الفصل الثاني

باري ل. بيريشتاين:١ الفرق بين العلم والعلم الزائف٢

تتمثل المعرفةُ في فهم الدليل الذي يؤسس الواقعة، وليس في الاعتقاد بأنها واقعة.

شارلس ت. سبرالينج

ليس العلمُ جِرابًا من الحقائق الثابتة، بل هو طريقةٌ في توجيه الأسئلة وتقييم شتى الأجوبة الممكنة، ولكي يتلافَى تحيزاتِ الباحثين وتوقعاتهم، ويتحاشَى التأثيرات العشوائية للبيئة، يتخذ العلمُ تدابيرَ وقائيةً صارمة؛ مشاعية المناهج والنتائج، التقييم الارتيابي للحصائل، إعادة التجربة بواسطة باحثين آخرين.

وفي خلال هذا الفحص المنظَّم للعالم الطبيعي يَعمِد العلماءُ إلى تعميم ملاحظاتهم الخاصة في محاولةٍ لصياغةِ قوانينَ عامة، وإذ تستوِي لهم هذه العلاقاتُ القانونية، وهذا الحشدُ من المعطيات الوثيقة، يقومون بصياغة نظرياتٍ قابلةٍ للاختبار تفسر الوقائعَ القائمة وتتنبأ — إن أمكن — بظواهرَ جديدةٍ ما كان يمكن كشفُها لولا هذه النظريات.

العلوم النشِطةُ في تدفقٍ دائم، ليس ثمةَ حقائقُ نهائية، وكل تسليمٍ هو تسليمٌ «مبدئي» provisional قابلٌ للتغيير والتطوير مع تحسن الأدوات أو المناهج، هذا «التصحيح الذاتي» self-correction هو ما يفرق بين العلوم الحقيقية وتلك التهاويم الزائفة التي تُحفَظ في دوجما راكدة محصنة من المراجعة والتصويب في ضوء الكشوف الجديدة.
العلوم الزائفة هي مباحثُ تحاول أن تنتحل صفةَ العلوم الحقيقية ومكانتَها، وتنسخ ملامحَها الخارجيةَ وبروتوكولاتها، ولكنها تُقَصِّر كثيرًا عن معايير الممارسة والتحقيق المقبولة في الأفرع المشروعة التي تريد أن تضاهيها. العلوم الزائفة لا تقدِّر النقدَ ولا تصمد للتمحيص، ونتائجُها تناقضُ القوانينَ والمبادئَ العلميةَ الراسخة، مثل قانون التربيع العكسي inverse square law، وقوانين الديناميكا الحرارية (مثل قانون الإنتروبي)، وقانون بقاء الطاقة، وسهم الزمن (اتجاه العِلِّيَّة من الماضي إلى المستقبل)، وكشوف علم الأعصاب والسيكوفيزيولوجيا … إلخ.

(١) التكنولوجيا الزائفة

بعض العلوم الزائفة هي في الحقيقة تكنولوجيا زائفة يُرَوِّج لها وكلاءُ متجولون يضللون المستهلكين للاعتقاد بأن منتجاتهم تطبيقاتٌ سليمةٌ لِمعرفةٍ علمية،٣ يبيعون الأملَ الكاذبَ، ويُرَوِّجون للاعتقاد الساذج بأن شخصًا ما في مكانٍ ما قد اكتشفَ كيف تحصل على شيءٍ من لا شيء، ويَتَعَيَّشون من الادعاء المخدِّر القائل بأن كل القيود والحدود المادية على الإنجاز البشري هي مجرد مُواضَعاتٍ لا تنطلي إلا على مَن افتقر إلى الخيال الخِصب. تَعلو نبرتُهم وتَحتَد كلما تَعَثَّرَ البحثُ العلمي الحقيقي في الوصول إلى غايةٍ عزيزةٍ مرغوبةٍ بِشدة، ويَنعَبون نعيبَ الغراب.

(٢) أمثلة من العلم الزائف

سنضرب الآن أمثلةً من العلم الزائف المدعوم من الدولة والمدفوع بالأيديولوجية، وأمثلةً من سَقَطاتِ علماء حقيقيين وقعوا سهوًا في العلم الزائف، وأمثلةً من الباحثين المُنطَوِين غير المؤهَّلين ذوي الدعاوى المتهورة بأنهم على وشك اكتشافاتٍ لهم ستكون ثورةً في المجال.

هناك — ولا شك — منطقةٌ رمادية نرى فيها نظرياتٍ غيرَ تقليدية، وموغلةً في الطابع النظري، غير أنها ليست باطلةً بالضرورة، ويَجمُل التريُّثُ تجاهَها واعتبارُها «غيرَ مبرهَنة في الوقت الحالي»، ورغم أن معظم هذه الرؤَى الفردية يتكشَّف زيفُها في نهاية المَطاف، فإن تاريخ العلم لا يَعدَم حالاتٍ فرديةً تَبَيَّنَ لِلعلماء — بعد استهزائهم بها وتحفُّظِهم تجاهَها — أنها حق وأنها فتحٌ علمي جديد (مثل نظرية انزياح القارات continental drift، ونظرية الانفجار العظيم)،٤ إلا أننا يجب أن نذكر أيضًا أن مثل هذه الحالات هي:
  • أولًا: استثنائية ونادرة.

  • ثانيًا: كانت تحتكم إلى الدليل evidence لا إلى الحدس الشخصي الصِّرْف.
والحق أن تَرَيُّث المجتمع العلمي وارتيابه وتحفظه تجاه الدعاوي الجديدة هو أمرٌ له وجاهتُه ومبرراتُه؛ فالبَيِّنةُ على مَن ادَّعَى، والشك هو روحُ المنهج وشرطُه، وأصحابُ العلمِ الزائف مُغرَمون ﺑ «الاستنتاج الخُلْفِي» non-sequitur٥ القائل بأنه ما دام العلماءُ التقليديون قد عارضوا في الماضي بضعةً من المجَدِّدين الذين تَبَيَّنَ صوابُهم بعد ذلك، فإن هذا يتضمن — على نحوٍ ما — أن أفكارَهم الشاذةَ المتمَحَّلة هي أيضًا صحيحة،٦ وفي ذلك يعلِّق كارل ساجان ساخرًا: «نعم، لقد ضحكوا على كوبرنيقوس وضحكوا على أينشتين، ولكنهم ضحكوا أيضًا على بوزو المهرج.»

وكثيرًا ما يلجأ المفكرون الهامشيون الذين استُهزِئَ بأفكارهم إلى اتهام المؤسسة والقول بأن أفكارَهم رُفِضَت لا لِشيءٍ إلا لأن «المؤسسة العلمية» تقاوم الأفكارَ الجديدة على نحوٍ غير معقول، وبخاصة عندما تأتي من «الغرباء»، وقد أخذ باحثٌ نمسوي، هو وليم هونيج، أخذ هذه التهمةَ يومًا مأخذَ الجِد، ورغم أنه هو نفسه عالِمٌ تقليدي مرموق فقد أحس أن هذا الحشد الكبير من التأملات غير التقليدية قد تحتوي على بعض الأفكار النافعة التي يجري إغفالُها من جانب علماء التيار الرئيسي؛ لذا أسس هونيج في عام ١٩٧٨م مجلةً فريدةً اسمها «تأملات في العلم والتكنولوجيا»، وقصد بها أن تكون منبرًا للحجج والنظريات غير التقليدية التي يتعذَّر أن يمررها محررو المجلات المحكَّمة القائمة لكونِها مفرِطةً في التأمل، ومفتقرةً للبيانات الداعمة الكافية، ومناقِضةً للنظريات الراهنة المقبولة … إلخ؛ فلعل بين ركام الغُثاء ماساتٍ مغبونة، غير أنه بعد خمس سنوات من الصبر والإصغاء قرر هونيج الإقلاع عن مشروعه؛ فقد فشل في العثور على عبقريات حقيقية، وبدلًا من ذلك وجد تيارًا لا ينقطع من المهووسين وأشباه البرانويديين والناقمين، ربما تُصادف بينهم فردًا لديه فكرةٌ قد تكون مثيرةً، غير أنه عاجز عن تطويرها أو توصيلها للآخرين. أغلق هونيج مجلته وخَلَصَ إلى أن المفكر المجدِّد حقًّا سوف يجد في النهاية أذنًا صاغيةً عبر القنوات العلمية العادية.

وقد كان ظهور الإنترنت نعمةً كبرى لكل من يرغب في السباحة ضد التيار، ولم يحدث في التاريخ أن وجد الدخلاءُ مثلَ هذه الفرصة لبثِّ أفكارهم، غير أن المحبِط في هذا الأمر أن الكَمَّ نفسَه — كم التأمل النظري — جعل اكتشافَ اللآلئ بين الرَّوْث أصعبَ مما كان في أي وقتٍ مضَى.

(٢-١) العلم الزائف في البيولوجيا

الليسنكوية Lysenkoism

في زمن الاتحاد السوفيتي تحت حكم ستالين كانت أفكار تروفيم ليسنكو Trofim Lysenko الثابتُ زيفُها هي التي تتبناها الدولةُ كمبادئَ صادقةٍ لِعِلم الجينات. لقد كان ليسنكو يدعم اللاماركية؛ لأنها تلائم الأيديولوجيةَ الماركسية، وقد أدى هذا المذهبُ في البيولوجيا إلى خنق البحث الجيني ونقص الإنتاج الزراعي عقودًا من الزمن، كما أدى إلى انعدام الكوادر المدرَّبة القادرة على النهوض بالدولة في مطلع عصر التكنولوجيا الحيوية. ومن المؤسِف أن كثيرًا من أنبغ العلماء السوفيت وألمعِهم قد أُلقِيَ بهم في معسكرات الاعتقال لِتَجَرُّئهم على إبداء الشكوك في حماقات ليسنكو.

مذهب الخَلق العلمي scientific creationism

يُحاجُّ أنصارُ مذهب الخَلق العلمي بأن التأويل الحَرفي لِقصة الخَلق في سِفْر التكوين هو بديلٌ معقول لِنظرية التطور بالانتخاب الطبيعي، وأنه علمٌ مشروعٌ ينبغي تدريسُه في منهج البيولوجيا بمعاهد التعليم. ومن الحق أنه لا يوجد عالِمٌ ذو مكانةٍ في البيولوجيا أو الحفريات أو الجيولوجيا يؤيد هذه المحاولةَ الخَرقاءَ التي تَحْمِل الدينَ على أن يتنكَّرَ كَعِلم. ومن الحق أيضًا أن أغلب الحُصَفاء المسيحيين يجدون فكرةَ العالَمِ ذي الستة آلاف سنة عمرًا فكرةً مَعِيبة، وأن بعض علماء البيولوجيا هم من المسيحيين الخُلَصاء، ولكنهم لا يرون ضرورةً للصراع بين الدين والعلم في هذه الحلبة، ويتقبلون التطورَ على أنه الآليةُ التي شاءَها الخالقُ لِبَسطِ الحياة على الأرض، وقد أعلن البابا يوحنا بول الثاني أخيرًا هذا الموقفَ بوصفه الموقفَ الرسمي للكنيسة الكاثوليكية، ورغم أن معظم البيولوجيين قد لا يرون ضرورةً لافتراض فاعلٍ شخصي قَدَّرَت مشيئتُه إيجادَ قوانين الطبيعة، فليس ثمة تناقضٌ منطقي في هذا الرأي؛ لأن العلم لا يتعامل إلا مع الآليات القريبة proximal mechanisms، ولا يمكنه أن يتناول أسئلةَ العِلَّة النهائية التي هي نطاق الميتافيزيقا والدين.

يُقدِّم لنا مذهب ليسنكو ومذهب الخَلق مثالَين ساطعَين لما يمكن أن يفعله بعضُ العلماء ذوي المكانة والإنجازات، وكيف يَلوُون بما تَعَلَّموه لكي يخدم قناعاتهم الدينية والسياسية. أما العلم العنصري النازي الزائف فيقدم مثالًا مؤلِمًا للويلات والمآسي التي يمكن أن تحدث عندما تتبنى الدولةُ الهُراءَ البيولوجي وتتصرف على أساسِه، وعندما تكون للأيديولوجية اليدُ العليا فوق الشك المنهجي وفوق الدليل.

(٢-٢) العلم الزائف في الكيمياء

الماء المتعدد polywater

في ستينيات القرن الماضي صدرت تقاريرُ من مختبَرَين لِعالِمَين روسيَّين جليلَين — هما فيدياكين وديرياجين — بَدا أنها تكشف حالةً رابعةً للماء (بالإضافة إلى الحالة السائلة والغازية والمتجمدة)، وسرعان ما هَلَّلَ للاكتشاف عددٌ من العلماء المرموقين، مندفعين إلى تأكيد الكشف وآمِلين في الإفادة من هذه الظاهرة الجديدة. لقد سمحوا لآمالهم واعتقاداتهم أن تُغَشِّي على موضوعيتِهم، فكان مسلكُهم أشبهَ في الحقيقة بأصحاب العلم الزائف. وقد تَمَكَّنوا من تأييد وجود هذه المادة الجديدة، وسجلوا لها خواصَّ عديدة، إلا أن نظام «مراجعة النظراء» peer review و«تكرار التجربة» replication تَدارَكَ أخيرًا هذه البدايات الكاذبة وأخذها بالتقويم والتصويب؛ إذ اكتَشَفت التحليلاتُ الأكثرُ دقةً أن هذه المادة الجديدة كانت في حقيقة الأمر ضربًا خَفِيًّا جدًّا من التلوث لَحِقَ بأجزاءٍ من جهاز المختبَر. لقد كان الاكتشافُ الاختراقي المبدئي خطأً بريئًا وليس دجلًا أخرق، وإنْ جَرَّ وراءَهُ بُرهةً من المكابرة من جانب البعض ممن أخذتهم العِزَّةُ بالإثم.
تُقَدِّم لنا قصةُ «الماء المتعدد» مثالًا واضحًا لِعِلمٍ معتل، ومثالًا أيضًا لكيف تعمل المنظومةُ العلميةُ لِتصويب أخطائها. وربما لا يَسلَم جيلٌ من مثل هذه الاندفاعات غير الموفَّقة، ولعل قصةَ «الاندماج البارد» cold fusion هي اندفاعةُ الجيل الحالي وإسهامُه في سِجِل هذه الأخطاء.

إضافات غذائية حمقاء وعلاجات لجميع الأمراض

في حين أن فضيحة الماء المتعدد تبين لنا أنه حتَّى العلماءُ المرموقون أحيانًا ما يسلكون مسلكَ العلم الكاذب، فإن العلم الكاذب في معظمه يأتي من دخلاءَ يعتقدون أنهم قد أنجزوا كشوفًا يجرِي تجاهلُها — وربما قمعُها بلا هَوادة — من قِبَل «المؤسسة» الأنانية الضيقة الأفق، مثال ذلك أنه لا يكاد يمر عامٌ دون أن يُعلَن عن إضافةٍ جديدةٍ فريدةٍ سوف تُضاعِف كفاءةَ الوقود لآلة الاحتراق الداخلي، والقصة تصحبها في العادة ادعاءاتٌ بأن شركات البترول تضطهِد المكتشِف في محاولةٍ مستميتةٍ منها لِحمايةِ مكاسبِها المتضخمة.

وفي مجتمعٍ مفتونٍ بالنحافةِ فإن هناك دائمًا سوقًا جاهزةً للحبوب الجديدة المذهلة، والمراهم والكريمات التي تذيب الدهون (بغير حاجةٍ طبعًا إلى الرياضة والتقشف)، وكذلك الحال بالنسبة لِمنتجات التجميل التي تُزيل التجاعيد، فما تنفك تأتي وتروح أوتوماتيكيًّا. ليس ثمة دليلٌ وثيق على فاعلية هذه المنتجات؛ غير أن هذا لم يؤثر على مبيعاتها قَط، وما تزال مرائبُ السِّلَع عبر القارة تطفح بِسِقطٍ من هذه المنتجات أَلقَى به مستهلكون محبَطون.

(٢-٣) العلم الزائف في الفيزياء

أشعة إنْ N-rays

وهي من أقوى الأمثلة على علماء مرموقين يسلكون مسلكَ أصحاب العلوم الزائفة، ففي منعطف القرن العشرين، وفي أعقاب اكتشاف الألماني رونتجن لأشعة إكس، أعلن عالِمٌ فيزيائي فرنسي مرموق صاحب كشوف هامة عديدة في مجالِه — هو رينيه بلوندلو — أنه اكتشف صنفًا آخر من الأشعة أَطلَق عليه أشعة إنْ نِسبةً لجامعة نانسي التي ينتمي إليها، وقد بَيَّنَ الفيزيائي الأمريكي روبرت وود في النهاية أن «ملاحظات» بلوندلو كانت نِتاجًا لكلٍّ من التفكير الآمِل وبعض التحريفات الدقيقة التي تحدث طبيعيًّا في الإدراك البصري.

كان الدرس المستفاد من قصة أشعة إنْ هو:
  • ضرورة إعادة التجربة replication على نحوٍ مستقل (والتي تَمَّت في الحقيقة على يد مختبَراتٍ أخرى ذات مكانة ولم يُعثَر فيها على شيءٍ من قَبيل أشعة إنْ).
  • ضرورة «مَيكَنة تسجيل البيانات» وذلك لِتَجَنُّب الميل البشري لِرؤية ما نحن مُهَيَّئون لرؤيتِه.

  • ضرورة التجارب الضابطة.

  • ضرورة التحليلات الإحصائية المتقَنة.

صنوف خيالية من الطاقة fantastic energies

في مجالٍ يسمي نفسه paraphysics (ما بعد الفيزياء) ثمة مَن يُسَلِّمون حتى الآن بوجود أصنافٍ من الطاقة ما أنزل اللهُ بها من سلطانٍ؛ لكي يفسروا مثلًا خرافةَ مثلث برمودا، التي تفترض وجود «دوامات» قادرة على ابتلاع أعداد كبيرة من السفن فلا تُبقِي لها أثرًا.

والحق أنه لا توجد أدلةٌ وثيقة على أن هناك أعدادًا من السفن أو الطائرات تختفي في هذه المنطقة أكبر مما هو حادث في أي طريقِ سفرٍ مطروقٍ بنفس الدرجة ومعرَّض لنفس الأحوال الخاصة بالطقس والمَد.

ثمة ثلاثة صنوف فقط من الطاقة يعرفها العلم: الطاقة الكهرومغنطيسية وطاقة الجاذبية والطاقة النووية (القوية والضعيفة)، فإذا ما سَمِعتَ مِن أي دَعِيٍّ عن صنفٍ رابع من الطاقة فتَحَسَّس مسدسَك.

التصوف وميكانيكا الكوانتم

لقد أفرخ لنا «العصر الجديد» New Age٧ صناعةَ «بير سِلِّم»٨ رائجة أخرى، تلك التي كُرِّسَت لإثبات أن عديدًا من الكُتَّاب القدامَى في الفلسفة الشرقية كانوا مدرِكين حقًّا للبِنيةِ التحتية للعالَم، تلك البِنية التي لم يُكشَف عنها اللثامُ إلا مؤخرًا بواسطة الفيزياء الجزيئية الحديثة، وأشهر مثال لهذا الضرب من الصناعة هو كتاب «طاو الفيزياء»٩ (طريق الفيزياء) Tao of Physics ١٩٧٥م، يزعم مؤلفُ الكتاب — فريتجوف كابرا Fritjof Capra — أنه قد اكتشف تطابقاتٍ لافتةً بين هذَين التراثَين، مثل فكرة أن الفراغ شكل، وفكرة أن الواقع هو كل شيء يمكنك أن تفكر فيه، وفكرة أن الوجود هو كلٌّ لا يتجزأ.
وفي كتابه Physics and Psychics Prometheus ١٩٩٠م يصف عالِم الفيزياء فيكتور ستنجر Victor Stenger محاولات كابرا للمزاوجة بين التصوف والعلم الحديث بأنها «تَسَكُّعٌ اعتباطيٌّ خلال التراث الشرقي بُغيَةَ العثورِ على مقتطَفٍ خادعٍ هنا أو هناك يبدو شبيهًا — على نحوٍ غامض — بالفيزياء الجديدة.» وهناك ردٌّ ممتازٌ على أولئك الذين يروقهم مزجُ التصوف والفيزياء تحت الذرية يمكن أن تجده في كتاب The God Particle لمؤلفه ليون لِدرمان Leon Lederman، الحائز على جائزة نوبل.
مرةً أخرى، إذا أباح المرءُ لنفسِه أن يُؤَوِّل الاستعاراتِ الشعريةَ كيفما شاء، فلن يُعجِزَه على الإطلاق أن يَقسِرَ المعنى الذي عَناه المؤلفُ بشكلٍ واضح في هذه الفقرة المجازية أو تلك على أن يطابقَ أيَّ إشارةٍ حديثةٍ تقريبًا، وقد تَجَلَّى هذا مِرارًا وتكرارًا مع تنبؤات نوستراداموس منجم ومتنبِّئ القرن السادس عشر، إذ يشير مريدوه الجُدُد إلى تماثلاتٍ لافتةٍ بين الأوصاف التي أَودَعَها في صُوَرِهِ المونِقة وبين أحداثٍ تقع في زمنِهم، ولِسوء حظ هؤلاء الباحثين فإن نفس الفقرات التي يرونها قد تنبَّأَت بأحداثٍ في زمنهم الخاص، قد عَزاها أناسٌ في عصورٍ أقدمَ إلى أحداثٍ كبرى في أيامهم هم.١٠ ومما يَزيد الطينَ بِلَّةً أن كثيرًا من تلك الضربات الصائبة المزعومة هي من قبيل سوء الترجمة، أو هي تزييفاتٌ صريحة أُقحِمَت في الكتابات الأصلية بعد وقوع الأحداث التي يُفترَض أنها قد تنبأَت بها.
وبالنسبة للحالِمين المحدثين الذين يرون خيوطًا من ميكانيكا الكوانتم في المجلدات القديمة للتصوف الشرقي فإن التماثلات سطحيةٌ بنفس الدرجة، وقابِعةٌ في عين الناظِر، (انظر فصل «القراءة الباردة».١١ إذا شئتَ تفسيرًا لِكَيف تقرأ عقولُنا خصوصياتٍ شخصيةً في منطوقات قارئي الطالع وغيرهم حيث لا توجد إلا عمومياتٌ غامضةٌ ترتقب التأويل).

الاندماج البارد Cold Fusion (طاقة مجانية للجميع)

وهو مثالٌ آخَرُ على المنطقة الرمادية بين العلم والعلم الزائف يلحق بمثال «الماء المتعدد»، في عام ١٩٨٩م طلع عالِما كيمياء من جامعتَين مرموقتَين في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما: بونز ومارتن فليشمان، طلعا على مجتمع الفيزياء بإعلانٍ مذهل إن صحَّ سيكون إعلانًا بنهاية أزمة الطاقة إلى الأبد، فقد أعلنا (في الصحافة الشعبية أولًا وليس من خلال مجلة محكَّمة، وإن ظهرت الأبحاثُ المحكَّمة لاحقًا بالفعل) أنهما قد تَوَصَّلا إلى الاندماج النووي بجهازٍ زهيد الثمن في مختبَرٍ كيميائي عادي. كان هذا شيئًا لافتًا للغاية بالنظر إلى أن عقودًا من الجهود المتضافرة بِمُفاعِلاتٍ باهظة التكلفة لم تحقق غيرَ تقدمٍ محدود باتجاه تحقيق اندماجٍ نووي متصِل.

وهنا تتجلى مرةً أخرى أهميةُ «تكرار التجربة» replication على نحوٍ مستقل، وتتجلى آلية «التصحيح الذاتي» المُبَيَّتة في المنظومة العلمية الكلية: فقد تقاطَرَت التجاربُ المكررة من جميع أنحاء العالم تُجمِع على فشل هذا الاندماج المزعوم، وعلى أن العالِمَين الجليلَين قد أساءا تأويلَ نتائجَ ملتبِسةٍ معينة في تجاربهما المبدئية. وقد عَزا البعضُ ذلك إلى غياب الموضوعية من جراء الالتزام العاطفي الشديد بفكرة الاندماج البارد وسراب الشهرة الهائلة والثراء العريض المأمول في عقب ذلك.
إن العلماءَ بشرٌ تحدوهم الآمالُ وأطيافُ المجد فَيَزِلُّون أحيانًا في الخطأ البريء وإساءة التأويل، وبخاصة في الجبهات المضطربة للمباحث النشِطة، من هنا تأتي أهمية التكرار المستقل للتجربة replication بوصفِهِ المعيارَ الذهبي في أي مبحثٍ علمي مشروع.١٢

(٢-٤) العلم الزائف في الطب

يرتع الدجلُ ويصولُ صولتَه في المناطق التي لايزال الطب فيها عاجزًا قليلَ الحيلة؛ فَيَتَلَقَّف المريضَ في حضيض اليأس عَقِبَ تشخيصِ مرضِه الفتاك، ويغمره بوعود شفاءٍ أوسعَ كثيرًا مما يَشِي به حالُه، بوعودٍ ما كان للمريض أن يبتلعَها لو أنه كان بمعنوياته المعتادة.

من شأن عمليات الالتِئام التلقائية للجسم، ومن شأن الأثر البلاسيبي العتيد: أن يجعل أي علاجٍ زائف يبدو ناجعًا؛ لهذا السبب ينبغي علينا أن نختبر كلَّ علاج مزعوم اختبارًا جيدَ التصميمِ ونقارنه بمجموعةٍ ضابطةٍ لا تتناوله أو تتناول علاجًا وهميًّا خاملًا، وينبغي أن تكون عينةُ المرضى كبيرةَ العدد مشتركةً في نفس العَرَض، وأن تتم مقارنة أي علاج جديد من خلال تقييم «عَمًى مزدوج» double-blind evaluation: فلا المريضُ ولا المعالجُ يعلم مَن اختُصَّ عشوائيًّا بتلقِّي العلاج الناشط أو بتلقي البلاسيبو الخامل. ولا تكون دعوى النجاعة مشروعةً ما لم يثبت أن المجموعة التي تلقت العلاجَ الناشطَ قد أبدت تحسنًا أكبر مما أبدته مجموعة البلاسيبو أو مجموعة اللاعلاج بفارقٍ ذي دلالة. إن أغلب ما يُسمَّى «الطب البديل» alternative medicine لم يتم اختبارُه بهذه الطريقة (أو تمَّ اختبارُه وثبتَ فشلُه).

ربما تكون السلوَى التي يقدمها العلمُ الزائف في الحالات التي يُسلِّم فيها الطبُّ بعجزِه، ربما تكون شيئًا لا ضيرَ فيه، غير أن استنزافَ مال المُعوِزين فيما لا طائل منه، وصَرفَ الناس عن مظان العلاج الحقيقي إلى متاهات الوهم، تلك أشياءُ لا تُرضِي العقلَ والضمير. يروي باري بيرشتاين قصةَ فتاة في السادسة عشرة أَودَى الدجلُ بحياتِها، وقد كانت حالتُها مواتيةً تمامًا لِزراعةِ كبد منقذةٍ للحياة، ولكن إيمانَ والدَيها الراسخ بالطب البديل صرفَهما عن ذلك إلى التماس العلاج في عيادةٍ بالمكسيك ترتكز في علاجها على غذاء نباتي غريب مع حقنٍ شرجيةٍ متكررة من القهوة!

العلاج المِثلي homeopathy

مِن الدجالين مَن استطاع أن يأتي بصيحاتٍ جديدةٍ من الهُراء، غير أن معظم هذه الصيحات لا تعدو أن تكون تدويرًا جديدًا للعقاقير القديمة السرية التركيب والشافية من جميع الأمراض (nostrums) والتي انفضح أمرُها منذ زمان، من ذلك أن نظرية العلاج المثلي (الهوميوباثي) كانت من بين أبرز فلسفات المرض والعلاج في المرحلة قبل العلمية للطب، ورغم أن علاجاته قد أُطِيحَ بها عندما كشف البحثُ العلمي تهافتَ نظريتِه الباثولوجية، فقد بقي العلاجُ المثلي على قيد الحياة على تفاهة أساسِه المنطقي.

يوصي العلاجُ المثلي بأن تُعالَجَ الأمراضُ بواسطة القوى الفاعلة التي من شأنها أن تُفاقِم الأعراضَ، غير أنها تُعطَى في محاليلَ مخففةٍ تخفيفاتٍ قصوى يكاد لا يبقى فيها شيءٌ من المكوِّن النشِط، وهو قريبٌ من قولِك: إن بَصقةً في ميناء فانكوفر ﺑ «كندا» كفيلةٌ بأن تلوث خليجَ طوكيو!

يفترض العلاجُ المثلي أن الماء النقي يمكن أن «يتذكر» شيئًا ما قد احتواه يومًا، ويظل بالتالي يؤتِي أثرَ المادة الغائبة! ولكي يُقَطِّروا هذه «الذاكرة» ينخرط المعالجون المثليون في طقوسِ تحضيرٍ عجيبةٍ تتطلب عددًا ضخمًا ولكن دقيقًا من التخفيفات، وعددًا مُحَدَّدًا من رَجَّات الزجاجة عند كل تخفيف. هذه الشعائر الكوميدية، مقرونةً بتفسيراتهم المتمَحَّلة لِفاعلية إكسيرِهم المزعوم (مع التسليم بأنه لم يَعُد ثمة مكوناتٌ نشِطةٌ باقية) هي العلامة التحذيرية التي ينبغي أن تثير شكوكَ المستهلِك الفَطِن بأن الأمر ينطوي على علمٍ زائف.

علاجات دجلية للسرطان

يعج الطب البديل بعلاجاتٍ مريبة للسرطان والتهاب المفاصل، وتقاليع من المدعِّمات الغذائية لا يمكن أن تَثبُت لِتمحيص الخبراء، وكل ما عَرَض للبحث العلمي في هذه المجالات يقدم أمثلةً لكيف يفكر العلماء الزائفون وكيف يعملون. «الليتريل» laetrile على سبيل المثال، ذلك العلاج البديل — الأسوأ سمعةً — للسرطان، قد أثبت فشلَه في كل الدراسات الإكلينيكية المنضبطة الجيدة التصميم، وهو غيرُ مُصرَّح به في كندا والولايات المتحدة؛ إلا أن ذلك لم يُوقِف تدفق المرضى المستيئسين الذين يتقاطرون إلى عيادات الليتريل في بلدان أخرى، كذلك استمرت مبيعات الأساور النحاسية والإكسيرات الغريبة المزعومة لالتهاب المفاصل، رغم غياب السند التجريبي، ورغم انكشاف أن كثيرًا من الأشربة المضادة لالتهاب المفاصل تحتوي على مكونات سامة، كذلك الحال بالنسبة للدعاوي المبالِغة عن الفاعلية العلاجية لفيتامين ج، وفاعلية الميجافيتامين في علاج الذُّهانات، وخواص فيتامين ج المضادة للسرطان.

الكيروبراكتيك

يقع الكيروبراكتيك في منطقة رمادية، فقد يفيد في حالات معينة ولكن أساسَه المنطقي دجلٌ بحت، فتداولُ المفاصل له تاريخٌ طويل ويبدو أنه مفيدٌ علاجيًّا لعددٍ محدود من الاضطرابات العضلية الهيكلية، ولا شك أن الممارسين الذين يقصرون جهودَهم على مثل هذه الحالات يقدمون بعضَ العَون، وإنما يكمن الدجلُ في أولئك الذين يناصرون الكيروبراكتيك على أنه نظامٌ علاجي متكامل يمكن استخدامُه لجميع الأمراض، بما فيها الأمراض المُعْدِية والأورام الخبيثة ومرض السكر وأمراض المناعة … إلخ. مثل هؤلاء كثيرًا ما يتجاوزون نطاقَ قدرتِهم ويَصرِفون الناسَ عن العلاجات الطبية المُثبَتة التي يمكن أن تقدم لهم عَونًا حقيقيًّا، كما أن هناك حالات كثيرة تم تسجيلُها أوقعَ فيها هؤلاء المعالجون ضررًا خطيرًا إذ تَعَرَّضوا للفقرات التي تعاني من أمراضٍ أخرى لا يحيط بها تدريبُهم المحدود.

ومن دواعي القلق أيضًا ولوعُ كثير منهم بأجهزةٍ تشخيصيةٍ مُرِيبة ومكمِّلات غذائية مشكوك في فاعليتها، وقد أدى الموقفُ اللاعقلاني لمهنة الكيروبراكتيك ضد تحصين الأطفال وضد المضادات الحيوية (باستخدامِها السديد)، وهو الموقف الذي يقوم على رفض النظرية الجرثومية في المرض؛ أدى هذا الموقف إلى أضرارٍ حقيقية.

وإذا كانت علاجات الكيروبراكتيك في بعض الأحيان مفيدةً بالفعل، فإن فائدتَها لا تعود إلى ما تَدَّعِيه نظريتُها التي تستند إلى دعائمَ علميةٍ واهيةٍ للغاية. لقد وضع المنظومة التفسيرية للكيروبراكتيك في القرن التاسع عشر بَقَّالٌ لم يَتَلَقَّ عِلمًا أكاديميًّا، هو دانييل ديفيد بالمر Daniel David Palmer، وبقي هذا التفسير كما هو تقريبًا منذ ذلك الحين. يقوم هذا التفسير على مبدأَين رئيسيَّين: (١) أن «جميع» الأمراض تنجم عن انسداد ما يُسَمَّى ﺑ «الطاقات الحيوية» vital enengies التي يُفترَض أنها تتدفق خلال الأعصاب التي تخرج من العمود الفقري. (٢) أن هذا التدفق الحيوي (والصحة) يمكن استعادته بواسطة إعادة صَفِّ الفقرات لإزالة عنق الزجاجة.

ليست هذه النظريةُ اليوم أكثرَ معقوليةً من الفكرة العتيقة القائلة بأن الأمراض تسببها الشياطين. صحيح أن ممارساتهم قد تخفِّف بعضَ حالات آلام أسفل الظهر مثلًا، ولكنها تُحدِث ذلك لأسبابٍ لا تَمُت بِصِلةٍ للنظرية الدخيلة التي يتخذها هؤلاء لتسويغ علاجِهم.

التداوي بالأعشاب herbalism

كثيرٌ من العقاقير الأساسية في علم الصيدلة الحديث مستمَدٌ أصلًا من علاجاتٍ شعبيةٍ تقليدية: الأسبرين (من شجر الصفصاف)، الديجيتاليس (من نبتة foxglove)، المورفين (من الخشخاش)، الكينين (chinchona bark)، الكيوراري (Strychnos toxifera)، الإفيدرين (من نبتة يسميها الصينيون Ma huang) … إلخ. ومما لا شك فيه أن ثمة الكثير من الأدوية المفيدة الأخرى تنتظر مَن يستخلصها من المخزون الدوائي التقليدي الضخم، وأن عددًا من شركات الأدوية يدعم حملاتٍ لِصيادلةٍ إثنيين إلى أماكنَ مثل غابات الأمازون المَطيرة بحثًا عن علاجاتٍ تقليديةٍ فعالة.

ولكن الحاصل هو أن معظم الأعشاب التقليدية لم يتم اختبارُها جيدًا من حيث السلامة والفاعلية؛ ليظل التداوي بالأعشاب خليطًا غيرَ منفصل من العلاجات بعضُها آمِنٌ وفعال، وبعضُها بلاسيبو خامل، وبعضُها موادُّ خَطِرة. ومن الصعب في أغلب الأحيان — إن لم يكن من المستحيل — أن تحكم أيٌّ من هذه المواد ينتمي إلى أيٍّ من هذه الفئات، ومن الأخبار المبشِّرة أن محاولاتٍ قد بدأَت — وبخاصةٍ في الصين — لتطبيق المناهج العلمية الحديثة لفصل العقاقير العشبية الفعالة عن البلاسيبو، وعزل المكونات الفاعلية عن غيرها من المكونات. ولا غَروَ أن يُعَد أولئك الممارسون التقليديون حول العالم الذين يناوِئون هذه المحاولات ويتشبثون بتفسيراتِهم السحرية السافرة عن تأثيرات مستحضراتهم، لا غَرْوَ أن تُعَدَّ ممارساتُهم عند ذوي النزعة العلمية دَجلنةً أو علمًا زائفًا على أفضل تقدير.

كذلك يجب أن تُعَدَّ علمًا زائفًا كلُّ العلاجات التقليدية المجبولة من قرون الخرتيت وقضيب النمر والحوصلة الصفراوية للدب، وغير ذلك من أعضاء الأنواع الحية النفيسة المعرَّضة بذلك لخطرِ الانقراض. وكل هذه العلاجات الفاشلة لا تستند إلا إلى مبادئَ سحريةٍ مشعوذة، إلى الاعتقاد العتيق القائل بأن الشبيه يُحدِث الشبيه like begets like (فإذا كانت هذه أجزاءً قوية رمزيًّا من وحوشٍ قوية فلا بد أن تنقِل حيويةَ الوحوشِ وعرامتَها إلى من يتعاطاها من الناس!)

تأثير الحالة النفسية على المرض الجسمي

وفي المناطق الرمادية أيضًا تقع الفكرةُ المثيرةُ لكثيرٍ من الجدل، القائلة بأن العوامل السيكولوجية تسهم إسهامًا كبيرًا في ابتداء الأمراض الجسمية وهَدأتِها، ومن الواضح أن بعضَ هذه الدعاوى أكثرُ خلافيةً من بعض، فاتجاهاتُ الناسِ يمكن بغير شك أن تدفعهم إلى أن يسلكوا بطرائقَ مفيدةٍ أو مدمِّرة للصحة. ومن الثابت أيضًا أن الضغوطَ النفسيةَ بشتى أنواعِها قد تُعِيق وظيفةَ الجهاز المناعي على سبيل المثال، الأمر الذي يَزِيد القابليةَ للعدوى ويخفض التيقظَ ضد خلايا سرطانيةٍ معينة، ومن شأن الحالات النفسية كذلك — من خلال استدامة النشاط الزائد للجهاز العصبي الأوتونومي — أن تسهم في إحداث مشكلات عديدة ذات صلة بالضغوط، مثل قروح المعدة١٣ وبعض أمراض القلب والأوعية الدموية.
غير أن النسبة الإحصائية للمرض الجسمي التي يمكن أن تُعزَى إلى عوامل سيكولوجية ليست بالحجم الذي يعتقده معالجو «العصر الجديد» New Age وأصحاب العلم الزائف، فكثير من الأبحاث في هذا الشأن تعاني من عيوبٍ ميثودولوجية. وتُجمِع أوثقُ التقديرات على أن المتغيرات السيكولوجية تتسبب في حدوث ٢٪-٣٪ على الأكثر من الأمراض الجسمية.

تُفضِي هذه المحاولات إلى تشجيع الناس على تحسين أسلوب حياتهم وتَحَمُّل قدرٍ أكبرَ من المسئولية عن صحتها الجسمية الخاصة، غير أن الجانب السلبي في ذلك أنها أَدَّت إلى عودة الاعتقاد الخرافي القائل بأن الناس تمرض «لأنها تستحق ذلك»، وبحسب أجندة «العصر الجديد» يمثل هذا شطرًا من رغبةٍ شديدة في استعادة بُعدٍ أخلاقي في تشغيلات العالَم الطبيعي. يشير معالجو «الطب البديل» إلى أن الأمراض يمكن شفاؤها بالضحك أو الصلاة أو معايشة الأفكار السارة أو ممارسة الخيال الذهني، إلا أن العواقبَ غيرَ المقصودة لهذا الاتجاه هي أنه عندما تفشل هذه الطرائق في وقف مسار العِلل الخطيرة يميل المرضى — على الأرجح — إلى تأنيبِ أنفسِهم على نحوٍ غيرِ مُنصِف على الإطلاق، ويفترضون مُسايِرين في ذلك فكرة «العصر الجديد» عن القُوَى الأخلاقية الضابطة للعالَم الطبيعي؛ يفترضون أن تقصيرَهم الأخلاقي كان مسئولًا بالتأكيد عن حدوث مرضِهم بل عن عدم شفائهم منه أيضًا، ذلك حقًّا لونٌ من إضافة الإهانة إلى الأذى.

(٢-٥) العلم الزائف في السيكولوجيا

التنجيم astrology

ما زال عددٌ مذهِل من الأفراد المتعلمين تعليمًا جيدًا لا يرون بأسًا في استخدام النظريات السحرية في السلوك التي تشكل سيكولوجيا العالم القديم لكي يفسروا السلوك الإنساني هنا والآن. إن التنجيم علمٌ زائفٌ رائجٌ رواجًا هائلًا، ويدَّعِي دعاوى عريضة، وقد خضع لاختبارات تجريبية عنيفة وثبتَ فشلُه وانعدام جدواه، ورغم ذلك فقد بقي التنجيمُ في أذهان الكثير من المتعلمين طريقةً مقبولةً لتفسير شخصياتنا ونوازعنا.

علم الخطوط graphology

علم ذو قرابةٍ وثيقة بالتنجيم، يدَّعِي أن شخصيتنا وقدراتنا ومستوانا الأخلاقي يمكن تُبَيُّنُها من هيئة خط يدِنا، وهو أيضًا قد خضع للبحث وانفضح زَيفُه تمامًا، غير أن هذا لم يَزَع الكثيرَ من رجال الأعمال والوكلاء الحكوميين الذين لا يزالون يستعينون بمُحلِّلي الخطوط في اتخاذ قرارات تتعلق باختيار العاملين. وقد سقطت قلةٌ من المؤسسات الشرطية والمحاكم ضحيةً لهذه المنظومة الزائفة في قراءة الشخصية. إنهم يزعمون قدرتهم على كشف الخيانة الخبيئة والانحراف الجنسي وإدمان العقاقير والفسق السلوكي … إلخ، من خلال نظرةٍ إلى أسلوب الشخص في الكتابة بخط اليد. ليس يخفَى احتمالُ إضرارِ هؤلاء بسمعة الناس وبتقدم المهن والأعمال، وقد بلغ توقحُ إحدى شركات تحليل الخطوط إلى حد تقديم فصول دراسية للمعالجين تدربهم على كيفية كشف الذكريات المكبوتة عن الإيذاء الجنسي في الطفولة، وذلك من خلال فروقٍ طفيفة في خطوط الضحايا المفترَضين. إن التشهير بأناسٍ أبرياء وبقدراتهم ومكانتهم الأخلاقية بالاستناد إلى هذا العلم الزائف (ذلك التشهير الذي ربما لا يدري ضحيتُه أن خط يده قد عُرِضَ على مُحَلِّل خطوط)، مثل هذا التشهير لا يفترق عن إصدار الأحكام على اجتهاد الشخص وأمانته ولياقته لوظيفةٍ ما بالاستناد إلى لون بشرته أو بنسبة الجينات اليهودية فيه!

شرائط العون الذاتي تحت-الشعورية

يزعم مروجو هذه الشرائط السمعية أنها تحتوي على إيحاءات علاجية شديدة الخفوت بحيث لا تُسمع داخل الخلفية الموسيقية أو أصوات الغابة … إلخ، ورغم أن هذه الشرائط غير مسموعة فإنهم يزعمون أنها تَنفُذ مباشرةً إلى تحت الشعور حيث تؤتي أثرًا لا يقاوَم. تزعم إعلانات هذه الشرائط أنها تفعل كل شيء بداية من الاسترخاء وتقوية الذاكرة ورفع الكفاءة الاجتماعية إلى هدأة السرطان وأورام الثدي، ورغم أنها خضعت لأبحاثٍ علمية وثبت بطلانُها لدى عديد من علماء النفس المرموقين١٤ الذين أعلنوا زيفها ولا جدواها، فقد بقيت هذه الصناعة مزدهرةً ورائجة!

تقاليع السيكولوجيا الشعبية، خلق ذاكرة كاذبة، الباراسيكولوجيا

من بين هذه التقاليع «البرمجة العصبية اللغوية» Neurolinguistic Programming (NLP)،١٥ و«إعادة الولادة» Re-birthing، و«الصرخة الأولية» Primal Scream، وتشترك جميعًا في أنها لم تقدم أي أساس منطقي أو دليل مقبول علميًّا يدعم مزاعمَها العلاجية.
ولكي تكتسب هذه المجالات مصداقيةً علميةً فهي تَلِجُّ في ادعاء مشاركتها في قطاعات مشروعة من أبحاث الدماغ. هكذا جعل جمعٌ غفير من «مُوالِفي الدماغ» brain-tuners يداهمون السوق مقدِّمين كل أشكال المنافع من خلال ما يزعمون أنه إعادة تدريب موجات الدماغ. ومرةً ثانية تتقاطر الدراساتُ العلمية المكذِّبة لهذه الدعاوى الزائفة. أما صناعة الغذاء الصحي ووكلاء العصر الجديد فقد أمطروا السوق ﺑ «كوكتيلات ذكية» يزعمون أنها تحسن أداء المخ بِمَد الجسم بالأحماض الأمينية التي يستخدمها الدماغ في تصنيع شتى الموصلات العصبية، ولا عجب أن برامج المبيعات قد سبقت الأبحاثَ العلميةَ المحقِّقةَ التي كَذَّبَت — كالعادة — كلَّ هذه المزاعم.
و«العلاج بفض حساسية حركة العين» eye-movement desensitization تقليعة أخرى هذه الأيام بين الاستشاريين النفسيين السذج، تقليعة تدَّعي أن الأعراض العقلية الخطيرة يمكن شفاؤها ببساطة بأن يُطلَب من العملاء تتبع أصابع المعالج وهي تَتَهادَى في طرف مجالهم البصري، وهو أيضًا شأنه شأن موالِفي الدماغ، يزعم أنه يقطع الأنماط المختلة من النشاط العصبي محققًا معجزاتٍ شفائيةً حيث قد فشلت العلاجات التقليدية. يستند رواج هذه التقاليع السيكولوجية الشعبية جميعًا إلى الشهادات الفردية testimonials، لا إلى أية بيانات صلبة مستمدة من أبحاث علمية ذات مجموعات بلاسيبية ضابطة.

خلق ذاكرةٍ زائفة

وهو مثالٌ من السيكولوجيا الزائفة أشد ضررًا من غيره، يرفض تحذيرات البحوث العلمية ويستخدم ما يُسمَّى تقنيات «تعزيز الذاكرة» memory enhancement، ففي فورة الحماس لمواجهة مشكلة الإيذاء الجنسي في مرحلة الطفولة، وهي مشكلة حقيقية ومنتشرة، يعمد كثير من المعالجين إلى اتخاذ طرائق خطرة يزعمون أنها توقِظ في الراشد ذكريات إيذاءٍ جنسي طالَ كبتُها، غير أن أبحاث الذاكرة قد أظهرت أن مثل هذه التقنيات في سبر الذاكرة يمكنها أن تخلق ذكريات زائفة شديدة الوضوح مثلما يمكنها أن تستعيد ذكريات دقيقة لصدمةٍ حقيقية.١٦ مثل هذه الذكريات الموهومة الزائفة قد تُفضي إلى عواقب مأساوية: فهي تُلحِق الضررَ والتشهير بأبرياء، وتظلم الحالات الصادقة في نفس الوقت وتغمطها حقها القانوني والعلاجي؛ إذ تُلقِي بجميع الحالات في غيابات الشك والريبة.

مثل ذلك يحدث أيضًا مع الذين يتذكرون أنهم اختُطِفوا بواسطة كائنات فضائية آذتهم وانتهكتهم قبل أن تطلق سراحهم، ومثل هذه الطرائق الزائفة قد شاركت في ذيوع الأفكار الموهومة عن الأطباق الطائرة والكائنات الفضائية … إلخ.

الباراسيكولوجيا

يلحق بذلك أيضًا كثيرٌ من دعاوى ما يُسمَّى بالباراسيكولوجيا، وهو المبحث الموكل بالظواهر الخفية من قبيل «التخاطر» و«التحريك عن بُعد» و«الجَلاء البصري» … إلخ، مما يخرق القوانين السيكولوجية والنيوروبيولوجية الراسخة، ورغم التاريخ الطويل لهذا المبحث من الخداع الذاتي والكشوف غير القابلة للتكرار والغش والدجل؛ فمن الإنصاف أن نعترف أن جهودًا بحثية صادقة من علماءَ أكفاء تجري حثيثًا لتَعَقُّب هذه الظواهر الخارقة للعادة. وما دام هؤلاء العلماء يستخدمون المنهج العلمي القويم والتجارب المنضبطة والإجراءات الإحصائية الصحيحة ويسمحون للنقاد بتمحيص كشوفهم ومختبراتهم؛ فمن الحَيف أن نتعجل بوصفهم بالدجل والعلم الزائف. على أن الأغلبية الساحقة من علماء النفس ما زالوا يرون أن الدليل في كشوف الباراسيكولوجيا ضئيلٌ شحيح لا يحيد كثيرًا عن حيودات الصدفة، والأرجح أن يعود إلى ظواهر صُنعِية artifacts غير ظاهرة، لا إلى ظواهر حقيقية فائقة للطبيعة.

ظواهر صادقة تفسيرها خُرافي

ثمة ظواهر صادقة بحد ذاتها، غير أن تفسيرها الشائع خرافي غير علمي، والعلماء يقبلون الإفادات الأمينة لأصحاب هذه الخبرات الذاتية، ولكنهم يرفضون فكرة وجود أي شيء خارق للطبيعة في مثل هذه الخبرات. يروج بين العامة هذا التفسير الخرافي لسببَين:
  • أولًا: أنهم لا يدركون أن هناك تفسيرات علمية قويمة لهذه الظواهر تغنينا عن اللجوء إلى الخرافة.

  • ثانيًا: أنهم لا يريدون أن يبذلوا جهدًا ويبحثوا عن هذه التفسيرات العلمية من مصادرها الصحيحة.

تندرج تحت هذه الفئة خبرات الاقتراب من الموت ومعاينته (وربما العودة من البرزخ)، وخبرات مفارقة الجسد، والمشي في النار (وهي ظاهرة يمكن تفسيرها بمبادئ فيزيائية معروفة جيدًا).

رؤية العالَم التي تجمع كل هؤلاء

ربما يكون القاسِمُ المشترك بين هؤلاء — في المقام الأول — هو موقفهم من دور «الدليل» evidence — ليس فقط ماذا عساه أن يشكِّل دليلًا معقولًا على اعتقاداتٍ معينة، بل ما إذا كان الدليل الموضوعي — من الأصل ومن الأساس — أمرًا ضروريًّا لإثبات اعتقاداتِ المرءِ وتدعيمِها.
في مقالِه عام ١٩٨١م في دورية Skeptical Inquirer يُحاج بروفيسور ماريو بَنج Mario Bunge بأن ما يميز المسعَى العلمي عن العلم الزائف ليس موضوع البحث بحد ذاتِه، بل بموقف المبحث من مسألة «الدليل»، وعليه فبدلًا من أن نقسِّم المجالات المعرفية إلى علومٍ مقابل علومٍ زائفة يقترح بَنج أن نقسمها إلى ما أسماه «حقول الاعتقاد» belief fields و«حقول البحث» research fields: في «حقول الاعتقاد» يُدرِج الأديان والأيديولوجيات السياسية والعلوم الزائفة والتكنولوجيا الزائفة، وكذلك أي منظومة صوفية ترى أن الاستنارةَ يمكن تحصيلُها من الحقيقةِ الموحَى بها وليس بالعَناء البحثي. أما «حقول البحث» فيمكن أن تشمل مباحثَ لا يُنظَر إليها عادةً كمباحثَ علمية، ما دام ممارسوها ملتزمين بجَمع بياناتٍ موضوعيةٍ تؤيد مواقفَهم، ووفقًا لهذا المعيار فإن الكثير من العمل في الإنسانيات — على سبيل المثال — سيكون له أن يُدرَج في حقول البحث. وغنِي عن القول أن العلوم الأساسية والعلوم الصورية (الرياضيات، المنطق، السيمانطيقا … إلخ) والعلوم الاجتماعية والسلوكية والعلوم التطبيقية، هي ضمن حقول البحث وفقًا لهذا التعريف.

الصفة الأساسية لحقول الاعتقاد عند أنصارها هي أن الدليل شأنٌ شخصي وذاتي، أي إنهم يَدْعُون إلى استخدام معايير عاطفية للتمييز بين الحق والباطل. تذهب حقول الاعتقاد إلى أن المشاعر والحدوس الشخصية هي أسسٌ مقبولةٌ لليقين، أو على حد تعبير كُتّاب «العصر الجديد»: «أنت تخلق واقعَك الخاص.» من المألوف بين هؤلاء أن تنكر وجودَ واقع خارجي مشترك، وأن تستهجن أقل انخراطٍ في البحث الموضوعي الهادئ، وعليه فإن حدوس أي فرد عن الواقع مساويةٌ في صوابها لحدوس أي شخص آخر، وليس للعلم أن يَدَّعِي أيَّ مصداقيةٍ خاصة. و«الحقيقة» عند هؤلاء النسبويين المتطرفين هي مجرد انعكاس لعلاقاتِ القوى القائمة في المجتمع عند أي لحظةٍ معطاة. مثل هذا المنظور يدفع المرءَ دفعًا إلى أن يتساءل كيف يتسنَّى لِمَن يتبنى هذا الموقفَ أن يُثبِت أن أيًّا من أفعال شخصٍ مثل هتلر كان خطأً أخلاقيًّا!

وعلى خِلاف ذلك فإن الدليل في حقول البحث «بينشخصي» interpersonal، أي إنه قابل للمقارنة من جانب المختصِمين وفقًا لِمعاييرَ مفتوحةٍ وموضوعية. يُقال أحيانًا: إن «الموضوعية» objectivity لا تَعدُو أن تكون «البينذاتية» intersubjectivity، أي إن الإجماع «الموضوعي» يتحصَّل بمقارنة إدراكات أفرادٍ عديدين أحدها بالآخر ومضاهاتها بمعايير خارجية متفق عليها. إن الفرضيات في حقول البحث تُقْبَل أو تُرفَض على أساس الدليل الذي بِوُسع أي ملاحظٍ قديرٍ أن يُمَحِّصَه بأن يُعيد نفسَ الإجراءات المعلَنة التي اتُّبِعَت لكي تُنتِجَه في المقام الأول، فالظواهر المفترَض وجودها يجب أن تكون قابلةً للتكرار تحت ظروفٍ منضبطةٍ إذا كان لها أن تُصَدَّق. في هذه الساحة فإن أي فرضية يمكن أن تحظَى بالقبول ما دامت قابلةً للاختبار وما دام ثمة دليل يدعمها، وإن الأفكار التقليدية الراهنة مفتوحة للشك والمراجعة إذا كان ثمة معطياتٌ جديدةٌ وأكثرُ قبولًا تؤيد التحسينات.

يُغرَم خصومُ العلم بِذِكر بعض الأمثلة المؤسفة لِمواقف «الحرس القديم» من العلماء الذين ظلوا متشبثين بنظرياتٍ قديمة أَمَدًا أطولَ مما يجب بالنظر إلى الأدلة الجديدة المتاحة التي تُقَوِّض تلك النظريات، وهم بالطبع غير مُولَعِين بنفس الدرجة بِذِكر الأمثلة الكثيرة الأخرى لفروعٍ علميةٍ كاملة غَيَّرَت قناعاتِها بسرعة مشهودة عندما وُوجِهَت بنتائجَ جديدةٍ ثورية، مثل: قبول الفيزيائيين لميكانيكا الكوانتم، أو مثل المراجعة السريعة للتصور الطبي لقروح المعدة بعد اكتشاف باري مارشال أنها بسبب بكتريا هِليِكوباكتر بايلوري. ونحن هنا نتحدث عن المعايير المثالية للسلوك العلمي، تلك المعايير التي تميز العلمَ عن باقي مجالات الخطاب البشري.

هذه المعايير المثالية بالطبع ليست مستوفاةً في جميع الحالات؛ لأن العلم يمارسه بشر. العلماءُ بشر، فَهُم عُرضةٌ للتقصير في اتباع معايير السلوك العلمي ومنهجه، شأنهم في ذلك شأن أصحاب كل مهنة أخرى كالأطباء والمحامين والمعلمين والصحفيين … إلخ، لكن طرائقَ البحث العلمي ومعاييرَ السلوك العلمي كفيلةٌ بأن تَرُد كلَّ انحرافٍ إلى الجادة: نظام مراجعة النظراء، المجموعات الضابطة والعمى المزدوج … إلخ. وُضِعَت هذه النظم لكي تمنعَ ما هُيِّئَت له عقولُنا وأنظمتُنا من مزالقَ، وتُعوِّضَ ما هو مُبَيَّتٌ فيها من قصور. تتحلى المنظومة العلمية بخاصة «التصحيح الذاتي» self-correction، وهي أقرب الأنشطة الاجتماعية للوضع المثالي للديمقراطية: السوق المفتوحة للأفكار.

(٣) أمارات العلم الزائف

(٣-١) أمارات حقول العلم الزائف

للعلم الزائف أماراتٌ عديدة، ولا يلزم أن تلتصق جميعًا بحقلٍ ما أو بأحد ممارسيه لكي نسميه علمًا زائفًا، بل يكفي أن يلتصق به عددٌ معقولٌ منها لكي يُوقِعَ الشك بأنه علمٌ زائف. يزداد هذا الشك أو يقل وفقًا لمقدارِ هذه الوصمات، ولكن ليس ثمة حدٌّ صارمٌ ينتهي عنده العلمُ الأصيلُ ويبدأ العلمُ الزائف. ومِن الحق أيضًا أن بعض حقول البحث تبدأ كعلومٍ زائفةٍ ثم تُحَسِّن وضعَها بتحسين معاييرها وإجراءاتها، فتحظَى تدريجيًّا بالاعتبار وتتحول إلى علمٍ أصيل؛ من ذلك أن الخيمياء alchemy تطورت إلى الكيمياء الحديثة، والأُستيوباثيا osteopathy (المعالجة بتقويم العظام) جددت نفسَها شيئًا فشيئًا حتى اندمجت في الطب العلمي.

وكما قلنا من قبل: قد يَزِل العالِمُ أحيانًا ويَحِيد عن الجادة العلمية، ومن العدل كشفُه وتقويمُه، ولكن ما دام الحقلُ الكلي، المنظومة، المؤسسة، ماضيةً على الصراط العلمي تصحح الأخطاءَ وتُراجِع الدعاوى، فليس من الإنصاف وَصمُها بالعلم الزائف الذي تكون فيه هذه الانحرافات هي الأصل وهي المعيار.

(٣-٢) الانعزال

من مظاهر القوة في العلم أن أفرعَه العديدة مترابطة فيما بينها يدعمُ أحدُها الآخر، وهي إن لم تتساند ويخصِّب أحدُها الآخر فهي على الأقل لا تتناقض فيما بينها. أما العلومُ الزائفة فالأمرُ فيها غيرُ ذلك؛ فهي عادةً منعزلةٌ عن التيار الرئيسي للبحث ومنظماتِه، وعن العاملين في الحقول الأكاديمية ذات الصلة، وبسبب هذا القصور في الحوار تميل العلوم الزائفة إلى اقتناء عددٍ كبيرٍ من المصطلحات والتعريفات الشاذة، وتكثر فيها التعبيراتُ والتقنيات غير المألوفة، وقلما يشارك أصحاب العلوم الزائفة في الرابطات العلمية المعنية بالموضوعات ذات الاهتمام المشترك. والحق أن كثيرًا منهم مناوئ على نحوٍ سافر للتاريخ البحثي السابق في المجالات التي تتصل بمجالهم اتصالًا وثيقًا. إنهم لا يقفون على أكتاف العمالقة — كما فعل نيوتن فيما يقول — بل يفَضِّلون أن يقفوا في وجهِهم.

ونتيجةً لهذا الانعزال يبدو أصحابُ العلم الزائف عندما يجادلون نقادَهم جاهلين جهلًا عجيبًا بالمفاهيم الأساسية لمجالِهم، تلك المفاهيم التي ينبغي أن يكونوا مُلِمِّين بها، وأن تكون عونًا لهم في البحث، وهم قلما يستخدمون المعرفةَ الراسخة من المباحث العلمية المعترف بها استخدامًا ملائمًا، وإذا احتكموا إليها فغالبًا ما يكونون انتقائيين أو عتيقي الزي ومنقطعي الصلة بالجديد في هذه المباحث.

ونادرًا ما يُسَلِّم أصحابُ العلمِ الزائف نتائجَهم وعملَهم النظري إلى مجلاتٍ أكاديمية محكَّمة، والأرجحُ أن يظهر عملُهم في الصحافة العامة أو في مجلاتٍ مملوكةٍ لهم وتابعةٍ لمنظماتِهم ذاتِها، أو لدى ناشرين مأجورين. ومن أمارات العلمِ الزائف أيضًا أن الكتب الدراسية التي يستخدمها ممارسوه، والكتب الشعبية في الموضوع التي كُتِبَت لعامة الناس، هي غالبًا نفس الشيء، وهذه الأمارةُ تجدها بصفةٍ خاصة في علم الخطوط.

ومن العلوم الزائفة ما يناقض المعلومات الراسخة في مجالٍ ما من العلم التقليدي، فتكون أحكامُه غيرَ متسقةٍ مع النظريات والملاحظات الثابتة أو مع المنطق، ومنها ما يتجاوز ذلك ويمضي في طريقٍ معاكسٍ للمبادئ الأساسية التي تتبطن الإطار العلمي الكلي؛ فكثيرٌ من العلوم الزائفة تتطلب افتراضاتٍ تتحدى الحس المشترك وخبرةَ الحياة اليومية، أي إنها مضادة لما أسماه الفيلسوف C. D. Broad  «المبادئ الضابطة الأساسية» Basic Limiting Principles، مثل:
  • العِلِّيَّة تتجه من الماضي إلى المستقبل (سهم الزمن)؛ ومن ثم فلا يمكن لحدثٍ ما أن تكون له معلولاتٌ سابقةٌ على حدوثِه.

  • لا يمكن لأي حدثٍ تم في تاريخٍ معين أن يسهم في تسبيبِ حدثٍ يبدأ في تاريخ لاحق ما لم تكن الفترةُ بين التاريخَين مشغولةً بالطريقة التالية: لا بد أن يبدأ الحدث عمليةً (أو تغيرًا بنيويًّا) يستمر خلال هذه الفترة الفاصلة ويسهم في بدء الحدث اللاحق.

  • لا يمكن لأي حدث يحدث في مكان وزمان معينَين أن يُحدِثَ معلولًا في مكان بعيد ما لم تكن الفترةُ الفاصلة بين الحدثَين مشغولةً بسلسلة عِلِّية من الأحداث تحدث متتاليةً ومستمرة بين الزمنَين والمكانَين.

  • لا يمكن لحدثٍ عقلي أن يُنتِجَ أي تغيير في العالم المادي على نحوٍ مباشر إلا تغييرات معينة في دماغ الشخص نفسِه، أي دون تَوَسُّط جهدٍ عضلي.

  • العقل يعتمد على الدماغ، أي إن الدماغ السليم الناشط شرطٌ ضروري لأي حدثٍ ذهني.

  • لا يمكن لشخصٍ أن يدرك حدثًا أو شيئًا فيزيقيًّا إلا بواسطة الإحساسات التي يُنتِجها الحدثُ أو الشيءُ في دماغِه؛ فلا بد أن توجد سلسلة عِلية فيزيقية من الأحداث تَصِل الحدث/الشيء بأعضاء الحِس والمسار الحِسي والمنطقة الدماغية المستقبِلة.

  • لا يمكن لشخص أ أن يَعرف خبرات شخص آخر ب إلا بسماع أو قراءة إفادات ب أو بتأويل إيماءاته وتعبيراته … إلخ، أو بالاستدلال من أدلة مادية تركها ب.

  • لا يمكن لشخص أن يتكهن بما سوف يحدث إلا مصادفةً، أو بالامتداد الاستقرائي من اطِّراداتٍ سابقة.

  • لا يمكن لشخصٍ أن يعرف الأحداثَ التي مضت، ما لم يكن قد خَبَرَها في ذلك الوقت وفي جسمه الحالي وتركت أثرًا فيزيقيًّا باقيًا (ذكرى) في دماغه، أو أُخبِر عنها ممن خَبَرَها، أو استدل عليها استدلالًا.

(٣-٣) عدم القابلية للتكذيب non-falsifiability

مثلما بَيَّنَ كارل بوبر، كل تفسير لا يشير إلى مجموعة من البيانات التي يمكن أن تفنِّده هو ليس تفسيرًا على الإطلاق، ومهما تراكمت الأمثلة التي تؤيد تفسيرًا نظريًّا ما فإنها لا تعدو أن تُقوِّي تَوَقُّعَنا الذاتي بأن النظرية صحيحة، في حين يكفي مثالٌ مفنِّدٌ واحد لأن يقوِّض المشروع كله، ويُسقِطَه بالضربة القاضية، ويقضِي عليه قضاءً مُبرَمًا.

كثير من نظريات العلم الزائف هي غير قابلة للتكذيب من حيث المبدأ؛ لأنها لم تُصَغ بطريقةٍ تجعلها قابلةً للاختبار، أو لأنها مصوغةٌ بطريقةٍ بلغت من الغموض مبلَغًا يجعلها قابلةً دائمًا للسمكرة الاحتيالية ad hoc tinkering كلما بزغ دليلٌ مكَذِّبٌ لها، مثال ذلك — فيما ذكره بوبر — أن السيكولوجيا الفرويدية تقول بأن كل الذكور يعانون من «عقدة أوديب»، وعندما لا يكون ثمة دليل على وجود هذا الإثم تجاه والد المرء فإن النظرية تفسر ذلك بأنه قد تم كبت هذا الدافع؛ لأنه غير مقبول على مستوى الوعي.
  • كيف نعرف أن هناك كبتًا يفعل فِعلَه؟

  • نعرف ذلك لأنه لا يوجد دليل على وجود عقدة أوديب!

هكذا يُعَد غيابُ الدليلِ داعمًا للنظرية!

هذا التمنُّع على التفنيد، هذه الحصانة ضد التكذيب، هذا اللون من العجز عن إثبات خطأ النظرية (من حيث المبدأ، من حيث الصياغة) هو سبب كافٍ لإعلانِها نظريةً غيرَ علمية.

وعلاوة على عدم القابلية للتكذيب فإن معظم العلوم الزائفة تزعم أنها نظرياتٌ شاملة تضم كل الأشياء، وإن شيئًا يَدَّعِي أنه يفسر كل شيء لَهو — عادةً — شيءٌ لا يفسر أي شيء.

(٣-٤) إساءة استخدام المعطيات

كثيرًا ما يُحَرِّف أصحابُ العلمِ الزائف المعطيات العلمية القويمة أو يسيئون استخدامَها، من ذلك أن علماء الفِراسة phrenology — وهو علمٌ زائف — قد نَزَحوا بفكرةِ المواضع الوظيفية الدماغية، وهي فكرةٌ وجيهةٌ تمامًا، إلى أقاصٍ باطلة. وبتعبيرٍ آخر يمكننا القول بأنهم يقيمون صَرحًا هائلًا من الأباطيل على أساسِ حقيقةٍ ضئيلة، أو يُحَمِّلون ظهرَها الضامرَ ما لا يحتمله من العبث والهُراء.

(٣-٥) العلوم الحقيقية تراكمية ومُصحِّحة لذاتِها بعكس العلوم الزائفة

تتسم العلومُ الزائفةُ بأنها راكدةٌ ولا يبدو أنها تتقدم، ولا يبدو أن مفاهيمَها المحوريةَ ومناهجَها وتفسيراتِها تتغير استجابةً لِظهور نتائجَ تجريبيةٍ جديدة أو تطورات تكنولوجية أو نظرية جديدة. ولا تُبدِي العلومُ الزائفةُ بعامةٍ تلك الإثارةَ الفكريةَ أو الخلافَ الفكري الذي يميز حقولَ البحث المشروعة. وعِوَضًا عن فتح أصقاعٍ جديدة تميل العلوم الزائفة إلى الاتكاء على تفسير «النصوص المقدسة» التي سرعان ما يتعلم معتنقوها ألا يسألوا أو يعدِّلوا. كذلك القِدَم يُوَقَّر لِذاتِه، بافتراض أنه ما دام المبحثُ قد عُمِّرَ كلَّ هذا الزمن فلا بد أنه صحيح: من ذلك أن المنجمين يفتخرون بأن التنجيم كان قائمًا لآلاف السنين، وهم قلما يتريثون ليدركوا أن العنصريةَ والتحيز الجنسي — بلهَ الاعتقادَ بسطحيةِ الأرضِ وبالأرض كمركزٍ للكون — كانا أقدمَ حتى من ذلك.

(٣-٦) العلوم الزائفة تدغدغ الاعتقادات المريحة

دَأْب العلوم الزائفة — بلا استثناء — أن تلقم الاعتقادات المريحة المحلِّقة التي نود — بغير شك — لو كانت صحيحة، مثال ذلك:
  • أن الشفاء يمكن إحداثُه دون ألم ودون انتظار ودون جهد (مثال ذلك: المعالجون بالإيمان، اللمسة العلاجية، علاجات السرطان الدجلية، العلاج المِثلِي … إلخ).

  • الموهبة والمعرفة والحكمة … يمكن اكتسابُها للتو واللحظة بطرائق سِرِّية لا تتطلب تضحيةً أو مجهودًا (مثال ذلك: موالِفو الدماغ، العقاقير الذكية، الشرائط تحت الشعورية، وأغلب منتديات العون الذاتي).

  • الحنين إلى المطلق: الحقائق المريحة القديمة للماضي يمكن تدعيمُها علميًّا، فلا تعود مقبولةً كمجرد موضوعات للإيمان بل يصبح لها سندٌ من العلم.

  • بوسعنا أن نحصل على تنبؤ تام بالمستقبل يتيح لنا أن نؤَمِّن سلامتَنا ورفاهَنا المادي نحن ومَن نحب (الإيقاعات الحيوية الشعبية، علم الخطوط، علم النجوم …)

  • هناك طرقٌ لا تخطئ للتكهن بحقيقة الأشخاص والتنبؤ بما سوف يفعلون (علم الخطوط، علم النجوم، قراءة الشخصية في السيكولوجيا الشعبية …)

  • ليس ثمة حدود للقدرة البشرية والإنجاز الإنساني (منتديات تحسين الذات في السيكولوجيا الشعبية، شرائط العون الذاتي تحت الشعوري).

  • أزمة الطاقة يمكن التخلص منها إلى الأبد (البارافيزياء، آلات الحركة الدائمة، قوة الشكل الهرمي، الاندماج البارد …)

  • رغم أننا أفسدنا كوكبَنا وأوغلنا في الحروب فإن هناك عوالم أخرى أو أبعادًا أخرى قد حَلَّت هذه المشكلات وترغب في أن تأخذنا تحت جناحها (علماء الأطباق الطائرة، وسطاء الاتصال بالموتى channelers …)
  • الموت لا يلدغ، فإن شخصياتنا سوف تستمر في الحياة (دراسات ما قبيل الموت، الاتصال بالموتى عبر وسيط channeling، الروحانيات spiritualism …)
ما أكثر وعودَ العلومِ الزائفة وأحلاها: الثروة، الصحة، السعادة للجميع، وبأقل جهد وأقل تضحية، وبإزاء ذلك يجب أن نُذَكرك بأن على المشترِي أن يتحمل المسؤولية (العيب عيبك)، إرادة الاعتقاد هذه هي ما كان يعنيه الفيلسوف ديموسثينيس Demosthenes منذ أكثر من ألفَي عام عندما قال: «لا شيء أيسر من خداع النفس؛ فما يرغب فيه كل إنسان فهو أيضًا يعتقد أنه حق.»

(٤) أمارات ممارِس العلم الزائف

هناك سماتٌ تميز ممارسي العلم الزائف لعل بعضَها قد أفصح عن نفسه فيما سبق من حديثٍ عن نِتاجِهم، وكما أن أمارات العلم الزائف لا يتعين أن تجتمع كلها في مبحثٍ واحد، كذلك الحال بالنسبة لأمارات ممارِس العلم الزائف؛ فالحق أن بعض هذه العلامات قد توجد بدرجةٍ محتملة في بعض ممارسي العلم الحقيقي، فلا يحق لنا أن نلصِقَ بشخصٍ صفةَ الدَّجلنة ما لم يجتمع منها عددٌ كبير وبدرجةٍ زائدة.

(٤-١) التحَجُّر (اللااختراقية/اللانفاذية) impenetrability

من أعم الأمارات على ممارس العلم الزائف أن لديه التزامًا لا يتزعزع بفرضيةٍ معينةٍ مشكوكٍ فيها وغيرِ مبرهنٍ عليها، يُقال لهذا أحيانًا: «متلازمة المؤمن الحقيقي» true believer syndrome.

إن درجةً معينةً من العزم الموطَّد والانغلاق على النقد ربما تكون ضروريةً من أجل مُضِيِّ معظم الباحثين فيما يتطلبه أغلبُ العمل العلمي من الكدح ساعاتٍ طويلةً مُضجِرة، وقد وُجِدَ أن كثيرًا من العلماء الناجحين يتميزون بِسَماكة الجِلد والاعتداد بالنفس وقدرٍ غيرِ قليل من الرغبة في الترقِّي. وإنما تبدأ المشاكل عندما يؤدي الشَّطَطُ في هذه الميول إلى أن يناصر الباحثُ قضايا شائنةً أو أن يغضَّ الطرفَ عن دلائلَ ناصعةٍ على بطلان ما يمضي فيه. وكلما كان هذا الذي يمضي فيه امتدادًا مباشرًا لأيديولوجيته أو منظومته الاعتقادية المحورية؛ زاد احتمال أن تَحُولَ تحيزاتُه دونَ موضوعيتِه. كثيرًا ما تكون العلومُ الزائفةُ نتاجًا للاعتقادات الجوهرية للمُمارِس، وفي هذه الحالات فلا جَدوَى لأي دليلٍ أو حجة في تغييرِ فكرِ المؤمنِ الحقيقي.

(٤-٢) التفكير السحري magical thinking

يتسم أصحابُ العلمِ الزائف في جملتِهم بأنهم أيضًا منجذبون للتفكير السحري: أي تَوَقُّع أن التخيلَ وقوةَ الإرادة — بذاتِهما — سوف يأتيان بالرغائب ويجلبان المطلوب، و«الكونيات» (الكوزمولوجيا) لديهم تنزع إلى أن تكون «إحيائية» animistic، مرتكزةً على الإنسان، وتتخللها عِلَلٌ ومؤثراتٌ لا مادية، وهم مُغرَمون أيضًا بالتفسيرات التي تتضمن «ذبذبات» أثيرية و«مستويات» و«حقول» و«تعاطفات» … إلخ من التصورات التي لا يمكن ربطُها بِمُشارٍ إليه (مرجع) تجريبي (أي قابل للقياس). الحقيقة في مثل هذا الطرح يحددها ما «يشعر» به المرءُ في المسألة، وليس «الدليل» evidence الذي يمكن تقديمه في تأييدها.

وكثيرًا ما يكون هذا موازيًا لرغبةٍ في إعادة دَسِّ بُعدٍ أخلاقي في النظرة الآلية السائدة عن العالم الطبيعي (والتي يرونها أبردَ وأضيقَ مما يَوَدُّون). إنهم يريدون عالَمًا قُواه الكونية (أيًّا ما تكون) تميِّزُ القيمةَ الأخلاقيةَ للأفراد وتُثِيبُها الثوابَ العدل. يريدون أن يكون بنو الإنسان كائناتٍ خاصةً لا مجردَ بيادق عالَمٍ طبيعي غير شخصي، وبدلًا من التسليم بأننا نِتاجُ قوى طبيعية وخاضعون لنفس القوانين الكونية شأننا شأن الأشياء غير الحية؛ فإنهم يفضلون الاعتقادَ بأن بِوُسعِ الناس أن يقهروا هذا الطغيانَ بالأفعال الخيِّرة والأفكار الحسنة، وهم في هذا على خلافٍ مع النظرة العلمية القائلة بأن الكائنات البشرية تطورت من نفس المكونات والعمليات التي تشمل بقيةَ الكون، والتي — للأسف — لا تُقَيِّض لهم وضعًا فريدًا أو حماية.

هذه المنظومة الاعتقادية أفاضَ في وصفِها الفيلسوف الأمريكي تشارلس فرانكل في مقاله الشهير «طبيعة اللامعقول ومصادره»١٧ الذي صدر في مجلة Science عام ١٩٧٣م، يقول فرانكل: «مهما تَنَوَّعَت الخبرات التي يَصدَع بها أنصارُ اللامعقول فإنها تستند جميعًا إلى نفس الحزمة من القضايا الأساسية. من هذه القضايا فكرةُ أن العالَم الذي يعيش فيه الإنسانُ ينقسم إلى عالَمَين: عالَمِ المظهر وعالَم الحقيقة أو الواقع؛ الأوَّل تَسِمُه الصدفةُ والشك واللايقين والبرود والاغتراب، أما الثاني فيتبدَّد فيه الشك، ويفقد الزمنُ والموتُ وَخزَهما. وينغمد المرءُ في عالَمٍ موافقٍ لأعمقِ رغباتِه، ويذوب الخِلافُ والاضطرابُ في حِسٍّ شاملٍ بالانسجام والاتساق».

هذه الرؤية للعالم تقوم على الاعتقاد بأن الاستبصار والحدس والإلهام الذاتي المباشر، هي مصادر المعرفة اليقينية، وإذا تضارب الحدس مع العقل فإن الحدس هو المرشد الأوثق إلى الحقيقة. الاستنارة (الحكمة) عند دعاة هذا الرأي أمرٌ مفاجئ ومكتمل، والسبيل إليها أخلاقي لا فكري، وبالتالي فإن الجهد الفكري ليس يُجدِي في مقاربة الحكمة بل قد يُعيقها، وهذا بالطبع مناقِض للنظرة العلمية التجريبية التي تتخذ الملاحظة والاستدلال المتدرج والتحليل والحجة والاختبار كمصادرَ أوثق للمعرفة (أي إن التعلم شيءٌ بطيءٌ مجهِد ويتطلب الانتباه، وبعبارة أخرى: التعلم تراكمي ويتم بواسطة المحاولة والخطأ). ويُسلِّم التجريبيون بأن البدايات الزائفة والأخطاء سوف تقع وهذه ينبغي تصويبُها بمزيد من العمل الجاد.

(٤-٣) الدوافع الخَفِية

كثيرًا ما يكون لأنصار العلم الزائف رهانٌ ماليٌّ في الدعاوى التي يؤيدونها، ومن شأن هذا أن يَجرَح موضوعيتَهم. صحيحٌ أن العلماء التقليديين لديهم أيضًا مصالحُ ماليةٌ في عملهم في هذه الأيام، ومن ثم يتعين أن تخضع دعاويهم للتمحيص بنفس الدرجة لكشف أي تحيزات من جانبهم عن قصدٍ أو عن غير قصد، إلا أنه يجب أن نلاحظ أيضًا أنه في المجالات العلمية المشروعة هناك بعضُ صمامات أمان ضد ذلك مُبَيَّتة في صميم المنظومة: السياسات الرقابية للوكالات العلمية المانحة ومؤسسات البحث والمجلات تجعل كشفَ صراعِ المصالحِ لدى الباحثين أكثرَ رجحانًا، أما أصحاب العلم الزائف فإنهم — في الغالب — يمارسون عملَهم خارج هذه المنظومة، وهم من ثَم غيرُ مضطرين إلى كشف أي تورطاتٍ من هذا النوع.

(٤-٤) انعدام التدريب الرسمي

أغلب ممارسي العلمِ الزائف هم من أصحاب التعليم الذاتي، وكثيرًا ما تكون مؤهلاتُهم لا علاقةَ لها بالمجالات التي يقدمون فيها دعاويهم المشكوك فيها، فالمؤهلات الممتازة في مجالٍ ما ليست ضامنةً بالضرورة للكفاءةِ المماثلة في المجالات غير ذات الصلة، مثال ذلك أن وليم شوكلي، الحائز على نوبل لمشاركته في اختراع الترانزستور، قد مضَى بعد ذلك يتحدث حديثًا أسقفيًّا عن الأساس الجيني للفروق العنصرية في الذكاء!

وكثيرًا ما يقابل ملاحظو الدجلنة أشخاصًا دُخَلاءَ على المجال يتباهون بانعدام تعليمهم الرسمي، زاعمين أن ذلك يتيح لهم أن يُضفوا على عملهم نظرةً جديدةً غيرَ متحيزة، وأن الجهل بالإنجازات السابقة في المجال يتيح لهم أن يروا الحقائقَ التي خَفِيَت عن أولئك الذين انغسلت أدمغتُهم بطرائق التدريب القياسية.

صحيحٌ أن هناك اختراقات علمية تحقَّقَت على أيدي هواةٍ حملوا معهم مقارباتٍ جديدة، إلا أن أغلب مجالات العلم في هذه الأيام هي من التعقيد — مفاهيميًّا وتقنيًّا — بحيث يُستبعَد جدًّا أن يقدم فيها إسهامًا ثوريًّا مَن لم يتلَقَّ تدريبًا وتَمَهُّنًا رسميًّا. إن بصائرَ العلم غيرُ مطواعةٍ لغير العاكفين على العلم، وقد صَدَق باستير في ملاحظته: «الطبيعةُ تُفَضِّل العقلَ المؤَهَّل» Nature favors the prepared mind.

(٤-٥) عقلية المتَخَندِق bunker mentality

بالإضافة إلى افتخار أصحاب العلوم الزائفة بعُزلتِهم، التي يَعُدُّونها علامةً على الاستقلال الصارم، فإنهم قمينون أيضًا أن يروا عدمَ الاعتراف بهم على أنه ناتجٌ عن اضطهادِهم أو قمعهم من جانب «مؤسسة» عدائية، ومن ثم فإن من علامات صاحب العلم الزائف تلك الرغبة في الانغماس في نظرياتِ مؤامرةٍ غاشمة، وإلا فكيف يُفَسَّر عدم تقبل شخصٍ يعتبر نفسَه جاليليو جديدًا أو أينشتين أو باستير؟ ليس هؤلاء مُولعين فحسب بدعاوى العظمة، بل كثيرًا ما يُبدون أيضًا كراهةً زائدةً للاعتراف بالجهل.

(٥) أمارات محتوى العلومِ الزائفة

(٥-١) عدم القابلية للتكرار

تعج العلومُ الزائفة بادِّعاءاتٍ عن ظواهرَ تُضاد القوانينَ الطبيعية، وتضاد البيانات القابلة للتكرار بسهولة في الحقول العلمية المشروعة، تتسم هذه الظواهرُ المزعومةُ بأنها لا يمكن إنتاجُها عند الطلب، ولا يمكن التنبؤُ بها بدقة. هي إذن أشياءُ غيرُ قابلةٍ للتكرار، وهو ما يُعَدُّ عيبًا وقصورًا، غير أن أصحاب العلوم الزائفة قد يمجدون ذلك ويُعلون من شأن هذه الظواهر إلى مرتبة «كشفٍ في ذاته»، ويمنحونها نَعتًا مَجيدًا مثل «أثر الحياء» shyness effect! الباراسيكولوجيون بصفةٍ خاصة عُرضةٌ للاعتقاد بأن ظواهرَهم الأثيرةَ ستختفي إذا ما تَفَحَّصها متشككون تحت ظروفٍ منضبطة، وكثيرًا ما يَدَّعِي أصحابُ العلومِ الزائفة — عندما يعجز الآخرون عن تكرار نتائجهم — أن المجرِّب يجب أن يتمتع بمواهبَ خاصةٍ حتى يحققَ الأثرَ الذي يزعمونه، غير أنهم عندما تُلاحَظ طرائقهم في جمع البيانات يوجد أنهم في العادة قد اكتفوا بتقديراتٍ ذاتيةٍ من جانب المجرِّب، ولم يُكَلِّفوا أنفسَهم بقياساتٍ موضوعيةٍ مُمَيكَنة بدقة. من شأن ذلك أن يأتي — في أحيانٍ كثيرة — بنتائجَ زائفةٍ، مثلما رأينا في حالة أشعة إنْ.

(٥-٢) حجم الظواهر المزعومة يرتبط عكسيًّا مع صرامة الضوابط التجريبية

من شأن نظام المجموعات الضابطة control groups المتقنة، وإجراءات العمَى المزدوج double-blind procedures، وتقنيات مَيكَنة جمع البيانات automated data gathering … إلخ، أن تُقصِي الظواهرَ التي يدعيها أصحابُ العلوم الزائفة أو تخفضها إلى حد كبير. هذا ما وجده والاس سمبسون في تقييمه لتراث الإبر الصينية، وهذا ما وجده غيرُه١٨ في تمحيصهم لمجال الباراسيكولوجيا.

(٥-٣) معلولاتٌ كبيرة لِعِللٍ صغيرة

كثيرًا ما يكون حجمُ المعلولات التي يدَّعيها أصحابُ العلومِ الزائفة غيرَ ذات صلة بحجم العِلة المزعومة. مثال ذلك أن أولئك الذين يعتقدون في «التخاطر» telepathy يشيع بينهم اعتقادٌ بأن كمية الطاقة المتناهية الصغر المتضمَّنة في العمليات العصبية التي تشكِّل الأحداثَ الذهنيةَ يمكن أن تُسمَع في جميع أنحاء العالم! إن عدم التناسب هذا بين حجم العِلة وحجم المعلول هو ما كان يؤرِّق ألبرت أينشتين بالدرجة الأساس عندما كان يعبر للباراسيكولوجي ج. ب. راين عن شكوكِه في واقعيةِ الظواهر الباراسيكولوجية.

(٥-٤) ادِّعاء الدقة في القياس

عادةً ما يدَّعي أصحاب العلم الزائف أنهم يتوخون الدقةَ الشديدة في كشف الظواهر وقياسها، في الوقت الذي تكون فيه المعلولاتُ المعلَنةُ من الضآلة بحيث تقترب من مستوى الضوضاء في النظام المستخدَم في التجربة. إن هذا — على أقل تقدير — يثير الشكوك في أن تكون الآثارُ المرصودةُ ناجمةً عن ضربٍ من اﻟ artifact (ظواهر صُنعِية: آثار خَلَّفتها يدُ الإنسان المجرِّب لا يدُ الطبيعة).

(٦) معايير السلوك في العلوم الزائفة

قضَى مراقبو العلوم الهامشية وقتًا طويلًا في ملاحظة أصحاب العلوم الزائفة وهم يقومون بعملهم، واجتمَعَت من ملاحظاتهم بعضُ التعميمات حول مناهج الأداء التي دَأَبوا عليها. من هؤلاء المراقبين ماريو بَنْج Mario Bunge الذي يؤكد أن أصحاب العلوم الزائفة، بخلاف العلماء الحقيقيين، قلما يعنيهم اكتشافُ قوانين الطبيعة. إن ملاحظاتهم أَمْيَلُ إلى أن تكون خليطًا مضطربًا غيرَ مترابط، بل متناقضًا في كثير من الأحيان، وإن عملَهم ليس تركيبيًّا ولا منهجيًّا، بل يقفز من عرضٍ منفصلٍ إلى آخر، وهُم — كقاعدة عامة — لا يستخدمون التحليلات الرياضية ولا النماذج الرياضية ولا يقدرونها. كذلك شأنهم مع المنطق فهُم لا يدركون أهميتَه في استقاءِ الفرضيات ودمجِ المعطيات بالنظرية ورَوْزِ النتائج، وهُم يكثرون من الاحتكام إلى سلطة الكتب القديمة التي حددت المجال. وهُم لا يرحبون بالنزعة الارتيابية؛ لذا فإنهم لا يُنفِقون جهدًا يُذكَر في البحث عن أمثلةٍ مضادة أو تفسيراتٍ بديلة أو بيانات قد تقوِّض فرضياتهم الأثيرة، ولدى مواجهة بياناتٍ مفنِّدة فالأرجح أن يفسروها تفسيرًا متخلِّصًا بطريقةٍ احتيالية ad hoc. أما نقادُهم فكثيرًا ما يتناولونهم بالهجوم الشخصي ad hominem بدلًا من تناول اعتراضاتهم ذاتِها.

(٧) أخطاء الاستدلال البشري وتحيزاته

كثيرٌ من الأخطاء الفاضحة التي يرتكبها العلماءُ الزائفون ينجم من حقيقة أنهم — كجماعةٍ — على غير دراية كافية بالحاجة إلى الضوابط التجريبية الصارمة، لكي تُعِينَنا في خفض ضروب الخطأ في جمع البيانات واتخاذ القرار التي تقع مِرارًا عندما نعتمد على الملاحظات العابرة والاستدلال المرتجَل. وقد قام كثير من علماء النفس المعرفيون بدراسة شتى ألوان الخطأ في الاستدلال البشري؛ من أبرزهم: جيلوفيتش في كتابه «كيف نكشف الدجل: لا معصومية العقل البشري في الحياة اليومية».١٩ أكد هؤلاء الباحثون على حاجتنا نحن البشر إلى تقنيات معينة لتعويض عيوب متأصلة في الاستدلال لا يد لنا بها؛ ذلك أن قدراتنا المعرفية قد تطورت تحت ظروف ألحت على سرعة اتخاذ القرار وإن جاءت على حساب دقته الاستدلالية وانضباطه المنطقي، وما طرائق المنهج العلمي وضوابطه إلا إجراءات احترازية لتعويض أوجه القصور العديدة والمتأصلة في الإدراك والاستدلال البشريَّين.

(٧-١) مشاعية التمحيص public scrutiny

من المتطلبات الرئيسية في العلم أن تكون مناهجه وبياناته متاحةً مبذولةً مَشاعًا. كثيرًا ما يراوغ أصحابُ العلم الزائف حين يَطلُب نقادٌ مسئولون أن يفحصوا أجهزتَهم أو بياناتهم الخام، وهناك قصصٌ مأثورة لمثل هذا الروغان من التمحيص.

(٧-٢) السِّرِّية والتوجس

كثيرًا ما يَطلُع علينا أصحابُ العلمِ الزائف بأدواتٍ وعُدَّةٍ ينسبون لها دعاوى وخوارق خيالية، وبينما هم يقدمون أحيانًا عروضًا إيضاحيةً فإنهم يُجرون ذلك بطرائقَ من شأنها أن تمنع المتشككين من أن يبصروا الآليات التي تتبطن هذه الأدوات، وكثيرًا ما يتكتمون هذه المبادئ التشغيلية ويرفضون إفشاءَها خشيةَ أن تُسرَق فكرتُها الثمينة. من ذلك قصة دكتور ألبرت أبرامز، وهو من أشهر الدجالين الذين شهدتهم أمريكا في تاريخها كله: لقد جَمَع أبرامز الملايين — في بدايات القرن العشرين — من بيع جهاز أسماه an oscilloclast، وكان يشترط على المشترِي أن يُوَقِّع على قَسَمٍ مكتوب بأنه لن ينظر أبدًا في داخل الصندوق المختوم لِجهازِه، وحدث بعد موتِهِ أن انفَلَق أحدُ أجهزتِه ووُجِدَ أنه يحتوي على خليطٍ مضطربٍ من أسلاكٍ ومكوناتٍ خاملة لا وظيفةَ لها، ورغم ذلك فقد بقي لأبرامز أنصارٌ على قناعةٍ تامةٍ بأن جهازه كان له فاعليةٌ شفائيةٌ مشهودة.

(٨) الحاجة إلى الارتيابية

يُؤثَر عن عالم الفيزياء فيكتور ستنجر قوله: ليس لنا أن نقبل ظاهرةً ما على أنها حقيقة علمية إلا بعد أن تصبح ملاحظتُها شيئًا شبهَ اعتيادي. هذه «الارتيابية المُمَأْسَسة» institutionalized skepticism هي من نقاطِ القوة الرئيسية للعلم، ليس لنا أن نتقبل شيئًا كحقيقةٍ حتى تتجمع لدينا «أدلةٌ» evidence كافية، ومما يُؤسَف له أن لفظة «ارتيابية» skepticism قد اكتسبت ظلالًا ازدرائيةً في لهجة حركة «العصر الجديد» New Age حيث تَمَكَّن مرشدو التفكير الإيجابي من إقناع الكثيرين بأن مطلب «الدليل» شيءٌ مقيِّد بغير ضرورة؛ فأي شيء — على كل حال — ممكنٌ إذا أنت اعتقدتَ فيه بقوة كافية، غير أن كلمة «ارتيابية» — رغم ما لحق بها من سوء فهم واسع النطاق — إنما تشير إلى منهج بحث لا أكثر، فالارتيابي ما هو إلا شخص يتطلب دليلًا معقولًا وتبريرًا منطقيًّا قبل أن يتقبل دعاوى الصدق المبدئية، والارتيابي هو أيضًا ذلك الشخص الذي سوف يُعَدِّل اعتقاداتِه إذا ما وُوجِهَ بدليلٍ أكثرَ حَسمًا.

(٨-١) فضيلة الشك

الشك نوعٌ من الفكر النقدي كمقابل للفكر الدوجماطيقي الإيقاني، وما نشأ الفكر الحق إلا ليدمغ الدوجماطيقية، وما الفلسفة الأصيلة إلا تمرد على نزعة الموقنين الذين يبدءون تفكيرهم من نقطة معينة يسيرون بعدها سيرًا حثيثًا سَلِسًا دون أن يقلق خاطرَهم تحليل هذه النقطة أو نقدها. هي تمرد على الدوجماطيقية الساذجة عند رجل الشارع المتعصب لآرائه الواثق في ذكائه ثقةً مفرطة، وهي تمرد على الدوجماطيقية المادية عند الرجل العملي الشديد الارتباط بالعالم الواقعي الشديد الإنكار لغيره، وتمرد على الدوجماطيقية الدينية عند رجل الدين المتزمت وعند أشباه الفلاسفة من المتكلمين الذين يتخذون نقطة بدئهم من تصور ديني معين يسلمون به تسليمًا ثم يقيمون عليه بناءً استنباطيًّا شاهقًا زاخرًا بالتفسيرات الهينة والحلول السهلة لكل مشاكل الفلسفة التي تعترضهم.

يرتبط منهج الشك بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكات، بل إن الشك المنهجي الذي دعا إليه ديكارت يُوسَم في الأغلب باسم «الشك الديكارتي»، يقول ديكارت: إن أول شيء يجب أن نبدأ به عندما نشرع في التفكير فلسفيًّا — أي عندما نتفلسف — هو أن نشك في كل شيء لا يرقى إلى اليقين المطلق، عندئذ سوف نجد أن معظم الاعتقادات لا ترقى إلى مرتبة اليقين المطلق. ويواصل ديكارتُ استدلالَه قائلًا إن هذا ليس بالأمر المستغرَب ما دمنا قد اكتسبنا كثيرًا من هذه الاعتقادات قبل أن نصبح قادرين على أن نُخضِعها للتمحيص العقلي، وعندما نكبر نجد أنفسنا مثقلين بخليطٍ من الاعتقادات الصادقة والكاذبة. إن بإمكاننا عن طريق ممارسة الشك الممنهج أن ننأى بأنفسنا عن هذا الخليط كله لكي نبدأ بدايةً فكرية جديدة مؤسسة عقليًّا على أرضيةٍ أكثرَ صلابة، وتتكون هذه القاعدة الصلبة من الاعتقادات التي لا يمكن أن نشك فيها، أي التي «لا تقبل الشك» indubitable.

(٨-٢) صنفان من الشك

ثمة إذن نوعان من الشك يجب التمييز بينهما تمييزًا حاسمًا:
  • الشك المذهبي (الفلسفي) عند أمثال فرون وأنيزيديموس وأجريبا وسكتس أمبريكوس، وهم ينكرون إمكان المعرفة ويرون أن البشر يفتقرون إليها وأن كل دعوى تفيد معرفةَ شيءٍ ما هي دعوى باطلةٌ بلا استثناء. هو إذن شك حاسم ونهائي، حقيقي وأصيل، غاية ومذهب.

  • والشك المنهجي (الديكارتي) وهو وسيلة ومنهج، وشيء عابر مؤقت ريثما يجد المرءُ مبدأً وطيدًا ينكسر الشك دونه.

وقد ذهب برترند رسل إلى أن من الضروري أن نمارس الشك المنهجي — كما فعل ديكارت — لكي نتحرر من قبضة العادات الذهنية، ومن الضروري أن ننمي الخيالَ المنطقي لكي يكون لدينا عددٌ من الفروض ولا نكون عبيدًا لفرضٍ واحد، ذلك الذي يجعله الحس المشترك سهلًا على التحليل.

(٨-٣) جوهر الموقف الارتيابي في العلم

  • (١)
    الدعوى الهائلة يلزمها دليلٌ هائل Extraordinary claim requires extraordinary evidence.

    كلما شَطَّت الدعوى عن المألوف وناقضت الحدسَ وأسرفت في الابتعاد عن المعرفة القائمة القابلة للإثبات بسهولةٍ ويسر؛ كان المرءُ بحاجةٍ إلى دليلٍ أنصعَ وأقوى يبرهن عليها ويُثبِت أنها ليست من قبيل الخطأ أو الغش من جانب صاحب الدعوى. إن علينا أن ننظر فيما يتعين علينا أن نرفضه إذا قبلنا الدعوى الغريبة قدرَ ما ننظر في الدليل المقدَّم في حقها.

  • (٢)

    عبء البرهان يقع على صاحب الدعوى وليس على متلقيها.

    البينةُ على مَن ادَّعَى The burden of proof (onus probandi) lies on the claimant.

    إنما تقوم الدعوى أو تسقط بناءً على نوعية الدليل المقدم في صفها. ليست مهمةُ الارتيابي أن يبرهن للمدَّعِي على أن دعواه غيرُ صحيحة، إنما يقع عبءُ الدليل على المدَّعِي.

  • (٣)

    يجب أن تكون الدعوى قابلة للاختبار (من حيث المبدأ على الأقل)

    وفوق كل شيء يجب أن تكون قابلةً للتكذيب falsifiable، كما أنها يجب أن تُصاغ بوضوح وبطريقةٍ متينةٍ منطقيًّا، وأن يُصَرَّح بما عساه أن يُعَد دليلًا لها، وما عساه أن يُعَدَّ دليلًا ضدها.
  • (٤)

    يجب أن يكون الدليلُ مَشاعًا ومتاحًا لجميع النقاد الأكْفاء

    فالعلم نشاطٌ عام مَشاع، قائم على الثقة، وباستثناءاتٍ نادرةٍ جدًّا، فإن كل من يأبى أن يسمح لمنافسين خطرين أن يلاحظوا طرائقَه البحثية أو أجهزتَه، أو يَطَّلِعوا على بياناته الخام؛ فإن دعواه لا تُلزِم أحدًا، وموقفه قرينةٌ ضد علميةِ دعواه. ثمة احتمالُ الغش بطبيعة الحال، وثمة الاحتمال الأكبر وهو أن تكون النتائجُ الخاطئة بسبب متغيراتٍ دقيقة غير منضبطة خفِيَت على المجرِّب ونَدَّت عن ملاحظتِه.

(٩) ما الضَّير؟!

يلهو الأطفالُ بِرَمي الضفادع بالحجارة بينا الضفادعُ تموتُ جِدًّا لا لَهوًا.

(مَثَلٌ صيني)

ربما ينظر بعضُ العِلية من العلماء إلى العلم الزائف باستخفافٍ وخُلُوِّ بالٍ، بل قد يولونه غيرَ قليلٍ من الرِّثاءِ والشفقة، ولسانُ حالِهم يقول: «هَوِّنْ عليك؛ ما الضير؟ هذا عبثُ أطفالٍ لن يَضُرَّ العلمَ شيئًا.»

نعم، الدجلُ لن يضر العلمَ شيئًا، ولكنه يُلحِق أفدحَ الضررِ بالمجتمع.

قد يكون الضررُ في الحالات الفردية هَيِّنًا محتمَلًا، ولكن ضرر الانتشار الواسع للعلم الزائف هو ضرر فادح، وعواقب تَفَشِّي الدجل في أوصال المجتمع هي عواقبُ وخيمة. الدجل الطبي يُخَلِّف موتًا مجانيًّا ومعاناةً كان منها بُد، والعلاج النفسي الزائف قد يزرع ذكرياتٍ كاذبةً بانتهاكاتٍ موهومة، وتحليلُ الخطوط قد يلوث سمعةَ أبرياء … إلخ. إن تَفَشِّي الأمية العلمية في المجتمع يُضَعضِعُه ويهبطُ به.

بعض مآثم الأمية العلمية

  • خداع العامة: من حق الناس أن تتلقَّى معلوماتٍ صحيحةً تَبنِي عليها اعتقاداتِها وقراراتِها. لن يرتقِي البشرُ بِنَشر المعلومات الكاذبة سواء حَسُنَت النيةُ أم ساءَت.

  • خسارة وقت ومال: العلوم الزائفة مَضيَعةٌ للوقت وخسران لمالٍ كان يمكن أن يُنفَقَ في المضمار الصحيح. حين يمتنع المرضَى عن التماس العلاج الطبي الموثَّق ويُترِعون جيوبَ الدجالين بأموالهم بينما تتفاقم حالاتُهم المرَضية ولا تعود تستجيب للعلاج الطبي الصحيح … حين نستعين بمستنبئ الآبار لتحديد مواقع الحَفر … حين نستعين بمحَلِّل الخطوط لانتقاء العاملين … إلخ.

  • قد يُفضِي تَفَشِّي الأمية العلمية في الحكومات إلى استراتيجياتٍ موبِقة تَعود بالضرر على الأمة قبل كل شيء (اذكُرْ مآثِمَ النظريات العلمية الزائفة في ألمانيا النازية وروسيا السوفيتية)، الشوكُ لا يُثمِر عنبًا، يقول سارفيبالي ر. كريشنان: «عندما نعتنق الأباطيلَ فسوف نرتكب الفظائع.»

  • العلوم الزائفة تزرع الأملَ الكاذبَ والرجاءَ غيرَ المستجاب، وعند خيبة الوعود ينقلب المرءُ على نفسِهِ بالتأنيب والتقريع واللوم؛ فيضيف الإهانةَ إلى الأذى.

  • من شأن الأمية العلمية أن تسلب المواطنَ قدرتَه على الاختيار في القضايا السياسية المُلِحَّة والاقتراع المصيري الطارئ. إن غياب الفكر النقدي يجعل المواطنَ ريشةً في مَهَبِّ الدجلِ يقذف بها حيث شاء. المواطنُ الأميُّ علميًّا يُصَوِّت للقرارِ الخطأ والشخصِ الخطأ. المجتمع الأمي علميًّا مؤهَّل دائمًا للتصويت المدمِّر، يمضي به إلى الهَلاك الآجل مثلما يتهادَى قطيعُ السوائم بِثقةٍ وَخُلُوِّ بالٍ … إلى المذبح.

١  د. باري ل. بيرشتاين Barry L. Beyerstein (١٩٤٧–٢٠٠٧م) أستاذ علم النفس السابق بجامعة سيمون فريزر.
٢  Beyerstien, Barry L. (1995). Distinguishing Science from Pseudoscience. Victoria, BC: The Center for Curriculum and Professional Cevelopment.
٣  لكي تتعرف على طرائق الإقناع التي يستخدمها مروجو التكنولوجيا الزائفة انظر مقال «كيف تبيع علمًا زائفًا» لأنتوني براتكانيس The Skeptic Inquirer, Vol. 19[4], 1995; pp. 19–25.
٤  يجب أن نضيف هنا أنه في هذه الحالات التي كثيرًا ما يتذَرَّع بها أصحابُ العلم الزائف لم تكن ثمة وسائل متاحة في ذلك الوقت لاختبار الأفكار غير التقليدية، ومن ثم فقد حُفِظَت على الرَّف لا أكثر بانتظار توافر بيانات مناسبة، والحق أن فِجِنر Wegener نفسه — رغم إهمال أفكاره عن انزياح القارات لِتَعَذُّر اختبارِها في ذلك الوقت — لم يتعرض للسخرية لاقتراحِها كما يزعم بعضُ مناهضي العلم، فقد ظل يحظَى بالمكانة المستحقة التي كفلتها له إسهاماتُه الأخرى، وما إن توافرت التكنولوجيا القادرة على اختبار نظرياته وقدمت دعمًا إمبيريقيًّا لها حتى تقبَّلها حقلُ الجيوفيزياء بسرعةٍ مشهودة.
٥  Non sequitur باللاتينية، تعني: إنه لا يَلزَم (عن الذي قِيلَ) أو لا يترتب (على سابقِه) الاستنتاج الخُلفِي، إذن هو ملاحظةٌ نقدية مُفادُها أن النتيجة المزعومة لا تلزم عن المقدمات المطروحة.
٦  «مغالطة جاليليو» أو «أثر جاليليو».
٧  The New Age مصطلح يُطلَق على حركةٍ كبرى ذات طيفٍ متبايِن من الاعتقادات والممارسات الروحية والدينية نشأت في العالم الغربي في سبعينيات القرن الماضي.
٨  cottage industry.
٩  Fritjof Capra: The Tao of Physics. An exploration of the parallels between modern physics and Eastern mysticism. Flamingo, 3rd edition, 1991. First published in Great Britain by Widwood House 1975.
١٠  انظر جيمس راندي «قناع نوستراداموس» The Mask of Nostradamus, Prometheus Books, 1992.
١١  عَرَضنا ﻟ «القراءة الباردة» على نحوٍ وافٍ في فصل «مغالطة التصديق الشخصي».
١٢  رغم كل شيء ما زال بونز وفليشمان يتشبثان بالاندماج البارد، ويستأنفان بحثَهما في معهدٍ خاص جنوب فرنسا بتمويل شركة صناعية يابانية كبرى!
١٣  حتى في هذه الحالة تبين أن دور الضغوط النفسية أقل مما كنا نظن؛ وذلك بعد الاكتشاف الحديث — من جانب الطبيب الأسترالي باري مارشال — بأن السبب الرئيسي للتقرح هو في الواقع نوع من البكتريا هيليكوباكتر بيلوري Helicobacter pylori، وقد اختُزِلَ دور الضغوط في إعاقة استجابات المناعة مما يُسَهِّل على البكتريا أن تتكاثر.
١٤  such as Begg, Greenwald, Merikle, Moore, and Pratkanis.
١٥  انظر تفصيل ذلك في الكتاب القيم: Science and Pseudoscience in Social Work Practice, by Bruce A. Thyer, and Monica G. Pignotti, Springer Publishing Company, New York, 155–181.
١٦  E. Loftus and K. Ketcham: The Myth of Repressed Memory: False Memories and Allegations of Sexual Abuse, St Martin’s Press, 1994.
١٧  انظر فصل «الحنين إلى الخرافة» تجدْ تفصيلًا وافيًا عن مقال تشارلس فرانكل، وعن منطق الفكر الخرافي بصفةٍ عامة.
١٨  انظر في ذلك الكتب التالية:
  • Alcock, J. (1981) Parapsychology: Science or Magic? Oxford: Pergammon Press.
  • Hansel, C. E. M. (1980) ESP and Parapsychology: A Critical Re-evaluation. Buffalo, NY: Prometheus Books.
  • Hyman, R. (1991) The Elusive Quarry: A Scientific Appraisal of Psychical Research. Buffalo: Promtheus.
١٩  انظر الفصل الخاص بجيلوفيتش تجد عرضًا وافيًا لكثيرٍ من فصول كتابِه، ولا يفوتنا أن ننوه هنا بالكتاب القيِّم «الاستدلال البشري: استراتيجيات الحكم الاجتماعي وعيوبه» للمؤلفَين: ريتشارد نيسبِت ولي روس.
Human Inference: strategies and shortcomings of social judgement, by Richard Nisbett and Lee Ross, Bentley Historical Library, University of Michigan, Prentice-Hall, INC., Englewood Cliffs, New Jersey, 1980.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤