الفصل الحادي عشر

نسبية الذاكرة!

(١) ما الذاكرة؟

يا أيامَ ذلك العام، اخْتَزَنَتْكِ ذاكرتي، ومن صورتِكِ انمَحَتْ رويدًا رويدًا السترةُ المهترئةُ الحائلةُ اللون، واحتَفَظَتْ به، وهو يَنْضُو عنه سترتَه المهترئةَ، ويستوي أمامي بالغَ الكمال، مثل تحفةٍ لا تشوبها شائبة.

قسطنطين كافافيس

ثمة وهمٌ متوارَثٌ، رَوَّجت له زمنًا نظرياتٌ سيكولوجيةٌ عتيقة، يقول بأن الذاكرة البشرية أشبه بشريط التسجيل الذي يسجل كلَّ ما يرِد عليه دون أن يَخْرِمَ منه شيئًا، وأن كل منبه ورد على عقل الإنسان هو مسجَّلٌ فيه بشكلٍ ما وبدرجةٍ ما. وإن تكن أغلبُ المادة المسجَّلة محفوظةً في مستوًى عميق من باطن العقل؛ وهي من ثم قابلة للاسترجاع. أما المادة المحفوظة في ظاهر العقل فهي قابلة للاستدعاء بدقةٍ ما دام الشخص يتمتع بكفايةٍ عقليةٍ تامة ونزاهةٍ تعصمه من الكذب ولَيِّ الحقائق. وأما المادة المحفوظة في أعماقٍ سحيقةٍ من باطن العقل — وبخاصة إذا كانت مؤلمةً قد نالها الكبتُ وجعلها في حصنٍ منيع — فهي قابلة للاستعادة بواسطة تقنيات سيكولوجية من قَبيل التوجيه اللفظي وحفز التخيل والتنويم … إلخ.

غير أن البحث الحديث في الذاكرة وآلياتها قد كشف لنا زيف هذه التصورات وسذاجتها، فالذاكرة في حقيقة الأمر لا تقوم بعملها كما يقوم شريط التسجيل، فنحن لا نسجل بالتفصيل كل حدث يجري في حياتنا؛ ذلك أن الدماغ يُواجَه في كل لحظة بكمٍّ هائل من اﻟ «المثيرات» stimuli الواردة أو «المُدْخَل» input البيئي يتجاوز قدرتَه التخزينية، الأمر الذي يحتم على الذاكرة أن تكون «انتقائية»، مثلما يحتم على الانتباه نفسه أن يكون انتقائيًّا يَصطفِي من المثيرات ما يعنيه ويضرب صفحًا عن بقية المثيرات، بل يصرفها عن ساحة الوعي بطريقةٍ حاسمةٍ وآلياتٍ نشطة. يتعين على الدماغ أن يقوم بعملية «ترشيح» filtration دقيقة للمثيرات الواردة حتى يتسنى له أن يعمل بالطريقة التي يعمل بها، بحيث إذا اختلت كفاءة هذا الترشيح يُصاب المرء باضطرابات دماغية ليس أقلها الفصام.١
الذاكرة إذن عملية انتقائية، وهناك أنظمة منفصلة للذاكرة القريبة والذاكرة البعيدة، بحيث لا يُعوِزنا أن نسجل كل حدث قريب تسجيلًا مستدامًا، وحتى عندما تُنقَل المادة من الذاكرة القريبة إلى الذاكرة البعيدة فإن عناصرها البارزة فقط هي ما يتم تسجيله. هكذا يتبين أن الذكريات هي في الحقيقة انطباعات إجمالية قلما تتسم بالدقة الوقائعية. تتضمن الذكريات حقًّا عناصر من إعادة البناء الخيالية وربما الإبداعية، تنطوي عادةً على شيءٍ من الاختلاق و«الأراجيف» confabulations.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن الذاكرة بطبيعتها غير دقيقة، وهناك أسباب وجيهة تجعلها غير دقيقة. إن الذكريات التي تقبع في الدماغ هي شيء «تمت معالجته» processed، ومن ثم فإن المخططات المعرفية cognitive schemata الموجودة سلفًا من شأنها أن تؤثر على التسجيل النهائي للأحداث، وبتعبير آخر يمكننا القول بأن الذكريات ليست شيئًا نقيًّا مُبَرَّأً لم تمسسه يد، بل هي نتاجُ تفاعلٍ بين الأحداث الحقيقية وبين العمليات الإدراكية للشخص، بين «الموضوع» وبين «الذات».
ثمة نوعان من الذاكرة (قد يكون لكل منهما مسلكُه النيوروبيولوجي الخاص):
  • الذاكرة الصريحة وتتضمن تسجيل المعلومات.

  • الذاكرة الضمنية وتتضمن تسجيل الخبرات.

والذكريات الضمنية ليست أكثر دقة من الذكريات الصريحة؛ فقد يتسنى لنا أحيانًا أن نتذكر بنودًا من المعلومات بدقة كبيرة، أما الذكريات الخاصة بأحداث الحياة فهي دائمًا عرضة للخطأ، كما أن الأحداث المصحوبة بانفعالٍ قوي ليست أفضل تذكرًا من الأحداث الخالية من الانفعالات. وقد دلت الدراسات الإمبيريقية على أن شهادة الشهود قد تكون محرفة بدرجة تدعو للدهشة، كذلك تثبت الدراسات أن استدعاء الأحداث التاريخية الدرامية هو أيضًا تشوهه المخططات المعرفية المسبقة.

وصفوة القول أن الذاكرة ليست تسجيلًا سطحيًّا لمثيراتٍ خام، فما يُذخَر في الذاكرة هو في الحقيقة بناءاتٌ تَمَّ تشييدُها وفقًا للمخططات المعرفية، وهي نتاجٌ ثقافي بالدرجة الأساس.

(٢) الدراسات الثقافية للذاكرة

كان بارتلت هو أول سيكولوجي تجريبي يدرس موضوع الثقافة والذاكرة بطريقة منضبطة. ذهب بارتلت إلى أن هناك مبدأَين يَحكمان تنظيمَ الذاكرة؛ الأول: هو عملية التذكر الإنشائي، يقول بارتلت بأن الثقافات هي تجمعات منظمة من الأفراد ذات عادات ومؤسسات وقيم مشتركة، تتكون لدى الأفراد عواطف قوية تجاه النشاطات المرتبطة بالمؤسسات والقيم الاجتماعية، تشكل هذه القيم وتَجَسُّدَها الثقافي الميولُ النفسية لاختيار أنواع بعينها من المعلومات لتذكرها، وتشكل المعرفة التي تم تمثلها تحت تأثير هذه العواطف القوية البِنيات التي تقوم عليها عملية التذكر، فيكون تذكر المحتوى المعرفي في المجالات الغنية بالبنيات أفضل مما هو عليه في المجالات الأقل اعتبارًا وقيمةً حيث تقل العواطف القوية، وبالتالي تشِح البِنياتُ التي ترشد عمليةَ التذكر، كمثال لهذا المبدأ يروي بارتلت قصة راعٍ يعمل لدى أحد أصحاب المزارع استطاع تذكُّر تفاصيل دقيقة خاصة بعملية شراء عدد من البقر: ثمن كل بقرة، والعلامة الخاصة بها، وملاكها السابقين.٢
افترض بارتلت أيضًا وجود نوع آخر من التذكر يكون فيه الترتيب الزمني هو المبدأ التنظيمي: «هناك نوع من التذكر هو أقرب ما يكون إلى ما يُسمى الحفظ عن ظهر قلب أو «الصم» rote memory. يُعَد الصم خاصية من خواص حياة ذهنية ذات اهتمامات قليلة نسبيًّا وجميعها عينية في طابعها إلى حد ما وليس من بينها اهتمام مسيطر.»٣ وكمثال لذلك يسرد بارتلت وقائع جلسة تحقيق لم تستطع فيه الشاهدة أن تدلي بما حدث إلا بأن تسرد كل ما مر بها من أحداث منذ قيامها من النوم في الصباح وحتى وقوع الجريمة، ويخلص بارتلت من ذلك إلى أن بعض الثقافات تشجع التذكر التتابعي المفرط والذي أطلق عليه اسم «الصم».

وقد قام س. ف. نيدل بتجارب ميدانية وسط كل من اليوروبا والنيوب في نيجيريا. وهما شعبان يختلفان اختلافًا صارخًا في نواحٍ عديدة على الرغم من أنهما يعيشان جنبًا إلى جنب وتحت نفس الظروف العامة، ولديهما أنظمة اقتصادية وتنظيمات اجتماعية متشابهة ويتحدثان لغات متقاربة. يتميز دين اليوروبا بنسق تراتبي هرمي معقد من الآلهة لكل إله فيه واجباته ووظائفه المحددة، وقد طور اليوروبا فنونًا تشكيلية واقعية ومسرحًا واقعيًّا. وعلى النقيض من ذلك كان دين النيوب يتمركز حول قوة غامضة مجردة غير شخصية، وكانت الأشكال الفنية لديهم متطورة جدًّا في الفنون الزخرفية، ولم يكن لديهم تراث مسرحي شبيه بما لدى اليوروبا.

قام نيدل بتأليف قصة يمكن استخدامها لاختبار التذكر في كلتا الجماعتَين، وقد جاءت النتائج مؤكدة لتوقعاته: فقد تذكر اليوروبا البنية المنطقية للقصة والعبارات ذات الدلالة والأحداث الحاسمة في مجرى القصة ولم يأبهوا للكليشيهات غير الدالة، بينما تذكر النيوب الكليشيهات كما هي بالضبط وأقحموا على القصة عناصر من عندهم تخلق صورة ملموسة حية لوقائع القصة.

لم يتذكر أحد من أي من الثقافتَين القصة بالضبط، على العكس من فكرة الذاكرة الخرافية للشعوب البدائية، غير أن أجدر شيء بالملاحظة في هذا المقام هو أن التجربة تتعلق بالفروق النوعية (المتوقفة على الثقافة) في الخبرة والمخططات schemata المرتبطة بها. الأمر هنا لا يتعلق ﺑ «من فاق الآخر في التذكر: اليوروبا أم النيوب؟» وإنما بأن كليهما قد تذكر بطريقة متمايزة تنسجم مع الاهتمامات التي تشغل ثقافته، وهو ما تنبأ به بارتلت.
تم النظر كذلك إلى أفكار بارتلت عن التكرار الصم من خلال المعلومات التي أتاحتها الدراسات الأنثروبولوجية كجزء من دراسته للجوانب الإدراكية لدى شعب الإياتمول (شعب يعيش في غينيا الجديدة)، وجد جريجوري باتيسون أن أهل العلم في هذا الشعب كانوا مستودعات للطواطم والأسماء المستخدمة في «أغاني الأسماء» والمستخدمة في المجادلات. وبالنظر إلى عدد «أغاني الأسماء» الموجودة لدى كل عشيرة وعدد الأسماء المستخدمة في كل أغنية، قدر جريجوري أن أهل العلم يحملون في رءوسهم عددًا يتراوح بين عشرة آلاف وعشرين ألفًا من الأسماء. قدمت هذه المادة فرصة رائعة لاختبار القدرة على الصم. قام باتيسون بتسجيل ترتيب الأسماء الذي استخدمه أهل العلم في مناسبات مختلفة. بيَّن باتيسون أن أهل العلم كانوا يغيرون ترتيب الأسماء من مناسبة إلى أخرى، وأن أحدًا لم ينتقدهم على هذا العمل على الإطلاق، وعندما كانوا يتعثرون عند نقطة ما في محاولتهم تذكُّر مجموعة معينة من الأسماء لم يكونوا يرتدون إلى بداية السلسلة كما هو متبع في التكرار الصم، ولا كانوا عندما يُسألون عن حدث ما في الماضي يسترسلون في سلسلة من الأحداث المتصلة زمنيًّا بغية الوصول إلى الحدث المقصود. يبين باتيسون بوضوح أنه على الرغم من أننا واثقون كثيرًا بأن الصم ليس العملية الرئيسية المستخدمة لدى أهل العلم من شعب الإياتمول، فإن من غير الممكن تحديد أي العمليات العقلية العليا هي التي تضطلع بالدور الرئيسي في ذلك.٤
بعد ثلاثة عقود من هذه الأعمال الرائدة قام مايكل كول وزملاؤه بسلسلة من الدراسات التي تتناول عملية التذكر لدى مزارعي الأرز من شعب الكبلي في وسط ليبيريا. وبعد عقد آخر أُجْرِيَت دراسة وسط قبيلة الفاي الليبيرية تتناول مستوى ونمط التذكر لعدد من القصص تم استخدامها على نطاق واسع في الولايات المتحدة في مجال البحوث المتعلقة بنمو الذاكرة. تكمن أهمية الدراسات المتعلقة بالذاكرة في أنها تبين أن الفروق الثقافية تعود إلى تنظيم النشاط الحياتي اليومي: حيثما تتشابه بنيات النشاط بين الجماعات تقل الفروق الثقافية في عمليات التذكر، وحيثما كان بحوزة مجتمع ما ممارسات مؤسساتية هامة لها علاقة بالتذكر لا توجد بحوزة مجتمع آخر (مثل التعليم المدرسي) يمكننا توقع اختلافات ثقافية في عمليات التذكر في صورة أشكال محددة من التذكر تتلاءم مع هذا النشاط (مثل المقدرة على تذكر قوائم من الكلمات).٥

(٣) قلم (الذاكرة الشفاهية)

إن قلمي أَمهرُ مِني.

أينشتين

ليس ثمة مِن سبيل إلى تفنيد عالم الشفاهية الأولية، وكل ما تستطيع أن تفعله هو أن تُدبِر عنه نحو عالم الكتابية.

والتر ج. أونج

كان الماضي يُخني على الحاضر والمستقبل، ولا يَسمح لشيءٍ جديدٍ أن يُولَد … اللفظةُ المَحكِيةُ لا تَدخل وحدها أبدًا، بل تَجُر معها عالمًا بأسرِه، عالمًا قديمًا لا يريد أن يزول.

ع. م.

حين اختار الإنسانُ أن يتكلم اختارَ أن يُبدِعَ نفسَه.

وحين اختار أن يَجبُل أدواتٍ يَعجِنُها بِفِكرِه ويمدها بينه وبين العالم فقد اختار أن يُضَخِّمَ دماغَه ويُفسِحَ نطاقَه ويطبعَ بَصمةَ عقلِه على الطبيعة.

وحين اختارَ أن يتخذَ قلمًا، أن يَصِلَ أطرافَه بهذه القصبةِ النحيلة، ويُطيلَ أناملَه بهذا السِّنِّ المُستَدَق؛ تضاعفت مهارتُه، وطال مَرمَى فكرِه، وبَعُدَ شوطُ طموحِه ومَنالُ عقلِه.

كان القلمُ مِفتاحَ الانعتاقِ من السجنِ الشفاهي الذي كان مرتهَنًا فيه دهورًا!

كانت الشفاهيةُ قَيدًا خَفِيًّا يُكَبِّل العقلَ والوجدانَ ويَفرض عليهما ضوابطَ صارمةً وأحكامًا مُبرَمة.

تتألف الكلماتُ في الثقافة الشفاهية (أي التي لم تَعرف الكتابةَ والتدوين) من أصوات، ومن أصوات فقط، ومن شأن ذلك أن يفرضَ ضوابطَ على أنماط التعبير، بل على أنماط التفكير؛ ذلك أن «حالة المعرفة» تعني الاحتفاظ بمادة المعرفة وإمكان استعادتها، الأمر الذي يمنح الذاكرةَ وآلياتها سطوةً كبرى في «عملية المعرفة».٦ في الثقافة الشفاهية يجد المرءُ نفسَه مدفوعًا إلى أن يصوغ تفكيرَه بطريقةٍ يمكن تَذَكُّرُها، إنْ كان له أن يظفر بمعرفةٍ على الإطلاق.

لا مندوحة للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يَصب تفكيرَه نفسَه داخل أنماطٍ حافزة للتذكر وقابلة للتكرار الشفاهي. هنالك يتعين عليه أن يَجْبُلَ مادةَ الفكر في أنماطٍ ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جملٍ متكررة أو متعارضة أو مسجوعة، أو في ثيماتٍ ثابتة، أو في أمثالٍ رنانة سهلة الترديد، وهو مدفوع بحاجته التذكرية إلى أن يلصق بالأشياء أوصافًا صارخةً فاقعًا لونُها، وأن يضفي الإيقاعَ ويتشبث به كأنما يحبس فيه الطليقَ ويعبِّئ السائب! وأن يستعين بحركات الجسم وإشارات اليد كأنه يُثَبِّتُ بها الكلمات ويسد عليها كل مَهرَب، أو كأنه يكمل بها رسمَ موقفٍ وجودي يسهم فيه الجسدُ بقسطٍ كبير.

تُهيبُ الشفاهيةُ بالمرء أن يفكر بعقل الجماعة، وأن يعتصم بالأنماط الواردة والنماذج المألوفة والصيغ الجماعية الثابتة، والنعوت الموزونة يلصقها بالحق أو بدونه! إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تُملِي تركيب العبارة وتحدد مجالَ الفكر الذي يمكن للمرء أن يروده.

ومن سمات الحفظ الشفاهي أنه يخضع للتغير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. لا يملك الراوي الشفاهي روايتَه ملكيةً تامةً أبدًا، إنه منغمسٌ في تفاعلٍ مباشر مع مستمِعٍ حي، ومن شأن توقعات المستمعين واستباقاتهم أن تعمل على تثبيت الموضوعات والصيغ. ينجرف المتحدثُ الشفاهي بعقل الجماعة ويميل لِمَيلِ الجمهور ويقول ما يريد منه الجمهورُ أن يقوله، يقول «ما يطلبه المستمعون!» إن جاز التعبير. وحين ينقطع الطلب على سلسلة من الأنساب (سلسلة المهزومين مثلًا) تميل هذه السلسلة للاختفاء أو التحوير. هكذا تسمح الثقافةُ الشفاهية للأجزاء المؤلمة من الماضي بأن تُنْسَى بسبب مقتضيات الحاضر المستمر، وهكذا تُحَتِّمُ الشفاهيةُ دائمًا شيئًا من الكذب والتحوير والتحريف بحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية ذاتها.

وبحكم طبيعة الذاكرة الشفاهية، وابتغاء العون التذكري، تلجأ الثقافةُ الشفاهية إلى المبالغة البطولية، وتضخيم الشخصيات إيجابًا وسلبًا، والتهويل والإغراب والاستقطاب الذهني، وما يقتضيه ذلك من الإفراط في المدح والقدح والحب والبغض والوُد والشنَآن؛ ذلك أن من الاقتصاد العقلي أن تسرف في الوصف كي تدخر في الجهد التذكري، وأن تحول العادي إلى غير عادي، وأن تزيد من ثقل الشخصيات وتمد من أقطارها وتُبرِز من آثارها حتى تتيح لها الدوام والبقاء، فهي على كل حال لن تبقى إلا ببقاء الذاكرة ولن تذهب إلا بذهابها.

مِن عمل الشفاهية أن تُلقِي بعقلك في عالمٍ من الهول والجلل والشخصيات البطولية، لا رغبةً في التأمل ولا ميلًا للبطولة، بل لسببٍ أبسطَ من ذلك وأكثر تواضعًا: وهو أن تصوغ الخبرةَ في شكلٍ يمكن تذكره! وبعد أن سادت الكتابةُ وظهرت الطباعة تغيرت بنيةُ العقل وقَنِعَ برؤية الأشياء بحجمها الطبيعي، واستغنى عن الشخصية الأسطورية وشكر لها خدماتها القديمة. لقد أسعفته الكتابيةُ بالذاكرة الدقيقة والتدوين الأمين، ولم يعد بحاجة إلى بطلٍ أسطوري لكي يُثَبِّتَ له المعرفةَ ويحفظَها من الفناء.٧

في المجتمعات الشفاهية لم يكن للمعرفة سِجِلٌّ إلا عقول الشيوخ وسَدَنة الماضي وحَفَظَة الحكمة، وكان على هؤلاء ترديد حكمة الماضي مِرارًا وتكرارًا حتى لا يُرخِي عليها النسيانُ سُدولَه. كان عبءُ الحفظ ثقيلًا لا يترك للذهن فُسحةً للتجديد أو مُراغَمًا للتجريب. هذا مَرَدُّ الصبغةِ المحافِظة وسطوة التقاليد وقداسة السن في البيئة الشفاهية. لقد كان الماضي يُخنِي على الحاضر والمستقبل ولا يسمح لشيءٍ جديدٍ أن يُولَد.

حين اختار الإنسانُ تدوينَ فكرِه اختار الانفصالَ عنه، وأَخْذَ مسافةٍ منه، وجَعْلَه مِن ثم موضوعًا للنقد والتمحيص؛ «ذلك أننا ما دمنا نضمر اعتقادًا حدسيًّا من غير تمثيلٍ رمزي فنحن وإياه واحد، ولا نملك نقدَه، ولكن بمجرد أن نصوغه أو ندونه في شكلٍ رمزي، هنالك يتسنى لنا أن ننظر إليه بموضوعية وأن ننقده ونتعلم منه، نتعلم حتى من رفضِه.»٨

حين اختار الإنسانُ أن يتخذ قلمًا اختار الانفصال عن الوسط الطبيعي، اختار أن يقيم في العَراء، في بَرد الموضوعية، في طقس التجاوز والنقد؛ نقد الصور السائدة من الفكر والوجود. والقلم، شأنه شأن الآلة الموسيقية وشأن كل عَتادٍ تقني، يتحول من خلال التدريب والحِذق إلى عضوٍ جديد يُضاف إلى أعضائه، يُثرِي عالمَه ويوسع نطاقَ وجودِه.

حين اختار الإنسانُ أن يتخذ قلمًا كان يؤسس لموضوعيةٍ لم تعرفها الثقافاتُ الشفاهية، وكان يُحِدُّ من تَدَخُّلِ عالم الشئون اليومية وشحناتِها الانفعالية في نشاط الفكر المجرد والتأمل الرياضي والخيال العلمي. لا يتسنى للعلم أو الفكر أن ينمو على نحوٍ مطَّرِد إلا مع توافر المصطلح الحيادي الصلب، و«القَطيعة» مع اللغة الدارجة السائلة، وتوافر حد أدنى من الانفصال عن مقتضيات الشفاهية، وعن المعاني الارتباطية للفظةِ المحكية التي لا تَدخل وَحدَها أبدًا، بل تَجُرُّ معها عالَمًا بأسرِه، عالمًا قديمًا لا يريد أن يزول.

١  قد يكون اختلالُ الترشيحِ بالطبع نتيجةً للفصام لا سببًا.
٢  Bartlett, F. C., Remembering. Cambridge: Cambridge University Press, 1932, p. 250.
٣  Ibid., p. 226.
٤  مايكل كول. علم النفس الثقافي. ص١٠٥–١٠٧.
٥  المرجع السابق، ص١١٣-١١٤.
٦  للمَزيد عن الذاكرة وآلياتها انظر كتابنا «صوت الأعماق» (دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٤م) فقرة «نسبية الذاكرة»، ص٢٧٧–٢٨٥.
٧  انظر أيضًا لمزيدٍ من الإحاطة بهذا البُعد الهام من أبعادِ الشخصيةِ الاجتماعيةِ الكتابَ القيم لوالتر ج. أونج: «الشفاهية والكتابية»، ترجمة د. حسن البنا عز الدين، مراجعة د. محمد عصفور، عالم المعرفة، عدد ١٨٢، الكويت، فبراير ١٩٩٤م.
٨  Popper, K. R., and Eccles, J. C., The Self and Its Brain, corrected second printing, Springer International, 1985, p. 108.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤