الفصل الثاني والعشرون

أخبرنا لِيل بفعلتنا ونحن في غاية الخِزي. اتَّجه ليستر إلى الشرق، كي يَرحل عن إيمرالد، وأخذ يشق الظلام بحافلته، بينما قصصنا على لِيل بالتناوب كيف تسلَّلنا إلى حافلة ليستر، على اعتقاد أنه سيعود إلى سالَينا. أخبَرناها كيف اتَّجه ليستر إلى اليسار بدلًا من اليمين، وللشمال بدلًا من الجنوب، وكيف وجدنا أنفسنا نَبتعِد عن سالَينا والمشفى وأبينا.

لم تتغيَّر تعابيرُ وجه لِيل، ونحن نقصُّ عليها ما حدث، ولا بعدما انتهَينا من حديثنا، لعدة دقائق، وغرقت الحافلة في صمتٍ مشحون. واستمر الصمت لا يَخترقه سوى الطَّرقات والأزيز المُنبعث من المحرِّك والأصوات التي في رأسي.

كرَّر وشم بوبي مثل دقات قلب مُتوتِّرة: «لقد انتهى أمرنا، لقد انتهى أمرنا.»

جلست لِيل بلا حَراك لمدة طويلة للغاية. كان سامسون قد انتهى من تناول شطيرة الهامبرجر خاصته، وحفر حفرة كبيرة في الفطيرة، والآن يُحاول مدَّ يده لسرقة بعض البطاطس المقلية من سلَّة ويل. أما نحن فلم نلمس محتوى هذه السلة. فقد فقدنا شهيتنا جميعًا.

وفي نهاية المطاف، تنهَّدت المرأة الضخمة تَنهيدةً بطيئة طويلة، بصَوت يُشبهُ صوت نزول ملاك من سحابة لأخرى.

قالت لِيل، موجِّهة حديثَها إلى نفسها لا إلينا على الأغلب: «أرى أنَّني خبيرة بلا شك بإقحام نفسي في المُشكلات. فاليوم خسرت سيارتي ووظيفتي. والآن يبدو أنني فقدت عقلي أيضًا.»

واصلنا مراقبةَ لِيل، يحدونا أملٌ حذر ألا تقوم بتسليمنا.

رفعت لِيل صوتها الرفيع فوق صوت المحرِّك الصاخب: «أنصِتوا إليَّ جميعًا. سأخبركم بما سنفعله.» ابتسم ليستر. بدا أنه مُغرم بالنساء اللواتي يخبرنه بما يجب أن يفعله، لكن على الأقل لم يكن هناك ثمَّة تشابُه بينها وبين كارلين أو روندا. وضعت لِيل الناموس الذي سنَسير عليه. ونصَّت خطَّتها على مُواصَلة السير شرقًا باتجاه لينكون للعثور على نُزلٍ، ما يُبعدنا عن إيمرالد، لكنه في الوقت نفسِه يُخرجنا من الطريق السريع بشكلٍ عاجل. كانت لِيل لا تُحبِّذ القيادة على الطريق السريع أثناء الليل، كما أرادت أن نتَّصل بآبائنا كي نُبلغهم أننا في صحة وعافية، وسنتَّجه إلى سالَينا في الصباح. وفيما يتَّضح لي فإن لِيل كانت تجتهد لمعرفة الصواب الذي يَجب أن نفعله، لا تَدري مدى الفوضى التي قد تحدُث في اليوم.

فكَّرت في ذلك لحظةً من الزمن. كان آخر ما أُريده هو أن يُواجه ليستر ولِيل موقفًا عصيبًا بسبب الفِكرة الغبية التي وردَتني، وهي أنني أستطيع شقَّ طريقي إلى سالَينا. أدركت أن مهمَّتي هي العناية بهذين الشخصَين البالغَين الآن. لا بدَّ أن أحافظ على سلامتهم وأُبعدَهم عن المشكلات، ولو تطلَّب ذلك الانتظار إلى الصباح حتى أصلَ إلى أبي، فلا أمانع بسير الأمور على هذا النحو، مهما كان شاقًّا على النفس.

لم تَمضِ سوى ساعات قليلة منذ أن صعدنا على متن تلك الحافلة حتى صِرنا جماعة غريبة الأطوار مِن المنشقِّين. وعَدنا لِيل أننا سنتَّصل بعائلتَينا بمُجرَّد أن نصل إلى النُّزل، لكنني رجوت الله في قرارة نفسي أن يغفر لي هذا الكذب. كان واضحًا للعِيان أن ليستر يشعر براحة البال لوجود شخصٍ آخر يتولى عنه مسئولية أخذ القرارات؛ وبدا أنه استنفَدَ آخر قطرة من مَخزونه الضئيل من أعصابه لتُتابع الحافلة مسارها الأصلي لتوصيل طلبياته.

لم تَعُد لِيل تتحدَّث عن خسارة وظيفتها ولم يأتِ أحدٌ على ذكر هذا الموضوع. أحصت النقود التي دفَعَها لها أوزي القوي العظيم، وضيَّقت عينَيها بينما تفعل ذلك على ضوء الحافلة الخافت.

أعلنت لِيل بفتور: «حسنًا، يا صغار، أظن أنه لديَّ ما يكفي من المال كي أحجز غرفتين في نُزُل. هل يُمكنكَ العثور على مكان بعيدًا عن الطريق السريع يا ليستر؟»

أجاب ليستر: «كما تُريدين يا لِيل.»

شاهدتُ لِيل تُحدِّق في ليستر بحبٍّ. وأستطيع القول من الطريقة التي نظرت بها إليه إنها رأت فيه شيئًا تحبُّه. ربما كان ذلك لأن ليستر أوقف الحافلة لإنقاذها عندما تعطَّلت سيارتها، أو لأنه ساعدها في جمْع مالها مِن فوق الأرض، أو لأنه سرق الفطيرة من المطعم دون تفكير. قد لا يبدو ليستر بطلًا من الوهلة الأولى، لكن أظنُّ أن المرء يحتاج إلى بعض الوقت ليكتشف نُبل الرجل.

قاد ليستر الحافلة لبعض الوقت قبل أن يَعثر على النُّزل المناسِب. احتوى نزل «لينكون سليبي ١٠» على القليل من السيارات في ساحة انتظار السيارات الخاصة به، وطَنَّت لافتة الغرف الشاغِرة وومضت مثل مصباح صعْق الحشرات.

قبع «لينكون سليبي ١٠» في أقصى المدينة، أمام متجر «ميجا ميجا مارت»، وعدد من مطاعم الوجبات السريعة الصفراء والحمراء الصاخبة المُتراصة. مَكثنا جميعًا في الحافلة التي أوقفها ليستر بعيدًا عن النُّزل بمسافة مناسبة، وحجز غرفتين باستخدام نقود لِيل. بعدما رأيت وجهي على التلفاز في مطعم موقف شاحنات إيمرالد، لم أتلهَّف لجلب نظر العامة إليَّ، ما دامت الحاجة لا تستدعي ذلك؛ لذا انتظرت بسرور مع البقية على متن الحافلة.

أخبرت لِيل ليستر أن يحجز غرفتَين، رغم أنه أصرَّ على النوم في حافلته كي «ﻳ… يحمي بضائعه.» كنتُ آمُل أن يكون النُّزل مُزوَّدًا بقِطَع صابون بيضاء رقيقة ملفوفة في ورق، وقنانٍ صغيرة من الشامبو، ومناشفَ بيضاءَ منعشةٍ مطوية بعناية في الحمام؛ إذ من شأنها أن تجعلني في قمة السعادة.

قال ليستر وهو يُناول لِيل مفتاحَي الغرفتَين ويُراقب نزولنا من الحافلة: «ستجدون غرفتَيكم في الطابق الثاني.» كان مُتوترًا عصبيَّ المزاج كعادته، وبدا حزينًا لأنَّنا تركناه هناك. ولوهلة، خطر لي أنه قد يُصاب بالهلع ويلوذ بالفِرار وسط الليل؛ وتصوَّرت أن هذا الأمر ليس بعيدًا عن الأبطال الأكثر قوة. لكن الطريقة التي نظر بها ليستر إلى لِيل جعلَتْني أشكُّ في ذلك.

ناديت على ليستر قبل أن يُغلق باب الحافلة: «أتعدُني أنك ستكون هُنا في الصباح يا سيد ليستر؟» أمال ليستر رأسَه مثل كلبٍ يُرهف السمعَ ونظر إليَّ باستغراب.

وسأل: «أين عسايَ أذهب؟» وكانت هذه هي الإجابة التي احتَجتها.

رافقتنا لِيل إلى الدَّرج الذي يقود إلى غرفتَينا. تشمَّم فيش الهواء أثناء مرورنا أمام باب مُوصد في الطابق الأول ذي نافذة واحدة. أعلنت اللافتة بجوار الباب «مسبح — للنزلاء فقط».

قال فيش ببساطة: «ماء.»

قبع المسبح فارغًا وساكنًا، وانعكس ضوءُه الأخضر المُتراقص على الجدران وسقف الغرفة الصغيرة. لو كُنا في وقتٍ آخر، لكان الاقتراب من هذه الكمية الكبيرة من الماء سيُصيب فيش بالعصبية والاضطراب، لكنَّني عندما استرقت النظر إليه وجدته في غاية الهدوء.

لم يَفُت لِيل الطريقةُ التي نظرنا بها جميعًا إلى ذلك المسبح، عبْر نافذة الباب، لكنَّها أمرتنا أن نصعد الدَّرج أمامها، كأنها رقيب تدريب في لباس تَمويه أبيض وأخضر. عندما وصلنا إلى الطابق الثاني، تولَّت لِيل القيادة، مُمسكة بسامسون بإحدى يدَيها، أثناء بحثِها عن غرفتَينا، وعابثة بمفاتيح الغرفتَين باليد الأخرى.

وتخلف عنها بقيتُنا.

همستُ لويل: «لا يُمكننا الاتصال بمنازلنا.» نقَل ويل بصره مِن لِيل إليَّ وتعابيرُ الاستفهام على وجهِه. كانت لِيل قد تَقدَّمت عنَّا كثيرًا واجتازت مسافةً طويلة من الممر الطويل. مددت يدي، وشددت ظهر قميص بوبي، فلاحظتُ هيئةَ جلوس الملاك في الوشم الموجود على ظهرها، مستندًا على مرفقه، طاويًا جناحيه، ومنهمكًا في تنظيف أسنانه بطرف ذيله المستدق بلا مبالاة.

قلتُ لها: «لا يُمكننا الاتصال بالمنزل يا بوبي.»

أجابت: «حقًّا!» وأدارت عينيها في مَحجِرَيهما.

قال الملاك: «إنها تعرف ذلك بلا شك.» لكنَّني تجاهلته.

سألت: «فيش؟»

ردَّ هامسًا: «أعرف، أعرف. لا يمكننا الاتصال بالبيت. لكن كيف تظنين أننا سنخرج من هذه الأزمة؟»

قلتُ: «لديَّ خطة.»

قالت بوبي: «يا إلهي، لديها خطة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤