الشرقُ ينقصه الحب

يُخيَّل إليّ أن لو كان للحب مقياس يقاس به كما تقاس به درجة الحرارة، لرأينا به أن درجة الحب في الشرق منخفضة منخفضة، حتى تكاد تبلغ الصفر، وأن درجة البغض — أو على الأقل درجة الحياد — مرتفعة مرتفعة حتى تكاد تبلغ المائة.

ولست أعني حب الرجل للمرأة، ولا المرأة للرجل، ولا حب الأب لابنه ولا الابن لأبيه، فهذا حب غريزي تراه في القطط والكلاب وكل حيوان، كما تراه في الإنسان، ولا فضل للمدنية فيه إلا أنها رَقّته وهذبته وشكلته أشكالًا وألوانًا.

وإنما أعني حب الإنسان لقومه؛ فهذا القدر في الشرق أقل جدًّا من مثيله في الغرب.

لقد لفت نظري إلى هذا المعنى أني زرتُ إنجلترا مرة، فبعد أيام قليلة أحسست أن كمية الحب في الجو أكثر منها عندنا، وتجلى لي هذا في سؤال الناس بعضهم بعضًا قضاء مصالحهم، وفي معاملتهم على اختلاف أنواعها، بل وفي السؤال: أين الطريق؟

كمية من الحب كبيرة لطفت المعاملة، وأطلقت البِشْر، وملأت الجو سرورًا، والمعاملة نعومة، وجعلت عجلة الحياة تمشي سريعًا في غير ضوضاء وجلبة.

ونقصان هذه الكمية في الشرق هو أكبر سبب في أكثر ما نرى من متاعب؛ فنقصان كمية الحب هو الذي جعل طبقة الحكام في الشرق يتناحرون تناحر الأعداء، ويلعن بعضهم بعضًا، ويجرّح بعضهم بعضًا، حتى لا يكاد يسلم أحد من رمي بالخيانة والإجرام والسرقة وسوء النية وبيع البلاد للأجانب ونحو ذلك من التهم، حتى لم يبق رأس سليم، وهو الذي جعل الجهود تبذل بين تفكير في خطط الهجوم وخطط الدفاع، وضاعت بين هذا وذاك مصالح الشعب. وفي الغرب نقد عنيف أحيانًا، يبلغ درجة الاتهام أحيانًا، ولكن تُلطِّفُه كمية الحب، فيبدو في أغلب أحيانه كعتاب الأصدقاء؛ ثم لا يمنع الناقد نقده أن يقول لمن ينقده: أحسنت في مواضع إحسانه، كما يقول: أسأت في موضع إساءته. وأجمل من هذا أن تختفي هذه الاتهامات إذا جدّ الجد، وظهرت مصلحة الشعب في التعاون.

ونقصان كمية الحب هو علة ما يبدو من شكوى أصحاب الأعمال من الموظفين، فليس المرتب الذي يتقاضاه الموظف باعثًا كافيًا على إحسانه عمله وقضائه مصالح الناس على الوجه الأكمل؛ إنما المرتب يدعوه لأن يحضر في موعد الحضور ويخرج في موعد الخروج، ويؤدي من الأعمال الآلية ما يعفيه من المسئولية. أما روح العمل، والسعي في تحقيق مطالب الناس، والعمل لخيرهم، فإنما يبعث عليها كمية كبيرة من حب الناس لا تزال مفقودة عند أكثر الموظفين.

ونقصان الحب هو الذي ملأ الجو بشكوى الفلاحين من مُلاّك الأراضي، ومُلاك الأراضي من الفلاحين، فليس بينهم حب متبادل، ولا عطف مشترك، إنما هي نظرة الناهب لما ينهب والصائد لما يصيد.

وهكذا تبحث عن كل مناحي الحياة، وكل مرافق العيش، فترى العجلة تسير ولكن ببطء، وتتحرك ولكن بصخب وضوضاء؛ لأنها عدمت بلسم الحب.

إن توفر الحب انعدمت الحرب بين الطبقات؛ لأن الغنيّ يحب الفقير فيرحمه، والفقير يحب الغني فيحترمه، وطبقة الأشراف والنبلاء تؤمن بأنها تعيش في رغد من العيش بفضل يد الفلاح والعامل والصانع، ولولاهم لماتوا جوعًا، فتحبهم وتفيض عليهم من خيرها؛ وطبقة الفلاحين والعمال تجازي إحسانًا بإحسان وفضلًا بفضل؛ وهكذا يسود الجميع حب وعطف ورحمة، ومن غير هذا الحب يكون الموقف موقف انتهاز الفرص، وتربص للإيقاع، وامتلاء للصدور بالحقد والضغينة.

•••

إن ما حدث في الأمم من توارث تطالب بحقوق الإنسان، وحروب لتحقيق الإصلاح، ليست إلا مظهرًا من مظاهر الحب، وشفقة على الإنسان المعذب، والفقير البائس، والطبقة التي تشقى لحساب الطبقة التي تتقلَّب في النعيم.

وإنّ ما وصل إليه العالم من تحقيق العدل بين ذي الجاه وعديم الجاه، وبين الأبيض والأسود، وبين الفقير والغني، ليس إلا بفضل الحب ظهر في شكل قانون.

وهو لم يصل إلى غايته؛ ولم يبلغ كماله إلا لأن كمية الحب في العالم أقل مما يرجوه المصلحون وينشده المثاليون.

وإن استعداد شعوب أوروبا للحرب، وتسابقها في وسائل الفناء دليل على أن الحب في كل شعب لم يتعدّ دائرة قومه، ولم يخرج عن نطاق القومية ليشمل الجنسية.

وإن تعاون الغرب على ظلم الشرق وافتياته على شعوبه وهضمه لحقوقه، واستغلاله لمصلحته، دليل على أن حبه لا يزال ضيق الأفق، لم يستطع أن يمزق حجبه، ويتغلب على أنانيته وقوميته وجنسيته ليظفر بحب إنسانيته.

إن شئت فقل: إن كمية الحب في العالم أقل مما يلزم، وإنها بذرة صغيرة تحتاج إلى النماء، وإنها في الشرق أقل منها في الغرب.

إن نهضة الشرق للدفاع عن استقلاله مظهر من مظاهر حب القومية في قلبه، وإن تعاون أمم الشرق فيما تشترك فيه من مصالح، دليل على اتساع الحب من قومية إلى شرقية، ولكن ربكته في الحكم وصعوبة سيره في الحياة، والسباب المقذع للمصالح الشخصية، والشكوى الملحة من الطبقات بعضها من بعض، وعدم رعاية مصالح الجمهرة العظمى من الأمة كالفلاحين والعمال والصناع، وتوزيع ميزانيات الدول في مصالح الخاصة أكثر منها في مصالح العامة، دليل على أن الحب في أول عهده، وأنه في أشد الحاجة لمن يرعاه ويربيه وينميه.

لو ساد الحب لاحترمت الآراء، وأومن بحرية الفكر، ونفذت الفكرة لما فيها لا لقائلها، ولدقق المتهم عند الاتهام ورجع إلى ضميره عند التجريح، ولراعى المصلحة العامة، لا المصلحة الشخصية، ولا المصلحة الحزبية.

ولو ساد الحب لعمم التعليم، وعممت المستشفيات الشعبية، وعممت المتنزهات العامة وحورب البؤس قبل أن يشجع الترف.

مظهر الحب التعاون، ومظهر البغض الحرب. والحرب أثر من آثار الوحشية، والتعاون — في أحسن أشكاله — أرقى ما وصلت إليه الإنسانية.

قد يدعو الحبُّ إلى الحرب، كالأمة تدافع عن نفسها، والشرقِ يدافع عن استقلاله؛ ولكن لم يبعث عليه في الأصل إلا الكره من الأمم المهاجمة، ولو فشا الحب في العالم واتسع نطاقه حتى شمل الإنسانية بأجمعها لحل التعاون محل الحرب.

ومصيبة العالم الآن وقبل الآن ناشئة من أن نظمه كلها مؤسسة على الحب الضيق، والكره الواسع؛ فالوطنية ليست إلا حبًّا ضيقًا في حدود الإقليم، مغَلَّفًا بكره واسع في خارج الحدود. ومن الأسف أن ليس في الإمكان أن تدعو أمة إلى ترك وطنيتها؛ لأنك بذلك تدعوها إلى إلقاء السلاح وسط مسلحين لا يكادون يشعرون بإلقائها سلاحها حتى ينقضوا عليها.

وإنما الأمل الوحيد عند المتفائلين أن تتعلم الأمم جميعًا من دروس الحرب أن تتعاون على قلب النظم الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، ووضعها على أساس جديد هو حب الإنسانية.

ومن فجر الحضارة كان هناك مظهران متناقضان في العالم: مظهر كره يدعو إلى الحرب بين الأمم، ومظهر حب كمين يدعو إلى التعاون في الفنون والعلوم والنظم الاجتماعية. كانت المدن اليونانية تتحارب بالسلاح، وتتعاون في الفن والفلسفة؛ وكذلك كان العرب والفرس، والعرب والروم، والعرب والأسبان؛ وكذلك الشأن الآن بين الأمم الأوروبية بعضها وبعض، وبين أمم الشرق وأمم الغرب؛ فالتعاون بين هذه الأمم كلها — قديمًا وحديثًا — قدّم العلوم والفنون والفلسفة، والحروب أخرّتها. ولو ظل التعاون على أكمله ولم يعقه عائق من الحرب لبلغت العلوم والفنون أضعاف ما بلغت الآن؛ فبالتعاون حييت فلسفة اليونان، وبالحروب ماتت، ثم بالتعاون بعثت؛ وهكذا فلسفة الإسلام وفنون الإسلام. وما كان من خير مشترك في هذا العالم كنظم التعليم، والنظم الاجتماعية، والسكك الحديدية والبرية ونحو ذلك، فضرب من ضروب التعاون؛ وما كان من خراب وبؤس للشعوب وخوف على الأنفس والأموال، فمنشؤه الحرب التي دعا إليها الكره.

وبعد فما أحوج الناس جميعًا إلى الاستزادة من الحب، وما أحوج الشرق خاصة إلى الاستزادة من الحب فهو دواؤهم الوحيد الذي يتغلبون به على أمراضهم.

إن الحب إذا فشا في أمة أتت بالأعاجيب، وفعل فيها ما لا يفعل المال والعلم والفلسفة.

هو هدى بعد ضلال، وغنى بعد فقر، ونور بعد ظلام، هو معجزة المعجزات، فيبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤