الفصل العاشر

جان بول سارتر

(١٩٠٥م–…)

إن سارتر يُبشِّر في عزم مصمِّم بفلسفة صاغَها خاصةً للأزمة التي نعانيها في عصرنا هذا. وهذا الوجودي الفرنسي صاحب الشهرة العالمية، الذي أمسى اليوم أديبًا محترفًا، كان أستاذًا للفلسفة، وكاتبًا من كُتاب المسرحية والرواية، وأحد الوطنيين الفرنسيين في حركة «المقاومة» التي قامت في أثناء احتلال فرنسا في الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من أنه يرث التقاليد التي انبثقت من كركجارد، فإن «وثبة الإيمان» عنده لا ترتفع إلى درجة يبلغ بها الله. وهو ملحد صراحةً وعقلًا؛ ومن ثَم فهو يقبل المشكلة التي أثارها دستويفسكي، وهي أنه إذا لم يكن الله موجودًا فكل شيء ممكن، ويضيف إلى ذلك ما يترتب على هذا القول، وهو أنه إذا كان الله موجودًا فلن يغير من أمر الإنسان شيئًا. أمَّا الإنسان نفسه فهو عبارة عن «هوًى لا يجدي»، لا يستطيع أن يفهم وجوده ذاته، معزول، ضعيف، ينفر من انعدام المعنى في كل شيء في الوجود الظاهري، ومن العدم المؤلم لذاته التي لا مبرر لها ولا يعرف لها حدودًا؛ ومن ثَم فإن الإنسان ليس «إلا ما يصنعه بنفسه». وهذا هو المبدأ الأول من مبادئ الوجودية. وبهذه المعرفة يعتقد سارتر أن الإنسان بوسعه أن يستعد لإلزام نفسه ﺑ «عملٍ ما»، كما يعتقد أنه على وعي تام بحريته في اختيار القيم التي يريد. وما دامت حرية الإنسان مطلقة لا جذور لها، فهي حالة غامضة، تبعث على الفزع كما تبعث على التحرر في آنٍ واحد.

وُلد جان بول سارتر في باريس في اليوم الحادي والعشرين من شهر يونيو من عام ١٩٠٥م، وجدُّه لأمه كان أستاذًا للغة الألمانية في ليسيه هنري الرابع بباريس. ولا يمكن أن تكون البيئة العائلية المباشرة لسارتر علمية جدًّا؛ لأن أباه كان ملَّاحًا لقي حتفه في الهند الصينية وسارتر لا يزال في المهد صبيًّا. وتلقَّى سارتر تعليمه في الليسيه بسانت روشل وفي ليسيه هنري الرابع، وتلقَّى تعليمه العالي في مدرسة المعلمين العليا، وفي عام ١٩٢٨م ظفِر بشهادة الأجريجاسيون في الفلسفة، وبعدئذٍ أصبح أستاذًا في لاون، وفي هافر فيما بعد. وبعد ذلك بفترة وجيزة رحل إلى برلين ليدرس الفلسفة الألمانية المعاصرة. ولما عاد إلى فرنسا اشتغل بالتعليم مرةً أخرى في ليسيه باستير في نويلي، ثم التحق بخدمة الجيش الفرنسي بخط ماجينو في عام ١٩٣٩م، وأُسر في يونيو من عام ١٩٤٠م، وأُعيد إلى وطنه في ربيع عام ١٩٤١م. واشتغل بالتعليم مرةً أخرى حتى كان عام ١٩٤٤م، حيث تخلَّى عنه ليكرِّس نفسه للأعمال الأدبية يُفرغ لها كل وقته. وفي العام التالي قام بزيارة للولايات المتحدة. ولما عاد إلى الوطن مرةً أخرى شرع يُحرِّر «الأزمنة الحديثة»، وهي صحيفة كان أول ظهورها في خريف عام ١٩٤٦م.

وربما كان أقوى الوثائق أثرًا مما كتب سارتر بيانَه البليغ الذي طبعه في المجلد الذي كتبه تحت عنوان «جمهورية الصمت»، والذي نشره أ. ج. ليبليج بعد انتهاء الحرب ببضع سنوات، في هذا الموقف النهائي الذي يختار فيه المرء بين أن يؤمن مع زملائه في المقاومة ويفقد حياته ولكنه يحتفظ بإنسانيته، وبين أن يخرج على إيمان زملائه، ويسلك الطريق التي يحتفظ فيها بذاته كشيءٍ ما، لا كإنسان، في هذا الموقف يبين لنا سارتر أن مذهبه الوجودي ومذهب البطولة قد يعيشان جنبًا إلى جنب، وفي هذا يقول: «وهكذا عرضت لنا مشكلة الحرية، ووقفنا عند بداية المعرفة العميقة التي يمكن أن يبلغها الإنسان عن نفسه؛ لأنَّ سر الإنسان ليس في مركب أوديب أو مركب النقص، إنما هو في حدود حريته وقدرته على مقاومة التعذيب والموت.»

وقد يُظن أن إعجاب سارتر الظاهر بحركة سياسية معينة وانضمامه إليها يناقض فلسفته العامة، يقول أحد النُّقَّاد: «إنَّ حبه للحرية وحبه لنظام سياسي واضح المعالم يتناقضان دائمًا … إن سارتر نفسه يعاني من مصير أبطال قصصه الذين نراهم دائمًا عاجزين عن تحديد الجانب الذي ينضمُّون إليه.» وقد وهب سارتر مزاياه العقلية الكبرى للحزب الشيوعي الفرنسي في مناسبات عدة، ولكنه عُومل — وربما كان ذلك بواقعية قاسية — كأنه حِصان طروادة، أثمن من أن يمسه المؤمنون الصادقون.

ويقحم سارتر كتاباته في ميادين الميتافيزيقا والأخلاق والجمال والسير، وذلك بالإضافة إلى رواياته ومسرحياته. وقد أسهم بكثير من المقالات في الموضوعات السياسية والاجتماعية للمجلات الأدبية في فرنسا وأمريكا، ومؤلَّفه الفلسفي الأكبر هو كتابه الضخم «الوجود والعدم»، الذي نُشر في فرنسا عام ١٩٤٣م، وتُرجم إلى الإنجليزية في العام التالي. وخير مسرحياته هما المسرحيتان القصيرتان «الذباب» و«لا مخرج». وله سلسلة روايات بعنوان «الطريق إلى الحرية» بلغت الآن أربعة مجلدات. غير أن بعض من يدرسون إنتاج سارتر الأدبي لا يزالون يؤثِرون روايته الصغيرة الأولى التي أعطاها عنوانًا شائقًا هو «غثيان»، ونشرها عام ١٩٣٧م. ومن بحوثه الهامة التي نشرها في صورة مقالات «الوجودية والإنسانية» عام ١٩٤٨م، و«ما هو الأدب؟» عام ١٩٤٧م.

(١) الوجودية الإلحادية

جان بول سارتر

(١-١) اتهام الوجودية

أودُّ بهذه المناسبة أن أدافع عن الوجودية ضد بعض التُّهم التي وُجِّهت إليها.

اتُّهمت الوجودية أولًا بأنها تدعو الناس أن يلزموا الهدوء يائسين؛ لأنه ما دامت الحلول مستحيلة، فمن الواجب علينا أن ننظر إلى العمل في هذه الدنيا باعتباره أمرًا يستحيل تمام الاستحالة، وعلينا إذَن أن ننتهي إلى فلسفة تأملية. وما دام التأمل ترفًا، فإننا نبلغ في غاية الأمر فلسفةً برجوازية. وقد وجَّه الشيوعيون على الأقل هذه التُّهم إلى الوجودية.

ثم اتُّهمنا أيضًا من ناحية أخرى بإصرارنا على انحطاط الإنسان، وبإشادتنا في كل مكان بالخسيس والغامض والمبهَم، مع إهمالنا للجليل والجميل، وللجانب المشرق من طبيعة الإنسان؛ فاتُّهمنا مثلًا — وفقًا لما ذكرته الآنسة مرسييه، وهي ناقدة كاثوليكية — بتجاهل ابتسامة الطفل. والطرفان يتَّهمانِنا بتجاهل التماسك البشري، وباعتبار الإنسان كائنًا منعزلًا. ويقول الشيوعيون: إن السبب الأساسي في هذا هو أننا نتخذ الذاتية الخالصة، أو مذهب ديكارت «إني أفكر»، نقطةً للبداية، أو بعبارة أخرى اللحظة التي يعي فيها الإنسان وعيًا كاملًا معنى انعزاله. ويترتب على ذلك أنَّا نعجز عن العودة إلى حالة التماسك مع غيرنا من الناس، وهي حالة لا يمكن أن نبلغها في حالة الذاتية، حالة إيماننا بمذهبِ «إني أفكر».

كما أنَّا — من وجهة النظر المسيحية — نتَّهم بنكران حقيقة العمل الإنساني وجدِّيته؛ لأنَّا — حينما ننبذ وصايا الله والحقائق الأبدية — لا يبقى لنا شيءٌ سوى الهوى المطلق، حيث يسمح لكل امرئٍ أن يفعل ما يشاء، وحيث يعجز — من وجهة نظره — عن تقدير وجهة نظر الآخرين وما يعملون.

وسوف أحاول الآن أن أردَّ عن الوجودية هذه التُّهم، وسيُدهَش الكثيرون مما سوف أسُوقه هنا بصدد الإنسانية، وسوف نحاول أن نرى بأي معنًى تُفهَم الإنسانية. وعلى أية حال فإن ما يمكن أن يُقال منذ البداية هو أنَّا نعني بالوجودية مذهبًا يجعل الحياة الإنسانية ممكنة، مذهبًا يعلن — فوق ذلك — أن كل حقيقة وكل عمل يتضمن موقفًا إنسانيًّا، وذاتية إنسانية.

وهذا المذهب في الواقع هو أقل المذاهب عيبًا، وأشد صرامة، وهو موجَّه بحذافيره إلى المختصين والفلاسفة، ومع ذلك فمن اليسير أن نعرفه. غير أن ما يُعقِّد الأمور هو أن هناك نوعين من الوجودية؛ أولهما أولئك المسيحيون، ومنهم ياسبرز وجبريل مارسل، وكلاهما كاثوليكي؛ وهناك ثانيًا الوجوديون الملحدون، ومنهم هيدجر، والوجوديون الفرنسيون وشخصي. والأمر الذي يشتركون فيه هو أنهم يعتقدون أن الوجود يسبق الماهية، أو إن شئت قلت إن الذاتية لا بد أن تكون نقطة البداية.

(١-٢) الإنسان يصنع نفسه

الوجودية الإلحادية التي أُمثِّلها تقول بأنه إذا لم يكن الله١ موجودًا، فهناك على الأقل كائن واحد يسبق وجوده ماهيته، كائن وُجد قبل إمكان تعريفه على أية صورة ذهنية، وهذا الكائن هو الإنسان، أو هو — كما يقول هيدجر — الحقيقة البشرية. فماذا نعني هنا حينما نقول إن الوجود سبق الماهية؟ إننا نعني — أولًا — أن الإنسان يوجد ويبرز ويظهر على المسرح، ولا يعرِّف نفسه إلا فيما بعد ذلك. وإذا كان الإنسان —كما يتصوره الوجوديون — لا يمكن تعريفه، فذلك لأنه في أول الأمر عدم … ولن يكون شيئًا ما إلا فيما بعد. وعندئذٍ يكون هو نفسه الذي صنع ما سوف يكونه. وهكذا ترى أنه ليست هناك طبيعة بشرية، ما دام ليس هناك إله يتصورها. وليس الإنسان فقط هو الصورة التي يرى نفسه عليها، وإنما هو أيضًا ما يريد لنفسه أن يكون بعد اندفاعه هذا نحو الوجود.

ليس الإنسان إلا ما يصنع بنفسه، وهذا هو المبدأ الأول من مبادئ الوجودية، وهو أيضًا ما يُسمَّى الذاتية، وهو الاسم الذي نوصم به حينما تُوجَّه إلينا التُّهم. ولكن ماذا نعني من هذا، إذا كنا لا نعني أن للإنسان كرامةً تفوق ما للحجر أو الخشب؛ لأنَّا نعني أن الإنسان يوجد أولًا، أي إن الإنسان — قبل كل شيء — هو الكائن الذي يُوجِّه نفسه صوب مستقبل ما، والذي يعي أنه يتخيل نفسه كائنًا في المستقبل؟ الإنسان في مبدأ أمره خطة واعية بنفسها أكثر منه كتلةً من الطحلب المتخلف، أو قطعة من نُفايات اللحوم أو الخضر؛ إذ لا شيء يوجد قبل هذه الخطة. ليس في السماء شيء عنه، وإنما سوف يكون الإنسان ما رسم لنفسه أن يكون، وليس ما يريد أن يكون؛ لأنَّا بكلمة «الإرادة» نعني عادةً قرارًا واعيًا يترتب على ما سبق أن صنعنا بأنفسنا؛ فقد أريد أن أنتمي إلى حزب سياسي، أو أن أكتب كتابًا، أو أن أتزوج، غير أن هذا كله ليس إلا إظهارًا لاختيار سابق أكثر تلقائية، نُسميه «الإرادة». ولكن إذا كان الوجود يسبق الماهية فعلًا، فالإنسان إذَن مسئول عما هو عليه؛ فالدعوة الوجودية الأولى إذَن هي أن تجعل كل امرئ واعيًا بما هو عليه، وأن تلقي بالمسئولية الكاملة لوجوده على كاهله. وحينما نقول إن الإنسان مسئول عن نفسه، لا نعني أنه مسئول عن فرديته فحسب، وإنما نعني أنه مسئول عن الناس جميعًا.

ولفظة الذاتية لها معنيان، وخصومنا يستغلون ما في اللفظة من تورية؛ فالذاتية تعني من ناحيةٍ أن الفرد يختار ويصنع نفسه، وهي تعني من ناحية أخرى أنه يستحيل على الإنسان أن يتجاوز الذاتية البشرية. والمعنى الثاني هو المعنى الأساسي للوجودية. وعندما نقول إن الإنسان يختار ذاته، فنحن نعني أن كلًّا منا يفعل ذلك، ولكنَّا نعني بذلك أيضًا أنه عندما يقوم بهذا الاختيار فهو يختار كذلك جميع الناس. والواقع أننا عندما نخلق الإنسان الذي نريد أن نكونه، فليس هناك عمل واحد من أعمالنا لا يخلق في الوقت نفسه صورة للإنسان كما نعتقد أنه ينبغي أن يكون، واختيارنا أن نكون هذا أو ذاك هو تأكيد في الوقت نفسه لقيمة ما نختار؛ لأنَّا لا يمكن أن نختار الشر، وإنما نحن نختار الخير دائمًا، ولا يمكن أن يكون شيء ما خيرًا لنا دون أن يكون خيرًا للجميع.

وإذا كان الوجود — من ناحية أخرى — يسبق الماهية، وإذا سلَّمنا بأنَّا نوجد ونشكل صورتنا في نفس الوقت، فإن الصورة تكون صالحة لكل إنسان ولعصرنا بأكمله؛ ومن ثَم فإن مسئوليتنا تفوق كثيرًا ما قد نفترضه؛ لأنها تشمل الجنس البشري قاطبةً؛ فإذا كنت عاملًا وأُوثر أن ألتحق بنقابة عمالية مسيحية على أن أكون شيوعيًّا، وإذا كنت بعضويتي أريد أن أُبيِّن أن خير الأمور للإنسان أن يستسلم، وأن مملكة الإنسان ليست في هذه الدنيا، وليس الأمر مما يخصُّني وحدي، وإنما أنا أريد أن أستسلم ممثلًا في ذلك كل إنسان غيري؛ فعملي — نتيجةً لذلك — يتضمن البشرية كلها. ولآخذ أمرًا أخص من هذا: إذا أردت أن أتزوَّج وأن أنجب أطفالًا — حتى إن كان هذا الزواج يتوقف كليةً على ظروفي الخاصة، أو على عاطفتي، أو رغبتي — فإني أجرُّ الإنسانية كلها إلى الزواج ولا أجرُّ نفسي وحدها؛ ولذلك فأنا مسئول عن نفسي وعن كل إنسان آخر؛ لأني أخلق صورةً معيَّنة للإنسان كما أختاره بنفسي. وإني حين أختار نفسي، إنما أختار الإنسان عامة.

(١-٣) «الضيق» و«اليأس»

ويُعيننا ذلك على أن ندرك المعنى الحقيقي لبعض الألفاظ المتحذلقة، كالضيق والخذلان واليأس. والأمر — كما سوف نرى — غاية في البساطة.

أولًا: ماذا نعني بالضيق؟ يقول الوجوديون على الفور: الإنسان هو الضيق. ومعنى ذلك أن الإنسان الذي يقحم نفسه، والذي لا يدرك أنه ليس الشخص الذي اختار أن يكونه فحسب، وإنما هو كذلك وفي الوقت عينه واضع لقانون يختار به أفراد البشر جميعًا كما يختار نفسه، هذا الإنسان لا يسعه أن يفر من الشعور بمسئوليته الشاملة العميقة. وليس من شك في أن هناك أفرادًا كثيرين ليس بهم قلق، ولكنا نزعم أنهم يُخفون قلقهم، وأنهم يفرون منه. وليس من شك في أن هناك أفرادًا كثيرين يعتقدون أنهم حينما يعملون شيئًا ما يحسبون أن ما يعملون يهمهم وحدهم، وإن قال لهم قائل: «وماذا لو أن كل شخص آخر صنع صنيعهم؟» هزُّوا أكتافهم، وأجابوا قائلين: «إن كل شخص آخر لا يصنع هذا الصنيع.» غير أن المرء — في الواقع — ينبغي أن يسأل نفسه هذا السؤال: «ماذا يحدث لو أن كل إنسان نظر إلى الأمور هذه النظرة؟» ولا مفر من هذه الفكرة المزعجة إلا بالخداع. إن الإنسان الذي يكذب ويقدم لنفسه المعاذير بقوله «إن كل إنسان لا يفعل ذلك» رجلٌ غير مرتاح الضمير؛ لأن أداء الكذب يعني إعطاء الكذب قيمةً عالمية.

إن الضيق حقيقةٌ واقعة حتى حينما يختفي. وهذا هو الضيق الذي أسماه كركجارد ضيق إبراهيم، وأنتم تعلمون القصة: لقد أمر أحد الملائكة إبراهيم أن يُضحي بأحد أبنائه. ولو أن الذي حدث فعلًا أن ملكًا جاء إلى إبراهيم وقال له «اذبح ابنك يا إبراهيم»، لكان كل شيء على ما يرام، ولكن أي امرئ قد يتعجب سائلًا: «هل هو ملك حقًّا، وهل أنا حقًّا إبراهيم؟ أي دليل عندي؟»

كانت هناك امرأة عندها هواجس، واعتاد أحد الناس أن يخاطبها بالتليفون ويلقي عليها الأوامر. وسألها طبيبها: «من هذا الذي يتحدث اليوم؟» وأجابت قائلةً: «إنه يقول إنه الله.» أيُّ دليل عندها فعلًا على أنه هو الله؟ إذا جاءني ملك، فأي دليل هناك على أنه ملك؟ وإن كنت أستمع إلى أصوات، فأي دليل هناك على أنها آتية من الجنة وليست آتية من الجحيم، أو من اللاشعور، أو من حالة مرضية خاصة؟ وأي دليل هناك على أن هذه الأصوات موجَّهة إليَّ؟ وأي دليل هناك على أنه قد عُهد إليَّ أن أفرض اختياري وأن أفرض فكرتي عن الإنسان على البشرية كلها؟ إني لن أجد دليلًا أو علامةً تقنعني بذلك. إذا كان الصوت يناديني فعليَّ دائمًا أن أقرر أن هذا هو صوت الملك. وإذا كنت أرى أن مثل هذا العمل عمل طيب، فأنا الذي أختار القول بأنه عمل طيب وليس عملًا سيئًا.

والآن أقول: إني لست أنا إبراهيم، ولكني — برغم هذا — مضطر في كل لحظة إلى أن أؤدي عملًا شبيهًا بالذي أدى؛ لأن كل شيء يحدث لكل إنسان، وكأن البشرية كلها تُوجِّه بصرها إليه وتسترشد بما يفعل. وعلى كل امرئ أن يسأل نفسه: «هل أنا حقًّا ذلك الرجل الذي يملك الحق في أن يعمل بطريقة تستطيع البشرية أن تسترشد فيها بعملي؟» فإن كان لا يسأل نفسه هذا السؤال فهو يخفي عن نفسه همها.

ولسنا نتعرض هنا لنوع الهم أو الضيق الذي يؤدي إلى السكون، وإلى الكف عن الحركة؛ فالأمر ليس إلا نوعًا بسيطًا من الهم يألفه كل إنسان تحمَّل شيئًا من المسئولية. ولْنضرب لذلك مثلًا الضابط الحربي الذي يتحمل مسئولية الهجوم، والذي يجلب الموت لعدد من جنوده. لقد اختار ذلك، وهو وحده أساسًا الذي قام بالاختيار. وليس من شك في أن الأوامر تأتيه من سلطة أعلى، ولكنها أوامر عامة جدًّا، وهو الذي يفسرها، وعلى تفسيره تتوقف حياة عشرة أو أربعة عشر أو عشرين رجلًا. وهو إذ يصدر قراره لا يسعه إلا أن يُحس شيئًا من الهم والضيق، وهو ضيق يعرفه كل قائد، ولا يمنعهم هذا من العمل، بل — على العكس من ذلك — هذا الضيق هو الشرط الأساسي لما يقومون به من عمل؛ لأنه يعني أنهم يواجهون عددًا من الاحتمالات، وعندما يختارون واحدًا منها يدركون أنه ليس لهذا الاحتمال قيمته إلا لأنه مختار. وسوف نرى أن هذا الضرب من ضروب الضيق، وهو الضرب الذي تصفه الوجودية، أو تفسره — فوق ذلك — مسئولية مباشرة إزاء الأفراد الآخرين الذين يرتبط بهم. وهو ليس حاجزًا يفصلنا عن العمل، ولكنه جزء من العمل نفسه.

وعندما نتكلم عن الخذلان، وهو تعبير كان هيدجر مُغرَمًا به، إنما نعني أن الله غير موجود، وأنه يتحتم علينا أن نواجه كل ما يترتب على ذلك.

إن الوجودي يعتقد أنه من المؤلم جدًّا ألا يوجد الله؛ لأن كل احتمال للعثور على قيم في سماء من الأفكار يختفي باختفاء الله؛ وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون هناك خير «سابق» ما دام ليس هناك وعي كامل غير محدود للتفكير فيه. ولم يكتب في أي مكان أن الخير موجود، وأنه يجب علينا أن نكون أُمناء، وألا نكذب؛ لأن واقع الأمر هو أننا في مستوًى ليس به غير الناس. يقول دستوفسكي: «إذا لم يوجد الله، أمكن كل شيء.» وهذه هي نقطة البداية عينها في الوجودية؛ فالواقع أن كل شيء جائز إذا لم يوجد الله، ويترتب على ذلك شعور الإنسان بالخذلان؛ لأنه لا يجد شيئًا بداخله أو بخارجه يتمسك به، وهو لا يستطيع أن يلتمس لنفسه المعاذير.

أمَّا اليأس فمعناه غاية في البساطة، معناه أنَّا نكتفي بأن نركن إلى ما يتوقف على إرادتنا، أو إلى مجموعة الاحتمالات التي تجعل عملنا ممكنًا؛ فعندما نريد شيئًا ما نركن دائمًا إلى الاحتمالات، قد أتوقع قدوم صديق، والصديق قادم بالقطار أو بالترام، وفي هذا افتراض وصول القطار طبقًا لموعده، أو أن الترام لن يقفز فوق قضبانه؛ فأنا إذَن أقف في مجال الإمكان، ولكن الإمكان لا يُركَن إليه إلا إلى الحد الذي يتفق فيه عملي مع مجموعة هذه الإمكانيات ولا يتعداه. وفي اللحظة التي تنفك فيها العلاقة الوثيقة بين الإمكانيات التي تقع في اعتباري وبين عملي، يتحتم عليَّ أن أتحلل من هذه الإمكانيات؛ لأنه ليس هناك إله أو نظام يستطيع أن يكيِّف العالم وإمكانياته طبقًا لإرادتي. وعندما قال ديكارت «تغلبْ على نفسك لا على الدنيا» كان يقصد أساسًا إلى نفس هذا المعنى.

(١-٤) الإنسان حرية

إذا كان الوجود حقًّا يسبق الماهية، فالأمور إذَن لا يمكن تفسيرها بالرجوع إلى طبيعة بشرية معينة ثابتة. وبعبارة أخرى ليست هناك حتمية؛ فالإنسان حر والإنسان حرية. ومن ناحية أخرى إذا كان الله غير موجود، فلن نجد القيم أو الوصايا التي نلتفت إليها والتي تُقنِّن سلوكنا؛ ومن ثَم فلن يكون وراءنا — في مجال القيم المضيء — معذرة، ولن يكون أمامنا تبرير — نحن وحدنا — بغير معذرة.

وهذه هي الفكرة التي سوف أحاول التعبير عنها حينما أقول إن الإنسان قد حُكم عليه بالحرية. أقول حُكم عليه؛ لأنه لم يخلق نفسه، ومع ذلك فهو حر من نواحٍ أخرى؛ لأنه بمجرد إلقائه في هذه الدنيا مسئول عن كل عمل يقوم به.

(١-٥) الالتزام والعمل

إذا سلَّمنا بأن الناس أحرار، وأنهم سوف يُقرِّرون في غدهم ما سوف يَئُول إليه الإنسان، فإني لن أكون على يقين من أن المجاهدين من زملائي سوف يواصلون عملي بعد مماتي لكي يصلوا به إلى أقصى درجة من درجات كماله؛ ففي الغد — بعد مماتي — قد يُقرِّر بعض الناس أن يقيموا الفاشية، وقد يكون الآخرون جبناء مرتبكين إلى حد يجعلهم يمكنون الفئة الأولى مما تريد؛ وعندئذٍ تكون الفاشية هي الحقيقة الإنسانية — ويا لسوء حظ الإنسان حينئذٍ!

والواقع أن الأمور سوف تقع كما قرَّر لها الإنسان أن تقع؛ فهل معنى ذلك أنه ينبغي لي أن أستسلم للكون؟ كلا؛ إذ الواجب عليَّ أولًا أن أقحم نفسي، ثم أعمل طبقًا للناموس القديم، كما قيل: «لا كسب بغير مغامرة.» وليس معنى ذلك أيضًا أنه لا ينبغي لي أن أنتمي إلى حزب، وإنما يعني ألا تكون عندي أوهام، وأن أعمل ما أستطيع. ولأضرب لذلك مثلًا؛ هب أني سألت نفسي: «هل الاشتراكية — كما نعرفها — سوف تتحقق في يوم من الأيام؟» إني لا أعرف شيئًا عن هذا، وكل ما أعرفه هو أني سوف أبذل كل ما في وسعي لكي أحققها، ولا أستطيع أن أعتمد على شيء آخر غير هذا، أمَّا السكون فهو موقف أولئك الذين يقولون: «خلِّ غيري يعمل ما لا أستطيع أن أعمله.» والمذهب الذي أدعو إليه نقيض السكون تمامًا؛ لأنه ينادي ﺑ «أنه ليست هناك حقيقة إلا في العمل»، بل إنه يعدو ذلك لأنه يقول ﺑ «أن الإنسان ليس إلا خطته، وهو لا يوجد إلا بمقدار ما يحقق ذاته؛ وهو لذلك ليس إلا مجموعة أعماله، ليس إلا حياته.»

ونستطيع — طبقًا لذلك — أن ندرك لماذا يفزع بعض الناس لهذا المذهب؛ لأن الوسيلة الوحيدة التي يستطيعون أن يحتملوا بها بؤسهم كثيرًا ما تكون في حسبانهم. «إن الظروف كانت ضدي، وما كنته وما فعلته لا ينمُّ عن قيمتي الحقيقية. حقًّا إني لم أحب حبًّا عظيمًا، ولم أصادق صداقةً كبرى، غير أن ذلك لأني لم أُلاقِ رجلًا أو امرأة حقيقًا بذلك. والكتب التي ألفتها لم تكن جيدة جدًّا؛ لأنه لم يتوافر لي الفراغ الكافي. ولم يكن لي أطفال أُكرِّس لهم حياتي لأني لم أعثر على رجل أستطيع أن أقضي حياتي معه؛ ولذا فلا يزال عندي حشد من الميول والاستعدادات والإمكانيات لا يمكن لأحد أن يقدرها من مجرد تسلسل الأمور التي قمت بها، وهي ميول واستعدادات وإمكانيات لم تُستخدم برغم حيويتها الشديدة.»

أمَّا الوجودي فلا يرى في الواقع حبًّا غير ذلك الذي يظهر في شخص المحب ولا يرى نبوغًا غير الذي تعبر عنه الأعمال الفنية. إن نبوغ بروست هو مجموع ما أنتجه بروست، ونبوغ راسين هو سلسلة مآسيه. ولا يوجد خارج هذه الدوائر شيء ما. لماذا نقول إن راسين كان بوسعه أن يكتب مأساة أخرى في حين أنه لم يكتبها؟ إن المرء يشتبك في الحياة، ويترك فيها أثره، ولا يقع خارج ذلك شيء ما. وليس من شك في أن هذا الرأي قاس على رجل لم تكن حياته ناجحة، ولكنه — من ناحية أخرى — يحفز الناس على أن يدركوا أن الواقع وحده هو الذي يحسب حسابه، أمَّا الأحلام والآمال وما نتوقع فلا تؤدي بنا إلا إلى أن نعرف الإنسان بالحلم الذي لم يتحقق، والآمال الذي أخفقت، والرجاء الذي خاب. أو بعبارة أخرى، نحن بذلك نعرف الإنسان تعريفًا سلبيًّا ولا نعرفه تعريفًا إيجابيًّا. ومهما يكن من شيء، فإننا عندما نقول «إنك لست إلا حياتك»، فلا يتضمن ذلك أن الفنان لا يُحكَم عليه إلا على أساس أعماله الفنية، فهناك أُلوف الأشياء الأخرى التي تسهم في تكوين مجموعه. إن ما نعنيه هو أن الإنسان ليس إلا سلسلة من الأعمال التي يؤديها، وأنه عبارة عن حصيلة، أو صورة، مجموعة العلاقات التي تكون هذه الأعمال.

هل لي أن أسأل: هل هناك من اتهم فنَّانًا صوَّر صورةً ما بأنه لم يرسم وحيه طبقًا لقواعد موضوعة من قبل؟ وهل سأل سائل: «أية صورة يجب عليه أن يصوِّرها؟» من الواضح جليًّا أنه ليست هناك صورة معيَّنة يجب رسمها، وأن الفنان مرتبط برسم صورته، وأن الصورة التي يجب رسمها هي بعينها الصورة التي أداها. ومن الواضح جليًّا أنه ليست هناك قيم فنية سابقة، وإنما هناك قيم تظهر فيما بعدُ في الصورة المؤداة، وفي المقابلة بين النتيجة التي انتهى إليها الفنان وما كان في تصميمه. ولا يستطيع أحد أن يقول على أية صورة سيكون الفنان في غده؛ فالصورة لا نحكم عليها إلا بعد رسمها. وما علاقة ذلك بالأخلاق؟ إننا في نفس الموقف الخلَّاق، إننا لا نقول قط إن العمل الفني عمل اعتباطي، فإننا حينما نتحدث عن لوحة لبيكاسو لا نقصد قَط أنها جاءت اعتباطًا؛ فنحن ندرك تمام الإدراك أنه كان يصنع بنفسه ما كان عليه في الوقت ذاته الذي كان يصور فيه، وأن مجموعة عمله تتجسد في حياته.

والأمر كذلك على المستوى الخلقي. وما يشترك فيه الفن والأخلاق هو أننا في كلتا الحالتين نخلق ونخترع، ولا نستطيع أن نُقرِّر سلفًا ما سوف يؤدي. وأعتقد أني وضَّحت ذلك توضيحًا كافيًا جدًّا حينما ذكرت حالة الطالب الذي جاء لمقابلتي، والذي ربما التجأ إلى كل النظم الأخلاقية، كانتيةً كانت أو غير ذلك، دون أن يظفر بأي نوع من أنواع الاسترشاد. وقد اضطر إلى أن يضع قانونه بنفسه. ولا يصح أن نقول إن هذا الشاب — الذي أحب شخصًا معيَّنًا، وسلك إزاءه سلوكًا فرديًّا، وعطف عليه عطفًا خاصًّا باعتباره المصدر الأوَّل لأخلاقه، فاختار لذلك أن يبقى مع أمه، أو ذلك الذي آثر أن يضحي فاختار أن يرحل إلى إنجلترا — لا يصح أن نقول إنه اختار اختيارًا اعتباطيًّا، إنما الإنسان يصنع نفسه، وهو ليس مهيَّأً على صورة خاصة منذ بدايته. إنه عند اختيار قواعده الأخلاقية يصنع نفسه، والظروف تقهره إلى حد أنه لا يستطيع أن يمتنع عن اختيار مجموعة معينة من قواعد الأخلاق. إننا لا نعرف الإنسان إلا من حيث علاقته بالبيئة؛ ومن ثَم فمن العبث أن نُتَّهم بالاعتباط في الاختيار.

(١-٦) الوجودية والإنسانية

يلومونني لأنني أتساءل عما إذا كانت الوجودية إنسانية! فلقد قيل لي: «ولكنك قلت في مسرحيتك «الغثيان» إن الإنسانيين جميعًا على خطأ، وسخرت من نوع خاص من الإنسانيين، فلماذا تعود إليها الآن؟» والواقع أن كلمة الإنسانية لها معنيان يختلفان جد الاختلاف؛ فقد يعني بها المرء نظرية تجعل الإنسان غاية وذا قيمة أعلى. والإنسانية بهذا المعنى يمكن أن تُلتمس في قصة ككتو «حول العالم في ثمانين ساعة»، حيث يصرح أحد أشخاص القصة — لأنه يطير فوق الجبال في طائرة — «أن الإنسان مخلوق عجيب». ومعنى ذلك أنني أنا الذي لم أصنع الطائرات، سوف أنتفع شخصيًّا من هذه المخترعات الخاصة، وإني — كإنسان — سوف أعد نفسي شخصيًّا مسئولًا عن أعمال قامت بها حفنة من الرجال، وسوف ينالني شرفُ ما قاموا به من عمل. ويتضمن ذلك في معناه أننا نعزو إلى الإنسان قيمةً على أساس أسمى ما قام به بعض الناس من عمل. وهذه الإنسانية عبثٌ باطل؛ لأنه لا يستطيع أن يُصدِر حكمًا عامًّا كهذا على الإنسان إلا كلب أو حِصان، وحتى هذان الحيوانان لم يفعلا ذلك على الأقل فيما أعلم.

ولا يمكن أن نسلم بأن الفرد يمكنه أن يُصدِر حكمًا على الإنسان، والوجودية تعفيه من مثل هذا الحكم، والوجودي لن يعتبر الإنسان غاية لأنه دائمًا في دور التكوين، بل ولا ينبغي لنا أن نعتقد أن هناك جنسًا بشريًّا نستطيع أن نضع له شعائر معينة على طريقة أوجست كومت؛ فشعائر الجنس البشري تنتهي بإنسانية أوجست كومت المُنطوية على ذاتها، ونستطيع أن نقول إنها تنتهي إلى الفاشية. وهذا الضرب من الإنسانية نستطيع الاستغناء عنه.

غير أن للإنسانية معنًى آخر، وهو أساسًا أن الإنسان خارج عن نفسه دائمًا. وهو في إبرازه لنفسه، وفي فقدانه لنفسه، خارج نفسه، يعمل على وجود الإنسان، وبمتابعته لأهداف تتجاوز شخصه — من ناحية أخرى — يستطيع أن يعيش. ولما كان الإنسان هو هذه الحالة من التجاوز، ولما كان لا يتمسك بالأشياء إلا لأن لها أثرًا على هذا التجاوز، فهو في صميمه مركز هذا التجاوز. وليس هناك عالم غير العالم البشري، أو عالم الذاتية البشرية. وهذه العلاقة بين التجاوز — باعتباره عنصرًا من العناصر المكوِّنة للإنسان، لا بمعنى أن الله يتجاوز الإنسان، ولكن بمعنى أن الإنسان يتجاوز نفسه — وبين الذاتية، بمعنى أن الإنسان ليس منطويًا على نفسه، ولكنه كائن دائمًا في عالم بشري، هو ما نُسميه الإنسانية الوجودية، فهي إنسانية؛ لأنَّا نذكر الإنسان أنه ليس هناك من يضع القوانينَ غيرُه، وأنه في خذلانه سيُقرِّر لنفسه، لا بالنظر إلى نفسه، ولكن ببحثه خارج نفسه عن هدف هو هذا التحرير ذاته، وهذا التحقيق للذات عينه.

ومن هذه الآراء القليلة يتبين أنه ليس هناك أشد تعسفًا من الاعتراض الذي وُجِّه إلينا. ليست الوجودية إلا محاولة استخراج كل النتائج التي تترتب على النظرة الإلحادية المتماسكة. ليست الوجودية هي البتة محاولة الزج بالإنسان في غمرة اليأس. أمَّا إذا كان المرء يُسمِّي كل نظرة من نظرات انعدام العقيدة يأسًا — كما يفعل المسيحيون — فالكلمة إذَن لم تُستعمل في معناها الأصلي. ولم تبلغ الوجودية من الإلحاد حدًّا يقضي عليها لأنها تقول بأن الله غير موجود، وإنما هي تعلن أنه حتى إذا كان الله موجودًا، فإن ذلك لا يغير من الأمر شيئًا. وهذا هو رأينا. إننا لا نعتقد أن الله موجود، ولكنا نعتقد أن مشكلة وجوده ليست هي بيت القصيد. والوجودية بهذا المعنى متفائلة، فهي مذهب عمل. وإنها لخيانة صريحة من المسيحيين ألا يميزوا بين يأسهم ويأسنا، ثم يقولوا إنَّا يائسون.

المصادر

المقتطَفات كلها من كتاب «الوجودية» لجان بول سارتر.
١  يقصد سارتر بالله القدر، وبالإلحاد إنكار القدر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤