الإصلاح الحديث

كان الإصلاح القديم يتجه إلى النتائج فيعالجها، ويترك المقدمات غير عابئ بها، تعمل عملها، فتنتج النتائج نفسها.

وعلى هذا جرى وعظ الواعظ، وتعليم المعلم، ونصيحة الوالد، وكثرة النواهي والأوامر؛ وعلى هذا النمط أيضًا عولج الفقر بالتصدق على الفقير، وعولج الإجرام بحبس المجرم، وهكذا.

ثم رقي الإنسان فظهر أن هذا الضرب من الإصلاح على الأقل لا يكفي، فالفقير يَسأل فيُمنح ثم يسأل فيمنح، ففقره دائم وسؤاله دائم، والمرض دائم، والعلاج لم يكن شافيًا، فما دامت المقدمات هي هي فالنتيجة هي هي.

إذا كان مجموع أربعة وخمسة تسعة، ثم استقللت التسعة فمن الحق إذا أدرت زيادتها وتكثيرها أن تحافظ على مفرداتها، فغيِّر المفردات يتغير الجمع، وإلا فالتسعة تسعة على الرغم من كل محاولة.

وإذا لم تعجبك ثمرة شجرة فمن الأمل الخائب أن تنتظر في المستقبل جودتها وحلاوتها ما دمت تحافظ على أصلها وتربتها وجوها وغذائها.

•••

كل عمل من أعمال الإنسان يظنه قصير النظر نتيجة وقتية، كان يمكن أن يكون، وكان يمكن ألا يكون، وكان يمكن عكسه، فمن اليسير نهي فاعله لينتهي أو أمره ليأتمر، وهذا كل ما في الأمر.

أما بعيد النظر فيراه كثمرة الشجرة اشترك في تكوينها — على هذا النحو دون ذاك — نوْع بذرتها وغذاؤها وجوها وكل ما يحيط بها، فمحال مع كل هذا أن تكون غير ما هي، ومحال أن يصدر عن الإنسان غير ما يصدر عنه، ما دامت كل مقومات العمل هي هي.

ماذا أنا، وماذا أنت؟

ثمرة ككل ثمار الشجر، ونتيجة لكثير من المقدمات.

جزء جَمَادِيّ يخضع لكل قوانين الجماد التي يخضع لها التراب والحجر والماء، وجزء عضوي يخضع لكل قوانين النبات في مختلف البقاع، وجزء حيواني يخضع لكل قوانين الحيوان في البر والبحر وفي الأرض والسماء، وجزء إنساني يخضع لكل قوانين الإنسان في البلاد الحارة والباردة وفي جوف الصحراء وعلى ساحل البحار أو شواطئ الأنهار.

ثم يأتي بعد ذلك جزء قليل من الشخصية اسمه «أنا» واسمه «أنت» واسمه «هو»؛ وهذه الشخصية قد غُمرت وقيدت بالجزء الأكبر من طبيعة الجماد والنبات والحيوان والإنسان.

وحتى هذا الجزء القليل من الشخصية الذي سبّب الفروق بين إنسان وإنسان قد عمل في تكوينه عوامل لا تحصى، اشترك فيه الأجداد من آدم وحواء — على الأقل — إلى اليوم، واشترك فيه ما تنقَّل فيه الآباء من بيئة وإقليم، وما تدينوا من دين، وما اعتنقوا من خرافات وأوهام، وما تبدوا وما تحضروا، وما أصابهم من رخاء أو شقاء؛ هذا شأن القديم، ولا يقل عنه شأن الحديث، فنحن كالمرآة ينطبع فينا كل ما يصل إلى صفحتنا، عن طريق كل حاسة من حواسنا ومن غير حواسنا، وبشعورنا ومن غير شعورنا، ثم يتفاعل كل هذا القديم، وكل هذا الجديد، فيكون نتاجه «أنا» و«أنت» و«هو». ومن المستحيل — مع هذا التفاعل — أن يكون «أنا» غير «أنا» و«أنت» غير «أنت» لا في الخَلْق ولا في الخُلق ولا في العقل ولا في الروح؛ فما أنا وأنت إلا حاصل جمع لأعداد محدودة، أو نتيجة مزج لحرارة وبرودة؛ إن كان كذلك فكيف يكون الإصلاح؟

إذا أردتُ الإصلاح فلأعمل ما أعمله إذا أردت تغيير حاصل الجمع فأغير مفرداته، وما أعمله في تغيير درجة الحرارة فأغير حرارة العناصر، وما أعمله في تغيير الثمرة بتغيير البذرة، فإن لم أستطع فبتغيير الغذاء.

لست بمستطيع أن أغير ما فيّ من عناصر جماد أو نبات أو حيوان أو إنسان، ولست بمستطيع أن أغيّر قوانين الوراثة، فأين أنا وآبائي الأولون الذين صبُّوا فيّ من نفوسهم وطبائعهم وأرواحهم، ثم تركوني وشأني أخضع لقوانين العالم؛ ثم إني — كمصري — أحمل بجانب طبيعة آبائي أعباء كل تاريخ مصر من قديم ومتوسط وحديث، أحمل ظلم الظالمين وعدل العادلين؛ ونصرة الحروب وهزيمتها وسيطرتها على الأمم وسيطرة الأمم عليها؛ وقد رسم كل ذلك خطوطًا في جبين كل مصري لا يقرؤها إلا الله والراسخون في العلم، وما أن بمستطيع تغيير هذه الخطوط أيضًا.

ولكن بجانب دائرة غير المستطاع دائرة المستطاع، وهو ما يتجه إليه الإصلاح. أُصلحُ المدينة التي أسكنها، والكتب التي أقرؤها، والروايات التي أشاهدها، والحكومة التي تحكمني، والدين الذي أعتقده، والمدرسة التي أتعلم فيها، والمحاكم التي تحاكمني، والناحية الاقتصادية التي تحيطني، والسياسية التي تسوسني، فتنفعل كل هذه مع وراثتي، فإذا نتيجة التفاعل مختلفة، وإذا حاصل الجمع مختلف، وإذا الإصلاح قد حدث، وبغير هذا لا يكون إصلاح.

ناد ما شئت بإصلاح القرية وإصلاح الفلاح، واخطب على منابر واكتب في المجلات واملأ أعمدة الصحف، فالقرية القرية والفلاح الفلاح، ولا قيمة لهذا كله إلا أن يكون توجيهًا للعمل؛ إنما تصلح القرية ويصلح الفلاح يوم تدرس مظاهر بؤسها، وأسباب تعاستها وتعاسته، ثم يخصِّص المال للإصلاح، وتوضع ميزانية الدولة على هذا الأساس وتعالج كل معضلة بإزالة أسبابها.

ومن الغفلة أن تحاول أن تتقي الفجور بإنشاء مكتب الآداب، وتترك أسبابه وعلله كما هي، من فقر وإثارة غريزة، وميل إلى العيش الناعم، وما إلى ذلك من أسباب.

وعالج الفقر بالتصدق على الفقير فسيظل فقيرًا، وسيظل الاستجداء كما هو؛ ولكن تعرّف أسباب فقر الفقير، فإن كان بطالة فأوجد له عملًا، وإن كان عجزًا فأوجد له ملجأ، وإن كان سوء تصرف فعالج سوء التصرف بتعليمه حسن التصرف يقل الفقر وينقطع السؤال.

كم وعظ يذهب هباءً، وكم نصيحة تضيع سدى؛ لأن الواعظ أو الناصح واجه النتائج وترك المقدمات، وتعرض لحاصل الجمع أو الضرب وترك المفردات، فكان مثله كمثل من ظن أنه بوعظه وإرشاده يستطيع أن يمنع القط أن يؤذي فأرًا أو الذئب أن يمس حَملًا.

إنما منهج الإصلاح الحديث أن يسير وراء المرض يتعرف علله، ثم يجتهد أن يزيل العلل فيزول المرض.

يرى المصلح الحديث أن الجريمة أو سوء الحال لم يأت عفوًا فلا يعالج عفوًا، إنما أتى من عوامل متعددة، فما بقيت العوامل بقي الإجرام، وبقي سوء الحال؛ فإذا تغيرت الظروف والبيئة انقطع الإجرام وحسن الحال.

يتلخص الإصلاح الحديث في الإيمان بقانون السببية، وبأنه شامل للظواهر الطبيعية، فحسن الأخلاق وسوءها، والإجرام وعدمه، والغنى والفقر، وحال القرية، وحال الفلاح، والفجور والعفة، كل أولئك ينطبق عليها قانون السببية، كما ينطبق على الأجسام المادية التمدد بالحرارة والانكماش بالبرودة، ونحو ذلك من قوانين.

•••

كان النمط القديم في الإصلاح يقول: «أطعم الجائع»، والنمط الحديث يقول: «لا يكن جائع» والنمط القديم يقول: «تصدق على الفقير»، والنمط الحديث يقول: «امح الفقر»، والنمط القديم يقول: «احبس المجرم»، والحديث يقول: «اجتث عوامل الإجرام»، والقديم يقول: «أصلح الفلاح وحسِّن القرية»، والحديث يقول: «أرصد في الميزانية المال لشرب الفلاح ماءً نقيًّا، وعلمه ليطالب بحقوقه، واعدل فيما يصيبه ويصيب المالك، وشرِّع القوانين حتى يصل إليه ما يكفيه، ورقّ عقله حتى يعرف كيف ينفق ما يصل إلى يده» تحسن معيشته.

نمط الإصلاح القديم يعتمد على البلاغة والخطابة، ونمط الإصلاح الحديث يعتمد على «معامل» كمعامل الطبيعة والكيمياء، فيه تحليل للظواهر الاجتماعية حتى نعرف أسبابها، وفيه درس عميق وإحصاء دقيق، وفيه تشخيص للمرض، ووضع للمريض تحت الأشعة، وإجراء لتجارب العلاج، وتعرّف للنتائج، ثم تنفيذ للعلاج حسي ما أرشد إليه البحث والدرس والفحص.

وعلى الجملة فالنمط القديم ينظر إلى ثمرة الشجرة، والنمط الحديث إلى جذور الشجرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤