محمد الرسول المصلح

كم من عظماء الرجال زالت عظمتهم أو قلّت قيمتهم بمرور الزمان عليهم، وتنبُّه الناس تنبهًا صحيحًا لأعمالهم، ووزنهم بموازين عصرهم. ولكن محمدًا ظلت قيمته قيمته، وعظمته عظمته، مهما اختلفت العصور، وتغيرت الموازين؛ بل إن الزمن ليزيد عظمته وضوحًا، والموازين الأخلاقية الجديدة تزيد مكانته رفعة.

وكم حاول خصومه في مختلف العصور أن ينتقصوا من قدره بشتى الأساليب، ومختلف الأكاذيب، فنالوا من أنفسهم ولم ينالوا منه، وحرموا لذة الحق وبقي الحق.

وكم لمحمد من نواحي عظمة ومظاهر سمو، ولكن لعل أروعها جميعًا ما جاء به من دعوة، وما قام به من إصلاح.

لقد نشأ في جو خانق، وبيئة مضطربة فاسدة، وحالة اجتماعية تبعث اليأس؛ فجعل من الشر خيرًا، ومن الاضطراب أمنًا، ومن الفساد صلاحًا؛ فالعرب قد وهبت نفسها للأصنام، وجعلت البيت الحرام — الذي بني ليعبد الله فيه — مباءة لثلاثة مئة حجر أو تزيد، تعبدها من دون الله. ومن تنصر منهم أو تهوّد كان قد تنصر أو تهوّد بنصرانية أو يهودية فقدت روحها، وتقسمتها المذاهب والشيع، ودخل على تعاليمها الأولى كثيرٌ من البدع، فلم تنجح فيهم يهودية ولا نصرانية، والحنفاء الذين ظهروا قبيل الإسلام كان صوتهم ضعيفًا خافتًا، عجزوا — كما عجزت اليهودية والنصرانية — أن يغيروا شيئًا من حياة العرب وعقلية العرب. ثم كانت حياتهم سلسلة سلب ونهب، كل قبيلة وحدة، بل كل فرع قبيلة وحدة، وكل قبيلة في عداء مع من جاورها، لا أمن على الحياة، ولا أمن على المال، لا يفقهون معنى «أمة»، ولا يفهمون معنى لحياة سياسية أو مدنية، ولا يعرفون معنى لعلم أو فن؟ فلو أنت قلت: إن أحدًا من الأنبياء والمصلحين لم يجد من اختلال أمته وفسادها ما وجد محمد من العرب، وإن أحدًا منهم لم ينجح في إصلاح أمته ما نجح محمد في إصلاح العرب وغير العرب، ما عدوت الصواب.

ففي عشرين عامًا استطاع بتأييد الله أن يغير كل هذه الفوضى، وأن يغير كل هذه المظاهر، وفوق ذلك أن يغير هذا الروح، فجعل من القبائل وأشباه القبائل أمة عربية واحدة، ورد الأصنام إلى أماكنها في الأرض، وساوى بينها وبين أخواتها من الحجارة، وحوّل عبادتهم إلى إله واحد فوق الأرض وفوق السماء، وفوق المادة كلها، هو وحده الصمد «لم يَلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحد»، فرفع من نفوسهم المرتبطة بالحجارة، والمتصلة بالأرض، لتحلق فوق السماء، ولتنظر إلى العالم كله نظرة سامية عميقة، ولتحتقر عرض الدنيا في سبيل نصرة الحق.

وجد نصف العرب (وهو المرأة) ضعيفًا فقواه، مسلوب الحق فرد إليه حقه، فهي كالرجل في العبادات، وهي كالرجل في المعاملات، ولها كالرجل كل الحقوق المدنية، فأكمل بذلك ترقية النصف الآخر وجعلها أقدر على إصلاح الجيل الجديد بما نالت من حرية جديدة.

آمن الرجال والنساء بتعاليم الإسلام الجديدة يعتنقونها ويذودون عنها، ويرون واجبًا عليهم نشرها وتضحية النفس والمال في سبيلها، تحمسوا للدين، ولكن لا كما يتحمس الرهبان في الصوامع، إذ هجروا دنياهم لدينهم، بل لم يمنعهم إخلاصهم لدينهم من تحسين دنياهم، فهم يدينون ولا ينسون نصيبهم من الدنيا، يتاجرون ويصلون، ويملكون المال ويزكّون، ويعملون للدنيا كأنهم يعيشون أبدًا، ويعملون للآخرة كأنهم يموتون غدًا، يبلغون الذروة في عالم الروح، ويبلغون الذروة في عالم المادة؛ ففي عالم المادة إن حاربوا الفرس والروم غلبوهم وأزالوا ملكهم، وفي عالم الروح إن سابقوا الأمم الأخرى في روحانيتهم سبقوهم، فلا وثنية ولا عبادة لصور، ولا عبادة لكائن، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا إله إلا الله.

•••

لئن فاخر المصلحون بتعاليمهم وبدعوتهم فمحمد يحق له أن يفاخر بذلك كله وبالنتائج العملية التي وصل إليها، فليس رسم الخطط وحده كافيًا في التباهي، إنما المباهاة الحقة في التنفيذ والنجاح في التنفيذ، وإلا فكل رجل فوق المستوى المألوف يستطيع أن يحلم بعالم خير من هذا العالم، ويرسم لهذا العالم السعيد صورة الخلابة البديعة. ولكن المصلح الحق من يضع الخطط الملائمة للحاضر والمستقبل، ثم يضع الخطط الصالحة لتنفيذ ذلك كله، ثم يصل من ذلك كله إلى الغاية. ولقد أظهر النبي (محمد) في ذلك البراعة الفائقة، فلم يكن حالمًا، ولكنه فكر ثم وصل ثم عمل.

كم أجهد نفسه في التفكير وأجهد روحه في البحث، وكانت عزلته في غار حِرَاء وسيلة تفكيره. وفيم كان يفكر ويطيل تفكيره؟ في سوء ما عليه العالم، وفي سوء ما يعتقد العرب وغير العرب، وفي سوء الحالة الاجتماعية في العالم الذي رآه في جزيرة العرب، وفي العالم الذي رآه في الشام. قد يكون هذا الفساد واضحًا، ولكن ما هو الحق وأين الحق؟ كان هذا هو زمن التفكير ونوع التفكير، ثم اهتدى وكان الوحي إيذانًا بالهداية.

ثم كان له بعد ذلك من الله قوة في التنفيذ لا تبارَى، يدعو إلى الحق ولا يحيد، ويعذّب من أجل الدعوة، فينال العذاب من جسمه ولا ينال من نفسه، فهو يُضرب وهو يُرمى بالحجارة وهو يسيل دمه، ولكن العذاب مع ذلك كله يزيد في دعوته قوة وفي نفسه عزيمة.

ثم هو لا ييأس أبدًا. فإذا أخفقت خطة وضع خطة، فإذا لم تنجح خطة الطائف فليدّعُ غير الطائف من الأوس والخزرج حتى يُكتب له النجاح.

ثم هو شجاع في كل ما تتطلبه الدعوة؛ تتوالى عليه الحداث وهو مطمئن، ويتفرق عنه أهله فلا يجزع، وتبدو عليه طلائع الهزيمة في وقعة أحد، وتكسر رباعيته ويشج في وجهه وتكْلَم شفته ويسيل الدم على خده، وينكشف المسلمون ويصيب فيهم العدو، ويُقتل عمه حمزة، وهو هو في ثباته، وهو هو في إيمانه، وهو هو في أمله، جميع الفؤاد رابط الجأش.

فلما أن أمكنه الله من عدوه لم يذكر دمه، ولم يذكر أفاعيل خصومه، ولم يذكر قتالهم لأهله وأصحابه، إنما ذكر دعوته وذكر خير السبل في الوصول إلى تحقيقها، وذكر ما يجب أن يفعل لإنجاحها؛ فلما فتح مكة كان همه أن يدخل الكعبة ومعه بلال فيؤذن فيها ويكسر الأصنام ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل» وهذا هو ما يذكره. أما الناس فليسوا موضع نقمته، وخير أن يستجلبهم لدعوته بعفوه، فيقول: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، فأسرهم بعفوه، وجعل منهم إلى قوة فعالة في سبيل دعوته؛ وهكذا لم نجد مثلًا يجمع بين القوة والرحمة، والصلابة والمغفرة، والإصرار واعتدال المازج كما رأينا في هذه الفعال.

•••

تعاليمه الإصلاحية إلهية خالدة. أما شخصه فإنسان يخضع لكل قوانين الإنسان من شباب وشيخوخة وموت وغير ذلك.

وسبب خلود تعاليمه أنها إنسانية عامة، لم تخضع في جوهرها وأسسها الأولى لظروف الزمان ولا ظروف المكان، فلم ينظر فيها إلى العرب وحدهم، ولا إلى الروم وحدهم، ولا إلى الناس في زمنه، إنما نظر فيها إلى الإنسان من حيث هو إنسان، فبقيت ما بقي الإنسان، ولم يفرَّق فيها بين عربي وغير عربي، ولم يتميز فيها غني عن فقير، ولا أبيض البشرة عن أسودها، ولا طبقة في الشعوب عن طبقة، ولا شرقي عن غربي، ولم يكن فيها نعرة جنسية، ولا نغمة أرستقراطية، ولكن فيها أن الإنسان أخو الإنسان، والأبيض أخو الأسود، والرجل أخو المرأة، والغني أخو الفقير، والملك أخو الرعية. وكانت كل رسالته وكل أقواله ترمي إلى غاية واحدة: ألَّا يفر الإنسان من هذا العالم بالعزلة، ولكن يكون قوة فعالة لاستئصال الشر وفعل الخير، وتمام الانسجام بينه وبين من يعيش معهم، وتحقيق العدل والإحسان له ولهم، وأن يعيش لخير نفسه وخير من معه وخير العالم؛ يجب أن تكسر الحدود الجغرافية والحدود الصناعية والفوارق الجنسية، وأن يعيش العالم وحدة تحكمه قوانين عادلة، وتسوده تعاليم حقة، ويعتنق أهله عقائد صحيحة أساسها كلها الخير العام للإنسانية؛ وهي إن اختلفت في الفروع بحسب الأقاليم وبحسب البيئة الطبيعية والاجتماعية، فلن تختلف في الأصول التي تربط الإنسان بالله خير رباط، وتربط الإنسان بالإنسان خير رباط، وتخضع العقل مجردًا عن التخريف والتضليل، ولحكم العواطف سليمة صحيحة قوية.

فأي شيء من هذه التعاليم لا يبقى ما بقي الإنسان؟ بل أي شيء من هذه التعاليم لا تعلو قيمته كلما علا الإنسان في قيمته ورقي في إدراكه؟

لقد كان كل نبي قبله يحمل مصباحًا لقومه، فجاء محمد يحمل مصباحًا للعالم.

آمن محمد بالأنبياء جميعًا، وبرسالتهم جميعًا، وبإصلاحهم جميعًا، ودعا من يؤمن به أن يؤمن بهم، وعَلَّم أن الحق في كل زمان واحد، قد دعا إليه كل نبي قبله، وأنه داع دعوتهم، مرسل بمثل رسالتهم، مطهر لما لحق تعاليمهم من الشوائب، مصلح لما أدخله الأتباع من الفساد، متقدم في رسالته تقدم الزمان في عقليته، مبعوث إلى الكافة، مرسل إلى العالمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤