العربي لا يَشْعُر إلا في بيئته

لفت نظري وأنا أدرس الأدب المصري العربي من عهد الفتح الإسلامي، ظاهرة غريبة؛ وهي أن عرب مصر لم يسعروا، مع توافر الدواعي لقول الشعر، فقد دخلوا مصر فرأوا مناظر تسحر النفس وتأخذ باللب — مزارع غناء، ومناظر حسناء، ونهر عجب أي عجب، وأهرام بديعة الصنع، وآثار تستخرج العجب.

ودخلوا الإسكندرية، فرأوا مدنية الرومان بفتنتها وجمالها، ورأوا البحر بسحره وجلاله، فلم يقولوا في ذلك كله شيئًا.

وبعيدٌ أن يكونوا قد قالوا ثم ذهب ما قالوه، فقد حرص الرواة الأولون على أن يرووا لنا كل ما سمعوا، حتى الأبيات التافهة في المسائل العارضة؛ وقد كان عرب مصر آلافًا مؤلفة، كان أكثرهم أولًا من القبائل اليمنية، ثم تتابع عرب مصر بعد ذلك؛ ومع هذا كله لم ينبغ منهم شاعر مصري، وكل ما روي لنا من الشعر الذي له قيمة في ذلك العصر هو ما وفد به الوفود على عبد العزيز بن مروان يمدحونه بمصر؛ مثل شعر عبيد الله بن قيسِ الرُّقَيّات، ونُصَيب، وكُثيِّر عزة؛ وهذا لا يعد شعرًا مصريًّا إلا بضرب من التجوز، فقائلوه وافدون على مصر من الحجاز أو الشام، وليسوا مصريين.

تأملت في هذه الظاهرة طويلًا، وفرضت لها فروضًا مختلفة، فكان أقرب الفروض في نظري أن «العربي لا يشعر إلا في بيئته».

أيد هذا الفرض عندي أني تتبعت مشهوري الشعراء في ذلك العصر فوجدت مواطنهم إنما هي جزيرة العرب أو الشام أو العراق، وهذه هي بيئة العربي، فالجزيرة هي بيئته الطبيعية الأصلية، وبادية الشام وبادية العراق امتداد بيئته، ومن طبيعتها ومن جنسها؛ فهي تستحث شعره كما تسحثه جزيرة العرب، وهي موطن له منذ العصر الجاهلي؛ فالعراق أخرج لنا جريرًا والفرزدق والأخطل ورؤبة والعجاج، وكان موطن إنشادهم مِرْبدُ البصرة، وهو في أوصافه يشبه سوق عكاظ في الجاهلية؛ والشام أخرج لنا عدي بن الرِّقَاع والطرمَّاح والوافدين إليه من البوادي، والحجاز أخرج لنا جميل بن معمر وعمر بن أبي ربيعة والعَرْجي وابن قيس الرُّقيَّات والأحوص وذا الرمة وغيرهم.

كل هؤلاء من فحول الشعراء خرجوا من بيئتهم الطبيعية فشعروا وأجادوا؛ أما البلاد المفتوحة كمصر وفارس والهند والمغرب فلم تخرج شاعرًا عربيًّا يعتد به إلا نادرًا، والشام والعراق إنما أخرجا الشعراء لما أسلفنا من أنهما بيئتان عربيتان قديمتان؛ ولأن الباديتين في أطرافهما تبعثان على الشعر.

ثم ننظر إلى مصر فلا نجد فيها شاعرًا عربيًّا، وننظر في فارس فنجد أشهر شعرائها زيادًا الأعجم، وهو مولى من الموالي كان ينزل اصطخر فغلبت العجمة على لسانه فسموه الأعجم، وكان في فارس بعض شعراء كنَهار بن تَوْسعه وثابت قُطْنه، ولكنهم شعراء في الطبقة الثالثة أو الرابعة، وبعضهم نشأ في غير فارس ثم شعر قليلًا في فارس.

بل ننظر إلى كثير من الشعر الذي قاله هؤلاء العرب النازحون إلى تلك المدن المفتوحة، فنجده ليس وصفًا لهذه البلاد وإنما هو حنين إلى بلاد العرب، وبكاء عليها وشوق إلى العودة إليها، كالذي قال مالك بن الرَّيب، وقد أقام مدة بخراسان، فلما حضرته بها الوفاة حنَّ إلى وادي الغضا فقال:

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً
بجنب الغضا أُزْجي القِلاص النَّواجيا

ويقول آخر:

سرى البرقُ من أرض الحجاز فشاقني
وكلُّ حجازيّ له البرق شائق
فوا كبدى مما ألاقي من الهوى
إذا حن إلفٌ أو تألَّق بارق

إلى كثير من أمثال ذلك.

فاستخلصت من هذا كله أن العربي لا يشعر إلا في بيئته، فإن هو خرج منها إلى غيرها اعتقل لسانه وأُصيب بالعِيّ، مهما كان البلد الراحل إليه من جمال الطبيعة وجمال الصناعة، ومهما توافرت بواعث الشعر.

وقبل ذلك قدّم إلينا شيخ الشعراء امرؤ القيس دليلًا واضحًا على هذا، فقد خرج من جزيرة العرب إلى القسطنطينية، ورأى فيها عظمة الدولة الرومانية، وفخامة ملكها وجمال فنها، فلم ينطقه ذلك كله بقصيدة؛ وعجب الباحثون من هذا الجمود حتى ألجأهم إلى الشك في رحلته؛ وما تعليل ذلك عندي إلا ما أقول من أنه فارق بيئته فحصر.

•••

قد يدل على صحة هذه النظرية أيضًا ما روي عن هؤلاء الشعراء مما كانوا يفعلون إذا جمدت قرائحهم، ونضبت خواطرهم؛ فقد سئل كثير: كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال: «أطوف في الرباع المخلية والرياض المعشبة، فيسهل عليّ أرصنه، ويسرع إليّ أحسنه»، وقال الأحوص:

وأشرفتُ في نَشْز من الأرض يافع
وقد تشغفُ الأيْفاع من كان مُقصدا

وحكى الفرزدق قال: «أتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من فنون الشعر، فكأني مفحم أو لم أقل شعرًا قط، حتى إذا نادى المنادي بالفجر رحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقدتها حتى أتيت «ريانًا»، وهو جبل بالمدينة، ثم ناديت بأعلى صوتي: أخاكم أخاكم أبا لبنى! (يعني شيطانه) فجاش صدري كما يجيش المرجل، ثم عقلْت ناقتي فما قمت حتى قلت مئة وثلاثة عشر بيتًا».

وكان الأبيردُ الشاعر إذا خانته قريحته أخذ عصاه وانحدر في الوادي، وجعل يقبل فيه ويدبر ويهمهم بالشعر فتأتيه المعاني.

ولعل من خير ما روي في هذا الباب ما حكاه المرْزُباني في الموشح أن النابغة الذبياني قال للنعمان بن المنذر:

تَرَاكَ الأرْضُ إمَّا مِتَّ خِفًّا
وتحيا إن حَييتَ بها ثقيلا

فقال النعمان: هذا بيت إن أنت لم تُتبعه بما يوضح معناه كان إلى الهجاء أقرب منه إلى المديح. فأراد ذلك النابغة فعسر عليه، فقال: أجّلني. قال: قد أجلتك ثلاثًا، فأتى النابغة زهيرًا فقال: اخرج بنا إلى البرية فإنّ الشعر برِّي، فخرجا ومعهما كعب بن زهير، فقال كعب فما يمنعك أن تقول:

وذاك بأن حللتَ العز منها
فتمنع جانبيها أن يزولا

فقول زهير: «إن الشعر برِّي» هو مصداق نظريتنا، فقد نبغ وكثر وفاض في البرية ومن البرية أولًا، فإن قيل في المدن فأصله من البرية.

لست أدَّعي أن طبيعة كل شعر برِّية، فهناك شعر أوروبي جلبته الحضارة، وهناك شعر عربي قيلَ في المدن الإسلامية العظيمة كبغداد والقاهرة؛ ولكني أدعي أن العربي الذي هو وليد الصحراء ووليد المدن العربية — التي تمُتُّ بصلة وثيقة للصحراء كمكة والمدينة — لا يستطيع القول إذا انتقل إلى مدن أعجمية كمصر وخراسان والهند والمغرب؛ فأما الشعر الذي فاض بعد ذلك فإنما فاض من أعاجم أو من أبناء العرب الذين نشأوا من أول أمرهم في المدن الأعجمية.

وتعليل ذلك في نظري يرجع إلى أمرين:
  • الأول: طبيعة العربي نفسه، فهو إذا دخل المدن العجمية ورأى معيشة اجتماعية تخالف معيشته، وعادات وأوضاعًا تخالف عاداته وأوضاعه، اضطربت نفسه وتشتت ذهنه، واحتاج إلى زمن طويل حتى يهدأ ويألف العيش الجديد؛ وهذا الاضطراب وتشعث الذهن لا يبعث على قول الشعر؛ ولذلك كان قائلو الشعر بعدُ في هذه المدن هم أبناء الجيل الثاني أو الثالث لا الأول.
  • الثاني: أن طبيعة الشعر العربي الأول طبيعية بدوية، فهو يتغنى بمناظر البدو من صحراء ووديان، وحيوانات البدو من ظباء وأوعال، ونباتات البدو من شيح وقيصوم. على هذا نشأ الشعر العربي، وعلى هذا نشأ العرب الفاتحون للأقاليم؛ فلا يستسيغ ذوقهم أن يتغنوا بإيوان كسرى، ولا أهرام مصر، ولا يستسيغ ذوقهم أن يتغزلوا في النرجس والياسمين، وقد تغزل آباؤهم بنباتات الصحراء، ولا يستسيغ ذوقهم أن يشيدوا بذكر النيل والفرات، وقد شاد آباؤهم بذكر الغياض. إن الشعر في هذه الأمور الجديدة يحتاج إلى مران للذوق طويل، ويحتاج إلى ثورة من الشاعر العربي، والشاعر العربي ليس ثائرًا في شعره، إنما هو محافظ أشد المحافظة. فلما حرم العرب ساكنو الأقاليم الجديدة من رؤية القديم حتى يشعروا فيه، وحرموا الثورة والذوق الجديد حتى يشعروا في الجديد، حصر لسانهم فلم ينطقوا بقديم ولا جديد.

هذه فكرة أعرضها على القراء ليبحثوها ويقلبوها على وجهها، وليؤيدوها أو ينقضوها، فلا نريد إلا الحق.

وهي إن صحت حلت لنا مشاكل يعانيها الباحث ولا يرى لها حلًا؛ لِمَ لم يشعر عرب فارس في جمال فارس، وعرب مصر في جمال مصر، وعرب الهند في جمال الهند؟ ولِمَ لم يقولوا فيها ما قالوا في جزيرة العرب ومجال القول فسيح؟ ولِمَ ضعفت دولة الشعر في البلاد المفتوحة حتى نشأ جيل جديد من الموالي وأشباههم؟ ولِمَ ظلت طبيعة الشعر العربي بعد الفتح فترة طويلة من الزمان كما كانت قبل الفتح من حيث الأسلوب والموضوع؟ ولِمَ لم ينبغ في البلاد المفتوحة من الشعراء ما نبغ في الحجاز وبادية الشام وبادية العراق مع تيسر الأسباب، ووفرة بواعث الشعر؟

كل هذه المسائل وأشباهها يحلها فرضنا «أن العربي لا يشعر إلا في بيئته».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤