الفصل الثالث

توماس جيلوفيتش:١ كيف نَكشِف الدجل؟

لا معصومية العقل البشري في الحياة اليومية٢

(١) شيءٌ من لا شيء Something Out of Nothing

الإدراك الخاطئ للبيانات العشوائية وإساءة تأويلها

من طبيعة الفهم البشري الخاصة أن يفترض في العالَم نظامًا واطِّرادًا أكثر مما يجده فيه، ورغم وجود أشياءَ كثيرةٍ في الطبيعة فريدةٍ في نوعِها وعديمة النظير، فإن الذهن البشري يخترع لها أشباهًا ونظائرَ وصِلاتٍ لا وجود لها.

فرنسيس بيكون
الأورجانون الجديد ١:٤٥

في عام ١٦٧٧م كتب باروخ سبينوزا عبارتَه الشهيرة: «الطبيعة تبغض الفراغ.» لكي يصف مجموعة من الظواهر الفيزيائية، وبعد ٣٠٠ عام من ذلك يبدو لنا أن عبارتَه تنطبق أيضًا على الطبيعة البشرية فهي أيضًا تبغض الفراغ. إن لدينا استعدادًا لأن نرى نظامًا ونمطًا ومعنًى في العالَم، ونحن نَضيقُ ذَرعًا ونتبرَّم إذا وجدنا عشوائيَّةً وشَواشًا ولا معنى. الطبيعة البشرية تَمقُت انعدامَ التنبؤ وغيابَ المعنى، ومن ثم فنحن نميل إلى أن «نرى» نظامًا حيث لا نظام، وأن نَتَبَيَّن أنماطًا ذاتَ معنى حيث لا يوجد غير الصدفة وتقلباتِها.

يرنو الناسُ إلى شتات الأجرام السماوية فيَرَوْن وجهًا على سطح القمر، وسلسلةَ قنواتٍ على المريخ، ويُصغِي الآباءُ إلى موسيقَى أبنائهم المراهقين المعكوسة ويزعمون أنهم يسمعون رسائلَ شيطانيةً في موجات الضوضاء المشوشة المنبعثة. وهذا رجلٌ يُصَلي من أجل ولدِه المريض مرضًا حَرِجًا، فيقع بصرُه على تَعَرُّقٍ خَشَبي في باب غرفة المستشفى فيزعم أنه يرى وجهَ المسيح، ويظل مئاتُ الزوار بعد ذلك يتوافدون على العيادة كل عام ويؤكدون التشابهَ الإعجازي.٣ ويَدَّعِي المقامرون أنهم يَخبُرون تتابعاتٍ حارةً وباردة في رميات النرد العشوائية ويُبَدِّلون رهاناتِهم وَفقًا لذلك.

هذا النزوعُ إلى إضفاءِ النظام على المثيرات الملتبِسة هو شيءٌ مُبَيَّتٌ في الآلية المعرفية التي نستخدمها لِفَهم العالَم، ولعله قد تخلَّف فينا خلال التطور بسبب صفتِه التكيفية العامة. إن بِوُسعِنا أن نفيد من الظواهر المنتظمة بطرائقَ تتعذَّر علينا في حالة الظواهر المشتتة، وإن استعدادَنا لِكشف أنماطٍ وعَقد صِلاتٍ هو ما يؤدي بنا إلى الاكتشاف والتقدم، لكن المشكلة هي أن هذا الميل فينا هو من القوة والتلقائية بحيث يجعلنا أحيانًا نَتَبَيَّن اتساقًا حيث لا يوجد اتساق.

الحق أن كثيرًا من الآليات التي تشوه أحكامَنا تنجم من عملياتٍ معرفية أساسية جِدِّ مُعِينةٍ لنا عادةً في إدراك العالَم وفهمِه بدقة، ومن بين هذه العمليات تركيبُ المثيراتِ وتنظيمُها. من ذلك أن إجنَز سيميلويس Ignaz Semmelweis اكتشف نمطًا في حدوث حمى النفاس بين النساء اللائي قام بتوليدهن أطباءُ فَرَغوا لِتَوِّهِم من عملية تشريح. ومن ذلك أن تشارلس داروين عايَنَ نظامًا في تَوَزُّع الأنواع المختلفة من العصافير في الجلاباجو، وهذا الاستبصار هو ما دفع تفكيرَه عن التطور والانتخاب الطبيعي.

نعم، يفيدنا الميلُ إلى التِماس نظامٍ وتَبَيُّن أنماطٍ، يفيدنا بالغَ الفائدة، وبخاصة إذا أخضعنا حدوسَنا التي تتولد عن ذلك لاختبارٍ أكثرَ صرامةً (مثلما فعل سيميلويس وداروين مثلًا)، غير أننا في كثير من الأحيان نعامل نتاجَ هذا الميل لا كفرضياتٍ بل كحقائقَ ثابتة. إن استعدادنا لإضفاء النظام قد يكون من الفورية والجموح بحيث ينتهي بنا في أحيان كثيرة إلى الاعتقاد في وجود ظواهر لا وجود لها البَتة.

(١-١) تثبيت إدراكاتنا الخاطئة بنظرياتٍ عِلِّيَّة

إنَّ عجْزَنا عن تمييز ترتيباتٍ عشوائية للأحداث قد يحملنا على الاعتقاد بأشياءَ غيرِ حقيقية، فنرى أن شيئًا ما هو شيءٌ مرتب ومنظم وواقعي بينما هو في الحقيقة عشوائي ومختلط ووهمي، وبذلك يكون أداؤنا في واحدةٍ من المهام الأساسية في إدراك العالم وفهمه، ونعني مهمة تحديد ما إذا كان ثمة ظاهرةٌ هناك تستدعي الانتباهَ والتفسير، يكون أداؤنا في ذلك قاصرًا غيرَ محكَم.

كما أننا ما إن يخامرنا شعورٌ بوجود ظاهرةٍ ما حتى يواتينا تفسيرُها ومعناها دونَ عَناءٍ يُذكَر؛ فنفسر لماذا توجد هذه الظاهرةُ وماذا تعني ولا نجد في ذلك أي صعوبة. لقد برع بنو البشر براعةً منقطعةَ النظير في عملية «التفسير الاحتيالي» ad hoc explanation أو الغرضي، وقد أثبت البحث أن الناس إذا دُفِعَت إلى الاعتقاد الخاطئ بأن أداءَهم أعلى أو أقل من المتوسط في مهمةٍ معينة فإن بمقدورِهم تفسير أدائهم المرتفع أو المتدني دون صعوبة. وإذا طُلِبَ منهم تعليل كيف تؤدي خبرةٌ طفولية من قبيل الهروب من البيت إلى مآلاتٍ متفاوتة كالانتحار أو العمل في فَيلَق السلام؛ فإن بوسعهم أن يقدموا التعليل على نحوٍ فوري ومُقنِع للغاية. أن تعيش — فيما يبدو — يَعنِي أن تفسر وتبرر وتجد اتساقًا بين شتى الحصائل ومختلِف الخصائص ومتبايِن العِلل. لقد تعلمنا بالممارسة أن نؤدي هذه المهام بسرعة وكفاءة.
ثمة دراسة بحثية في مرضَى الدماغ المنقسم split-brain patients٤ تقدم لنا عرضًا مثيرًا لِبراعتِنا في «التفسير الاحتيالي» ad hoc explanation. في جميع هؤلاء المرضى تقريبًا تكمن القدرة اللغوية في نصف الكرة المخي الأيسر (مثلما هو في معظم الناس)، الفرق الوحيد بين مرضى الدماغ المنقسم وغيرِهم من الناس هو أن الاتصالَ بين نصفَي الكرة مقطوعٌ في مريض الدماغ المنقسم بسبب قطع «الجسم المندمل»،٥ تَخَيَّلْ إذن أن صورتَين مختلفتَين تُعرَضان على نصفَي الكرة لدى مريضِ دماغٍ منقسم: إحداهما صورةُ مَرجٍ ممتلئٍ بالثلج معروضةٌ للنصفِ الأيمنِ غيرِ اللغوي (بوضعها في المجال البصري الأيسر)، والأخرى صورةُ مخلبِ طائر معروضةٌ في نفس الوقت للنصف الأيسر اللغوي (بوضعها في المجال البصري الأيمن)، وبعد ذلك يُطلب من المريض أن ينتقي من صَفٍّ من الصور تلك الصورةَ التي تتمشى مع المنبهات التي رآها لِتَوِّه.
ماذا يحدث؟ الاستجابة المعتادة هي أن المريض ينتقي صورتَين. في هذه الحالة قد تنتقي اليد اليسرى للشخص (التي يتحكم فيها نصفُ الكرة الأيمن) صورةَ جاروف لكي يتمشى مع مشهد الثلج المعروض أصلًا للنصف الأيمن، وفي نفس الوقت قد تنتقي اليد اليمنى (المحكومة بالنصف الأيسر) صورةَ دجاجة لكي تتمشى مع المخلب المعروض أصلًا للنصف الأيسر. كِلتا الاستجابتَين تناسب المنبهَ ذا الصلة؛ لأن صيغة الاستجابة (الإشارة) يمكن التحكم فيها من جانب كل نصف كروي مخي، أما الاستجابة الأشد إثارة فتحدث عندما يُطلَب من المريض أن «يفسر» الاختيارات التي أتاها. لعلنا هنا نتوقع شيئًا من الصعوبة؛ لأن صيغة الاستجابة اللفظية لا يحكمها إلا النصف الأيسر، ورغم ذلك فقد كان الشخص يقدم تفسيرًا دون تردد: «آه، هذا سهل، مخلب الدجاجة يتمشى مع الدجاجة وأنت يلزمك جاروف لكي تنظف طَريحَ٦ الدجاجة». لاحِظْ أن السبب الحقيقي الذي جعل المشاركَ يشير إلى الجاروف لم يُقَدَّم؛ لأن مشهدَ الثلج الذي حفزَ الاستجابةَ مقطوعٌ عن النصف الأيسر الذي يجب أن يُشَكِّل التفسيرَ اللفظي. إن هذا لم يمنع الشخصَ من إعطاء استجابة «معقولة»: إنه يفحص المُخرَجَ ذا الصلة ويخترع قصةً تُعَلِّل له.
لَكأنما يحتوي النصف الكروي الأيسر للمخ على «وحدة للتفسير» explanation module ملحقة بمركز اللغة، وحدة تفسير يمكنها بسرعة وسهولة أن تُضفِي المعنى حتى على أغرب أنماط المعلومات.

وما إن يتعرف شخصٌ على نمطٍ عشوائي على أنه ظاهرةٌ واقعية حتى لا يعود نمطًا ملغَزًا وواقعةً معزولة عن العالَم، بل يتناوله سريعًا بالتفسير ويدمجه في نظرياته وقناعاته القائمة من قبل. عندئذ تعمل هذه النظرياتُ على الحيود بتقييم الشخص للمعلومات الجديدة بحيث يصبح الاعتقادُ الأول راسخًا بصلابة. هكذا يتشبث الناسُ باعتقاداتهم في وجهِ أَعتَى الأدلةِ المفنِّدة.

(١-٢) تحصين النظريات٧

من دأب بعض أصحاب النظريات التي يتبين كذبها بالاختبار أن يظلوا متمسكين بها ولا يتخلوا عنها، وأن يقوموا بعملية أشبه بالترقيع النظري لإنقاذ النظرية من الدحض، ومن الوسائل المعهودة في ذلك إدخال «فرض مساعد» auxiliary hypothesis، أو «فرض عيني تحايلي غرضي» ad hoc hypothesis على مقاس الشواهد المضادة بغرض استيعابها داخل النطاق التفسيري للنظرية. مثل هذا الإجراء ممكن دائمًا وميسور لأية فرضية مهما بلغت عبثيتها وهشاشتها، غير أنه ينقذ النظرية من الدحض بقدر ما ينال من مكانتها العلمية ومحتواها المعلوماتي.
وثمة تحايل آخر لتفادي الدحض، وهو ببساطة أن تُخرِج المثالَ المضاد counterexample من التعريف نفسه، فإذا كنا مثلًا بصدد العبارة الكلية «كل الغربان سود»، وجابهَنا شاهدٌ مضادٌّ لغرابٍ أبيض لأَمكننا القول: «إن غرابًا أبيضَ هو ليس غرابًا على الإطلاق.»

مثل هذه الفروض التحايلية المقحَمة والمناورات التعريفية هي نوع من الغش والمماحكة، وهي إجراءات رخيصة ومبتذلة، وعلى العالِم الحق أن يتجنبها قدر المستطاع، ورغم أن الفروض العينية تُسْتَخْدَم بالفعل في بعض الأحيان وتؤدي إلى نجاحات كشفية كبيرة، فقد بذل كارل بوبر جهدَه لتحديد القواعد المنهجية لاستخدام مثل هذه الطرق بحيث تكون مشروعةً علميًّا وغيرَ معطِّلة لتقدم المعرفة العلمية أو مطيلة لعمر نظريات بائدة لا تريد أن تتنحى وتفسح الطريق لفرضيات جديدة أكثر قوة تفسيرية وأكثر اقترابًا من الحقيقة.

تُعَد هذه الطرقُ (الفروض العينية التحايلية، المناورة الاصطلاحية … إلخ) وسائلَ أو خُدعًا ﻟ «تحصين» النظرية من الدحض immunization stratagem. ويميز بوبر بين التحصين الصادق والتحصين الزائف، فالتحصين الصادق يدافع عن النظرية بواسطة توقعات هي ذاتها قابلة للتكذيب، ومن أمثلة التحصين الصادق ما زعمه علماء الفيزياء النيوتونية من أنه لا بد أن يكون هناك كوكب آخر بعد أورانوس، وذلك عندما أعجزهم تفسيرُ انحراف المسار — وفقًا للحسابات — بأي طريقة أخرى، بذلك حصَّنوا فرضيتَهم، غير أن هذا التحصينَ هو في الحقيقة قابلٌ للتكذيب من حيث المبدأ، وعندما تحسنت طرق الملاحظة فيما بعد تَبَيَّن أنهم كانوا على حق، لقد أسهم تحصينُهم في البحث عن الكوكب «نبتون» واكتشافه في النهاية. هذا مثال للتحصين الصادق، أما التحصين الزائف فمن شأنه أن يجعل تكذيب الفرضية أمرًا محالًا من حيث المبدأ، يقول بوبر: «حين تذهب لمحللٍ نفسي فإنه يعالجك، فإذا شعرتَ بتحسن بعد ذلك فهو يقول لك: ها أنت ترى الآن فعاليةَ التحليل النفسي فأنت تشعر بتحسن. أما إذا لم تتحسن حالتُك بعد ذلك أو حتى إذا ساءت بحيث أبديتَ رغبتَك في ألا تكمل العلاج فسوف يقول لك: الآن تجد نفسك في طور «المقاومة» resistance وهو طورٌ متوقَّع ويُثبت أن كل شيء يمضي كما يجب.»

(١-٣) انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد) confirmation bias٨

ولايزالون يتشبثون بعنادٍ بفكرةِ أن الإجابةَ الجيدة الوحيدة هي الإجابة بنعم، فإذا سألوني «هل العدد هو بين ٥٠٠٠ و١٠٠٠٠؟» فقلتُ: «نعم»، فإنهم يفرحون، وإذا قلت: «لا» يمتعضون، رغم أنهم يحصلون على نفس القدر بالضبط من المعلومات في كلتا الحالتَين.

جون هولت، لماذا يرسب الأطفال؟
في تجربةٍ شهيرةٍ٩ عُرِضَ على المشاركين أربعُ بطاقات، كل بطاقة منها تحمل عددًا على أحد وجهَيها وحرفًا أبجديًّا على وجهها الآخر، مثل هذا:

ثمة فرضيةٌ في هذه البطاقات تقول بأنه: «إذا كان في البطاقة حرفٌ متحرك على أحد وجهَيها فإن على وجهها الآخر عددًا زوجيًّا بالضرورة.» والمطلوب من المشارك أن يقدم أسرع طريقة لاختبار هذه الفرضية (أو يُطلَب منه — بصيغة أخرى — تحديد بطاقتَين اثنتَين فقط عليه أن يقلبهما لكي يختبر صدق هذه الفرضية).

في هذه التجربة وقع جميعُ المشاركين تقريبًا في الاختيار الخطأ (وهو: E، 4) ولم يهتدوا إلى الجواب الصحيح (وهو: E، 7)، ذلك أن عليك أن تقلب بطاقة E لتكشف إن كان هناك عدد زوجي على ظهرها؛ فإذا لم يكنْ فالفرضية كاذبة. يتعين عليك أيضًا أن تقلب البطاقة 7 لكي تتيقن من أنها لا تحمل في ظهرها حرفًا متحركًا؛ فإذا وجدته فالفرضية كاذبة. وما دامت البطاقة E بها عدد زوجي والبطاقة 7 ليس بها حرف متحرك فإن الفرضية صادقة، ولا يهم ما يكون على ظهر البطاقة 4 والبطاقة K ولا يغير من الأمر شيئًا.

والآن ما هو مصدر الضلال هنا؟

لماذا نميل فعلًا إلى اختيار البطاقة 4 بدلًا من 7؟

يبدو أن لدينا مَيْلًا صميمًا إلى أن «نؤيِّد» confirm مثل هذه الفرضيات بدلًا من أن «نُفَنِّدها» disconfirm، إننا نقلب البطاقة 4؛ لأننا نبحث فقط عن أمثلة موجبة للفرضية وليس أمثلة سالبة. إننا أمْيَل إلى البحث عن دليل «مؤيِّد» حتى إذا كان الدليل «المفنِّد» أكثرَ دلالةً بكثير.

يفكر الواحدُ منا بمثل هذه الطريقة: «إذا قلبتُ بطاقة العدد الزوجي ووجدتُ حرفًا متحركًا أكون قد أيَّدتُ العبارة.» غير أن العثور على مثالٍ يؤيد القاعدة لا يُثْبِتُ أن القاعدة صادقة، بينما العثور على مثالٍ واحدٍ يُكَذِّب القاعدة هو أمرٌ يكفي لأن يُثْبِت كَذِبَها على نحوٍ نهائي حاسم ويقضي عليها قضاءً مُبرَمًا.

انظر أيضًا إلى المثال التالي: فهذا سياسي يرى أن إلغاء الضرائب المحلية سوف يؤدي إلى انخفاض معدلات الجريمة، ومن ثم فقد طلب من الباحثين لديه أن يجمعوا أمثلةً لحالاتٍ أُلغِيَت فيها الضرائبُ المحلية ثم انخفضت معدلاتُ الجرائم. وجد الباحثون أن هناك مائةً من هذه الأمثلة، إذَّاكَ خلص السياسي إلى أنه مُحِقٌّ في افتراض أنه بخفضِ الضرائب المحلية يمكنه أن يقلِّص الجريمة.

لقد أراد السياسي أن «يؤيِّد» فرضيتَه فحسب لا أن «يُفَنِّدَها»، وربما يكون بذلك قد ضَلَّ السبيل، ولعل باحثيه لو جَدُّوا في الطَّلَبِ لأتوا له بمائتَي حالةٍ ارتفعت فيها الجريمةُ بعد إلغاء الضرائب المحلية!

في مجال الاستدلال الإحصائي يُعَدُّ انحياز «التأييد» confirmation (أو «التحقيق» verification) ضربًا من الانحياز المعرفي تجاه تأييد الفرضية محل الدراسة، ومن أجل معادلةِ هذا الميل البشري الملاحَظ يتم تشييد المنهج العلمي بطريقة تُلزِمنا بأن نحاول تفنيد disconfirmation (أو تكذيب falsification) فرضياتنا.
وفي مجال السيكولوجيا يُعَرَّف انحياز التأييد بأنه ظاهرة تتميز بميل صانعي القرار إلى ملاحظة الأدلة المؤيدة لدعاواهم والاحتفاء بها والتماسها بهمةٍ، بينما يميلون إلى تجاهل الأدلة التي قد تنال من الدعاوى، وإلى التقاعس عن طلبها والبحث عنها. وهي بهذا المعنى تُعَد صورة من صور «الانحياز الانتقائي» selection bias في جَمْع الأدلة.
يذهب البعض إلى أن انحياز التأييد قد يكون هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية «المُخَلِّدة لِذاتها» و«المُحَقِّقة لذاتها»، وقد يكون سبب هذا الانحياز هو أن الذهن البشري بِحُكْم تكوينِه يجد صعوبةً في «معالجة» processing الإشارات السالبة أكثر مما يجده في معالجة الإشارات الموجبة، انظر — مثلًا — كم هو أسهل أن تستوعب عبارة «جميع اليونانيين فانون» من أن تستوعب «جميع غير الفانين غير يونانيين». للمرء إذن أن يتوقع أن تكون المعلومات المؤيِّدة مؤثِّرة بصفة خاصة كلما كانت المفنِّدات مصوغة صياغات سالبة. وكما لاحظ فرنسيس بيكون منذ زمن طويل فإن «من الأخطاء التي تَسِمُ الفكرَ الإنساني في كل زمان أنه مغرمٌ ومُولَع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة، حيث ينبغي أن يقف من الاثنين على حياد، والحق أنه في عملية البرهنة على أي قانون صادق يكون المثال السلبي هو أقوى المثالَين وأكثرهما وجاهةً وفاعلية.»١٠
وقد قام عدد من الباحثين بدراسة ميل الناس لالتماس المعلومات المؤيدة في استراتيجياتهم في اختبار فرضياتهم في حياتهم اليومية. من ذلك أن يقوم الباحث بتقديم قائمة من الأسئلة للشخص المفحوص لكي ينتقي منها مجموعة يوجهها للشخص الذي يريد أن يكشف عن وجود (أو عدم وجود) سمةٍ شخصيةٍ معينة فيه (سمة الانبساط مثلًا)، وكانت النتيجة أن المفحوص يميل أحيانًا إلى انتقاء الأسئلة التي يكون ردها الموجب مؤيِّدًا للفرضية (فرضية وجود السمة الانبساطية مثلًا)، وقد يكون السؤال مضَيِّقًا بحيث يرجح ألا يُرَد عليه إلا بالإيجاب؛ ومن ثم تكون الحصائل تأييدًا زائفًا للفرضية الأولى حتى لو كانت هذه الفرضية غير صحيحة.١١

وتشير الدراسات الحديثة رغم ذلك إلى أنه بينما تسود مغالطة التأييد كحالةٍ مبدئية، فإن تكرار ورود البيانات المفنِّدة يُحْدِث تحولات في التفكير النظري، فالمسلك العام لدى الباحثين هو استبعاد البيانات المفنِّدة في البداية باعتبارها نتاجَ زللٍ أو سهو أو عوامل دخيلة، غير أن تكرار البيانات المفنِّدة وتراكمها وإلحاحها في الظهور يُحْدِث تغيرًا في استراتيجيات الاستدلال السببي.

(٢) نَرَى ما نتوقع أن نراه

التقييم المتحيز للبيانات الملتبِسة وغير المتسقة

سوف أراه عندما أعتقد به.

زلة لسان لعالِم النفس: ثان بيتمان
إنما تُنجِح المقالةُ في المر
ءِ إذا صادَفَت هَوًى في الفؤادِ
المتنبي
الحياةُ سلسلةٌ من المقايضات، فلكل فائدةٍ تُحَصَّل ثمة دائمًا كلفةٌ ما، إذا زدنا من سرعتنا — مثلًا — في معظم مهامنا، فنحن نخسر الدقةَ في الأغلب، وإذا زدنا الدقة فلا بد من أن نبطئ، وإذا توسَّع عملٌ تجاري ناجح فثمة احتمالٌ بأن يعاني انحدارًا في تلقائية وسهولة الدخول على رئيسِه، وهما أمران قد يكونان سببًا كبيرًا لنجاحِه الأول، وقد أُنعِمَ على بني الإنسان بذكاءٍ غير مسبوق، غير أن البيولوجيين ينبئوننا أن ولوج الأدمغة الكبيرة المسئولة عن هذا الذكاء عبر قناة الولادة الضيقة يستلزم أن نولَد على نحوٍ مبتسَر وأن نعاني بالتالي فترةً أطول من المعتاد١٢ من الرضاعة وقلة الحيلة.

وتظهر المقايضات أيضًا في أحكام الحياة اليومية واستدلالاتها؛ فنحن حين نتخذ أحكامَنا وقراراتنا نستخدم لذلك قواعدَ واستراتيجياتٍ غيرَ صورية تُبَسِّط لنا المشكلات الصعبة تبسيطًا جوهريًّا وتتيح لنا حلها دون جهد وعناء زائدَين. هذه الاستراتيجيات ناجعةٌ في الأغلب الأعم، إلا أن فائدة التبسيط تأتي على حساب الدقة وتُورِثنا أحيانًا أخطاءً منهجية.

من ذلك أن لدينا قاعدةً تبسيطيةً تقول لنا: إن العِلل تماثل معلولاتها؛ فالمعلولات الكبيرة لا بد أن تكون لها عِللٌ كبيرة، وللمعلولات المعقدة علل معقدة، وهكذا ينطوي هذا الافتراض على بعض الحق ويُسَهِّل علينا الاستدلالَ العِلِّي بأن يحصر لنا عددَ العِلل التي علينا أن نضعها بالاعتبار، ولكن ليست جميعُ العلل تماثل معلولاتِها؛ فالفيروسات الدقيقة قد تسبب أوبئةً هائلة. ومن شأن التعويل الزائد على هذا الافتراض أن يدفع الناسَ إلى إغفال علاقاتٍ عِلية هامة وأن يرتئُوا علاقاتٍ لا وجود لها. هكذا نرى أن نفس المبدأ الذي يتيح لنا اتخاذَ أحكامٍ بسهولة واضحة ونجاح كبير هو أيضًا مسئول عن بعض أخطائنا المنهجية.

هذه المقايضة بين المزايا والنقائص تتجلى في أوضح صورة في التأثير الكبير الذي تُحدِثه توقعاتُنا وتصوراتُنا واعتقاداتُنا المسبقة على تأويلنا للمعلومات الجديدة، فحين يكون الناسُ بصدد فحص الأدلة المتصلة باعتقادٍ ما فإنهم يَجنَحون إلى رؤية ما يتوقعون رؤيتَه، واستنتاج ما يتوقعون استنتاجَه. إن المعلومات التي تتسق مع اعتقاداتنا المسبقة تنال منا القَبولَ بادِيَ الرأي، أما الأدلة المضادة لها فنحن نتناولها بالتمحيص النقدي ونُسقِطها من حسابِنا، وهكذا لا تؤتي المعلوماتُ الجديدةُ أثرَها فينا ولا تفعل فعلَها كما ينبغي لها، ولا تؤثر متضمَّناتُها على اعتقادنا كما يجب.

(٢-١) التحيز الملائم والتحيز غير الملائم

مثل هذا التعامل المتفاوت مع المعلومات الجديدة يصدم أغلبَ الناس للوهلة الأولى بوصفِهِ غيرَ مبرَّر وضارًّا أحيانًا، ويستدعِي في الذهن صورَ الأشخاص المتزمتين — على سبيل المثال — الذين لا يعبئون بالخصائص الفردية المميِّزة لشخصٍ ما بالقياس إلى تنميطٍ معينٍ إثني أو جنوسِي أو مهني غيرِ صائب، ويستدعِي في الذهن أمثلةً من أشخاص أو جماعات تتمسك تمسكًا أعمى بدوجما عتيقة الزي. إن الميل إلى تقييم الأدلة بطريقةٍ متحيزة قد تكون له عواقبُ وخيمة، وهو يقدم السنَدَ لكثيرٍ جدًّا من الاعتقادات الخاطئة وغير الدقيقة، على أن مسألة الحياد الذي يجب أن نتحلى به في تقييم المعلومات التي تؤيد أو تفند تصوراتنا المسبقة هي مسألة أدق وأعقد مما يظن معظم الناس.

هي مسألةٌ معقدة لأن من غير الملائم وغير الرشيد أن يمضي المرءُ في الحياة يَروز جميعَ الوقائع على السواء ويعيد النظرَ في اعتقاداته من جديد كلما واجهته واقعةٌ مضادة، فالحق أنه إذا كان اعتقادٌ ما قد لقي تدعيمًا طوال حياة المرء فمن الوجيه تمامًا أن يشك في أي ملاحظة أو تقرير يشكك في هذا الاعتقاد، وأن يقبل من فوره أي دليل يؤيد صدقَه. لقد كان تشكك العلماء في تقارير الاندماج النووي البارد تشككًا وجيهًا تمامًا؛ لأنه كان شكًّا قائمًا على أساسٍ نظري صلب يحدد ما هو ممكن من الأحداث وما هو غير ممكن. وكل منا له كل الحق في أن ينظر شَزرًا إلى دعاوى الأطباق الطائرة والطفو في الهواء والعلاجات المعجزية للسرطان. إن الأحداث التي تتحدى المعارف التي تأسست على نطاقٍ عريض ومَرَّت باختبار الزمن ينبغي التعاملُ معها بحذر، أما الأحداث التي تنسجم مع المعرفة القائمة فيمكن تقبلُها بصدرٍ أرحب.

غير أننا يجب أن نفرق بين الارتيابية المشروعة والانغلاق الذهني المَقِيت، بين تَشَكُّك العلماء في الاندماج البارد وتشكك رجال الدين في دعوى جاليليو بدوران الأرض ومركزية الشمس؛ ذلك أن رافضي الاندماج البارد حاولوا تكرار الظاهرة في مختبراتهم الخاصة، أما نقاد جاليليو فرفضوا النظرَ في البيانات ذاتِ الصلة. كما أن الأساس الذي تقوم عليه اعتقاداتنا المسبقة يضطلع بدورٍ كبير في تبرير الشك في المعارف الجديدة المخالِفة؛ فالظواهر التي حَظِيَت بتعزيز كبير ومتواتر وطويل الأمد — مثل تأثير الجاذبية — ينبغي ألا نتخلَّى عنها ببساطة أو نُعَدِّلَها لَدَى أول حفنة من الوقائع المضادة، أما أشكال التنميط العِرقي والجنوسي والمهني فهي على النقيض التام من ذلك؛ لأنها ترتكز في الغالب على أدلةٍ هزيلةٍ أو لا وجودَ لها على الإطلاق، ولنا من ثَمَّ أن نسارع بتعديلها أو التخلي عنها.

يبدو أن الإنصافَ في تقييم الأدلة مسألةٌ معقدة، وأن التحيز ليس شيئًا سيئًا على طول المدى؛ فالحق أن قدرًا معينًا من التحيز هو شيء ضروري للغاية! انظر مثلًا هذا العنوان الصحفي: Mondal’s offensive looks hard to beat، ليس في الألفاظ نفسها ما يَسمَح لنا أن نحدد هل تشير العبارةُ إلى خطة حملة موندال أم إلى مظهره الجسماني.

وانظر أيضًا إلى هذا العنوان: «إدارة إنبي تهدد بالانسحاب من الدورة»: ليس في الألفاظ ذاتها ما يُتيح لنا أن نحدد هل تتحدث العبارةُ عن شركة «إنبي» أم عن فريق «إنبي» الرياضي، إلا أن معرفتنا المسبقة بما هو معقول وما هو غير معقول تتيح لنا للتو ودون عَناء أن نستنتج الاستنتاج الصحيح.

إن السياق والمعرفة المسبقة والتوقعات والتحيزات هي عُدَّتُنا للفهم، وقد ثبت أن من أصعب الأمور أن نبرمج حتى أكثر الحواسيب تطورًا على أن تَعقِد مثلَ هذه الاستدلالات البسيطة، فبدون هذه القدرة على استخدام السياق والتوقعات التي تتخطى المعلوماتِ المُعطاة لَكُنا أغبياء بنفس الطريقة التي يتصف بها الحاسوبُ ذو القدرة الحوسبية العالية بأنه «غبي». إن نظرياتنا وتصوراتنا المسبقة و«تحيزاتنا» — على عجزها في بعض الأحيان — هي ما يجعلنا أذكياء فَطِنين.

إن المرء لا يمكنه أن يعرف العالَمَ إلا من خلال الفهم المسبَق! وفي مَعرِض تفسيرِه لهيدجر يتناول هانز جادامِر في كتابه «الحقيقة والمنهج» Truth and Method مسألةَ المعرفة المسبقة في مواجهتِنا مع النصوص، فيقول بأننا لا يمكن أن نقرأ النصَّ إلا بتوقعاتٍ معينة، أي بإسقاطٍ مسبق. غير أن علينا أن نراجع إسقاطاتِنا المسبقة باستمرار في ضوء ما يَمْثُل هناك أمامنا، وبإمكان كل مراجعةٍ لإسقاطٍ مسبق أن تضع أمامها إسقاطًا جديدًا من المعنى. ومن الممكن أن تبزغ الإسقاطاتُ المتنافسةُ جنبًا إلى جنب إلى أن تَغدو وحدةُ المعنى أكثرَ وضوحًا، ويتبيَّن كيف يمكن أن تترابط الرموزُ والعالم.١٣
هذه العملية الدائمة المستمرة من الإسقاط الجديد هي حركة الفهم والتأويل، وعلى المُؤَوِّل لكي يبلغَ أقصَى فهمٍ ممكن ألا ينخرط فحسب في هذا الحوار مع النص، بل أن يفحص على نحوٍ صريحٍ مَنشأَ المعنى المسبق الذي بداخلِه ومدى صحةِ هذا المعنى، يقول جادامر: «وإدراك أن كل فهم لا بد له من أن يشتمل على بعض «التحيز» prejudice (أي «المعنى المسبق» fore-meaning) هو ما يمنح مشكلةَ التأويل زَخمَها الحقيقي.» وجدير بالذكر أن جادامر يعتبر سعي «التنوير» إلى التخلص من كل التحيزات هو نفسه تحيز! (تحيز ضد التحيز!) إنه تحيز يحجب عنا تاريخيتَنا الجوهرية وتَناهِينا الصميم.١٤

•••

حين نواجِه معطياتٍ تحتمل معنيَين فنحن ندركها — ببساطةٍ — على النحو الذي يلائم تصوراتِنا المسبقة، أما حين نواجِه معطياتٍ غيرَ ملتبِسة ولا تحتمل إلا معنًى واحدًا فإننا نتقبلها دون نقدٍ إن كانت متسقةً مع توقعاتنا وبنائنا الأيديولوجي، أما إذا كانت مضادةً لذلك فنحن نعرضها للتمحيص النقدي ونمنحها المزيدَ من جهدِنا الذهني حتى نَرُدَّها متسقةً مع توقعاتنا وتصوراتنا الأصلية.

(٢-٢) تجارب بحثية: لماذا يتشبث الناس باعتقاداتهم السابقة رغم الأدلة الجديدة؟

في تجربة بحثية تَعَرَّض أنصار ومعارضو عقوبة الإعدام لأدلة تتعلق بالفاعلية الرادعة لهذه العقوبة،١٥ فقد قرأ كلٌّ من المجموعتين ملخصَين لدراستَين في ذلك: إجراءاتهما ونتائجهما ونقدهما. إحدى الدراستَين تقدم دليلًا يؤيد الفاعلية الرادعة لعقوبة الإعدام، والأخرى تقدم دليلًا ضد هذه الفاعلية. لدى نصف المشاركين كانت الدراسة المؤيدة لعقوبة الإعدام تقارن معدلات القتل في نفس الولاية قبل وبعد عقوبة الإعدام، والدراسة المفنِّدة للفاعلية الرادعة تقارن معدلات القتل في ولايات مختلفة بعضها يطبق العقوبة وبعضها لا يطبقها، ولدى النصف الآخر من المشاركين كانت نوعية الدراسات المؤيدة والمفنِّدة معكوسة، يعني ذلك أنه لدى كل من الأنصار والمعارضين للعقوبة كان النصف يجد توقعاته مؤيَّدة بنوع من الدراسات ومفنَّدة بالنوع الآخر، بينما كان النصف الآخر يتعرض للنمط العكسي من المعطيات.

كانت نتائج هذه التجربة مثيرة: فقد كان المشاركون يعتبرون الدراسة التي قدمت دليلًا متسقًا مع اعتقادهم السابق (بِغَض النظر عن نوع هذه الدراسة) كقطعة بحثية جيدة الإجراء تقدم دليلًا هامًّا يتعلق بمدى فاعلية عقوبة الإعدام، وكانوا — في المقابل — ينقبون عن عيوب عديدة في البحث الذي كان يناقض اعتقاداتهم الأولى. كان التأثير النهائي لهاتَين النتيجتَين أن مواقف المشاركين صارت مستقطَبة، فالتعرض لحشدٍ مختلط من الأدلة جعل كلا الطرفين أكثرَ اقتناعًا بصواب اعتقاداته الأصلية.

وقد أُجرِيَت دراسة أخرى على المقامِرين وميلهم إلى تقييم النتائج بطريقة منحازة. كانت الدراسة تسعى إلى الإجابة عن السؤال المُحيِّر: لماذا يُصِر المقامرون على الاستمرار في هذا المشروع المحبِط؟ لماذا يعتقدون — برغم كل خسائرهم السابقة — بأن المكسب وشيك يكاد يدق الأبواب، وقد خَلَصَت هذه الدراسة إلى نفس النتيجة: إنهم يَقبَلون الأدلةَ الموجبةَ دون نقد، ويؤَوِّلون الأدلة السلبية لكي يَرُدُّوها مُتَّسِقَةً مع توقعاتهم الأصلية.١٦

نخلص من ذلك إلى ما يلي: حين يُواجَه المَرءُ بخليطٍ من الأدلة: سلبية وإيجابية، فإنه يقبل الإيجابيةَ فورًا على عِلاتها، أما السلبية — أي المضادة لِمنظومتِه الاعتقادية — فيُعمِل فيها التأويلَ حتى يَردَّها إيجابية، من هنا يَخلص كلُّ طرفٍ من الخصوم في المناظرات الفكرية وهو أكثرُ اقتناعًا بِمذهبِه! ومن هنا يُبرِّر الرأيُ ذاتَه ويُخِلِّد الاعتقادُ نفسَه.

حتى العلماءُ ليسوا مُحَصَّنين من الوقوع في نفس الأخطاء عندما يُقَيِّمون الأدلةَ المتصلة بمجالاتهم، فقد وُجِد أن الانتقادات المنهجية وتوصيات النشر الصادرة عن المراجِعين النظَراء peer reviewers تتأثر بشدة بالتوجه النظري للمُراجِع: يَحتَد النقدُ إذا كان البحثُ مخالفًا لِقَناعات المراجِع ويَلِين إذا كان موافِقًا؛ فتجده يُجرِي تجربةً إضافيةً إذا كانت نتائجُ البحث الذي يراجعه تدحض فرضيةً أثيرةً لديه، بينما يَغض الطرفَ ويضرب صفحًا إذا كانت النتائج تدعم هذه الفرضية.

وتتجلى هذه الظاهرة في أوضح صورة في تاريخ المحاولات العلمية لربط حجم الدماغ والجسم بالذكاء والشخصية (ومن ثم بالقيمة الاجتماعية). هنالك نجد أمثلة لميل الباحثين إلى تحدي النتائج الصادمة وإعادة تأويلها بينما هم يَغُضون الطرفَ عن عيوبٍ والتباساتٍ مماثلة إذا كانت مريحةً لهم ومسايرةً لاعتقاداتهم.

من ذلك أن العالِم الفرنسي باول بروكا P. Broca — المتخصص في علم الجماجم — لم يَسَعه أن يقبل أن الأدمغة الألمانية التي يدرسها كانت أثقلَ من الأدمغة الفرنسية في عَيِّنَته بمقدار مئة جرام في المتوسط، ومن ثم جعل يكيِّف أوزانَ الأدمغة في العينتَين بحيث يضع في الاعتبار عواملَ خارجية متصلة بوزن الدماغ من قبيل الحجم الكلي للجسم، ورغم ذلك فإن بروكا لم يَقُم قَط بتكييفٍ مماثلٍ في شروحه الكثيرة للفرق بين حجم دماغ الرجل ودماغ المرأة.١٧
أما عالِم أنثروبولوجيا الإجرام سيزار لومبروزو C. Lombroso فقد دعم أطروحتَه عن الطبيعة البدائية والحيوانية للمجرمين وﻟ «الأعراق الدنيا» بذِكر أمثلة عديدة لانعدام حساسيتهم للألم، وهي أمثلة يفسرها باعتبارها شجاعة وجسارة عندما تَصدُر عن واحدٍ من العنصر الأوروبي الممتاز.١٨
غير أن العلم يتغلب على مثل هذه التحيزات بحرصه الشديد على تكرار التجربة replication وعلى مَشاعية النتائج وعلانيتها، بحيث لا تدوم في سوق الأفكار أيةُ نتائج قائمة على أساس مهتز. وإذا كنا في الحياة اليومية نتخلص — بعض الشيء — من الأفكار الفادحة الخطأ بفضل التأثير المصَحِّح لزملائنا ولِعموم المجتمع؛ فإن العلماء يتسلحون في منهجهم بإجراءات خاصة للتغلب على العيوب الغائرة في الاستدلال البشري، وهي إجراءات قلما يلتفت إليها الشخصُ العادي ويتبناها في الحياة اليومية، من هذه الإجراءات: استخدام المجموعات الضابطة control groups، وأخذ العينات العشوائية random sampling لتجنب عَقد استدلالات من معطيات ناقصة وغير مُمَثِّلة، ومنها استخدام «الملاحِظ الأعمى» blind observer لِلتخلص من تأثير عمليات التقييم المتحيز، والملاحظ الأعمى هو شخص على غير دراية لا بالفرضية محل البحث ولا بالحالة المحددة للتجربة المجراة في وقت معين (مجموعة العلاج مثلًا أو المجموعة الضابطة)، ومن ثم فإن توقعاته عما «ينبغي» أن يحدث في التجربة لا يمكن أن تُحَيِّز سلوكَه.

ولكن ربما يكون صمام الأمان الأساسي والأهم في المشروع العلمي هو اشتراطه تحديد معنى شتى النتائج والمآلات على نحو موضوعي ومسبَق إن أمكن، وبعبارةٍ أخرى: أن نحدد مقدمًا وعلى نحوٍ دقيق ماذا يمثل نجاحًا وماذا يمثل فشلًا، ماذا يُعَد تحقيقًا للفرضية وماذا يُعَد تكذيبًا لها، لا أن نتلقى النتائجَ ثم نُؤَوِّل معناها تأويلًا يَسْلُكها بِعَنَتٍ في توقعاتِنا المبدئية ويَقسِرها على الانسجام مع فرضيتنا الأولى.

قد يبدو ذلك ضربًا من التصلب والصرامة الزائدة، نعم، نحن في العلم نُضَحِّي بشيءٍ من المرونة من أجل الموضوعية، غير أننا يجب أن نميز في العلم بين عملية توليد الأفكار وعملية اختبارها، أو بين «سياق الكشف» context of discovery و«سياق التبرير» context of justification. في سياق الكشف كل شيء يَجوز في العلم مثلما هو الحال في الحياة اليومية. إنما في سياق التبرير تتجلى صرامةُ العلماء ويزداد تحفظُهم، يقول سير بيتر ميداوار Peter Medawar: يعمل العلم «في تبادل سريع بين التخمين والتحقيق، بين الاقتراح والاطِّراح،١٩ بين الحدس الافتراضي والدحض.»٢٠ في العلم يجب أن يكون لديك الكثيرُ من الأفكار ثم عليك أن ترمي عنك الزائفَ منها، وهي إجراءاتٌ يُنصَح أن يتبناها المرءُ في حياته اليومية. ويبدو أننا نحن البشرَ بارعون جدًّا في توليد الأفكار والنظريات والتفسيرات التي لها نبرةٌ من القَبول والمعقولية، ولكننا قد لا نكون بارعين بنفس الدرجة في تقييم أفكارنا واختبارها ما إن تتكوَّن، ولعل من أكبر العوائق التي تَحول بيننا وبين ذلك هو عدم إدراكنا لهذا المبدأ المذكور: أننا إذا لم نحدد بدِقةٍ صنفَ الأدلة التي سوف تُعَد مؤَيِّدةً لِموقفِنا فإننا عُرضةٌ لأن ينتهي بنا الأمرُ إلى أن نستبين جمهرةً كبيرةً جدًّا من الأدلة المؤيِّدة لِتصوراتِنا المسبَقة.

وبعبارةٍ أخرى: فإن توقعاتنا عُرضةٌ في كثير من الأحيان لأن تَلقَى تأييدًا من أي حصيلةٍ كانت من بين مجموعةٍ متباينةٍ من الحصائل بعد الواقعة، بعضُها لم نكن لِنَقبَلَه قبلها كمعيارٍ للنجاح. هَب أن متنبِّئًا تنبأَ بوفاة سياسي شهير هذا العام. إن من الأهمية بمكانٍ أن نحدد إذَّاكَ نطاقَ الأحداث التي سوف تمثِّل نجاحًا للنبوءة، وإلا فسوف ننبهر انبهارًا زائدًا بأي صلة واهية بين النبوءة وبين أي حدث لاحق: قد يموت اقتصاديٌّ كبير فنقول صدقَت النبوءة، وقد يموت رجلُ أعمالٍ كبير كان يعمل في شبابِه بضعَ سنواتٍ في سفارة مصر بالصين فنقول: صَدَقَت النبوءة، وقد تجري محاولةُ اغتيالٍ فاشلة لِسياسي شهير فنقول: صدقت النبوءة … إلخ. من البَيِّن أننا إذا لم نحدد مقدمًا جميعَ المآلات المحتملة التي تُعَد نجاحًا للنبوءة فلن يعود الاختبار موضوعيًّا وسوف تَلقَى النبوءةُ تأييدًا ظاهريًّا سهلًا من أَيِّما حدثٍ يحدث.

تتفاقم مشكلةُ المآلات المتعددة وتَبلُغ غايةَ الشدة إذا كان موضوعُ البحث غائمًا بطبيعتِه وعسيرًا على التحديد: افترِض مثلًا أن ثمة دعوى تقول بأن الرعايةَ النهارية أثناء مرحلة الرضاع تعوق «التوافق الشخصي» personal adjustment في مُقبِل العمر، حسنٌ، تُرَى ماذا يكون «التوافق الشخصي» وكيف لنا أن نقيسه؟ أنقيسُه بعدد الأصدقاء في فترة المراهقة؟ أبالنجاح المدرسي؟ بالسعادة بالمجال المهني المختار؟ في مثل هذه الحالات التي تكون فيها الظاهرةُ قيد البحث غيرَ واضحة يكون لِتصوراتنا المسبقة أشدُّ التأثير؛ ذلك أن أي مقياس للتوافق مؤيِّد لِاعتقاداتنا المبدئية سيكون حَرِيًّا أن نتشبث به على أنه الاختبار الصحيح. أما إذا كانت الدعوى تقول بأن الرعاية النهارية في الرضاع تعوق «الإنجاز المدرسي» فإن الأمور تزداد تحددًا وصلابةً بعضَ الشيء؛ ومن ثم تَقِل فرصةُ تصوراتنا المسبقة في أن تؤتِي أثرًا.

هكذا نتبيَّن أن غموضَ الدعوى وعدم تحددها يجعل من العسير تكذيبها ومن اليسير العثور على ما يؤيد جوانبَ منها بشكلٍ أو بآخر، وهذا مما يقصِّر على العَرَّافين وقُرَّاءِ الطالع طريقَهم ويُيَسِّر مهمتَهم؛ فَهُم يقولون للناس كلامًا عامًّا غيرَ محدد، ويتكفل الناس بالبحث في ذاكرتهم وأفهامِهم والعثور على مؤيِّداتٍ لهذا القول العام.

يُطلَق على هذه الظاهرة «أثر بارنم» Barnum effect، نِسبةً إلى المخرج الاستعراضي ومقاول السرك في القرن التاسع عشر ب. ت. بارنم Phineas Taylor Barnum، كان بارنم يعزو نجاحَه إلى أنه يقدم مَقاسًا واحدًا يناسب الجميع! أو — على حَد قولِه — «لدينا شيءٌ ما لكل شخص.» وهو القائل أيضًا: «هناك مُغَفَّل «جديد» يُولَد كل لحظة.» يشير بارنم بهذا القول الساخر إلى ميل الناس على الدوام إلى تصديق توصيفاتٍ شخصيةٍ زائفة على أنها تصف شخصيتَهم الخاصةَ على نحوٍ فريد.
ويُطلَق على هذه الظاهرة أيضًا «أثر فورر» Forer effect، نِسبةً إلى عالِم السيكولوجيا برترام فورر Bertram R. Forer (١٩١٤–٢٠٠٠م)، الذي اكتشف أن الناس تميل إلى قَبول توصيفات شخصية عامة على أنها تنطبق عليهم هم بصفةٍ خاصة غيرَ مدرِكين أن نفس الوصف يمكن أن ينطبق على أي شخصٍ كان.٢١

ولهذه العملية صولاتٌ أخرى كثيرة، منها: اعتقادُ الناس بالطبيعة النبوئية للأحلام، وبوجود معنًى ومغزى للأحداث التصادفية، وقد لعبتْ دورًا في بعض الأمور الخلافية العلمية، مثل الدعوى القائلة بأن الضغوط النفسية تسبب السرطان، فكثيرًا ما تُدَعَّم هذه الدعوى بالملاحظات المسجَّلة بوجود صدمات نفسية معينة حدثت قُبَيلَ بداية حالة سرطان فردية، ولكن ما دمنا جميعًا نُبتَلَى بصدماتٍ متنوعة من وقت لِآخر فإن من الممكن دائمًا ربط السرطان بحدثٍ صادمٍ معَيَّن.

(٣) الاعتقاد فيما يُقال لنا

التأثيرات التحيزية للمعلومات المنقولة بالوساطة (التحريفات الناجمة عن رواية العَنعَنة)

الشيء المزعج في أمر «الحقيقة» هو أنها في الغالب غير مريحة، وكثيرًا ما تكون فاترةً مُمِلَّة، إنما يريد العقلُ الإنساني شيئًا أكثرَ إيناسًا وأكثر تَلَطُّفًا.

H. L. Minchen

حين يعتزم المرءُ أن يروِي لرفاقِه واقعةً يكون قد وضع نفسَه في موضعٍ حَرِج، فالواقعُ فاترٌ مُمِل، وبه جوانبُ غامضة، وجوانبُ لا معنَى لها، وجوانب ناقصة أو معتمة غير مُضاءة، من هنا يجد الراوي نفسَه مضطرًّا — ربما دون أن يَعِي ذلك — إلى أن يُعمِلَ خيالَه فيقوم بِلَيِّ الوقائعِ وتعديلِها وتفصيلها حتى تَستوِي له قصةٌ متماسكةٌ وممتِعةٌ وآسرة للانتباه.

من الروايات الشهيرة في تاريخ السيكولوجيا رواية «ألبرت الصغير» Little Albert٢٢ ذي الأشهر التسعة، الذي أجرى عليه عالِم النفس السلوكي واطسون Watson تجربةً تبين منشأ الرُّهاب وتعميمه عن طريق «التشريط» conditioning٢٣ وفقًا للنظرية السلوكية، كان واطسون٢٤ يعرِّض ألبرت الصغير لصوتٍ مخيف من ورائه (بضرب قضيب معدني بالمطرقة) كلما اقترب من فأرٍ أبيض، وبتكرار ذلك نشأ لدى ألبرت خوفٌ من الفأر حتى عندما لم يَعُد مُقترِنًا بالصوت، وقد بقي هذا الخوفُ يلازمه ولم يتناقص بمرور الوقت، وقد أبدَى ألبرت خوفًا أيضًا من عددٍ من الأشياء التي تشبه الفأر من أوجُهٍ كثيرة: أرنب، قفاز أبيض، كرات قطنية. هذه القصة كثيرًا ما تُقَدَّم كدليلٍ على كيفية اكتساب الناس للمخاوف المرضية من أشياءَ تبدو غيرَ مؤذية، وكيفية تعميم هذه المخاوف لتشمل الأشياءَ المشابِهة.
رغم أن هذه القصةَ تفيد في تبيان بعض الأفكار الهامة عن اكتساب السلوك العاطفي البشري وتعديله بطريقةٍ سائغة مريحة، فإنها تعاني من عيبٍ جِد خطير: هو أن كثيرًا من الأحداث التي تُوصَف في كثير من الروايات التي تروي عن هذه القصة (روايات العَنعَنة/روايات النقل والوساطة/روايات اليد الثانية) لم تحدث قَط!٢٥

في الواقعة الحقيقية نشأ لدى ألبرت بالفعل خوفٌ من الفأر بعد تكرار الصوت العالي سبعَ مرات في بداية التجربة، وهو خوف استمر قويًّا خمسة أيام أخرى أثناء اختبار متابعة، في هذا الوقت أبدى ألبرت أيضًا خوفًا قويًّا من أرنب وكلب ومعطف من جلد الفقمة، و«استجابة سلبية» أقل حدة لقناع بابا نويل، وأبدى استجابة وُدِّيةً جدًّا لِقوالبَ خشبيةٍ ولِشَعر مساعدي واطسون.

غير أنه بعد خمسة أيام أخرى كانت استجابة ألبرت للفأر طفيفةً بحيث قرَّر المختبِرون أن «يُنعِشوا الاستجابة» بأن يَقرِنوا الفأر بالصوت العالي مرةً أخرى، وهو ما فعلوه أيضًا لأول مرة مع الأرنب والكلب (وبذلك لم يعد الأرنب والكلب منبهَين صالحين في أي اختبارات تعميم تالية)، وفي اختبارٍ أخير بعد ٣١ يومًا أبدى ألبرت خوفًا لدى ملامسة الفأر والأرنب والكلب والمعطف وقناع بابا نويل، إلا أنه شَرَع أيضًا في التواصل مع نفس الأرنب ونفس المعطف، وبعد هذه المجموعة الأخيرة من الاختبارات على ألبرت الصغير أخرجته أمه من المستشفى الذي كانت تُجرى فيه الدراسة، ولم يَعُد متاحًا لأية تقييماتٍ لاحقة.

هذه هي الوقائع الحقيقية التي حدثت بالفعل في دراسة واطسون ورينور: لم يكن خوف ألبرت من الفأر شديدًا جدًّا، ولا هو تعمَّمَ للتو إلى كياناتٍ أخرى كما يُزعَم كثيرًا في وصف الكتب الدراسية لهذا البحث المفصلي في تاريخ علم النفس، فقد ادَّعَى أيزنك Eysenck مثلًا أن «ألبرت أصابه رهابٌ من الفئران البيض، ومن كل الحيوانات ذات الفراء في الحقيقة.»٢٦ غير أن التوكيد بأن ألبرت أُصيب بفوبيا فأر يصعب توفيقُه مع استجابته البسيطة للفأر أثناء فترة الاختبار الثاني، وهي استجابة يصفها المختبِرون كما يلي: «تقلب على جنبه الأيسر، ثم نهض على أطرافه الأربعة جميعًا وبدأ يزحف بعيدًا، وهنا لم يكن يصيح، بل للعجَب: بدأ في ابتعاده يقرقر ويسجع بِتَوَدُّد حتى وهو يميل بعيدًا إلى جنبه الأيسر ليتجنب الفأر.» كما أن تقرير أيزنك عن خوف ألبرت من «جميع الحيوانات ذات الفراء» فيه مبالغة، بالنظر إلى أن استجابته لمثل هذه الحيوانات كان مقدَّرًا فحسب بالنسبة للأرنب والكلب (وحتى هذان — لو تَذكُر — كانا قد قُرِنا بالصوت العالي أثناء جلسة الاختبار الثاني). والحق أن مجال الأشياء التي تَعَمَّم إليها خوفُ ألبرت كانت أكثرَ النقاط تعرضًا للتحريف في التقارير اللاحقة عن نتائج الدراسة، فهناك كتب كثيرة جعلت ألبرت يخاف من: قط، قفاز أبيض، فراء ياقة المعطف الفرائي لوالدة ألبرت، وحتى دب لعبة، وربما يكون أغرب تحريف هو أن عددًا من الكتب أعادت صياغة نهاية القصة زاعمةً أن خوف ألبرت قد تمت إزالتُه بواسطة عملية «إعادة تشريط» re-conditioning أُجرِيَت في نهاية التجربة.

لماذا تعرضت قصة ألبرت الصغير لهذه التحريفات مِرارًا؟ لا شك أن كثيرًا من التحريفات قد أُدخِلَت لكي تجعل من قصة ألبرت الصغير «قصة جيدة». ثمة جوانب عديدة لما يشكِّل قصةً جيدة، نجد كثيرًا منها في وصف خبرات ألبرت كما دَبَّجَها واطسون ورينور: وصف يقدم قصةً مترابطة بسيطة لكيف يمكن اكتساب الرهابات، قصةً ذات نهاية متسقة (بل سعيدة).

والآن نَعرِض لِهذه العناصر وغيرها مما يشكل قصةً جيدة، ويعنينا بدرجةٍ أكبر أن نبين كيف يمكن لرغبتنا في سرد قصة جيدة أن تنال من دقة المعلومات التي نتلقاها عن غيرنا (بالوساطة/بالنقل/بالعَنعنة/باليد الثانية). إن كثيرًا مما نعرفه في عالم اليوم لا يأتينا من خبرةٍ مباشرة، بل يأتينا مما قرأناه ومما أخبرَنا غيرُنا. وإن أغلب اعتقاداتنا يتأسس على أدلة لم نجمعها بأنفسِنا؛ ومن ثم فإن إلقاء الضوء على الطرائق التي يمكن أن تضلنا بها معلومات العنعنة من شأنه أن يتيح لنا فهمًا أفضل لمصدرٍ شائعٍ للاعتقادات المغلوطة وغير الدقيقة.

(٣-١) آليات تكوين قصة جيدة

لَكأنه يُعمِل إزميلَه في حجر الواقعة، يُبرِز، ويَطمِس، حتى يَستَوِي له تمثالُ ذهنِه كيانًا ماثِلًا بالتمام والرونق.

ع. م.
لكي نفهم ما الذي يُشَكِّل قصةً جيدة فإن علينا أن نتبيَّن حاجاتِ المتحدث وحاجاتِ المستمع، والأهدافَ التي يحاولان تحقيقها في تفاعلهما. ولما كان التواصلُ أو المحادثة عمليةً تبادلية فليس من المستغرب أن يكون كثيرٌ من حاجات وغايات المتحدث والمستمع متكاملة. إن المتحدث يريد أن تكون رسالتُه شيئًا يستحق انتباهَ المستمع، والمستمع — من جانبه — يريد أن يكون الحديثُ شيئًا جديرًا بالإصغاء، ولكي يتحقق ذلك فإن ثمة شروطًا معينةً يتعين الإيفاء بها، أهمها:
  • أن تكون الرسالةُ مفهومةً لا تتطلب تَضَلعًا معرفيًّا من جانب المستمع.

  • ألا تكون — رغم ذلك — مثقلةً بتفاصيلَ كثيرةٍ وكأنها تفترض في المستمع جهلًا شديدًا.

(٣-٢) الإبراز Sharpening والطمس Leveling في روايات العَنعَنة

لكي نفهم عملية تكوين الاعتقادات الخاطئة فمن المهم أن نلاحظ أن الإيفاءَ حتى بهذَين الشرطَين الأساسيين للغاية كفيلٌ بإدخال تحريف فيما يجري توصيلُه، ثمة دراسات جهيرة قام بها علماء النفس بارتلِت٢٧ وأولبورت وبوستمان٢٨ تثبت أن الناسَ عندما تُعطَى رسالةً لنقلها إلى شخصٍ آخر فإنهم قلما يوصلون الرسالةَ حَرفيًّا. إن محدودياتِ الذاكرةِ البشرية والحاجةَ الضمنية بألا يُثقَل المستمِع بتفاصيل كثيرة جدًّا، من شأنها أن تفرض ضوابطَ على كمية المعلومات المنقولة ونوعها، ومن ثم فإن ما يراه المتحدث زبدةَ الرسالة (وفقًا لفهمِه) فهو يؤكده و«يُبرِزه» sharpen، أما التفصيلات التي يراها غيرَ جوهرية فهو يُهَوِّن من شأنها أو «يطمسها» level، إن تقارير العَنعَنة كثيرًا ما تصبح رواياتٍ أبسطَ و«أنظفَ» وغيرَ مثقَلة بتناقضاتٍ صغرى أو تفصيلاتٍ ملتبِسة.

ولنا في حالة «ألبرت الصغير» مثال جيد: صحيحٌ أن ألبرت أصابه شيءٌ من الخوف من الفأر، وأن خوفه تَعَمَّمَ بعضَ الشيء إلى كياناتٍ أخرى، غير أن مدى هذا الخوف ومدى تعميمه لا نجد عليهما إلا دليلًا غيرَ متسق وغير مفهوم. ولأن هذه التناقضات تعترض القصة الرئيسية حول القلق الشرطي الكلاسيكي فقد جَرُؤَ كثيرٌ من الكُتَّاب على إزاحتها جانبًا. إن تقرير واطسون الأصلي يذكر أن خوف ألبرت كان بحاجة إلى «إنعاشه» بعد بضعة أيام، وأن الصوت العالي أيضًا قد قُرِن مباشرةً بالأرنب والكلب أيضًا، ورغم ذلك فإن التقارير اللاحقة لواطسون نفسه — ولغيره من المؤلفين — لم تتطرَّق لذلك، لقد طُمِسَت هذه التفاصيل من الرواية.

من التجليات الشائقة لعمليتي الإبراز والطمس انطباعاتُنا عن الأشخاص الذين سمعنا بهم ولم نعرفهم معرفةً مباشرة، عندما تُتاح لنا مقابلتُهم شخصيًّا. إننا كثيرًا ما نُصاب بخيبةِ أمل إذ نجدهم أقلَّ بكثيرٍ مما وُصِفوا به، إيجابًا وسلبًا؛ ذلك أن الراوي إذ يحكي لنا عن شخصٍ آخر وعن أفعالِه فإن وصفَه يميل إلى أن يتركز على الشخص لا على السياق الذي حدثت فيه الأفعال، وهو بذلك «يُبرِز» الشخصَ وأفعالَه بينما «يطمس» السياقَ المحيط وشتى الظروف المخفِّفة؛ ذلك أننا نميل إلى أن نعزو التصرفات للشخص (إبراز) وليس لِمُتطلباتِ السياق وإملاءاتِ الظروف (طمس).

هناك سلسلة من الدراسات الحديثة تقدم تدعيمًا لهذه الأفكار.٢٩ في مجموعة من التجارب شاهد مجموعة من المشاركين يمثلون «الجيل الأول» شريطَ فيديو لشخصٍ «هدف» يصف حَدَثَين من ماضيه، ثم قام هؤلاء المشاركون بتقييم الشخص الهدف على تنويعة من الأبعاد الخاصة بسِمات الشخصية، وقدموا شريطًا مسجلًا لوصفهم لما رأوه (وصف عنعنة/يد ثانية). وبعد ذلك قامت مجموعة أخرى من المشاركين يمثلون «الجيل الثاني» بالاستماع لهذه الأوصاف (أوصاف العنعنة)، ثم قاموا بنفس تقييمات السمات، وكما هو متوقَّع: كانت تقييماتُ الجيل الثاني للهدف أكثرَ تطرفًا من تقييمات الجيل الأول، كما أشار تحليل الأوصاف التي قدمها الجيل الأول إلى أنهم حقًّا هَوَّنوا من قدر المحدِّدات الظرفية لأفعال الشخص الهدف، فالحدث الذي أتاه الشخص الهدف وندم عليه — مثلًا — كانوا يصفونه كحدثٍ سيئ لا كنتاجٍ محتملٍ لظروفٍ صعبة، هكذا تم «إبراز» نزعات الشخص الهدف بينما «طُمِسَت» ملامح السياق المحيط.
ثمة دليل آخر على التطرف النسبي لانطباع العنعنة قدمته تجربةٌ مختلفة جدًّا: كان يُطلَبُ فيها من أزواج من الأصدقاء تقييمُ صديقٍ ثالث (هدف)، بحيث إن أحد الصديقَين يعرفه جيدًا والآخر لم يقابله قَط، بل سَمِعَ عنه فقط من الصديق الأول، ثم طُلِبَ من الصديقَين — كلٍّ على حِدة — تقييم الشخص الهدف على مجموعة من مقاييس سمات الشخصية، وكما هو متوقع: جاء تقييمُ الشخص الذي سَمِع (فقط) عن الشخص الهدف، جاءَ أكثرَ تطرفًا من تقييم الشخص الذي كان يعرفه جيدًا.٣٠ هذه الظاهرة كثيرًا ما تحدث في الحياة الواقعية عندما يقابل زملاءُ الجامعة آباءَ رفقاءِ الغرفة أو إخوتَهم أو أصدقاء طفولتهم، هنالك يُصدَم مَن هَيَّأَ نفسَه على أنه سيقابل غولًا رهيبًا أو سيلقَى الفتنةَ المتجسدةَ أو الظرف أو الذكاء الخارق، ويُفاجَأ أنه بإزاء شخصٍ أبسطَ كثيرًا مما يحتسب وأقربَ إلى سائر البشر.

(٣-٣) تحريفات في خدمة «الإبلاغية» والتسلية

من أجل جودة القصة ينبغي ألا تبهظ المستمعَ بتفصيلاتٍ صغيرة كثيرة؛ لذا فإن كثيرًا من التفصيلات الخاصة عن الأشياء التي تَعمَّمَ إليها خوفُ ألبرت الصغير قد «طُمِسَت» في كثير من التقارير اللاحقة عن النتائج التجريبية، غير أن هناك معايير أخرى يجب استيفاؤها حتى يكونَ التواصلُ ذا قيمة، أهمُّ هذه المعايير: جَعْلُ التواصلِ مُبلِغًا (مفيدًا) ومسليًا، فإذا خرج المستمِع من التواصل مستفيدًا «معلومات» أو مستمتعًا فقد كان التواصل مستحِقًّا لوقتِه وانتباهِه، وقد حقق المتحدِّث واحدًا من أهم المطلوب منه.

ومن الطرائق التي يمكن أن تجعل الرسالةَ أكثرَ إمتاعًا وإبلاغًا أن تزيد مباشرِيَّتها، فما حدث لغيري يمكن أن يُحكَى على أنه حدث لي شخصيًّا، وما حدث لشخصٍ ما في مكتب عمي يمكن أن يُحكَى على أنه حدث لِعَمي نفسِه. من شأن هذه التبديلات أن تُعلِيَ من حضرة المتحدث وتضعَه في مركز الضوء، وقد تكون الغايةُ منها أكثرَ براءة: أن تجعل الحكايةَ أكثرَ إمتاعًا وأقوى بلاغًا إذ تجعلها أكثرَ نصوعًا وعيانية.

الحق أن أغلب ما يُحكَى على أنه من المنبع first hand هو منقول «عن» الغير (يد ثانية)، وما يُروَى على أنه يد ثانية هو يد ثالثة أو رابعة أو خامسة، وبالعودة إلى قصة «ألبرت الصغير» نجد أن عددًا من مؤلفي الكتب الدراسية لم يقرءوا تقارير البحث الأصلي، بل قرءوا تقاريرَ عن التقارير، وهذه مشكلةٌ شائعة في العالم الأكاديمي يصعب تفاديها: إننا في الغالب لا نقرأ النصوصَ الأصلية بل نقرأ نصوصًا عن النصوص.

فلتَشُكَّ — إذن — في الرواية بقدر طول سلسلة العنعنة؛ لزيادة احتمال وقوع تحريف في موضع ما من هذه السلسلة الطويلة، وليس يكفي أن تَسمع الروايةَ من مصدر ثقة عندك؛ فربما يكون قد سَمِعَها من مصدرٍ آخر أقلَّ مصداقية.

وكثيرًا ما تتردد حكايةٌ مقبولةٌ عقلًا، ينسبها كلُّ راوٍ ﻟ «صديق له» أو «صديق أخيه» أو «زميل في العمل»، وتتعدد المصادرُ بدرجةٍ تفوق احتمالَ وقوعِها لكل هذا العدد وبنفس الحبكة الواحدة، من أشهر هذا الصنف من الحكايا: حكاية المرأة التي ينصب شابٌّ شباكَه ليوقِعَها، وبعد أن يقضي منها وَطَرَه تختفي مِن عندِه تاركةً له في الصباح رسالةً (على الفراش أو على مرآة الحمام) تقول: «مرحبًا بك في عالَم الإيدز.»

مثل هذه الحكاية المعقولة من شأنها أن تراودَ الخواطرَ الروائية المبدِعة وتتواردَ فيها، وأقربُ إلى الاحتمال في معظم الحالات أنها اختُرِعت من أجل العِظَةِ أو المغزى الأخلاقي الذي تحمله.

والحقيقة أن الرغبة في الإمتاع أو الإبلاغ قد تُغرِي المتحدثَ بإضافة شيء غير الذي يعلم أنه حدث، فقليلٌ من الكذب من توابل الرواية، وأحيانًا ما يكون التتبيلُ بالحذف لا بالإضافة! ونعني حذف المشروطيات والمقيِّدات، وبخاصة في الإعلان عن الإنجازات العلمية التي تأتي تقاريرُها المسئولة مثقلةً بالشروط والتحديدات والاستثناءات … إلخ. إن حذف هذه الضوابط والمشروطيات يعطي المعلومةَ وَقعًا معرفيًّا أكبرَ ويجعلُها أكثرَ إمتاعًا وأشد حفزًا على الفعل، من ذلك أن التقارير الصحفية التي تؤكد أن الغذاء الأقل دهنًا يخفض الكلستيرول في الدم دائمًا ما يغفل أن ذلك مشروط — بصفةٍ عامة — بتناول عقار مثبط للكلستيرول.٣١

(٣-٤) تواطؤ ضمني على الكذب!

لا شك أن الرغبة في التسلية قد تجعل المتحدِّث يضحِّي بالدقة، وبشيءٍ من الحقيقة؛ من أجل الإمتاع، وكأن هناك تعاقدًا ضمنيًّا بين المتحدث والمستمِع على أن من حق الراوِي أن يَمُطَّ الحقيقةَ ويتبسَّط فيها ابتغاءَ الترويح والإيناس. يتبدَّى ذلك في أوضح صورة في حكايا الصحف الصغيرة الرخيصة التي تخلط درهمًا من الحقيقة بقنطارٍ من الكذب. لقد تعاقد الناشرُ والقارئُ عقدًا غير مكتوبٍ على أن الروايات لا يلزم بالضرورة أن تكون صادقةً مادامت مسليَّة.

ويعلم كل مَن عَمِل في وسائل الإعلام الجماهيرية أن هناك ضغطًا هائلًا على العاملين لتوفير مادةٍ للتو واللحظة: لتوفيق نهاية الوقت، أو لملء ساعةٍ، أو لِخَلق فراغٍ إعلاني … إلخ، وكثيرًا ما تكون الحاجةُ إلى مادةٍ مناسبةٍ أكبرَ كثيرًا من الوقائع الصادقة المتاحة. إن إلحاحَ النشر قد يَضطَر الإعلامَ إلى التخفف من الموضوعية والرصانة في أحيانٍ كثيرة.

(٣-٥) أنا أكذب «له» لا أكذب «عليه»!

أحيانًا ما يُعَدِّل المتحدثُ مِن المعلومات بعضَ الشيء (بالمَط أو المبالغة أو الكذب الصريح) من أجل إيصال حقيقةٍ أكبر. يفكر المتحدثُ هكذا (على مستويات متفاوتة من الوعي والدراية): «لا بأس بأن أتناول المعلومةَ بشيءٍ من التحريف من أجل غايةٍ شريفة، ولا بأس بأن أضحي بحقيقةٍ صغرَى من أجل حقيقةٍ كبرى.» من ذلك أن يبالغ المتحدثُ في سرد الأضرار المدمِّرة لعقارٍ إدماني ما بأبعد كثيرًا من أضراره الحقيقية، ويشتط في ذلك كثيرًا من أجل تنفير الناس من تعاطيه، وقد تأخذ المبالغةُ الطريقَ العكسي، فيبالغ المتحدثُ في سرد فوائد طعامٍ (أو عقار) ما مفيدٍ بحد ذاته، ولكنه يشتط في ذلك فيجعل منه شفاءً من كل داء على الإطلاق (panacea). وكلنا يعلم فكرة «أنا أكذب له لا أكذب عليه» التي كثيرًا ما ألحقت الضررَ بتراثنا الشفاهي المنقول، ودَسَّت فيه الدخيلَ على الأصيل.
وحين نلتفت إلى حالة «ألبرت الصغير» سنجد كيف يمكن أن تُدَس تحريفاتٌ من أجل ما يمكن أن نسميه «المصلحة النظرية»: فالمؤلفون المهتمون بدعم التفسير السلوكي المحض للتعلم البشري يميلون إلى بث تحريفات تشير إلى أن خوف ألبرت قد تَعَمَّمَ إلى أشياءَ أخرى تشبه الفأر في نواحٍ عديدة. هكذا أُلصِق بألبرت أن خوفه امتد إلى أشياء بيضاء كالقفاز الأبيض، وأشياء فرائية مثل معطف الأم، وفيما بعد حين راح دعاةُ نظرية «الاستعدادية» preparedness يحاجُّون بأن الكائنات لديها استعداد أو تَعَرُّض لأن تتعلم ارتباطاتٍ معينة دون غيرها، فقد بدأ يُقال: إن خوف ألبرت قد تَعَمم وفق بُعدَي الفرائية والحيوانية اللذَين أَملَتهما اعتباراتٌ تطورية.٣٢ ويبدو أن هذا الوصف التنقيحي يحصر ما حدث أثناء تجربة واطسون ورينور على نحوٍ أدق، غير أن هذا الوصف أيضًا قد تَشَكَّل بواسطة عمليتَي الإبراز والطمس؛ فألبرت — وفقًا لهذا الوصف — قد أبدى استجابةً رُهابية تجاه: «الفئران والأرانب وأشياء فرائية أخرى»، وهي استجابة «لم تنطفئ سريعًا».٣٣ وهذا حديث لا يتفق مع حقيقة أن ألبرت لم يُختَبَر إلا بفأرٍ واحد وأرنب واحد، وأن الدليلَ على أن مخاوفَه كانت طويلةَ الأمد هو دليلٌ مشكوك فيه إلى أقصى حد كما قد رأينا.

(٣-٦) كيف ينبغي تقييم دعاوي العنعنة في وسائل الإعلام؟

  • انظر في المصدر: تَمَعَّن في مصدر الرواية، وانظر إن كان مصدرًا خبيرًا حقًّا مضطلعًا بالشأن الذي يتحدث عنه، فإذا كان الحديث — مثلًا — عن مدى انتشار الإيدز، فالأَمثَل أن يكون المتحدثُ متخصصًا في الوبائيات epidemiology، وليس في العلاج الجنسي أو في الغناء أو التمثيل، واعلم أن وسائلَ الإعلام بارعةٌ في الإيهام بوجود مصدرٍ خبير حيث لا خبرة، أو حيث الخبرةُ هي في مجالٍ آخر، أو — في أفضل الأحوال — في مجالٍ قريبٍ ولكن مغايِر (مجالُ العلاج الجنسي مثلًا غيرُ مجال وبائيات الأمراض الجنسية).
  • ثِق بالوقائع ولا تثق بالإسقاطات: حتى إذا كنتَ تُصغِي إلى متخصصٍ حقيقي، فمن الحصافة أن تثق فيما يرويه من وقائع وأن تتحفظ — بعضَ الشيء — فيما يتعلق بتنبؤاته بما سيحدث في المستقبل، فكم أخطأ خبراءُ الأرصاد في تنبؤاتهم بطقس الغد! وكم أخطأ خبراءُ الاقتصاد في قراءة مآلات الأمور الاقتصادية وفقًا للمؤشرات المتاحة، وبصفةٍ عامة: كنْ حذرًا تجاه أولئك الذين يحدثونك عن المستقبل.٣٤
  • كُن بالمِرصاد لأي إبراز أو طمس، حتى فيما يُنقَل عن الإحصاءات العلمية المتخصصة؛ فقد تعاني هذه الإحصاءات إبرازًا وطَمسًا حين يتناولها مَن ينقل «عنها»! من ذلك أن يصدر عن مركز وبائيات متخصص تقريرٌ يقول: إن هناك عددًا يقع بين ٥٠٠٠٠٠ و١٥٠٠٠٠٠ من المصابين بالإيدز في الولايات المتحدة، إن العدد الأكبر هنا هو الأكثر إثارة، ومن ثم فإن الصحف — في الأغلب — سوف تُسقِط من حسابها هذا النطاقَ الرقمي العريض وتذكر العدد الأكبر فقط، وتكتب أن مركز الوبائيات قد أصدر تقريرًا بأن هناك مليونًا ونصف مليون حالة إيدز في الولايات المتحدة. وبصفة عامة: علينا توخي الحذر تجاه أي عبارة تقول: «عدد يبلغ كذا» أو «يصل إلى كذا» مبرِزةً الحدَّ الأقصى لكي يسترعِي انتباهَنا، وطامسةً كل ما عدا ذلك.

  • احترِس من شهادة الآحاد testimonial حين تكون ناصعةً براقةً تجذب الانتباه، وبخاصة في عملية تقدير «انتشار» prevalence شيءٍ ما، فمن شأن وسائل الإعلام أن تحاول إحداث انطباعٍ قوي لدينا بخطورة مشكلة ما عن طريق نشر شهادة ناصعة لفردٍ معين عانَى من هذه المشكلة. إن لنا أن نتأثر بعمقٍ بهذه الشهادة ونتعاطف بشدة مع هذا الفرد، ولكن ليس يعني ذلك أن نتركَ هذا التأثرَ أو هذا التعاطفَ يُحَرِّفُ تصورنا ﻟ «مدى انتشار» هذه المشكلة.٣٥

(٤) الاعتقاد في ممارسات صحية «بديلة» غير فعالة

لقد تعلمت في السنوات الحديثة أن أبغض أكثر ما أبغض — بعد مبدأ اللاتَعَيُّن — لفظةَ «كلي» holistic، ذلك الدالَّ الذي لا معنى له، والذي يعمل على طَمس كل التمييزات المفيدة التي جَهِدَ الفكر الإنساني في وضعِها طيلةَ ألفَي عام.
روجر لمبرت

(٤-١) عقولٌ راجِحة تتبنى اعتقاداتٍ غيرَ راجحة

لم يُبتَلَ مجالٌ من المجالات باعتقاداتٍ مريبة وخاطئة وضارة في أحيانٍ كثيرة مثلما ابتُلِيَ مجالُ الطب والصحة، ففي تاريخ حديث كالقرن التاسع عشر كان بنيامين رش — الطبيب المبجل والموقِّع على إعلان الاستقلال — يعالج ضحايا الحمى الصفراء — وهو منهم — بالفَصد الشديد، وفي يومنا هذا يتقاطر المصابون بالسرطان في أعدادٍ غفيرة إلى عيادات الليتريل laetrile٣٦ العبثية في المكسيك، وعلى «الجراحين» الروحيين المحتالين في الفلبين، وعلى المعالجين بالإيمان الاستغلاليين في الولايات المتحدة. ويلتمس مرضى الإيدز اليائسون العونَ في كل ضروب الطقوس العبثية والجرعات الباهظة الثمن، بما فيها ضرب صدورهم لتنبيه الغدة الصعترية، وتعريض أعضائهم التناسلية لضوء الشمس، وحقن غاز الأوزون شرجيًّا، وحقن أنفسهم ببيروكسيد الهيدروجين.٣٧
ليس الأميون وحدهم أو الحمقى هم المعرضون لهذه الاعتقادات، لقد كان فرنسيس بيكون يعتقد أن الثآليل الجلدية يمكن أن تُعالَج بدعكها بقش الخنزير، وكان جورج واشنطن يعتقد أن شتى الأمراض الجسمية يمكن أن تُعالَج بتمرير قضيبين معدنيين طولهما ثلاث بوصات فوق المنطقة المصابة، وكان السياسي البريطاني وليم جلادستون يعتقد أننا جميعًا يمكن أن نكون في صحة أفضل إذا ما اعتدنا مضغ كل قطعة من الطعام ٣٢ مرةً بالضبط، وإلا — فيما يُحاجُّ — فلماذا وهبتنا الطبيعة ٣٢ سِنًّا بالضبط؟٣٨
قد يَتَراءَى لك أن مثل هذه الاعتقادات هي عبثٌ بريءٌ لا خسران منه ولا ضير فيه على كل حال، إلا أن هذا الانطباعَ السمحَ غيرُ صائب، فثمة خسرانٌ وضَيرٌ في أغلب الأحيان: ثمة ثمن باهظ يُدفَع من الجيب ومن الصحة الجسمية، وثمة صدمات نفسية وخسائر في الأرواح. يُقَدَّر ما يُنفَق على الدجل العلاجي في الولايات المتحدة بعشرة مليارات من الدولارات سنويًّا: منها ثلاثة مليارات على العلاجات الزائفة للسرطان ومليار دولار على علاجات عبثية للإيدز، وإن الدجل لَيقتلُ من البشر أكثرَ ممن يموتون من جميع جرائم العنف مجتمعةً.٣٩

لماذا يَرُوجُ هذا الدجل؟ لماذا يُعرِّضُ الكثيرون أنفسَهم لمثل هذه العلاجات الباهظة الثمن، والمؤذية في كثير من الحالات؟ لا بد أن هناك شيئًا ما في هذه العلاجات يجعلها تبدو فعالة، أو تبدو ممكنة الفاعلية، حتى وإن لم تكن كذلك، ما هو هذا الشيء؟ ماذا في هذه العلاجات، وفي طبيعة المرض، وفي طريقة تفكير الناس، مما يجعل الكثيرين يعتقدون في الجدوى العلاجية لممارسات صحية من الثابت أنها عديمة الفاعلية؟

قد يقول قائلٌ: إن سببَ رواجِ هذا الدجل هو أن ما يقدمه شديدُ الإغراء: إنه لا يَعرِض للمرء وهو في كامل رشده وذروة معنوياته، بل يَعرِض له وهو منهَكٌ يائس لا يُلام على التجريب، ولا يُعاتَب على أي محاولة حتى إن بَعُد احتمالُ نجاحِها، فلحظات اليأس تُهِيبُ بإجراءاتٍ مستيئسة، والغريق يتعلق بقشة، يعتقد في القشة! إن الممارسات الطبية البديلة تقدم أملًا حيثما وقف الطب التقليدي عاجزًا: في حالات التهاب المفاصل مثلًا وحالات السرطان والشيخوخة.

كل هذا حسنٌ وجميل، غير أن سؤالنا الحقيقي غير ذلك: لماذا تبدو هذه العلاجات الزائفة فعالةً؟!

(٤-٢) بعد ذلك إذن بسبب ذلك

لا يُدرِك كثيرٌ من الناس الكَم الهائل من الشفاء الذي يتم لا بواسطة الأطباء ولا العمليات الجراحية، بل بواسطة أجسامِنا ذاتِها! إن ٥٠٪ من الأمراض يَشفَى تلقائيًّا بواسطة عمليات الاندمال الطبيعي للجسم ودون عون من الطب.٤٠ إن الجسم هو حقًّا آلةٌ مدهشةٌ ذاتُ قُوَى غيرِ عادية على تصحيح ذاتِها، بحيث يمكننا القول بأن كثيرًا ممن يلتمسون العون الطبي سوف يجدون مآلًا جيدًا حتى إذا لم يفعل الطبيبُ أي شيء مفيد. من هنا يمكن حتى للعلاج العبثي أن يبدو فعالًا، فحيثما كان تدخلٌ علاجيٌّ ما متبوعًا بتحسنٍ فإن المرء لا يملك إلا أن يَعزو التحسنَ للعلاج، ولا تملك أي قوة استدلالية يحيط بها علمُ الطب أن تقنعه بأنه ربما لم يكن العلاج هو ما رَدَّ إليه صِحَّتَه.٤١ إنه في قبضة الاستدلال المسيطر المغلوط «بعد هذا إذن بسبب هذا» post hoc ergo propter hoc، فحين يجرب الشخصُ علاجًا فإنه في الحقيقة لا يملك أن يعرف ماذا كان سيحدث لو أنه جَرَّبَ علاجًا آخر، أو ماذا كان سيحدث لو أنه لم يجرِّب علاجًا على الإطلاق.
ثمة مصدر آخر للانخداع الواثق بالعلاجات الزائفة، هو المَسار الدقيق للعِلَل التي لا تشفَى تلقائيًّا، فحتى عندما يكون الجسم عاجزًا عن شفاء نفسِه من إصاباتٍ معينة فإن العِلَل لا تُفضِي — بصفة عامة — إلى تدهورٍ متجانسٍ ثابتِ الخُطَى، إنما تتكشف المشكلاتُ في نوباتٍ وفُجاءات، مع فترات من التدهور (اشتداد مرضي) المختلط بفترات من التحسن (هَدأة أو فَترة مرضية). مسارات الأمراض إذن متأرجحة بين الاشتداد والهدأة، وإن هذه الفترات المؤقتة من الانفراج النسبي هي ما يؤدي إلى الإدراك الخاطئ لنجاعة العلاج. ولما كان تناولُ العلاج يكون في الأرجح في فتراتِ الاشتداد، وفتراتُ الاشتداد في الأرجح متبوعة بفترات من التحسن حتى بغير علاج؛ فإن مَن لا يدرك ظاهرةَ التراجع الإحصائي٤٢ وظاهرة التأرجح في مسار أغلب الأمراض سيكون عُرضةً بقوة لأن يَعزو أيَّ تحسن مؤقت إلى تناول العلاج (بعد هذا إذن بسبب هذا).

الحق أن أي «علاج» يدخل أثناء توهج الأعراض يمكن أن يبدو ناجعًا ما دام التوهجُ يتبعه الهدوءُ النسبي على كل حال، وحتى عندما يفشل العلاج ويتبعه تدهورٌ أو موتٌ يمكن تأويلُ الفشل بطريقةٍ لا تَمَس الإيمانَ بنجاعةِ العلاجِ بِحَد ذاتِه!

(٤-٣) تبرير الفشل (انتزاع النجاح من بين أنياب الفشل)

حتى عندما يفشل العلاج فشلًا صريحًا ولا يكون متبوعًا بتحسن، تبقى هناك تبريراتٌ كثيرة لذلك يحفظها الدجالون وتُسعفهم في هذه الحالات:
  • فقد يٍقال: إن المريض شَرَع في تناول العلاج متأخرًا جدًّا بعد أن تمكن منه المرض.

  • وقد يُقال: إن إيمانَ المريض غيرُ خالص، يقول المعالج الروحي ج. روجرز: «إذا لم أَقدِر على شفائهم فهناك إذن خللٌ ما في أرواحِهم.»٤٣ وتقول كاترين كولمان: «أنا لا أشفِي أحدًا … الروحُ القُدُس يَشفِي مِن خِلالي.»٤٤ من هنا كان من بين أهم مبادئ حركة العلاج الكلِّي holistic مبدأ يقول: «أن تَعرِف أي نوع من المرضَى لديه المرض أهم بكثير من أن تعرف أي نوع من المرض لدى المريض.» فلعلهم لم يستغرقوا في «التأمل» بما يكفي، أو لم يبلغوا التكامل الصحيح بين العقل والجسم والروح، أو لم يستخلصوا «المعنى» الصحيح من مرضهم. إن العلاج صحيح ولكن المريض غير قادر على تطبيقه كما يجب، أو العلاج صحيح ولكن الممارس العلاجي لا يفهمه ولا يطبقه بكفاءة.

أليس هذا صيغة أخرى من قولنا: «العلاج صحيح ولكن المريض لا يجيد أن يتعالَج!» أو «العملية نجحت ولكن المريض مات!» هكذا يُلامُ أيُّ شيء عدا «النظرية» القابعة وراء الدجل.

حتى المريضُ قد يتهم نفسَه حين يفشل العلاج، ويَصلَى تقريعًا ذاتيًّا كان منه بُد: «يبدو أني لم أكن تَقِيًّا كما يجب.» «أَبلِغوا المعالجَ أن العلاج كان فاعلًا وإنما الخطأُ خطئي … إلخ.» ولا نهاية لحيلِ التأويل التي تفسر فشلَ العلاج تفسيرًا يُبَرِّئ العلاجَ نفسَه. وكلما كان معيارُ النجاح غامضًا كان من السهل أن تستبينَ دلائلَ عليه، وأن تُؤَوِّل كل شيء مضاد تأويلًا يستبعد الفشل؛ لهذا السبب بالتحديد لا تقدم أغلبُ الممارسات الصحية البديلة علاجاتٍ محددةً لاضطرابات محددة، بل تَعِد بإحداث شيء من «حسن الحال» أو «الأداء الأعلى» أو «التكامل الأفضل» … إلخ من الفوائد الغامضة. إن الفوائدَ الغامضة صعبةُ الدحض؛ لذلك لا يورط الدجالون أنفسَهم في تنبؤاتٍ محددة قابلة للتحقق منها، ومن هنا لا ينبري المعالجون الروحيون إلا للأمراض الملتبِسة غير المرئية حيث التحسنُ أيضًا غامضٌ غيرُ مرئي: عِلل من قبيل الشقيقة، السرطان، التهاب المفاصل، التهاب الجراب، ضعف السمع … إلخ؛ من أجل ذلك يشترط علينا المنهجُ العلمي القويم أن نحدد بشكلٍ دقيقٍ ومسبَق ماذا عساه أن يُعَد — أو لا يُعَد — نجاحًا أو فشلًا، وبغير هذا التحديدِ المسبقِ فإن أمانينا يمكن أن تضربَ على أبصارِنا غِشاوةً، وتوقعاتنا يمكن أن تحملنا على تَوَهُّم نجاحٍ ما في أي إجراءٍ علاجي كان.

(٤-٤) هالة المقبولية

نحن نعتقد في أشياءَ معينة لأنها ينبغي أن تكون صحيحة: نعتقد مثلًا أن تحليل خط اليد (أو مختلف الاختبارات الإسقاطية) يقدم استبصارات عميقة في شخصية المرء، ذلك أن منطقها الذي تقوم عليه يبدو معقولًا؛ فالأشخاص «ينبغي» أن يَتركوا آثارًا من أنفسِهم في استجاباتهم الظاهرة. بالمِثل يعتقد معظم الناس أن أكل لحم الثور يسهم في مرض القلب؛ لأن الدهن على جوانب شريحة اللحم (أو في قعر المقلاة) يبدو قمينًا جدًّا أن يسد الشرايين التاجية، فالشيء الدبِق والمتجلط خارج الجسم ينبغي أن يكون دبقًا ومتجلطًا داخله أيضًا، هكذا يمضي التفكير. إن الأشياء التي ينبغي أن تكون صحيحةً كثيرًا ما تكون صحيحة، ولكن في أحيان كثيرة أيضًا يُغَشِّي حِسُّنا بما ينبغي أن يكون صحيحًا على إبصارنا لِواقعِ الحال، وبخاصة عندما تكون النظرياتُ التي تُوَلِّد حِسَّ المعقولية نظرياتٍ سطحيةً نوعًا ما.

هذا الميل إلى الاتكاء بشدة على ما يبدو مقبولًا قد أسهم في عدد من الاعتقادات الخاطئة عن الصحة. ثمة نظريات عامة غير رشيدة عن الطبيعة أو عن طريقة عمل الجسم جعلت أفكارًا معينةً تبدو معقولة، مما أدى بدورِه إلى تبني ممارساتٍ خرقاءَ عديدة، من هذه النظريات العامة نظرية تقول: إن المعلولات يجب أن تشبه عِلَلَها: أعراض المرض، إذن يجب أن تشبه سببَها أو تومئ إليه على نحوٍ ما، وبالمثل أعراض المرض ينبغي أن تشبه علاجَها أو تومئ إليه على نحوٍ ما.

تتكشَّف هذه الاعتقادات في أوضح صورة في ممارسات طبية بدائية معينة تذهب إلى أن المواد التي تسبب حالة معينة أو تَشفيها تميل إلى أن تشارك الحالةَ نفسَها في ملامح خارجية عديدة، من ذلك في الطب الصيني القديم أن الأشخاص الذين يعانون من مشكلات بصرية كانوا يُطعَمون الخفاشَ ظنًّا بأن الخفافيش لديها بصرٌ حاد وأن بعض هذه القدرة سينتقل إلى آكلِه، ومنه أن بعض القبائل البدائية ترغم المجرمين على أكل الكبد اعتقادًا منهم أن الكبد هي مَحَل الرحمة، ومنه أن قدامى الأطباء الغربيين كانوا يصفون لحم الثعلب (المعروف بقوة التحمل) لمرضى الربو، وحتى في أيامنا هذه ثمة عدد من ممارسي الطب البديل يوصون بتناول خلاصة المخ النيئ لمن لديهم مشكلات نفسية.٤٥
هذا الاعتقاد بأن الشبيه يلائم الشبيه يجد أفضل تعبيرٍ وأحكمَه في مجال «العلاج المِثلي» homeopathy الذي أسسه صمويل هانمان في أواخر القرن التاسع عشر، ولا يزال يجد اليوم أنصارًا له كثيرين من ممارسي «الطب الكلي» holistic medicine. ذهب هانمان إلى أن من الممكن شفاء كل مرضٍ بإعطاءِ المريضِ أَيَّما مادةٍ تسبب أعراضًا مثيلة في الشخص السليم: الشبيه يلائم الشبيه، ينسجم معه like goes with like، وهو يُسمِّي هذا «قانون الأشباه» law of similia، وقد أفاض هانمان في تبيان أدلة ممنهَجة على ذلك، حيث كان يعطي أفرادًا أسوياء أعشابًا متنوعة ومعادنَ وموادَّ أخرى ويدوِّن أي أعراضٍ تنشأ لديهم، وقد ضمَّن نتائجَه كتبًا مرجعية له هي اﻟ materiel medico التي ما زال المعالجون المثليون يعتمدون عليها اليوم، ورغم أن ربطَه البسيط بين السبب والعلاج يُضفِي على الطب المِثلي جاذبيةً حدسيةً معينة فقد أثبتت الدراسات البحثية أن الطب المِثلي غيرُ ذي فاعلية.
ثمة مبدأٌ مؤسِّس آخر للطب المِثلي ربما يكون أكثر كشفًا لِعَبَثِيَّتِه، وهو «قانون اللامتناهيات في الصِّغَر» law of infinitesimals الذي يتبع أيضًا نوعًا بدائيًّا من المنطق. لقد لاحظ هانمان أنه كلما قَلَّت المادة المُعطاة للشخص السوي قَلَّت شدةُ الأعراض الناتجة، فاستنتج أنه كلما قل تركيز العلاجات المُعطاة للمريض زادت قدرتها على تخفيف أعراضه؛ وعليه فإن كتب الطب المِثلي تُسهِب في وصف طريقة خلق تخفيفاتٍ قُصوَى لشتى الأدوية، وتصل التخفيفات الموصَى بها في بعض الحالات إلى جزء من المكوِّن الفعال لكل ديسيليون جزء من الماء. إن من المستبعَد عند هذه التركيزات أن يحتوي ما يُعطَى للشخص — حقًّا — على أي قدر من المُكَوِّن الفعال المفترَض، غير أن المعالجين المثليين يصرون على أن تدخلاتهم العلاجية فعالة، وأنها تكون أكثر فاعلية كلما انخفضت تركيزاتها. مرةً أخرى يثبت البحث العلمي غيرَ ذلك.٤٦
وينسحب هذا المبدأ نفسه (الشبيه يلائم الشبيه) على اعتقادات حدسية للناس في التغذية، فأيُّما صفة بسيطة توجد في أطعمة معينة سوف تنتقل مباشرةً إلى الشخص الذي يأكلها. الشبيه يدعم الشبيه: «أنت هو ما تأكله.» هذا الاعتقاد بالطبع صحيح في بعض الأحيان: فنحن نسمن إذا أكثرنا من أكل الدهون، وجلدنا يكتسب مسحةً برتقاليةً إذا أكثرنا من أكل الكاروتين (مركب موجود في الجزر والطماطم). غير أن هذا الاعتقاد يُعاني مبالَغاتٍ خرافيةً في كثير من الأحيان: يذكر عالِم النفس باول روزِن أنه طلب من مجموعتَين من طلبة الكلية أن يُدْلُوا بتنظيراتهم حول أعضاء ثقافتَين بدائيتَين افتراضيتَين من حيث الشخصية والصفات الجسدية: ووصَف إحدى القبيلتين بأنها تأكل الخنزير البري وتصطاد السلحفاة البحرية من أجل درقتها، ووصف القبيلة الأخرى بأنها تأكل سلحفاة البحر وتصطاد الخنازير البرية من أجل أنيابها، فجاءت استجابات الطلبة تشير إلى أن سمات أعضاء القبيلة — الجسمية والشخصية — تضاهي خصائص الطعام الذي يأكلونه؛ فقد اعتبروا آكلي السلاحف أكثرَ كرمًا وأمهر في السباحة، واعتقدوا أن آكلي الخنازير البرية أكثر عدوانية ورَجَّحوا أن لديهم لِحًى، ذلك أن ما نأكله يحدد — على نحوٍ تفصيلي — ما هو نحن.٤٧
وبالمثل تقوم «علاجات» غذائية عديدة لالتهاب المفاصل على افتراض أن الخواص الخارجية للطعام ستبقى بعد الهضم، وأن هذه الخواص سيكون لها داخل الجسم نفس التأثير الذي تؤتيه خارجه. يحاجُّ د. دان دال ألكسندر — مؤلف كتاب «التهاب المفاصل والحس المشترك» — بأن بوسعك أن تحارب التهاب المفاصل بأن تقوم بتزييت مفاصلك بمعنى الكلمة، وهو يوصِي بأن يتناول مرضى المفاصل كمياتٍ جزيلةً من الزيت وألا يشربوا ماءً أثناء الوجبات التي تحتوي على الزيت؛ (لأنهما لا يمتزجان ومن ثم فإن الماء قد يدمر الخواص التزليقية للزيت). وبنفس المنطق يوصي د. ديفورست جارفيس مؤلف كتاب «الطب الشعبي» Folk Medicine بتفتيت رواسب الكلسيوم في المفاصل بنفس الطريقة التي يستخدمها السباكون لإزالة رواسب الكلس بمركَّب حمضي؛ وهو لذلك يصف الخل (وهو حمض خفيف) لمرضى تصلب المفاصل.٤٨

هذه العلاجات تتغافل حقيقة أن الجسم يُحَوِّل معظم المواد التي يتناولها، ومن ثم فإن أية خواص تكون لها خارج الجسم يمكن أن تتغير جذريًّا أو تختفي تمامًا داخله، فالخل مثلًا يتحول بعد عملية تكسير أَيضية من حمض خفيف إلى بقايا قلوية، وفي غياب هذا الفهم فإن الناس يستمرون للأسف في تجريب علاجات عبثية؛ لأنها تبدو ذات معنى حدسي ما.

وقد أسهم التنظير السطحي أيضًا في الاعتقاد الشائع بأن علينا دوريًّا أن «ننظف» دواخلَ أجسامنا، فمثلما ننظف محرك سيارتنا وجهاز تسجيلنا كل فترة، فإن قناتنا الهضمية يمكن أيضًا أن تستفيد من عملية تنظيف منزلي عابرة، في سبيل ذلك يتناول البعض كمياتٍ كبيرةً من الماء، ويتلقى البعض حقنًا شرجية أو يأكلون الزبادي. ثمة معنى حدسي ما في كثير من هذه التقنيات، غير أن جاذبيتَها استعاريةٌ أكثر منها منطقية. يقول الناس إنهم «يكسحون» السموم بحقنة شرجية موسمية، ورغم أن استعارة الشطف هذه تبدو مقنعة فإن أجسامنا ليست بالضرورة بهذه البساطة في تشغيلاتها، فمع أن تراكم السموم في الجسم هو شيء يجب اجتنابه بالتأكيد، فقد تطوَّر الجسمُ لكي يقوم بهذه الوظيفة بكفاءة عالية للغاية، ومن ثم فإن عملية السمكرة التبسيطية من جانبنا يمكن أن تعيق هذه العملية بقدر ما تساعدها.

نخلص من كل ذلك إلى أن علينا أن نتبيَّن ما إذا كانت اعتقاداتُنا (عن الصحة أو غيرها) ناجمةً أساسًا عن حِس بمعقوليةٍ سطحية. علينا أن نحاذر من مبدأ «الشبيه يلائم الشبيه»، إن هذا المبدأ كان من أسباب مقاومة الناس في البداية للنظرية الجرثومية في المرض. لقد بدا للناس حقًّا أن من غير المعقول أن معلولًا «كبيرًا» مثل الموت والعجز يمكن أن يكون ناشئًا من علَّة «صغيرة» كالكائنات الميكروسكوبية. إن العلل كثيرًا — بالطبع — ما تماثل معلولاتها، ولكن هناك استثناءات تكفي وأكثر لأن تستدعي بعضَ الحذر وبعض الارتيابية الصحية.

(٤-٥) الطب «الكلي» في «العصر الجديد»

في العقود الأخيرة صارت أعدادٌ متزايدة من الناس تلتمس بدائلَ أو مكملاتٍ للخدمة الطبية التقليدية، بدائل كثيرًا ما يُطلَق عليها لفظة «الكلي» holistic أو «العصر الجديد» New Age.
الطب الكلي هو توجه إلى الصحة والطب يرفض — أو يقلل من شأن — ما يُعتبَر تحيزًا ماديًّا أو رَدِّيًّا من جانب الطب «الغربي» التقليدي. يعمل الطب التقليدي على البحث عن السبب العضوي لمرضٍ ما أو اختلال وظيفي، ويحاول أن يخففه بواسطة تدخل فيزيقي ما، مثل المضادات الحيوية أو الجراحة. يُلِح الطب التقليدي على سببٍ موضعي محدد للمرض وكيفية إصلاحه. أما دعاة الطب الكلي فهم أميَل إلى النظر إلى العوامل النفسية — وحتى الروحية — على أنها سبب الحالة المرضية أو السبيل إلى علاجها، إنما يعنيهم «الشخص الكلي» the whole person لا السبب الموضعي للاضطراب، ويرون أن كثيرًا من المشكلات تنجم من غياب «التوازن» بين العقل والجسم والروح، فمجلة الطب الكلي مثلًا تقرر أن مهمتها التركيز على «الجهود الشخصية لتحقيق التوازن».
حسنٌ، كيف إذن يحقق المرءُ التوازنَ الجسمي والنفسي والروحي؟ يتكون الطب الكلي في أبسط صورِه من مجموعة من الممارسات الصحية الوقائية لا يختلف عليها اثنان، مثل النظام الغذائي الصحيح والتمرين الرياضي الكافي، وهو يحمل الفرد على أن يتوَلَّى مسئوليةَ صحتِه الخاصة، من حيث تَبَنِّي أسلوبِ حياةٍ مصمَّم لكي يرقى بجودة الحياة، ومن حيث اتخاذ خيارات مستنيرة حول علاج أي مرض. وأَلصَقُ اتصالًا بهدف تحقيق التوازن دعوةُ كثير من دعاة الطب الكلي إلى ممارسة التأمل meditation واليوجا والتغذية الحيوية الراجعة biofeedback والخيال الذهني الإيجابي، فبالإضافة إلى ما يزعمون من قدرة هذه الممارسات على جلب الانسجام بين العقل والجسم والروح، فهم يعتقدون أنها أيضًا تخفض التوتر؛ ومن ثم تخفض تعرُّض المرء للأمراض التي تُعتبَر ذاتَ مَنشَأ نفسي أو اجتماعي أو بيئي، غير أن فاعلية هذه التقنيات في تحقيق أيٍّ من هذَين الهدفَين لم تزل محلَّ خلاف كبير. أما الجوانب الأَكثر إثارة للشك في مجال الطب الكلي فهي مجموعة من الممارسات العجيبة، القديمة منها والجديدة في «العصر الجديد»، التي لا يربطُ بينها إلا رفضُها للطب التقليدي ورفض الطب التقليدي لها. من هذه الممارسات: التشخيص النفسي والشفاء النفسي وقراءة الكف وغسل القولون والعلاج بالإيمان وعلم القُزَحية (تشخيص المرض حيثما يكون في الجسم بواسطة فحص مواضع على قُزَحية العين). هذه الممارسات إما تستند إلى مبادئ تخالف العلم الراسخ، وإما أثبت البحث التجريبي بطلانَها المطلق، وإما الاثنان معًا.

(٤-٦) الجانب الوجيه في الطب الكلي

إذا ضربنا صفحًا عن هذه الممارسات الأخيرة الزائفة، فإن ثمة بالتأكيد مزايا معينة في الطب الكلي؛ فلسفتِه التي يقوم عليها، وكثير من ممارساته الخاصة:
  • أول هذه المزايا توكيد الطب الكلي على أن يأخذ المرءُ دورًا إيجابيًّا مسئولًا في تحديد مسار علاجه، فمهما بلغ اهتمامُ الطبيب وعطفُه فهو لن يفوق اهتمام المريض بنفسه؛ ومن ثم فإن مصلحة المريض تقتضي أن يَعلَمَ جيدًا عن طبيعة مرضه ويُحفَّز لاتخاذ دورٍ إيجابي في تحديد مسار العلاج. إن الأطباء بشرٌ، وعُرضة لارتكاب أخطاء وأخطاء فادحة أحيانًا، وينبغي النظر إليهم لا كمعصومين ومجترِحِي معجزات، بل كمستشارين ذوي عِلم يساعدون المريض في معركته مع مرضٍ معين.

  • والمَزِيَّة الثانية للطب الكلي توكيدُه على الوقاية، إن الوقاية أقل كلفةً وأقل كراهة، ويمكن أن تكون أكثر فاعلية، ربما يندهش الكثيرون حين يعلمون أن التقدم الصحي الذي حدث في القرنَين الأخيرَين مصحوبًا بإطالة معدل الأعمار لا يُعزَى إلى تقدم العلاج الدوائي والجراحي بقدر ما يُعزَى إلى الإجراءات الوقائية المتنوعة: الصرف الصحي، تنقية المياه، بَسترة اللبن، تحسن الأطعمة … إلخ. الحق أن زيادة معدل الأعمار يعود بالدرجة الأولى إلى انخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال بفضل هذه الإجراءات الوقائية وبفضل إدخال الفاكسينات التي تَقِي أيضًا من الأمراض المُعدِية في سن الشباب.

  • والمزية الثالثة أنه يساعد المريض على التماسك أمام المرض والعجز والألم. إن الطب التقليدي على تقدمه الملحوظ ما زال يقف عاجزًا تجاه الكثير من الأمراض الجسمية ولا يقدم إلا شيئًا من إبطاء التدهور يتكبد فيه المريض نظامًا مرهِقًا من الأدوية المزعجة والتشوه الجراحي، وعلى الناس أن تمشِي بِدائِها فترةً أطول. هنا يتقدم الطب الكلي بخدمة كبيرة؛ إذ يجعل قدرة الناس على مسايرة المرض، من خلال التأمل والاسترخاء العضلي والخيال الإيجابي، أمرًا أكثر يُسرًا وإرضاءً.

(٤-٧) الطب الكلي والمناعة النفسية

يؤمن الممارسون الكليون بأن العقل يمكن أن يؤثر على الجسم على نحوٍ لا يمكن تقييمُه بدقة في وقتنا الحالي. ثمة أطروحة علمية رصينة تقول بأن مزاج المرء وشخصيته يمكن أن يؤثِّرا في الأداء الوظيفي لجهاز المناعة، وثمة صيحات شعبية متحمسة تقول بأن الانسجام الروحي والتكامل الأخلاقي لهما تأثيراتٌ مماثلة. والكُلِّيُّون من كلا الطرفَين يحاجُّون بأن الخيال الذهني قد يمنع المرض العضوي أو يوقفه.

هذه الدعاوي تَمَس منطقةً من أكثر مناطق البحث إثارةً في العلم كلِّه، وهي حقل علم المناعة السيكولوجي psychoimmunology، ويُعنَى الباحثون في هذه المنطقة برسم خريطة المسارات البيوكيميائية التي تصل الدماغ بالجهاز المناعي، وبالتالي بكيف يمكن أن تؤثر الحالات النفسية بصحة الشخص. والحق أنه رغم تحقيق بعض الكشوف المثيرة في هذا المجال فإنه لم يتقدم بعدُ بما يسمح بتقديم نقدٍ حاسم لشتى الدعاوي المذكورة آنفًا، ومن الحصافة ألا يبالغ المرءُ في التنبؤات المنتظَرة في هذا الحقل، وأن يراهن على الدعاوى الأكثر قصدًا وتواضعًا.

الحالة النفسية لها تأثيرٌ على جهاز المناعة، هذه حقيقة معروفة منذ سنين (التوتر العصبي يمكن أن يؤدي إلى المرض)، ولكن ثمة مبالغات يُشيعُها المتحمسون في هذا الصدد (دخول امتحان/كتم الغضب/التسلط على الغير/العزلة الاجتماعية … من شأنها تثبيط المناعة، بينما الاسترخاء/الخيال الذهني/مشاهدة فيلم كوميدي … من شأنها حفز المناعة)، هذه المبالغات وأمثالها تتركنا مع وجودٍ غير وجودِنا الذي نعرفه، وعالَمٍ غير عالمنا، عالم لا يمرض فيه — غالبًا — إلا التعيس وغير الاجتماعي والمكبوت، عالم يمكن فيه لأفكارنا المحضة تخفيف ضراوة المرض. هذه المبالغات تأخذنا بعيدًا عن واقع عالمِنا الذي يَضرب فيه المرضُ عشوائيًّا ويتفاقم بلا رحمة، ويعتل فيه المرءُ رغم سلامة حالته النفسية وارتفاع معنوياته وحرصه على دوام صحته.

الحقيقة أن من علماء المناعة من يشك في أن تغيرات في الوظيفة المناعية كالتي ذكرناها يمكن أن تُعَرِّض الشخص للمرض؛ إذ ليس هناك مقياس صادق فريد للكفاءة المناعية، فالذي هنالك هو جَمعٌ من المؤشرات التي ترتبط بطرق معقدة بالقدرة الكلية للشخص على مقاومة المرض، وبالتالي فإن القصور المؤقت في وظائف مناعية معينة قد لا يكون هائلَ الدلالة؛ لأنه متبوع في الغالب الأعم بتَعافٍ سريع ويمكن أن يُعَوَّض عنه بتغيرات في مناطق بديلة من الجهاز المناعي.٤٩ وهناك باحثون آخرون يحاجُّون بأنه بينما يمكن للحالات النفسية أن تؤتي بعضَ التأثير على بداية المرض فإن من المرجح أنها لا قدرة لها على التأثير على المرض العضوي المتقدم.٥٠

فإلى أن تصلنا نتائج مَزيدة في حقل المناعة السيكولوجية ينبغي أن نضع باعتبارنا فكرتَين؛ الأولى: أن معظم الدعاوى المتطرفة عن مدى تحكم العقل في الوظيفة المناعية (وهي دعاوى تروق دعاةَ الطب الكلي الذين ليسوا متخصصين في هذا المجال) هي دعاوى لا أساس لها على الأرجح، والثانية: أن العالَم الذي تتضمنه هذه الدعاوي هو عالَمٌ غير مرغوب فيه، عالم ينقلب فيه حال المرء العضوي لدى تقدمه لامتحانٍ عسير أو إلقاء كلمة أمام منتقِدين أو علمه بوفاة كلبه، أو لدى تعرضه لِعُسرٍ أو قلق أو غضب … إلى آخِرِ ذلك من الانفعالات الواردة بكثرة في مسيرة الإنسان والملازِمة لعملية الحياة؛ إذ يبدو أن لمصلحة التطور ألا يرتبط جهازُ المناعةِ كلَّ الارتباط بالحالة النفسية وتقلباتها وأن يكون له بعضُ الاستقلال على أقل تقدير.

(٤-٨) الجانب الآثم من الطب الكلي

يُلِح الطب الكلي على أن الفردَ هو — في حقيقة الأمر — طبيبُ نفسِه، وأن عليه من ثم أن يتبنى أسلوبَ حياة صحيًّا وأن يُلِمَّ بأبعاد مرضه وبتفاصيل الخدمة الصحية المقدمة له. ويؤكد الطب الكلي على أن السواء الذهني والروحي شرط ضروري لتحقيق السواء البدني والكفاءة الجسمية، وأن الأفكار والمشاعر الملائمة من شأنها أن تدعم الصحة.

رغم أن هذا الحديث يبدو جميلًا ومقبولًا، فإن المبالغة فيه ترتكب إثمًا غائرًا غيرَ مرئي؛ فهي تَحمِل المرضَى — ربما بِنِيَّةٍ طيبة — على أن يلوموا أنفسَهم على مرضِهم، وتُسَوِّغ أن يلومَهم الآخرون. المريض إذن هو الذي جَلَبَ على نفسِه المرض، والعاجز إذن جلب على نفسه العجز … لا شيء يَحِيق بالمرء إلا والمرء هو مَن استدعاه.

إن الطب الكلي — شاء أم أبَى — يبث في المريض اعتقادًا بأنه السبب في مرضه، وأن عيوبَه النفسية والروحية هي التي انهارت به في هاويةِ المرض وأَورَدَته المَهالِك، وهو بذلك يضيف التقريعَ الذاتي إلى محنة المرض.

وما دامت علاقة الحالات النفسية بالمرض غامضةً ما تزال، فليكن خطؤنا في جانب الحذر ولنَكُفَّ عن اعتبار المرضَى مساهمين — نفسيًّا وروحيًّا — في إحداثِ مرضِهم. إن حِمْلَهم لَثقيلٌ بما يكفي، ولا وجهَ بَعدُ لِإضافةِ الإهانة إلى الأذى.

(٥) دور العلوم الإنسانية في مواجهة الاعتقادات المريبة

الغرضُ الحقيقي للمنهج العلمي هو أن يبرهن لك على أن الطبيعة لم تخدعْكَ لِتَجعلَكَ تظن أنك تعرف شيئًا ما أنت في الحقيقة لا تعرفه.

R. Pirsig
كثيرٌ من الاستراتيجيات العلاجية والجهود التدريبية مصمَّمةٌ لكي تستأصل مصدرَ المشكلة القائمة، فإذا كان شخصٌ ما لديه عدوى — على سبيل المثال — فمن الممكن علاج سبب العدوى بإعطائه مضادات حيوية، غير أنه في حالاتٍ أخرى يتعذَّر علينا إزالة مصدر المشكلة، عندئذ يكون علينا تعويض القصور الناجم عن المشكلة: فإذا تعذَّر علينا إزالة قِصَر النظر فنحن نعالجه بوصف عدساتٍ مصحِّحة، وإذا تعذَّر علينا إزالة الرغبة في الأكل لدى المصابين بالبدانة فإننا نصف لهم الحِميةَ والتدريب الرياضي لتحقيق توازن بين مُدخَل السعرات ومُخرَجِها.٥١ ولما كان استئصال «الأَنَوِية» تمامًا من أطفالِنا أمرًا متعذرًا فنحن في تربيتهم نُضاد ذلك بأن نَبُث فيهم مبادئَ تعويضيةً مثل: «عامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوك به» أو «كما تَدِينُ تُدان» أو «ماذا لو أن كل إنسانٍ أباح لنفسِه أن يفعل كما فَعَلْتَ».
حين نلتفت الآن إلى السؤال عما يجب أن نفعله لكي نُحَسِّن استدلالات الحياة اليومية ونتخلص من الاعتقادات الواهية والمغلوطة، فمن الواضح بالضرورة أن استراتيجية التعويض هي الحل؛ ذلك أن محو أسباب الاستدلال الخاطئ والاعتقادات المغلوطة أمرٌ متعذر وغايةٌ لا تُدرَك:

ستظل الناسُ دائمًا تُفَضِّل الأبيض والأسود على ظلال الرمادي.

وستبقَى الناسُ تُضفِي بِنيةً وترابطًا على الأنماط العشوائية المحضة، فذاك شيءٌ مُبَيَّت في تكويننا ومتأصِّل في آليتِنا المعرفية، ولا يُرجَى له أن يزول تمامًا على الإطلاق.

وستبقى الناسُ تتأثر بما حدث أكثر من تأثرها بما لم يحدث، وستبقى مُغرَمةً باستقاء نتائجَ مما وقع تحت ظروفٍ راهنةٍ دون أن تقارنها بما كان عساه أن يقع تحت ظروفٍ بديلة، فيبدو أن هذه ميولٌ غائرةٌ من الصعب اقتلاعُها.

هذه الأسبابُ التحتية للاعتقادات المغلوطة لن تزول ببساطة، ويتعيَّن — من ثم — كبحُها بِعاداتٍ ذهنيةٍ تعويضية تعزز استخدامًا أصوبَ للعقل؛ لكي نتجنب الاعتقادات الخاطئة، بعبارةٍ أخرى: فلا بد لنا من اكتساب عاداتٍ ذهنيةٍ معينة يمكنها أن تَرُمَّ شتى أوجهِ القصور في قدراتنا الاستدلالية اليومية.

ما هي العادات الذهنية الضرورية؟ وكيف نكتسبها؟

الحق أن فهم الآليات التي تُفضِي إلى اعتقاداتٍ خاطئة ينطوي على فهمٍ ضمني لِسُبُل مَنعِها، وأي تحليل لنوعٍ معين من الاستدلال المغلوط ينطوي في ذاته على استراتيجية للتحَسُّن: أخذ الحذر تجاه تقارير العنعنة، التحرُّز من البيانات غير المنظورة invisible data (كيف كان يمكن أن يكون مآلُ الأمور لو لم تتناول هذا العلاج … كيف كان يمكن أن يكون أداءُ المتقدمين المرفوضين لو أنهم قُبِلوا … إلخ).
من العادات الذهنية الهامة التي نحتاج أيضًا إلى تنميتها تلك التي تساعدنا في التغلب على جرائر مهارتنا الفائقة في تفسير نطاقٍ عريضٍ من الحصائل في حدود نظرياتنا واعتقاداتنا المسبقة. نحن من البراعة في «التفسير الاحتيالي الغرضي الترقيعي» ad hoc explanation بحيث يسعنا أن نرى الحصائلَ الصادمةَ وغيرَ المنتظَرة على الإطلاق، نراها متسقةً مع قناعاتنا الأصلية. فما تنفك اعتقاداتُنا تتلقَّى دعمًا هائلًا من الأدلة الملتبِسة، وقلما تجد لها أدلةً مضادةً حقًّا تكذِّبها وتُضعِف الثقةَ بها. ولكي نعوض هذا القصور فإن علينا أن نُنَمِّي عادةَ استخدام إحدى الاستراتيجيات العديدة لمبدأ «انظر العكس»: يمكننا أن نتعلم أن نسأل أنفسَنا مثلًا: «افترِض أن العكس تمامًا هو الذي حدث فهل لي أن أعتبِر هذا المآل مؤيِّدًا هو أيضًا لاعتقادي؟» أو يمكننا أن نسأل: «تُرى كيف لِشخصٍ آخر لا يعتقد على طريقتي أن يفسر هذه النتيجة؟» أو بشكلٍ أعَم: «أيةُ نظرية بديلة يمكن أن تفسر هذا؟» وبواسطة هذه الأسئلة يتسنى لنا أن نَعِي أن الصلة بين الدليل والاعتقاد ليست وثيقةً كما قد تبدو في البداية. من شأن هذه الاستراتيجيات أن تعصمنا من التسرع في قَبول القضايا المشكوك فيها، وأن تشجعنا على أن نستبين (ونحاول أن نحصل على) الأدلة اللازمة لاختبار صواب اعتقادٍ ما اختبارًا حقيقيًّا.
وقد سبق أن تحدثنا عن كيفية التعامل الحصيف مع معلومات العَنعَنة والتحريفات المرافقة لها، وقلنا: إن ثمة احتمالًا كبيرًا بأن تكون المعلوماتُ التي تأتينا من الغير أبعدَ مما تبدو عليه في البداية، فاليد الثانية second hand غالبًا ما تكون يدًا ثالثة، والثالثة في الغالب أبعد من ذلك وهكذا، وقلنا: إن الأحداث التي تصلنا من مصدر ثقة قد تكون — رغم ذلك — نابعةً من شخصٍ ما أَقَلَّ مصداقيةً، وعلينا من ثم أن نتذرع بالشك تجاه الأدلة الآتية بالعَنعنة. علينا أن نعتاد على أن نسأل أنفسَنا: مِن أين نبعَت المعلومة؟ وكم من التحريفات — المقصودة أو غير المقصودة — يُحتمَل أنها اعتَوَرَتها خلال المسار؟

وسَبَقَ أن نَبَّهنا إلى المَيل البشري لإضفاء نظامٍ على أي مجموعةٍ من المثيرات، وإسباغ معنى على أية ضوضاء لا معنى لها، وإلى أهمية اعتبار فرضية «الصدفة المحضة»، وعدم الاندفاع في الحكم والسلوك.

(٥-١) أهمية تعليم العلم

كثيرٌ من هذه العادات الذهنية الضرورية — وبخاصة تلك العادات الأَعَم للتعامل مع الأدلة غير الكافية وغير المُمَثِّلة — نشأت في الأصل كجزءٍ من المشروع العلمي، من ذلك أن الفكرة القائلة بأن ما يلاحظه المرءُ تحت مجموعة من الظروف لا يمكن أن يُقَيَّمَ إلا بالإشارة إلى ما كان عساه أن يحدث تحت ظروفٍ مختلفة بعض الشيء؛ هذه الفكرة تتجسد في استخدام العالِم ﻟ «المجموعة الضابطة» control group، ومن ذلك أن إجراءات التفرقة بين الظواهر العشوائية والظواهر المنظمة قد نشأت — منذ وقتٍ غير بعيد — في علم الإحصاء statistics.
من المنطقي إذن أن زيادة الإلف بالمشروع العلمي لا بد أن يدعم العادات الذهنية الضرورية للتفكير بوضوح حول «الدليل» evidence والسير في الحياة دون اعتقاداتٍ هشة. إن الانخراط في عملية العلم ومفاهيمه لا تُعَلِّم فحسب هذه العادات الذهنية بشكلٍ مباشر، بل تقدم أيضًا خبرةً بالمشكلات والظواهر والاستراتيجيات التي يمكن أحيانًا أن تجعل المرءَ يَحدِس بها أو على الأقل يفهمها فهمًا أعمق، كما أن الذي يشارك في المشروع العلمي يكون قد تَعَرَّضَ تعرضًا عظيم الفائدة للشك واللايقين. ولما كان العلمُ محاولةً لِمَد حدود ما نعلمه فإن العالِم ينغمد على الدوام بحاجزٍ من الجهل؛ فكلما أمعن المرءُ في تَعَلُّم العلم زاد وعيُه بما هو غير معلوم، ووعيُه بأن كثيرًا من علمنا هو ذو طبيعة مبدئية فحسب. من شأن كل ذلك أن يُفضِي إلى ارتيابية صِحِّية تجاه الدعاوى حول كيف تكون الأشياء أو كيف يجب أن تكون. هذه النظرة الفكرية العامة، وهذه الدراية بمدى صعوبة أن تعرف شيئًا على نحوٍ يقيني، هي أثرٌ جانبي هام للانخراط في العمل العلمي.

ومن مخاطر الأمية العلمية وانعدام الفكر النقدي: خلقُ أجيالٍ لا يُؤمَن اقتراعُها في الأمور المعقدة التي تزداد تعقيدًا في عالَمنا التكنولوجي الجديد، مثل هذه الأجيال جديرةٌ بأن تختار للأمة مساراتٍ مُوبِقةً أو معطِّلةً على أحسن تقدير. وهذا وحدَه مَدعاةٌ قويةٌ لِبَث الفكر العلمي والنقدي في أي مجتمع يريد أن ينهض وأن يبقى ناهَضًا.

ولكن هل جميع العلوم تُنَمِّي الفكرَ النقدي على حَدٍّ سَواء؟

ثمة دراساتٌ حديثةٌ تومئُ إلى أن التمرس بالعلوم «الاحتمالية» probabilistic قد تكون أفضل من التمرس بالعلوم «الحتمية» deterministic في تعليم الناس كيف يُقَيِّمون، بكفاءةٍ، تلك الظواهرَ الاحتمالية غير المنتظمة التي كثيرًا ما تصادفنا في الحياة اليومية. والعلوم الاحتمالية هي تلك العلوم — كعلم النفس وعلم الاقتصاد — التي تتعامل بالأساس مع ظواهر غير قابلة للتنبؤ التام، ومع عِلَلٍ (أسباب) ليست ضرورية necessary ولا كافية sufficient. إن وفاة زوجٍ — مثلًا — مرتبطة بتدنِّي صحةِ الثاكِل، ولكن ليس كل ثاكلٍ أو ثكلَى تعاني من تدني الصحة، كما أن الصحة كثيرًا ما تتدهور لأسبابٍ أخرى، هكذا فإن الثُّكل ليس سببًا ضروريًّا ولا كافيًا لاعتلال الصحة، وبالمثل فإن الأشخاص ذوي الحُسن يَلقَون — بصفةٍ عامةٍ — استجابةً مواتيةً لا يلقاها غيرُهم، ولكنْ ليس كلُّ مليحٍ محبَّبًا لدى الناس، وليست المَلاحةُ شرطًا لكسب احترام الناس أو تعاطفهم.
أما العلوم الحتمية — كالكيمياء وكثير من أفرع الفيزياء — فهي تلك العلوم التي تتعامل في العادة مع ظواهرَ أكثرَ انتظامًا وذاتِ عِلَلٍ ضرورية وكافية في أغلب الأحيان: لكي نزيد الشد الجاذبي بين شيئَين ذَوَي كتلةٍ معينة فإن من الضروري والكافي أن نقربهما أحدهما من الآخر. إنما في مجال الظواهر غير اليقينية التي تدرسها العلومُ الاحتمالية تتجلى أفكارٌ من قَبيل النكوص الإحصائي statistical regression والعينة المتحيزة biased sample والمجموعة الضابطة control group … إلخ، ومن شأن التمرس بهذه الأفرع — إذن — أن يُطلِق العادات الذهنية الضرورية لتقييم الأدلة في الحياة اليومية على نحوٍ قويم.
وقد أجرت مجموعةٌ من السيكولوجيين تجربةً لاختبار هذه الفرضية،٥٢ فقدموا اختبارًا في الاستدلال الإحصائي والميثودولوجي لطلابٍ يتلقون تعليمًا جامعيًّا في علم النفس والكيمياء والطب والقانون، وقد صِيغَت الأسئلةُ بحيث تُقَيِّم مدى رهافة الفكر الإحصائي والمنهجي في السياق العلمي وسياق الحياة اليومية، ودرجة الوعي بمبادئَ من قبيل النكوص الإحصائي وأهمية المجموعة الضابطة … إلخ. وقد أُجرِيَ الاختبار على طلاب السنة الأولى والسنة الثالثة في كل تخصص؛ للمقارنة بينهما وتَبَيُّن تأثير الدراسة العلمية في ذلك، كما أُعِيدَ تقييم طلاب السنة الأولى بعد عامَين من الدراسة لمقارنة أدائهم الأول مع أدائهم بعد عامَين من الدراسة في مجالهم العلمي، وقد جاءت النتائجُ تشير إلى تفوق العلوم الاجتماعية في تعليم الاستدلال الإحصائي والميثودولوجي. لم تكن ثمة فروق في الدرجات على الاختبارات بين التخصصات الأربعة، غير أنه بعد عامَين من التعليم في علم النفس زادت الدرجات بنسبة ٧٠٪، بينما لم تؤثر هذه الفترة من التعليم في درجات طلاب الكيمياء والقانون، ولم يحرزوا تحسنًا على الإطلاق.

وقد خَلَص الباحثون إلى أنه:

«يبدو أن العلوم الاحتمالية كالسيكولوجيا والطب تعلِّم الطلابَ أن يستخدموا القواعدَ الإحصائية والميثودولوجية في المشكلات العلمية ومشكلات الحياة اليومية، في حين أن العلوم الحتمية كالكيمياء والمباحث غير العلمية كالقانون لا تؤتي أثرًا في طلابها في هذه النواحي (ص٤٣٨) … إن رفاهية عدم التعرض للمشكلات المضطربة التي تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من اللايقين وشبكةٍ معقدة من العِلل؛ تعني أن الكيمياء لا تُعَلِّم شيئًا من القواعد ذات الصلة بالحياة اليومية» (ص٤٤١).

يبدو إذن أن علماء الاجتماع لديهم فرصةٌ خاصة لتقديم بعض الحكمة في كيفية تقييم الدليل evidence في الحياة اليومية على نحوٍ قويم، وأن ثمة خصائص صورية معينة للعلوم الاجتماعية (مثل عدم الانتظام، عدم اليقين، الغياب النسبي للعلاقات العِلية الضرورية والكافية) تجعلها فعالةً بشكلٍ خاص في تعليم بعض المبادئ الهامة للاستدلال السليم. إن تَعَقُّد الظواهر وصعوبة تفكيك المتغيرات المرتبطة، والندرة النسبية للتجارب الحاسمة تَضطَر الطلابَ إلى أن يَسبروا سبرًا أعمق ويفكروا تفكيرًا أنفَذ. إن العلوم الإنسانية بحكم طبيعتها ذاتها تتيح ممارسةً تُعِين على التفكير بوضوحٍ وقوة في ظواهر الحياة اليومية.

(٥-٢) واجب العلماء الاجتماعيين

يعاني علماءُ الاجتماع من «حسد الفيزياء»، لقد استشعروا منذ البداية بعدم القدرة على مجاراة العلماء الطبيعيين في الإنجازات التراكمية والقوة التفسيرية ودقة التنبؤ. والحق أن هناك الكثير مما ينتزع الإعجاب في التقدم الذي تحرزه العلوم «الصلبة»، ذلك التقدم الذي لن تضاهيه العلوم الاجتماعية أبدًا، ورغم ذلك فإن علينا أن نعترف بأن هناك فائدة خاصة من دراسة الظواهر المعقدة المضطربة التي تشكل موضوع العلوم الاجتماعية. إن علماءَ الاجتماع — بصفةٍ عامة — أكثرُ إلفًا من أصحاب الأفرع الأخرى بالطرائق التي تضللنا بها أدلةُ الخبرة اليومية بسهولةٍ ويسر، وأكثرُ وعيًا بضرورة الضوابط المنهجية قبل أن يحق للمرء أن يستمد استنتاجاتٍ متماسكةً من مجموعةٍ من البيانات، وربما يكون هذا هو السبب في أن علماء النفس الذين يعتقدون في الإدراك وراء الحِسي ESP أقل من زملائهم في العلوم الطبيعية والإنسانيات.٥٣

وعليه فقد يكون أفضل ما يقدمه علماءُ الاجتماع لطلابهم ولعامة الناس هو: تطورهم الميثودولوجي، طريقتهم في النظر إلى العالم، العادات الذهنية التي يُنَمُّونها، العملية أكثر من المحتوَى. إن الكثير مما نعرفه حاليًّا عما هو حق وما هو باطل سوف يتغير بالتأكيد في السنوات المقبلة. الأمر الأهم إذن ليس اطِّراحَ اعتقاداتٍ خاطئة معينة (وإن لم يَخلُ ذلك بالتأكيد من بعض الفائدة) بل خلق فهمٍ لكيفية تكويننا للاعتقادات الخاطئة، ولكي ندرك تعقيدات العالم وتعقيدات الخبرة البشرية يتعين علينا أن نفهم كيف يمكن أن تضللنا الأدلةُ الظاهرية لخبرة الحياة اليومية. وهذا بدوره يتطلب أن نفكر تفكيرًا واضحًا حول خبرتنا، ونضع افتراضاتنا موضع تساؤل، ونضع على مِحَك النقد كلَّ ما نظن أننا نعرفه.

١  Thomas Gilovich.
٢  Thomas Gilovich. How We Know What Isn’t So. The Fallibility of Human Reason in Everyday Life., The Free Press, A Division of Macmillan, Inc. New York.
٣  J. W. Connor (1984) Misconception, folk belief, and the occult: A cognitive guide to understanding. Skeptical Inquirer, 8, 344–54.
٤  M. Gazzaniga (1985) Discovering the networks of the mind. New York: Basic Books.
٥  corpus callosum.
٦  كل ما يُطرَح دوريًّا من ريش ونحوِه.
٧  انظر في ذلك كتابنا «كارل بوبر. مائة عام من التنوير»، دار النهضة العربية، بيروت، ط١، ٢٠٠٢م، ص٦٧-٦٨.
٨  انظر في تفصيل هذه الاستراتيجية الخاطئة كتابَنا «المغالطات المنطقية»، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط١، ٢٠٠٧م، ص١٧٩–١٨٥.
٩  تُسمى «مشكلة بطاقات واسُن» Wason card problem.
١٠  الأورجانون الجديد: الكتاب الأول، شذرة ٤٦.
١١  R. D. Clarke (1946) An application of the poisson distribution. Journal of the Institute of Actuaries (London), 72, p. 72.
١٢  أي المعتاد في الأنواع الأخرى من الكائنات.
١٣  عادل مصطفى: فهم الفهم، دار النهضة العربية، بيروت، ط١، ٢٠٠٣م، ص١٢.
١٤  المرجع السابق، ص١٣.
١٥  C. G. Lord, L. Ross & M. R. Lepper (1979) Biased assimilation and attitude polarization: The effects of prior theories on subsequently considered evidence. Journal of Personality and Social Psychology, 37, 2098–2109.
١٦  T. Gilovich (1983) Biased evaluation and persistence in gambling. Journal of Personality and Social Psychology, 44, 1110–1126; T. Gilovich & C. Douglas (1986) Biased evaluations of randomly determined gambling outcomes. Journal of Experimental Social Psychology, 22, 228–41.
١٧  S. J. Gould (1981) The Mismeasure of man. New York: W. W. Norton, p. 85.
١٨  Ibid., p. 126.
١٩  الاستبعاد.
٢٠  P. B. Medawar (1984) The limits of science. New York: Harper & Row.
٢١  انظر فصل «مغالطة التصديق الشخصي».
٢٢  J. B. Watson & R. Raynor (1920) Conditioned emotional reactions. Journal of Experimental Psychology, 3, 1–14.
٢٣  أو «الإشراط».
٢٤  وزميله رينور Raynor.
٢٥  B. Harris (1979) Whatever happened to little Albert? American psychologist, 34. 151–60.
٢٦  H. J. Eysenck (1960) Leaning theory and behavior therapy. In H. J. Eysenck (Ed.), Behavior therapy and the neuroses: Readings in modern methods of treatment derived from learning theory. Oxford: Pergamon Press.
٢٧  F. C. Bartlett (1932) Remembering. Cambridge: Cambridge University Press.
٢٨  G. W. Allport & L. J. Postman (1947) The psychology of rumor. New York: Holt.
٢٩  T. Gilovich (1987) Second-hand information and social judgment. Journal of Experimental Social Psychology, 23, 59–74.
٣٠  Ibid., Experiment 3.
٣١  T. J. Moore (1989) The Cholesterol myth. Atlantic Monthly. September, p. 37–70.
٣٢  M. E. P. Seligman (1970) On the generality of the law of learning. Psychological Review, 77, 406–18; M. E. P. Seligman (1971) Phobias and preparedness. Behavior therapy, 2, 307–20.
٣٣  M. E. P. Seligman (1971) Phobias and preparedness. Behavior Therapy, 2, 307–20.
٣٤  للفيلسوف الألماني كارل بوبر حجةٌ منطقية شهيرة على استحالة التنبؤ بالمستقبل (وإن كان ذلك في سياقٍ آخر وفي غرضٍ مختلف) استَهَلَّ بها كتابَه «عقم المذهب التاريخي»، يقول فيها: لقد بَيَّنتُ أنه يستحيل علينا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ، وذلك لأسباب منطقية بحتة: (١) يتأثر التاريخ الإنساني في سيره تأثرًا قويًّا بنمو المعرفة الإنسانية. (٢) لا يمكن لنا — بالطرق العقلية أو العلمية — أن نتنبأ بكيفية نمو معارفنا العلمية (إذا كان للمعرفة الإنسانية النامية وجود، فلا يمكن أن نلحق اليوم بما سيكون عليه علمُنا غدًا، لا يمكن لأي رابطة من أي نوع أن تتنبأ علميًّا بما ستكون عليه معارفنا في المستقبل). (٣) إذن فلا يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني، (انتهى كلام بوبر). إن نظرةً بسيطة إلى اختراع الشبكة العنكبوتية — ويجب أن نعترف أنه لم يخطر وما كان له أن يخطر في فكر الأجيال السابقة — لَتؤيدُ حجةَ بوبر تأييدًا مشهودًا، لقد غَيَّرَت ثورةُ الاتصالات الخريطةَ الذهنية للبشرية، وغيرت أمورًا كثيرةً — في زمنٍ قياسي — ما كان لأحدٍ أن يتنبأ بها من الغابرين.
٣٥  انظر في ذلك كتابنا «المغالطات المنطقية»، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٧م، فصل «التعميم المتسرع» ص٥١–٥٨: «يلحَق بالتعميم المتسرع ما يُعْرَف ﺑ «النصوع المضلِّل» misleading vividness؛ حيث يُؤخذ مثالٌ واحد (أو حفنة من الأمثلة) بأكثر من دلالته الإحصائية بسبب وهجِه ودراميتِه …»
٣٦  عقار مريب يُزعَم أنه يعالج السرطان، مُعَد من أنوية المشمش أو الخوخ ويحتوي على مادة السيانيد بنسبة ٦٪ من وزنه، وتُحَرِّمُه اﻟ FDA.
٣٧  “Preying on Aids patients” (1987) Newsweek, June 1; “The AIDS underground” (1989) Newsweek, August 7.
٣٨  R. M. Deutsh (1987) The new nuts among the berries: How nutrition nonsense captured America. Palo Alto, CA: Ball Publishing; C. Hansen (1969) Witchcraft at Salem. New York: Braziller.
٣٩  Cited in W. E. Schaller & C. R. Carrol (1976) Health, quackery, and the consumer. Philadelphia, PA: W. B. Saunders, p. 169.
٤٠  W. A. Nolen (1974) Healing: A doctor in search of a miracle. New York: Random House.
٤١  P. B. Medawar (1967) The art of the soluble. London: Methuen, p. 14.
٤٢  statistical regression.
٤٣  C. D. MacDougall (1983) Superstition and the press. Buffalo: Prometheus, p. 332.
٤٤  Citde in W. A. Nolen (1974) Healing: A doctor in search of a miracle. New York: Random House.
٤٥  R. M. Deutsch (1977) The new nuts among the berries: How nutrition nonsense captured America. Palo Alto: Ball Publishing.
٤٦  S. Barrett (1987) Homeopathy: Is it medicine? Skeptical Inquirer, 12, 56–62.
٤٧  “The irrational connection between diet and demeanor”. (1989) Psychology Today, October, p. 14.
٤٨  Cited in R. M. Deutsch (1977) The new nuts among the berries: How nutrition nonsense captured America. Palo Alto: Ball Publishing, p. 272.
٤٩  B. Crary et al. (1983) Epinephrine-induced changes in the distribution of lymphocyte subsets in peripheral blood of humans. The Journal of Immunology, 131, 1178–81; A. A. Stone et al. (1987) Secretary IgA as a measure of immunocompetence. Journal of Human Stress, 13, 136–40.
٥٠  B. R. Cassileth, E. J. Lusk, D. S. Miller, L. L. Brown, & C. Miller (1985) Psychosocial correlates of survival in advanced malignant disease? New England Journal of Medicine, 312, 1551–55.
٥١  كان ذلك بالطبع قبل أن تتقدم الجراحةُ وتصبح خيارًا علاجيًّا في كثير من حالات السمنة المفرطة وقِصَر النظر.
٥٢  D. R. Lehman, R. O. Lempert, & R. E. Nisbett (1988) The effects of graduate training on reasoning: Formal discipline and thinking about everyday-life events. American Psychologist, 43, 431–42.
٥٣  M. W. Wagner & M. Monnet (1970) Attitudes of college professors toward extra-sensory perception. Zetetic Scholar, 5, 7–16.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤