الفصل الثامن

«يجب أن أذهب إلى سالَينا يا ويل.»

سأل ويل مرةً أخرى، ويده لا تزال على كتفي: «هل أنتِ مُتأكِّدة من أنكِ بخير يا ميبس؟ لقد فقدتِ وعيك للتو، ألا تدركين ذلك؟ ربما تعانين بعضَ الارتباك.»

نظرتُ في عينَي ويل الابن مُباشرة. وقلتُ: «أرجوك يا ويل. لستُ مُرتبكة. ساعدني في الخروج من هُنا فحسب. أحتاج إلى الذهاب إلى سالَينا.»

نظر ويل الابن إليَّ في حزن وعصر كتفي. وقال: «لا بدَّ أنك تَشتاقين إلى أمكِ وأبيك كثيرًا لأن اليوم عيد ميلادك وما شابه.»

دفعتُ يده عنِّي واستدرتُ ناحيةَ الباب. وكرَّرت: «يجب أن أذهب إلى سالَينا.»

أنشأ ويل يَعرض المساعدةَ، وهو يُلاحقني: «ربما تُوصِّلك أمي …»

«لا يا سيدي. يجب أن أذهب إلى هُناك بنفسي.» أدركت أنني أتحدَّث بغير عقلانية. لقد أتممت الثالثة عشرة للتو، وظننتُ أنه يُمكنني بطريقةٍ ما السفر مسافة ٩٠ ميلًا إلى سالَينا، بكنساس، بمُفرَدي. لكنَّني سألتمس ركوب السيارات مجانًا إن اضطُررتُ إلى ذلك. سأسير على قدمي. لا أملِك خيارًا آخر. لا أستطيع تخيُّل الذهاب إلى أي مكان مع زوجة الواعظ إن كنت أسمع أصواتًا في رأسي. فكما قال فيش: الكنيسة ليسَت مكانًا ملائمًا لي. يجب أن أرحلَ من هنا، ولا بدَّ أن أفعلَ ذلك في الحال. يجب أن أعثر على أبي وأستخدم هِبَتي الخارقة لإيقاظه. هذا كلُّ ما في الأمر.

اتجهتُ مباشرة ناحية أبواب الكنيسة المزدوَجة المفتوحة. كان يمكنني سماعُ جلبة وضوضاء خلفي، في قاعة الاحتفالات، وكنتُ واثقة أنني سمعت ضحكةَ أشلي بينج المكتومة مَتبوعة بضحكة إيما فلينت المقلَّدة. ونظرت بينما يمرُّ أمامي فتيَانِ من مدرسة الأحد التي يذهب إليها سامسون راكضَين وعلى فمهما بقايا الكعكة. لقد بدأ الحفل بغيابي. وأظنُّ أنه يجب أن ينتهيَ مثلما بدأ.

خرجتُ من الكنيسة، على استعداد للعَدْو حتى سالَينا، لو كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لبلوغها. كان ويل الابن يجري في أعقابي.

قال ويل: «مهلًا، على رِسْلك يا ميبس! انتظريني.»

وصلنا إلى ساحة انتظار السيارات، ونظرت حولي. كان هناك بضعة أطفال يلعبون في النجيلة، لكن كانت الأغلبية داخل الكنيسة. حلَّقَت سُحبُ فيش الكثيفة فوق الكنيسة منذرة بهطول الأمطار.

بدأت أجتاز السيارات الواقفة واحدةً تلو الأخرى كي أخرجَ إلى الطريق. لكن فور أن دنوتُ من حافلة شركة «هارت لاند» الوردية لتوريد الكتب المقدَّسة، توقَّفت. وبينما سمِعت همسَ غناءٍ شديدَ الخفوت مرةً أخرى خلف أذني، رأيت بوبي تستند إلى الحافلة وحيدة، تمضغ علكتها وتُفرقعها مثل مُتمرِّدة متحفِّظة. رأيتها مُتمردة نوعًا ما وهي في تلك الحالة، فما بالك بحاجبِها المثقوب والوشم، وفكَّرت أنه ربما يكون الملاكُ الصغيرُ صاحبُ الذيلِ العابثِ محقًّا؛ ففي تلك اللحظة، بدت بوبي، مع ما هي فيه، وحيدةً أكثرَ مما تخيَّلت أن يحدُث لشخصٍ مثلها.

جذبَ انتباهي الكتابة الموجودة على الحافلة بينما حاولتُ تجاهلَ الهمسات في رأسي. كانت الحروفُ الكبيرة التي تُشير إلى شركة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة سوداءَ، وتقشَّر لون الطلاء الوردي عائدًا إلى الون الأصلي لحافلة المدرسة وهو البرتقالي. ورأيت أسفلها حروفًا أخرى سوداء صغيرة تُشير إلى عنوان الشركة ورقم هاتفها. توقَّفت فجأة مُندهشةً من حظي السعيد. لم تأتِ شاحنة هارت لاند لتوريد الكتب المقدَّسة من مكانٍ آخر في العالم إلا من سالَينا، في كانساس؛ وتنصُّ على ذلك بوضوح شديد في الجانب، باللون الأسود الصارخ، كي يراه الجميع. وبوضع ذلك في الاعتبار، فكَّرت أنه إذا كانت الحافلة قدِمت من سالَينا فلا بد أنها ستعود إلى هناك. ربما شملني الرب برعايته على أيِّ حال.

شكرت السماء بسرعة، وتجاوزتُ بوبي وفقاعة علكتها الوردية الكبيرة، وتحسَّست بإصبعي هيكلَ الحافلة الوردي البارد المصنوع من الفولاذ، ورسمت خطًّا تحت كلمة «سالَينا» في العنوان، مُزيلة الغبار تحتها، كأنَّني أبرمتُ صفقةً للتو.

أما ويل الابن، الذي لم يتوقَّف عن ملاحقتي، فرفع حاجبيه عاليًا عندما رأى الكلمة التي وضعتُ خطًّا تحتها على الحافلة. لكنه لم يقُل شيئًّا، وأنا أتخطَّى بوبي وأصعد أولَ درجة سُلَّم إلى داخل باب الحافلة.

فكَّرت كم كنتُ مخطئةً عندما ظننت أنني ركبت الحافلةَ بالأمس للمرة الأخيرة، لفترة من الزمن، وأثناء ذلك تجاهلت صوتَ أمي في رأسي وهي تُحذِّرني من الركوب مع الغرباء، وتجاهلتُ صوت أبي وهو يُخبرني ألا أنسى إبلاغ شخص بالغ بمَكاني، من أجل سلامتي. وحاولتُ مرارًا وتكرارًا أن أتجاهلَ حديث ملاك بوبي في رأسي. ولكن تبيَّن أن ذلك أكثر صعوبةً مما ظننت.

«إنها تتساءل عما إذا كنتِ على ما يرام.»

قالت بوبي دون أن يظهرَ في صوتها أدنى قلق: «ماذا تظنِّين نفسكِ فاعلة يا طفلة عيد الميلاد المزعجة؟» لا يبدو ذلك الملاك على معرفة جيدة ببوبي حقًّا.

قال ويل الابن على نحوٍ أدهشَني وشقيقته: «اغربي يا بوبي. دعينا وشأننا، وإلا سأُخبر أمي وأبي بشأن درجة «مقبول» التي حصلتِ عليها في اختبار الكيمياء.» كان ويل مُمسكًا باب الحافلة بكلتا يدَيه وواضعًا قدمًا واحدة على أول درجة كأنه يخطِّط لاتباعي إلى الداخل مُباشرةً.

أدارت بوبي عينَيها في مَحجِرَيهما كأنها تعرَّضت للتهديد من قِبل هاوٍ. وقالت بصوت كالشخير: «سيَكتشِفان الأمر على أيِّ حال. ولن يتفاجآ بالتأكيد.»

واصل ويل الكلام: «حسنًا. سأُخبرهما إذن عن كيفية خداعك لسكرتيرة المدرسة بانتحال شخصية أمي على الهاتف، كي تَحصُلي على الإذن متى أردتِ التغيُّب عن المدرسة.»

تحدَّته بوبي قائلة: «أتظنُّ أنني أكترث بذلك؟»

قال الصوت الخبيث: «إنها تكترث»، وتخيَّلت وشْم الملاكِ وهو يدير ذيله الشيطاني العابث. أضاف: «ستكره أن تخسرَ سلاحها السري.»

أخرجت بوبي كتلةَ العلكة الوردية من فمها، وألصقتها بجانب الحافلة، ولطَّخت حرف «الدال» من كلمة «الكتاب المقدَّس» بالكُتلة اللزجة، وسألت: «ما الذي تنويان فِعْله أنتما الاثنان على أي حال؟» ثم تحرَّكت لتحتل مكان ويل في المدخل بعدما صعدنا داخل الحافلة. رأيت فيش من الزجاج الأمامي خارجًا من الكنيسة، بوجه مُكفهِر وهائج، يبحث عني.

قال ويل الابن لبوبي: «يجب أن تذهبَ ميبس إلى سالَينا، وسأصحبُها إلى هناك للتأكد من وصولها سالمة.» قالها كما لو أنَّ الله الجبار ودولة نبراسكا العظيمة كلَّفاه بهذه المُهمَّة، وكما لو أن القس ميكس والسيدة روزماري لن يَضرباه ضربًا مُبرحًا لرحيله المفاجئ دون أن يتركَ لهما خبرًا.

صرخت بوبي في أخيها: «مَن تظن نفسك؟ هل أنت حارس ميبس الشخصي؟ ألا يَكفي وجود شرطي واحد في العائلة؟»

ولوهلة، بدا ويل على وشْك الانفجار. ولو لم يفكَّ ويل الزرَّ الأعلى من قميصه لانقلع من مكانه؛ إذ انتفخت أوداجه.

قال ويل: «اخرسي يا بوبي. إن سالَينا على بُعد ٩٠ ميلًا فحسب. وسنَصل إلى هناك في لمح البصر.»

وفي الجانب المقابل مِن مكان انتظار السيارات، رآنا فيش وكان في طريقه إلى الحافلة الوردية، وتموَّجت الحشائش المُجاورة لرصيف المشاة وتسطَّحت من حوله كأنها تحت شفرات مروحية دوَّارة. كان فيش في قمة الغضب.

قلتُ وبوبي لويل الابن في آنٍ واحد: «لن تذهب إلى سالَينا.» ثم تبادلت أنا وبوبي نظرةَ غضبٍ وحَنَقٍ طويلة، وكانت هي لا تزال واقفةً على الأرض أمام دَرج الحافلة، وأنا في قمته بجوار مقعد السائق، وويل الابن على بُعد مسافة مُتساوية بيننا، وفيش يقطع المسافةَ الفاصِلة بينَنا وبينه بسرعة.

تكدَّست غالبية المَقاعد المُهترئة داخل الحافلة بالصناديق ذات الأغطية وغيرها، وبدا كأنه أُزيلت المقاعد الخلفية لإفساح المكان لمزيد من صناديق التخزين. اتجهت ناحية مُؤخِّرة الحافلة، مُتجاهِلة بوبي وويل الابن، وفكَّرت أنه يُمكنني الاختباءُ هناك جيدًا حتى تَصِل الحافلة إلى كنساس. اتبعني ويل الابن وفي أعقابه بوبي.

قالت بوبي وهي تَصعد الدَّرج المؤدِّي إلى الحافلة بخطوات قوية، مستحضرةً معها شجاعةَ وتردُّد فتاة في السادسة عشرة: «حسنًا، لن تَذهبا إلى أي مكان دوني. لو اختفيتُما، مَن سيتحمل المسئولية إذن؟ مَن سيَقع في ورطة؟ بالطبع أنا سأتحمَّل المسئولية. وإذ كنتُ سأقع في ورطة، فالأفضل أن يحدُث هذا لأمرٍ يَستحق. سأذهب معكما.»

أنشأ ويل يجادل: «مُستحيل يا بوبي.» لكن بوبي رفعت إصبعها في وجه أخيها لإسكاته.

وقالت: «لا بدَّ أن يتعهَّدكما أحدٌ بالرعاية يا أطفال. سيَقتلني أبي وأمي إن تركتكما تذهبان بمفردكما.»

قال ويل: «سيَقتُلانك على أيِّ حال. بل سيقتلاننا.»

سأل فيش وقد صعد أيضًا دَرَج الحافلة مُستعينًا بيديه ورجليه: «ماذا يجري هُنا؟»

صحتُ في أخي من وراء ظهري، وأنا أتسلَّق الصناديق المكدَّسة في الممر: «لن أعودَ إلى البيت يا فيش. سأذهب إلى مشفى «هوب» في سالَينا. سأذهب إلى كانساس وسأجد أبي.»

سأل فيش بضحكة هازئة: «أبهذه الحافلة ستَذهبين؟»

قالت بوبي: «أجل»، باستهزاء بدا مُبهجًا في تمرُّده، جعلها تبدو كأنها تقف في صفي. وأردفت: «سنذهب جميعًا إلى سالَينا أيها الفتى فيش. إن كنت خائفًا جدًّا من السباحة ضد التيار مع بقيتنا، فالأجدر بك أن تنزل من الحافلة.» ألقت بوبي نظرةً سريعة مُباغتة فوق كتف فيش، وإلى خارج نافذة الحافلة الأمامية، ثم قالت: «لكن احسم أمرك بسرعة لأنَّني أظنُّ أن سائق الحافلة خارج من الكنيسة الآن.»

استدَرنا جميعًا لنرى أن ما قالته بوبي ليس كذبًا. كان عامل التوصيل الحزين يخرج من الكنيسة، حاملًا صندوقين ثقيلين من الكتب المقدسة الوردية ومطأطئ الرأس. تبادلتُ أنا وويل الابن وبوبي وفيش النظرات، وترقَّبنا مَن سيندفع من الحافلة أولًا، ومَن سيتحلَّى بالشجاعة لخوض التحدي والبقاء في الحافلة.

كاد عامل التوصيل يبلغ الشاحنة عندما ظهرت السيدة روزماري بين الأبواب المُزدوجة المفتوحة للكنيسة وفتَّشت ساحةَ انتظار السيارات بعينيها مثل حارس سِجن.

صاحت بوبي: «بسرعة! اختبئوا! لا نُريدها أن ترانا!»

تملَّكهم الرعب وتبعوني مُتسلِّقين الصناديق بأيدهم وأرجلهم للوصول إلى مؤخرة الحافلة، وراحوا يتعثَّرون وينزلِقون ويرتطِمون بالصناديق، فأوقعوا الكتبَ المقدسة الوردية على أرضية الحافلة مثل الأحجار التي تُداس عند عبور الماء. وفجأةً شعرتُ أنني غير واثقة تمامًا من هذه الخطة. ربما كنت مُتسرعةً جدًّا. ربما كان من الأفضل أن أسيرَ كلَّ هذا الطريق إلى سالَينا.

همس الملاك في أذني: «إنها خائفة.»

في تلك اللحظة، لم أكن بحاجة أن يُخبرني الوشم عن شعور بوبي. كنا نتشارك الشعور ذاته ولم يكن لدينا وقتٌ للتظاهر بعكسه. وقبل أن أفكِّر في الأمر مليًّا تسبَّبت في حبس الجميع في الحافلة الوردية الكبيرة. صِرنا مسافرين متهربين إلا إذا حملت الشجاعة أحدنا — أو الجنون — على النزول من الحافلة أمام عامل التوصيل والسيدة روزماري وإفساد الأمر على الجميع. لكن لم يحاول أحدنا الهروب، وكنتُ ممتنة لذلك.

غطسنا خلفَ كومة صناديق الكتب المقدَّسة الوردية في مؤخِّرة الحافلة، مختبئين، نتساءل عما إذا كنا مستيقظين أم إننا في حُلم، بينما صعد عامل التوصيل إلى الحافلة. واندهشنا عندما وجدنا في نهاية الحافلة سريرًا نقَّالًا، وحقيبةَ نوم محشورة بين الصناديق، بالإضافة إلى حقيبةِ سفر مُهترئة يتناثر منها جوارب غير مُتطابقة وبدل عمل إضافية. وإلى جانب ذلك، كان على الأرض كيس من رقائق البطاطس المقلية نصف فارغ، وبضع وجبات خفيفة من «سلِم جِمز»، وكومة مقلوبة من مجلات «ناشونال جيوجرافيك»؛ بعضها مُنثنية أوراقها باهتة الألوان، والأخرى حديثة جديدة.

لكن كانت المفاجأة الكبرى هي وجود سامسون.

تكوَّر سامسون في هيئة كرة تحت السرير النقَّال، مثلما تضمُّ سُلحفاته جسدها تحت قوقعتها. كان يتطلَّع إلى الصور في إحدى المجلات القديمة جدًّا، وعيناه الداكنتان مَفتوحتان على آخرهما وهو يُطالع مقالًا بعنوان «عادات غريبة للعُثَث المألوفة» عندما اقتحمنا مَخبأه. لكنه لم يَحمل نفسه على النظر إلينا حتى سمع الضوضاء المجلجِلة المدوية للمحرك ترجرج الحافلة.

رفعت إصبعي إلى شفتي في تنبيهٍ غير ضروري لسامسون بالتزام الصمت، ونسيت لوهلة أن أخي المزاجي الكئيب دائمًا ما يكون صامتًا، وسيتطلب الأمر ما هو أكثر من ارتفاع صوته كي يُمكن سماعه وسط صوت زمجرة محرك الحافلة القديم. بدأت العجلات في الدوران، فتشبَّثنا بما يمكننا التشبُّث به حتى لا نرتطم أو نثب في الأرجاء بينما تغادر الحافلة ساحةَ انتظار سيارات الكنيسة باتجاه الطريق السريع. لكن الحافلة الوردية الكبيرة بلَغَت طريق ٨١ السريع وانعطفت يسارًا لا يمينًا، واتجهت شمالًا لا جنوبًا، ووجدنا أنفسنا فجأة نبتعد عن كنساس بدلًا من الاقتراب منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤