسريح الأبصار (٢: ٣٠٧) مقالتنا في معادن لبنان.
١٥  في وادي اليرموك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤