الفصل الثالث عشر

سدني هوك

(١٩٠٢م–…)

يخطئ الطالب اللامع الذي لا يتخصص في الفلسفة إذا هو أقبل على فصل دراسي يلقي فيه الأستاذ هوك إحدى محاضراته؛ لأن الأرجح أن يتحول هذا الطالب إلى دراسة الفلسفة قبل أن يدقَّ الناقوس الذي يؤذِن بانتهاء المحاضرة.

سدني هوك — وهو أحد الفلاسفة الطبيعيين في الولايات المتحدة — لديه موهبة يُحسَد عليها في عرض الرأي عرضًا مؤثرًا، فهو يجمع في إلقائه بين التحليل الواضح المتفقه في العلم، والفكاهة، والبصر بنفوس الناس. وهذه الصفات العديدة قلما تتوافر في المزاج الفلسفي.

وُلد سدني هوك في نيويورك في العشرين من ديسمبر عام ١٩٠٢م، وقضى طفولته في بروكلن حيث التحق بالمدارس العامة المحلية، وفي كلية المدينة بنيويورك درس الفلسفة مع موريس رفائيل كوهين، ثم التحق بمدرسة المتخرجين في جامعة كولمبيا عام ١٩٢٣م حيث ترك فيه جون ديوي أثرًا لا يُمحى. وفي عام ١٩٢٤م أصبح هوك دارسًا جامعيًّا. وفي عام ١٩٢٦–١٩٢٧م مُنح إحدى الزمالات الجامعية في الفلسفة التي يتطلع إليها الكثيرون. وفي نهاية هذا العام حصل على درجة الدكتوراه، وفي العام التالي ظفر بزمالة جونجهيم التي تُخوِّل له الدراسة في برلين وميونيخ ومعهد ماركس إنجلز بموسكو. وبعد عودته إلى الولايات المتحدة بدأ في علاقاته التعليمية التي دامت أمدًا طويلًا مع جامعة نيويورك، حيث دخلها كمعلم للفلسفة بكل ميدان واشنطون عام ١٩٢٧م، وأصبح مساعد أستاذ في عام ١٩٣٢م، وأستاذًا زميلًا ورئيسًا للقسم في عام ١٩٣٣م، وظل أستاذًا لبضع سنين بعد ذلك. وفي عام ١٩٤٧م عيَّنته مدرسة المتخرجين بجامعة نيويورك رئيسًا لقسم الفلسفة، وفي عام ١٩٤٨م رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس، وبقي سنوات عدة يؤدي هذا العمل، محاضرًا لجموع كبيرة من المستمعين بالمدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي في الفلسفة المعاصرة وعلم الأخلاق والفلسفة الاجتماعية.

إن حياة سدني هوك العملية نشيطة نشاطًا غير مألوف، متنوعة في اهتماماتها. كتب كثيرًا من الكتب والمقالات الهامة في الفلسفة، ونظريات التربية، والنقد الاجتماعي، وفلسفة التاريخ، وسياسة الديمقراطية. وظهر اهتمامه مبكرًا بهيجل وماركس في كتابَين أصدرهما؛ الأول بعنوان «نحو إدراك كارل ماركس» في عام ١٩٣٣م الذي قيل إنه «خير عرض لفلسفة كارل ماركس الاجتماعية باللغة الإنجليزية»، والثاني تحت عنوان «من هيجل إلى ماركس» في عام ١٩٣٦م. ولكن اهتمام هوك بالماركسية كان يخلي السبيل فيما بعد عام ١٩٣٠م لاهتمام أشد عمقًا بالدراسات القديمة في المذهب البراجمي الأمريكي، وبخاصة بالمذهب العملي الذي بشَّر به ديوي، وانعقدت أواصر صداقة وثيقة بين الفيلسوف المُسنِّ والزميل الشاب، واشترك هوك في العمل مع ديوي اشتراكًا مباشرًا في كثير من مخطوطاته في هذه السنوات وما تلاها. وفي عام ١٩٣٩م حينما أقبل ديوي على الثمانين من عمره، نشر هو كتابه «عرض لآراء جون ديوي»، الذي ما برح حتى اليوم أحسن عرض لأفكار ديوي الأساسية، وظهرت له مجموعة مقالات في الفلسفة السياسية عام ١٩٤٠م عالَج فيها «العقل، والأساطير الاجتماعية، والديمقراطية»، كما ظهر له في عام ١٩٤٣م «بطل التاريخ» الذي نال به هوك وسام بتلر الفضي في عام ١٩٤٥م من جامعة كولمبيا، ووصفت براءة الوسام الكتاب بأنه «جهد هام في المحاولات الأخيرة لتفسير التاريخ من وجهة المذهب الطبيعي الأمريكي والمذهب التجريبي». والكتاب الهام الذي أخرجه هوك بعد ذلك هو «التربية لإنسان العصر الحديث» عام ١٩٤٦م، وهو دفاع ملهم الفلسفة التربوية الحرة في أمريكا في عصر بلغت فيه القمة تجارة «الكتب العظيمة» وبروجرام كلية سنت جون.

وقد اتجه هوك بجهوده نحو التبشير بحيوية الحرية التي يعارض بها الشيوعية، وفي هذا أصدر أخيرًا كتابين؛ أحدهما «زندقة لا مؤامرة» في عام ١٩٥٣م، وهو دراسة للحرية الثقافية في الولايات المتحدة عالَج فيها مذهب الحرية ليخرج منه بنقد الشيوعية نقدًا لاذعًا؛ والآخر كتاب «الرأي العام والتعديل الخامس» في عام ١٩٥٧م، وهو دراسة لمادة «اتهام النفس» في القانون، كُتبت، كما قال المؤلف، من وجهة نظر «مذهب الحرية الذي لم يدخله تعديل، وهو المذهب الذي يعترف بتفوق الأخلاق على القانون وتركيز التفكير في الأخلاق». وبعد سنوات عدة قضاها هوك في الكتابة والتبشير بالمبادئ الأساسية للتفكير والبحث المستقل، رأى الحاجة إلى تكوين مؤسسة للدفاع عن الحرية العقلية ضد الخداع الذي لا ينقطع والاعتداء الواقع على الديمقراطية الذي يصدر عن أوكار الشيوعية والأركان التي تعطف عليها، فتأسَّست لجنةُ الحرية الثقافية، وكان أول رئيس لها سدني هوك، ولهذه اللجنة الآن تسع «جماعات وطنية» تابعة للجنة الأمريكية.

(١) المذهب الطبيعي والديمقراطية

سدني هوك

(١-١) فتور الحماسة

في الفصل الثالث الشهير من كتاب «أربع مراحل في الديانة الإغريقية» يقول جلبرت مري: «إن الفترة التي تقع بين عام ٣٠٠ق.م. والقرن الأول المسيحي تتميز ﺑ «فتور الحماسة»، وقد تبين هذا الفتور في ظهور الزهد والتصوف، أو التشاؤم بمعنًى من معانيه، يتميز بفقدان الثقة بالنفس، والأمل في هذه الحياة، والإيمان بالجهود البشرية المألوفة، يتميز باليأس من الأناة في البحث، والحاجة إلى وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه، كما يتميز بعدم المبالاة برفاهية الدولة، والارتداد عن دين الله.»

ولو تصفَّحنا الاتجاهات الثقافية في عصرنا الحاضر لتبيَّن فيها دلائل كثيرة تشير إلى فتور جديد في الحماسة في المدنية الغربية؛ من ذلك إحياء العقيدة في فساد الطبيعة البشرية من قديم الزمان، والتنبؤ بانهيار الثقافة الغربية، بغضِّ النظر عمن يكسب الحرب أو السلام، والبحث عن قيم تتجاوز اهتمام الإنسان، وتقديس «الزعيم» إلى درجة العبادة، وازدراء كل البرامج والفلسفات الاجتماعية، نظرًا لفشل بعضها فشلًا واضحًا، والهجوم العنيف على حب الدنيا، والمناداة بتنمية الطهارة الروحية، والاهتمام بالألغاز أكثر من الاهتمام بالمشكلات، والاعتقاد بأن الأساطير والألغاز هي من أساليب المعرفة. وليس هذا إلا بعض الدلائل الثانوية على الفتور الجديد في حماسة الإنسان.

أمَّا الدليل الأول على الفتور الجديد في الحماسة فينحصر في النظرة التي تصاحب كل الحركات والآراء التي ذكرناها آنفًا، وكثير غيرها كذلك. وهو يتبين في فقدان الثقة في الطريقة العلمية كما يتبين في البحث بمختلف الصور عن «المعرفة» و«الحق»، بوسيلة تختلف كل الاختلاف عن تلك الوسائل التي ينتهجها البحث العلمي. وكثيرًا ما تكون هذه الحقائق المختلفة الفذَّة — دون اعتبار كبير لمراعاة المنطق — «أسمى» من تنوع العلم الذي يبهر الأبصار ومما يكتسبه الإنسان بالحس السليم. وكثيرًا ما نُخفي عدم الثقة في الطريقة العلمية بقولنا إن العلم — بطبيعته — له نوع من الصحة في ميدانه الخاص ومجاله المعين، وإن مزاعم الفلسفة العلمية وحدها — المذهب الطبيعي، والمذهب التجريبي، والمذهب الوضعي — هي التي توضع موضع النقد. وبالرغم من ذلك، فإن أمثال هؤلاء النُّقَّاد لا يتجهون نحو الطرائق الفعلية للبحث العلمي بغيةَ تصحيح هذه العبارة أو تلك من الفلسفة العلمية، إنما يتجهون نحو طريقة أخرى تمدنا بمعرفة ما يجاوز قدرة الطريقة العلمية، وهم يزعمون بين الحين والحين في جرأة وشجاعةٍ أن طريقتهم التي يُبشِّرون بها تمدنا بمعرفة أكمل وأصح حتى عن الموضوعات التي تعالجها العلوم. أيُّ بيان في ذلك أبلغ مما تتضمنه عبارة رينولد نيبور التي يقول فيها «إن العلم الذي ينحصر في العلم لا يمكن أن يتصف بالدقة العلمية»؟!

وفقدان الثقة في الطريقة العلمية يتحول إلى عداوة صريحة كلما طالبت إحدى الحقائق «الخاصة» المتميزة بإعفائها من المعايير الموضوعة لحماية العقل من الأوهام. وهذه الدعاوى بطلب الإعفاء تتخذ لها صورًا عديدة، وهي قلما تكون مباشرة علنية، وإنما هي في العادة تتخذ صور النتائج الحتمية ﻟ «نظريات» المعرفة الخاصة، أو للحياة، أو للتجربة. وهناك من يفسر العلم والمعرفة المتقطعة عمومًا بأنها مجرد طريقة لتثبيت ما نعرفه من قبل بالفعل، معرفةً أكيدة وإن تكن غامضة، بوسائل أخرى من الاختبار والتجربة. وإذا كانت وسائل البحث العلمي لا تؤدي إلى هذا التثبيت، فلا بد أن تكون خاطئة، ولا بد من إيجاد وسيلة أخرى تؤكد صحة الحكمة البدائية وتنقلها إلى عقولنا. ويزعم آخرون أن الطريقة العلمية لا تمدنا إلا بحقائق جزئية، لا تقل فيها صفة الجزئية بإخضاعها لفحص علمي أدق، وإنما تقل بضمها إلى نظام ديني أو ميتافيزيقي. وهناك من يُصرِّح علنًا بأن من البديهيات أن كل تجربة وكل شعور أو عاطفة إنما يعبر مباشرةً عن حقيقة لا يمكن أن تكفل صحتها التجربة أو الاستدلال، بل وليست في حاجة إلى هذه الكفالة.

وهذه بصراحةٍ مداخل إلى الاستهتار الذهني والخلقي. وربما كان أدق من ذلك أن نقول إنه مما يحملنا إلى أبعد من هذه المداخل أن نؤمن بأن كل طريقة من طرق التجربة تمدنا بمعرفة مباشرة معتمدة؛ لأن هذه النظرة غالبًا ما تكون دفاعًا عن غموض مقصود؛ إذ إنها تبدأ بافتراض أن كل خبرة تعطينا معرفة معتمدة بالعالم الموضوعي، بدلًا من أن تعطينا مادة للحكم عليها، وهي تجعل من أمعائنا وسائل للمعرفة، وتُبرِّر كل هوًى عاطفي بزعمها أننا لو أحسسنا إزاء شيء ما إحساسًا فيه من العمق الكفاية، فلا بد أن تعلن مشاعرنا عن بعض الحق المتعلق بالشيء الذي أثار هذا الشعور، فيكون هذا الحق مشروعًا مشروعيةَ الحكم الذي نُصدِره ونكشف به عن أصل الشعور الذي أحسسناه في لحظة من لحظات الانحراف الشخصي. أوَليست هذه هي الحالة التي يقتنع فيها كل متعصب يسعى وراء الزندقة وكل متحمس يهذي أن المشاعر والرؤى والأهواء التي تثور في نفسه تعبر عن الحقيقة؟ وليس هتلر هو الوحيد الذي يرى أن الدلائل تعد عرضية إذا لم يرفضها المرء باعتبارها أمورًا أخطأها الداء. وإذا كان صوت الشعور لا يخطئ، فكل خلاف يكون دعوة إلى القتال، وكل عقل مختلٍ يستطيع أن يزعم لنفسه النبوة. إننا لسنا بحاجة إلى حماية الطريقة العلمية النقدية دفاعًا عن أنفسنا ضد أولئك الذين يقفون عند حافة الخلل العقلي فحسب؛ لأن كل مصلحة خاصة في الحياة الاجتماعية، وكل مزية لا تقاوم على أساس المساواة، وكل «حقيقة» تصدر باعتبارها حقيقة وطنية أو طبقية أو عنصرية، تنكر قدرة البحث العلمي على تقويم ما تدعيه هذه القدرة، بل إن أشخاصنا العادية لا تخلو من الميل إلى أن تحسب غزارة الشعور أو الإيمان الذي نعتنق به العقائد دليلًا على صحتها لا شك فيه.

وهناك من يرى أن ما يكشف عنه الشعور والبداهة والعاطفة لا بد أن يتفق وقوانين الاستدلال العلمي. غير أن هذا الرأي لا يمكن أن يُقبَل؛ لأنه عبارة عن حكم شرعي اعتباطي بشأن الرؤى التي يمكن قبولها والتي لا يمكن قبولها، وأيها يجوز أن يوجد وأيها لا يجوز. والشكوى قائمة من أنَّ مثل هذا الرأي يُقفِر مصادر الخيال، ويقضي على الرؤى التي لا يكون بغيرها نمو أو معرفة جديدة، ولا تؤدي على الأكثر إلا إلى عبث أخرق بالقوانين والطرائق. ومثل هذا التفسير — فيما يتعلق بمشاهدة الرؤى واكتساب الحقائق الجديدة — يدعو إلى السخرية الشديدة. أمَّا النقطة الأساسية — حينما تنشأ مشكلة المعرفة والحق — فهي: هل شهد أحدنا رؤيا؟ أو هل كان فريسة للوهم؟ وإذا لم نشأ أن نسأل بهذه الصيغة، قلنا: هل يرى الواحد منا رؤيا يوثق بها، أو رؤيا لا يوثق بها؟ إن بعض الناس يزعمون أنهم يرون أشياء نعرف أنها غير موجودة. وإذا كانت المشاهدة تؤدي إلى العقيدة، فمن الجائز أن يُخدَع الناس دائمًا.

ولكن المطالبة بالدليل من الناحية العقلية لا تدعو إلى شلل رُواد الحق الذين يدركون لمحات مما لم يحلم به أحد حتى آنئذٍ؛ لأن العلوم ذاتها لا تتطلب إثباتًا كاملًا أو دقيقًا للفرض منذ البداية، وإنما تتطلب من الإثبات ما يكفي لمواصلة البحث. وتاريخ العلم دليل كافٍ على أن دقة طريقته لا تحُول البتة دون اكتشاف الحقائق الجديدة، بل إنها عونٌ إيجابي على اكتسابها. أمَّا عن الحكم على ما هو «موجود» أو على ما يمكن أن يوجد، فليس في الطريقة العلمية ما «يحرم» وجود أي شيء. إنما الطريقة العلمية لا تهتم إلا بتبعة الأقوال التي تزعم وجود شيء ما. إنها لا تسخر من الذهول الصوفي الذي يصيب المرء من فرط السرور، بل إنها تكتفي بإنكار ما يدَّعيه التصوف من معرفة تأملية لا يقوم على صحتها دليل سوى حدوث الغيبوبة.

إن الطريقة العلمية لا تستلزم أية نظرية ميتافيزيقية للوجود، ولا تستلزم قطعًا أية مادية ميتافيزيقية، ومهاجمة الطريقة العلمي — لكي يكون المرء حُرًّا في الإيمان بأي صوت يناديه — هي في الحقيقة فرار من المسئولية. وهذه هي الصفة السائدة من صفات فتور الحماسة.١

(١-٢) المذهب الطبيعي والديني

بغضِّ النظر عن تنوع المذاهب الخاصة التي نادى بها الطبيعيون من عهد ديموقريطس حتى ديوي، فإن ما يوحد بينها جميعًا هو قبول الطريقة العلمية قبولًا تامًّا باعتبارها الطريقة الوحيدة التي يعتمد عليها لبلوغ الحقائق التي تتعلق بعالم الطبيعة، والمجتمع، والإنسان. ويمكن بسهولةٍ أن نعلل الخلاف بين الطبيعيين في تاريخ الفكر مما يأتي: (١) التصورات التاريخية المختلفة لأي الميادين وأي المشكلات تخضع للمعالجة العلمية. (٢) التهذيب الذي حدث تدريجًا في وسائل البحث ذاتها. وكل ما بينهم من أسباب الخلاف يمكن أن يزول من حيث المبدأ بالرجوع إلى «الطريقة» التي يدينون لها جميعًا بالولاء المشترك، اللهم إلا فيما يتعلق بتلك الفوارق في المزاج التي تؤدي إلى الاهتمام باتجاه دون الآخر أو إلى اختيار منحًى دون منحًى، وهو ما لا يزعم أحد من الطبيعيين أنه طريق مؤدٍّ إلى الحقيقة؛ فالقاسم المشترك الأعظم إذَن بين كل المذاهب الطبيعية التاريخية ليس في مجموعة من المذاهب المعينة بمقدار ما هو في طريقة التجريب العقلي أو العلمي.

والمذهب الطبيعي يتعارض مع جميع مذاهب ما وراء الطبيعة، لا لأنه يستبعد مقدمًا ما يمكن وجوده وما لا يمكن، ولكن لأنه لم يوجد دليل معقول يؤيد العقيدة في الكليات والقوى التي يُعزى إليها النظر إلى ما وراء الطبيعة؛ فالطبيعيون ينكرون وجود الله والخلود والأرواح التي لا تسكن الأجساد، والأغراض والإرادات الكونية — كما كانت تفهمها دائمًا الديانات النظامية الكبرى — لنفس الأسباب العامة التي من أجلها ينكرون وجود الجنيات والعفاريت والأشباح. وهناك — من غير شك — تصورات أخرى عن الإله، والطبيعيون مستعدون — من حيث المبدأ — أن يفكروا فيما تدعيه من صحة الوجود، وما دامت لا تتناقض في معناها، وكل ما يتطلبونه أن يبلغ التصور من التحديد ما يجعل بالإمكان أن نرتب عليه الشروط التي تعين أوجه الصورة؛ الكيفية، والزمان، والمكان؛ الذي يقوم فيه بعمله الإله المزعوم. ومما يعيب أكثر التصورات عن الإله التي تختلف عن التصورات التقليدية هو أنها إمَّا أن تكون أغمض من أن يفهم أي إنسان ما تعنيه هذه التصورات، أو تعرف شيئًا يدخل في خبرة الإنسان مع وجود تعبير سابق يلائمه كل الملاءمة.٢

وإحياء الدين في العصر الحاضر لا يرجع إلى كشف حجج جديدة، أو دلائل جديدة تبرهن على وجود عنصر وراء الطبيعة، ولا يرجع إلى تحليل أشد عمقًا لمنطق العقيدة الدينية. ويتضح من ذلك أن رجال الفكر أكثر انجذابًا إلى علوم الدين الصوفية منهم إلى علوم الدين العقلية، وإلى مبدأ الذاتية منهم إلى مبدأ الموضوعية، وإلى ما يُروى عما كان يعانيه أوغسطين من تجارب أليمة منهم إلى الحجج الواضحة — وإن تكن معيبة — التي كان يسوقها أكويناس. والقَدْر الضئيل من الأدلة التي يُقحمها رجال الفكر يستمدونها من الشعور، الشعور بالرهبة والسمو، وبالقداسة وضعف الإنسان، وهو شعور يُفسَّر تفسيرًا عقائديًّا بأنه إشارة إلى الألوهية، وبافتراضهم أن هناك حقائق عن طبائع الأشياء، يدركها المرء إدراكًا غامضًا في كل تجربة غزيرة — بافتراضهم هذا — يُقللون من شأن العقل. إن البعث الديني في عصرنا هو في حقيقته جزء من حركة لا عقلية أشمل في الفكر الحديث.

ذلك لأن الإله الذي يبحث عنه رجال الفكر هؤلاء ليس هو علم اللاهوت بمقدار ما هو تسويغ لوجود الله نظرًا لانتشار الشر فوق الأرض، وليس مجرد الحق، أو الحق أولًا وقبل كل شيء، إنما هو تسويغ واطمئنان.

وفي هذا نجد أقوى مصادر العقيدة الدينية وأكثرها دوامًا، لا لرجال الفكر هؤلاء فحسب، ولكن لأكثر الناس، وبخاصة في أوقات الأزمات الاجتماعية وكذلك في فترات الأزمات الشخصية. والمذهب الطبيعي — كفلسفة — يكفي لسدِّ جميع حاجات الإدراك المشروعة دون أن يستسلم إلى الغرور بأن الذكاء البشري على كل شيء قدير، وأن جميع المشكلات يمكن أن تُحل، ولكن بإدراكه حقيقة الشر والأمور المفزعة التي تمرُّ بخبرة الإنسان، وبقبوله فكرة محدودية الإنسان ومحدودية كل مخلوق وكل قوة، وبرفضه قبول تلك الجهود الساذجة أو العويصة التي تُبذَل في سبيل تصوير نظام الكون في صورة خلقية، إنه بذلك يعجز عن تقديم ذلك الاطمئنان الذي لا بد منه لرقاق العقول إذا أرادوا أن يكون وجودهم محتملًا ذا معنًى. وليس ذلك لأن صاحب العقيدة تنقصه الصلابة العقلية التي تدعو إلى إدراك الشر، ولكنه إن أراد ألا يختنق بهذا الشر حتى الممات — كما حدث لإيفان كرامازوف — فلا مناص له من أن يثلم حده القاطع، وأن يتعلم الاعتقاد — على غير أسس عقلية — أنه يؤدي غرضًا «أسمى» لا يراه.

والمذهب الطبيعي الذي يقوم على أساس العقل — مهما يكن حصيفًا — يدرك أن هناك، بالإضافة إلى الآلام التي تصدر عن عدم المساواة الاجتماعية، تجارب كبرى من خيبة الأمل والحزن والخسران ليس بوسع الإنسان الحسَّاس أن يتفاداها. ويمكن في خير المجتمعات أن يقهر الموت، ولكن المأساة لا تقهر. وليس الرجل الفقير هو الذي سوف يلازمنا دائمًا، إنما هو «الإنسان السفلي». إن المعرفة العلمية تضاعف القوى البشرية في نفس الوقت الذي تبصرنا فيه بالقلقلة الأساسية في الوجود البشري. وإني أرى — على نقيض ما يرى برتراند رسل — أنَّ نمو العلم لا يؤدي إلى الضلال الديني، أو إلى نقص في التواضع العقلي. لماذا تصبح الدنيا أقل مدعاةً للعَجب أو أقل إثارةً للرهبة، إذا استطعنا ذات يوم أن نثب من كوكب إلى كوكب، أو إذا استطعنا تركيب الخلية الأولى، أو أزلنا الظلام عن عقول المجانين؟

إن المذهب الطبيعي حينما يجيء في حينه لن يكون مثاليًّا كفيلًا بالسعادة لجميع البشر؛ فهو يدرك أن المعرفة والحكمة لا تضمنان الرفاهية، وأنهما لا تستطيعان أن تُقللا من آلام الضعاف والمقبوحين والمحرومين من المحبة والصداقة، أو لعلهما لا تستطيعان البتة ذلك. والمذهب الطبيعي لا يستطيع أن يعد بالضمان الشامل، حتى حين يدرك حاجات أولئك الذين يسعون إلى تحقيقه.

ويرى ماكس وبر في مكانٍ ما أن الديانات الكبرى هي تفسيرات للدنيا تحاول أن تجد في الآلام التي ليس لها داعٍ في حياة الإنسان معنًى. وإذا كان هذا الرأي لا يحل المشكلة كلها، إلا أني أعتقد أنه يعبر عن شيء لا بد منه في نظر الشخص المتدين، الذي لا بد أن يكون للألم عنده معنًى، وأن عمل الخير لن يُمنى قط بالهزيمة في النهاية. حقًّا إن بعض الطبيعيين كانوا متفائلين تفاؤلًا سطحيًّا، وهو شيء من السهل علاجه في ضوء المزيد من المعرفة، غير أن التهمة ليست البتة في موضعها، ومنشؤها أصحاب العقائد الدينية الذين أدت بهم نزعاتهم العاطفية إلى قبول التفاؤل على أوسع نطاق يمكن تصوره.

ومن الطبيعيين من يخالفون زملاءهم؛ لأن بهم ميلًا نحو العقائد التقليدية الرقيقة، فهم يأخذون على فلسفة المذهب الطبيعي «فتور الحماسة»؛ لأنه لا يكفي لتحليل عزلة رجل الفكر في العصر الحديث ومشكلاته الخلقية. وضعف الحجة في هذه النظرة يبدو حينما نفكر في أن المذهب الطبيعي الفلسفي لم يبتعد حتى الآن عن فجاجة المادية الناقصة كما هو اليوم. وهذه النظرة لا تفسر لنا لماذا يبدي الرجل المفكر في العصر الحديث الذي يبحث عن الخلاص عزوفًا شديدًا عن محاولة التفسير العلمي في التاريخ وعلم النفس، ولماذا لا يستعيض عنه بزيادة الإمعان في النظريات العلمية، وإنما يستعيض عنه بالمبالغة في الأساطير، كما تدل على ذلك حماسته لتوينبي؛ فسخطه عاطفي وليس عقليًّا. أمَّا النُّقاد الذين يحنُّون إلى رقة السلوك فيتطلعون إلى المذهب الطبيعي ليمدهم بإيمان يعيشون به يتكافأ مع الإيمان الديني. وذلك بعينه ما لا يستطيع المذهب الطبيعي أن يفعله إذا هو أخلص لوقائع التجربة. إن هؤلاء ينسون أن الإيمان الديني لا يمكن أن ينفصل عن العقيدة الدينية أو اليقين الثابت، ولا يمكن في النهاية أن ينفصل عن قضية الحق، وإلا عبثنا عبثًا شديدًا بموضوع الأخلاق وموضوع الجمال، أو بحثنا في الموضوع بمصطلحات دينية.

إن فلسفة فورباخ الدينية التي ترى سر اللاهوت في الأنثروبولوجيا الفلسفية، هذه الفلسفة إذا طهرت مما يشوبها من عاطفية، وجدنا فيها بصيرة نافذة. وإنَّ ما فعله ماركس لم يكن إنكار هذه البصيرة، وإنما أراد أن يبين أن الحاجات العاطفية التي تعتبر الدين تعبيرًا عنها ومشبعًا لها في آنٍ واحد لا يمكن أن تنفصل عن أصلها الثقافي، ولكنه بالَغ في الرأي حتى بات على أيدي أولئك الذين يتصورون أنفسهم أتباعًا له سخريةً مُضحِكة.

وما دام الدين متحررًا من صوره التي تخضع للنظم ولأصحاب السلطان، وما دام لا يتصور إلا على أسس شخصية، وما دامت المبالغة في الاعتقاد فيه مصدرًا من مصادر المتعة البريئة، وما دام طريقة نتغلب بها على العزلة في هذا الكون، وما دام تدريبًا على العيش مع ما فيه من آلام وشرور وإلا كان العيش غير محتمل ولا علاج له، وما دام ذلك الذي يؤدي عمل الوهم الضروري للحياة أو عمل الأسطورة الشعرية لا يعرض باعتباره حقيقة عامة يعمى عن وجودها البشر، وما دام الدين لا يشل الرغبة والإرادة للكفاح ضد عذابات الخبرة التي لا ضرورة لها؛ ما دام الدين كذلك، فيبدو لي أنه يقع في دائرة يمكن أن نكفَّ فيها عن النقد العقلي. وبهذا المعنى يبرر المرء لنفسه دينه بالطريقة التي يبرر بها لنفسه حبه. ولكن لماذا يريد أن يجعل منه ثقافة عامة؟ ولماذا نطلب إليه أن يبرهن على أن محبوبته هي أجمل المخلوقات في هذه الدنيا؟ وبالرغم من ذلك فلا يزال من الحق أن الدين — باعتباره مجموعة من العقائد المدركة — فرض تأملي درجة الاحتمال فيه ضعيفة إلى أقصى الحدود.٣

(١-٣) فلسفة الديمقراطية

حقًّا إن أثمن ما في تجارب الإنسان يتعرض للتهديد — في المأزق الحاضر — على مستوًى عالمي، لا من جانب الديانات المتسلطة التي قاست العذاب مما لاقته من آلام على أيدي ما ينافسها من العقائد الدنيوية، ولكن من جانب التوسع المريع في الاستالينية وما يصدر عنها من إرهاب شامل مطلق. وإن ما نريده شعارًا لنا هو الحرية وليس الخلاص. وقد يختار المرء الخلاص لروحه ويخسر الدنيا في سبيل هذا الخلاص، كما أن ما يراه أحد الناس خلاصًا يراه غيره خرافة. ومن المؤكد أن نخسر المعركة في سبيل عالم ديمقراطي إذا سمحنا للبابا أن يتزعم حربًا صليبيةً ضد البلشفية. إن كفاح العقل الخالي من الأصفاد ضد الأرثوذكسية المنظمة يجب أن يستمر بالرغم من أن المذاهب الأرثوذكسية المتصارعة تجد نفسها — بسبب اهتمامها بتحررها الديني — متحالفة في الوقت الحاضر ضد أرثوذكسية أعلى لا تحتمل معارضة، حتى إن كانت عن طريق الصمت.

وكما أن قيادة الكفاح الدولي ضد الاستالينية باسم الرأسمالية قاتل، مع العلم بأن اتفاقها مع الرأسمالية المحتضرة أيسر لها من اتفاقها مع الاشتراكية الديمقراطية، فكذلك الأمر مع شعارات ديانات الغرب الإقليمية التي لا تقبلها أكثرية البشر. أمَّا ما يوحد بين المسيحيين وغير المسيحيين على السواء في كفاح مشترك في سبيل الحرية، فهو فلسفة الديمقراطية التي يجمع عليها كل الناس.٤

وبالديمقراطية كطريقة من طرق الحياة نعني طريقة لتنظيم العلاقات الإنسانية تتجسد فيها مجموعة معينة من المثل الخلقية. إننا جميعًا على علم ببعض المواقف التي نقول فيها إن الديمقراطية السياسية قد هتكت مُثلها التي تنادي بها. وكلما وجَّهنا نقدًا إلى دول قائمة تسير وفقًا للتعريف السياسي للديمقراطية على أساس أنها ليست ديمقراطية بالقدر الكافي، وكلما قلنا إن الديمقراطية الأثينية كانت مقصورة على الأحرار من الرجال وحدهم، أو إنها في بعض أجزاء أمريكا الجنوبية مقصورة على البِيض وحدهم، أو إنها في بعض البلدان مقصورة على الرجال وحدهم، كلما قلنا ذلك كنا بمثابة من يستحث قيام مبدأ ديمقراطي أشمل نتقيد به ونحتكم إليه عندما نصدر أحكامًا مقارنة. وهذا المبدأ من المبادئ الخلقية.

ما هذا المبدأ الذي تتمثل فيه الديمقراطية المثالية؟ إنه مبدأ المساواة، المساواة لا في المركز الاجتماعي ولا في النشأة، ولكنها المساواة في الفرص، وفي الوظائف الملائمة، وفي المشاركة الاجتماعية (لماذا نعامل الأفراد ذوي المواهب والاستعدادات المتفاوتة كأنهم أشخاص لهم حقوق متساوية في الاعتبار والرعاية المناسبة؟) لن أقدم في الإجابة على هذا السؤال بحثًا شاملًا، ويكفيني أن أذكر الأسباب دون التوسع في الحاجات الملموسة للوضع الاجتماعي التي تسعى الديمقراطية إلى سدها والطرق الدستورية التي يجب أن تسدها وفقًا لها.
  • (١)

    إن هذه الطريقة من طرق معاملة الأفراد أكثر نجاحًا من أية طريقة أخرى من حيث إثارتها للحد الأقصى من الحد التلقائي الخلاق من جانب جميع أعضاء المجتمع. وإذا ما نحن طبَّقنا هذه الطريقة تطبيقًا صحيحًا، قدَّمنا لكل فرد في المجتمع سندًا، واستنبطنا منه أقصى ما يمكن من ولاء معقول.

  • (٢)

    هذه الطريقة توسع أفق تجاربنا؛ لأنها تمكننا من اكتساب النظر الثاقب في حاجات الآخرين ودوافعهم وآمالهم؛ فإن معرفتنا بالطريقة التي تسير بها الحياة في مجالات أخرى من الخبرة حافز لخيالنا ومدرِّب له في آن واحد، وفي معاونتنا غيرنا على النمو نعاون أنفسنا أيضًا على النمو.

  • (٣)

    إن رغبتنا في إدراك وجهة نظر رجل آخر دون أن يتحتم علينا الاستسلام له يجعل من الأرجح أن تلتقي وجهات النظر المختلفة، وتسوي ما بينها من خلاف، وتتعلم كيف تتعايش في سلام. إن المجتمع الديمقراطي لا يمكن أن يخلو من النضال في عالم توجد فيه دائمًا أسباب لعدم المساواة. غير أن القواعد الخلقية لهذا المجتمع — إذا ما طُبِّقت تطبيقًا معقولًا — تجعل من الأرجح الحد من هذا النضال، أو تحوله إلى صور أقل ضررًا من الناحية الاجتماعية مما يحدث لو أنَّا أنكرنا مبدأ المساواة. والنتيجة أن يقل التزلف، ويقل الخوف، ويقل التضارب في المجتمع الذي تسوده المساواة عما يحدث في المجتمع الذي يسوده عدم المساواة.

  • (٤)

    إننا حينما نتعهد قدرات كل فرد من الأفراد حتى تبلغ أقصى ما تستطيع أن تحققه، نقتسم على أحسن صورة ممكنة ما لدينا من كنوز الحق والجمال، ونكتشف أبعادًا جديدة في هذين المجالين. وكيف يعترض — دون تناقض — أي شخص وهب حياته لقيم العلوم والفنون على سياسة ترفع إلى الحد الأقصى إمكان اكتشاف الحق العلمي والمعاني الفنية، ونشرها على أوسع نطاق؟

  • (٥)

    إن تقدير ما لدى كل فرد من الأفراد من إمكانيات يؤدي إلى التخفيف من قسوة الإنسان على الإنسان، وبخاصة حينما تكون القسوة نتيجة للتعامي عن حاجات الآخرين أو الجهل بها. والمجتمع الذي يقوم على أسس ديمقراطية لا يقسو إلا حيثما يفشل في العيش طبقًا لمثله. أمَّا المجتمع الذي يخضع للحكم الدكتاتوري فهو في كل الظروف لا يُحس الحاجات الشخصية لأعضاء الطبقة المنبوذة التي يقع عليها سخط الحاكم، بل ولا يُحس حاجات أكثرية الشعب المُبعَدين عن مناقشة السياسة العامة وتشكيلها. وليست هناك وسيلة لتحديد هذه الحاجات الشخصية — في أحسن الظروف — سوى تفسير الحاكم المستبد وخبرائه الذين يعملون باعتقاد جازم بأنهم يعرفون مصالح شعبهم أكثر مما يعرفها أفراد الشعب نفسه. أمَّا في أسوأ الظروف فالدكتاتور لا يزعم أنه يعبر عن رعاياه فحسب، بل إنه يُحس أيضًا ويفكر — بطريقة غامضة — نيابةً عنهم. وأعتقد أن الديمقراطية في العالم الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، بالرغم من قصورها الشديد الذي عانت منه — وهو قصور من وجهة نظر مُثلها العليا — أعتقد اعتقادًا جازمًا وبالدليل القاطع أن الحياة الاجتماعية إجمالًا في ظل هذه الديمقراطية — وقد تأثَّرت هذه الحياة بالسياسة — قد ظهر فيها من القسوة أقل مما ظهر في الحياة الاجتماعية في أية فترة تاريخية أخرى.

  • (٦)
    إن معقولية النتائج، حينما تختلف وجهات النظر والمصالح، تتوقف على درجة التشاور المتبادل والاتصال الفكري الحر بين من بيدهم الأمر من أفراد. والطريقة الديمقراطية في الحياة تجعل بالإمكان قيام أشكال مختلفة من تبادل المشورة والاتصال على أوسع نطاق ممكن.٥

(١-٤) الوظيفة الخلقية للذكاء

إذا كان الخير يُعرَّف من حيث علاقته بالحاجات البشرية أو المصالح البشرية (أو من حيث الإيثار، أو الرغبة، أو الاطمئنان) — أو، بعبارة أخرى، إذا كنا نتصور أن طبيعة الأخلاق لها أية علاقة بالطبيعة البشرية — إذا كان ذلك كذلك، فإن كل حكم عن الخير والأفضل — في أي موقف من المواقف — له معنًى وصفي، ويمكن تقديره من حيث المبدأ بالإشارة إلى الحاجات أو المصالح المتعلقة به. وطبيعة الطبيعة البشرية — وبالأخص وجود مصالح مشتركة في خبرة مشتركة، أو إمكان وجود مثل هذه المصالح المشتركة — تكون في كل موقف من المواقف ذات علاقة ملموسة. وإن ما يزعم جون ديوي من وجود «اتفاق نفساني في الطبائع البشرية، فيما يتعلق ﺑ «الحاجات» الأساسية … وفي بعض الظروف التي لا بد من مقابلتها لكي يتحتم الإبقاء على أية صورة من صور الاجتماع البشري …» أمرٌ خاضع للتجربة، معرفته عسيرة وإن لم تشقَّ على الفحص والدراسة. وما دمنا نعلم أن الناس لا يدرون دائمًا أين تكون مصلحتهم، وأن مصلحتهم (أو نظرتهم) كثيرًا ما تتغير في ضوء معرفتهم بأسبابها ونتائجها. وما دام الذكاء كذلك طبيعيًّا عند الإنسان، فإنَّا في مواطن الصراع نستخدم الطريقة العقلية للبتِّ في أوجه الخلاف، وذلك ببحثنا عن مصلحة أشمل تمكِّننا إمَّا من العيش مع ما بيننا من فوارق، وإمَّا من الحد منها، وإمَّا التجاوز عنها؛ وبذلك نحوِّل نزاعنا على القيم إلى خلافات بشأنها يمكن التوفيق بينها. وهذه هي الوظيفة الخلقية البناءة للذكاء، ولكي يكون لها أثر يجب أن نتخذ لها صورة من صور النظم العامة — في التربية، والاقتصاد، والسياسة.

إن كل من ينظر إلى التاريخ نظرةً هادئة لا يمكن أن يميل إلى القول بأن كل ما بين أفراد البشر من خلاف يجب أن يستسلم للاتفاق بتأثير العقل، أو أنَّا يمكن أن نكون على يقين من أن الناس بينهم من أوجه الشبه ما يمكِّنهم من خلق الوسائل التي تجعلهم أشد اتفاقًا، أو على قدر من التشابه يمكِّنهم من الاتفاق على قدر من التسامح في الخلاف. إن العزوف عن استخدام الذكاء حيث يمكن استخدامه لا يتناقض مع القول بأنه لو استُخدم لأمكن — بل لتحتَّم أحيانًا — الكشف عن بعض المصالح المشتركة المعينة.

ومن المهم — على أية حال — أن نشير إلى أنه من السهل أن نبالغ في الفوارق بين الناس التي لا يمكن التوفيق بينها، وأن نحوِّل — بالحكم النظري — المناسبات التي يقع فيها الخلاف إلى خلافات نهائية في النظر إلى القيم لا يمكن أن يوجد لها حل، فإن أكثر ما بين الناس من فوارق يتعلق بالأهداف الموقوتة التي يركزون فيها اتجاههم، سواء أكانت هذه الأهداف بعيدة أم قريبة، ولا تتعلق بالقيم البعيدة التي يؤمنون بها جميعًا، والتي يُقر أكثر الناس في الثقافة الغربية — على الأقل — باتفاقهم بشأنها، إلى الحد الذي يجعل فرانكو يتحدث عن «أخوَّة البشر تحت رعاية الله»، ويجعل استالين يتحدث عن «الحرية …»

إن وجود الذكاء عند الإنسان أمرٌ واقع في طبيعته بمقدار ما هو كذلك من حيث الحاجات والرغبات التي يسعى إلى إشباعها. وما دام إشباع هذه الحاجات بدرجة ناجحة يتوقف على معرفة جميع أنواع الظروف والنتائج، فليست هناك إذَن مشكلة قائمة بشأن تبرير استخدام الذكاء بقدر ما عند كل فرد منه؛ فاهتمامه باستخدام الذكاء أمر له فيه مصلحة طبيعية؛ لأن ازدهار جميع المصالح الأخرى يتوقف عليه.

وإذا تدبَّرنا الطبيعة الاجتماعية للذات البشرية، ونجاح الطرق التجريبية في العلوم الطبيعية، وما يكلفنا إياه غيرها من الطرق التي تُتبع في بحث شئون الناس دون جدوى، سِرْنا شوطًا بعيدًا في تسويغ استخدام الذكاء في فض ما بين المجموعات والطبقات من «نزاع».٦

(١-٥) معنى التحرير في الوقت الحاضر

إن ما يجعل تحليل معنى التحرير أكثر من أن يكون تدريبًا علميًّا هو ما تتحدانا به الحركة الشيوعية، التي تستثير الحريات التي تسود في المجتمع المتحرر لكي تقضي عليها. وقد تقدمت اقتراحات كثيرة لحل هذه المشكلة، وكل هذه المقترَحات لا بد لها من أن تواجه هذا السؤال: هل تُطبق أو تراعي مبادئ التحرر ذاتها بغير تناقض عن التوصية بالوسائل التي تتبع للقضاء على الشيوعية؟

لأن نتحدث عما ليس بالتحرر أيسَرُ لنا من أن نتحدث عما هو التحرر. ليس التحرر والاعتقاد في مبدأ «دعِ الأمور تجري في أعنَّتها»، أو مبدأ المشروعات الحرة في الاقتصاد بمعنًى واحد، وليس التحرر هو التوفيق في كل أمر من الأمور، وليس هو تلك الفكرة المطمئنة التي تقول بأنه من الممكن دائمًا إيجاد الحل الوسط.

ويترتب على ذلك أن التحرر وإن يكن بطبيعته مسالمًا، إلا أنه لا يسلك مسلك السلام، فهو لا يجعل من «التعقل العذب» وثنًا يُعبَد في حالة الاعتداء، وهو يدرك أن التهدئة قد تكون أشد إثارةً للصراع المسلح من استعراض القوة استعراضًا حكيمًا مشروعًا دليلًا على القدرة على المقاومة. وتاريخ علاقات الحلفاء مع هتلر دليل قاطع مع ذلك.

ولا يمكن أخيرًا أن نفهم التحرر على أنه الاعتقاد التقليدي في بعض الحقوق المعينة المطلقة التي لا يمكن التخلي عنها؛ لأن كل حق من هذه الحقوق إنما يقوم في الواقع في حدود نتائجه بالنسبة إلى المجتمع، وهو لذلك يخضع للتعديل. إن حقًّا من الحقوق قد يحدُّ من حق آخر، والحكم النهائي في هذا الصراع القائم بين الحقوق يصدر في الضوء الذي ينعكس من الموقف كله، أو من تلك المجموعة من الحريات التي نؤثرها عقلًا، والتي قد يستتبع وجودها الانتقاص المؤقَّت من إحدى الحريات. وإذا قلنا إنَّا لا نستطيع أن نحتفظ بحرياتنا بالتضحية بها فلن يكون ذلك إلا من قبيل الفصاحة الجوفاء؛ لأن إحدى الحريات المعينة لا بد أن يُضحَّى بها أحيانًا للاحتفاظ بالحريات الأخرى.

إن أشمل وأوفى تعريف في تعبير إيجابي لمعنى التحرر، من عهد سقراط حتى جون ديوي، توحي به تلك الكلمات المأثورة لهولمز التي يقول فيها إن التحرر هو الاعتقاد «في حرية الاتجار بالأفكار؛ فمعيار الصدق في الرأي هو قدرته على الرواج في منافسة السوق». وليس هذا برنامجًا للعمل، وليس نظرية فلسفية عن الحق، وإنما هو نظرة — أو مزاج عقلي — إزاء كل برنامج. وقد يختلف دعاة الحرية فيما بينهم على كل شيء غير هذا، ولكنهم جميعًا يؤمنون بذلك؛ فهو عقيدة تميز الثقافة المتحررة من الثقافة التحكمية، وكل عمل يقيد حرية الأفكار في نموها أو ذيوعها عملٌ ينافي الحرية.

وهناك على الأقل افتراضان سابقان لهذه العقيدة في سوق الآراء الحرة:

الأول: هو أن التعبير الحر عن الأفكار وإذاعتها قد يُوأَد كلما شكَّلت الآثار المحتملة لهذا التعبير وهذه الأفكار خطرًا واضحًا مؤكدًا على السلام العام أو أمن البلاد. وهذا تطبيق خاص للمبدأ الذي يقول بأن الحق لا يكون مطلقًا إذا عرض للخطر حقوق أخرى لها ما له من صحة، أو أكثر مما له. وهذا أمرٌ شائع في شئون الناس العادية؛ فحق البحث مباح، ولكنه لا يكون كذلك إذا كان يؤدي بالباحث إلى أن يجري في الكائن البشري تجربةً ليعلم منها إلى أي مدًى يستطيع هذا الكائن أن يعيش بعد تعذيبه. وحق الكلام ثمين، ولكنه ليس كذلك حينما يعصف بسمعة شخص باتهامه تهمة يُشهَّر به فيها. والصدق مقدَّس، ولكن الشخص الذي يبوح به، وهو يعلم أنه سوف يُستخدم في تدمير بلاده، خائن لوطنه.

والافتراض الثاني في عقيدة التحرر في سوق الآراء الحرة: هو أن يكون التنافس على أسس نزيهة صريحة؛ لأنه ما لم تكن هناك قواعد معينة للتنافس النزيه، شبيهة بتلك القواعد التي تُتبع في ميادين التجربة والبحث الأخرى، فإن حرية الاختيار تمسي وهمًا من الأوهام؛ لأن الأسهم إذا ارتفعت قيمتها في السوق بعملية شراء مفتعَلة، أو بالقوة أو بالخداع، فإن سعرها لا يدل البتة على حقيقتها. وإذا كانت القدرة على مقاومة المنافسة النزيهة ليست شرطًا كافيًا لضمان الصدق، فهي على الأقل شرط ضروري. وليست المبادئ «التي تستوجب الموت» من وجهة نظر المتحرر هي ما يخشاه؛ لأن إيمانه بالعقل يبلغ حدًّا يجعله على وثوق من أن أكثر الناس — عند تبادل الآراء تبادلًا حُرًّا نزيهًا — يختارون الحياة ولا يختارون الموت، وإنهم إذا اختاروا الموت فإنهم يستحقون ما ينتهي إليه مصيرهم، أمَّا ما يخشاه المتحرر فهو الإفساد المنظم لسوق الآراء الحرة بضروب من النشاط تجعل الاختيار المعقول مستحيلًا. إن ما يخشاه في عبارة موجزة هو التآمر وليس الزندقة.

والقصور في إدراك الفرق بين الزندقة والتآمر يقضي على الحضارة المتحررة؛ لأن النتيجة التي تترتب على ترادفهما إمَّا أن تكون القضاء على النفس إذا عوقبت بالزندقة باعتبارها تآمرًا، وإمَّا الموت على أيدي الأعداء إذا تسامحنا مع المؤامرة واعتبرناها من قبيل الزندقة.

الزندقة مجموعة من الأفكار أو الآراء غير الشائعة التي تتعلق بموضوعات ذات أهمية قصوى للمجتمع. وحق التصريح علنًا بالزندقة على أي شكل من الأشكال، وفي أي موضوع من الموضوعات، عنصرٌ هام من عناصر المجتمع الحر. والرجل الحر مستعد للدفاع عن الزنديق المخلِص مهما اختلف هذا الزنديق في رأيه عن الرأي الذي يعارضه. ويكفي الزنديق أن يدفع ثمن عدم شعبيته التي لا يجد عنها محيصًا. وكلٌّ منا زنديق في بعض النواحي، ولكن المجتمع الحر لا يستطيع أن يفرض معتقَدات رسمية بذاتها، تستتبع معارضتها فقدان الحرية أو الحياة.

أمَّا المؤامرة فتتميز عن الزندقة بأنها حركة سرية أو باطنية تسعى إلى تحقيق أغراضها، لا بالطرق السياسية أو التربوية العادية، ولكن بالعمل استثناءً من القواعد المشروعة. والمؤامرة لا يمكن أن تحتمل في المجتمع الحر دون أن يختلَّ منطق التفكير؛ لأنها تهدم الشروط الضرورية لكي تتنافس المذاهب تنافسًا حُرًّا في سبيل انتشارها، ولأنها — عندما تفلح — تحطم كل زنديق أو منشق بغير رحمة.

ومذهب التحرير في القرن العشرين لا بد أن يشتدَّ أزرُه؛ لأنه يشتغل بالنضال في جبهات كثيرة متنوعة. يجب أن يدافع عن سوق الآراء الحرة ضد المؤمنين بالعنصرية، والمحترفين للوطنية، والمدافعين عن الحالة الراهنة الذين يودُّون أن يجمدوا عدم التكافؤ القائم في الفرص والقوى الاقتصادية بخنق حرية النقد. ولا بد أيضًا من حماية مذهب التحرير من عملاء الاستبداد الشيوعي والمدافعين عنه، الذين بدلًا من أن يدافعوا بنزاهة عن زندقتهم، يلجئون إلى وسائل تآمرية تقوم بها جمعيات سرية، وغير ذلك من حيل الطابور الخامس.

ومذهب التحرر الواقعي يدرك أن البقاء يقتضينا أن نجد حلًّا لمشكلات شاقَّة كثيرة، كما يدرك أنها لا يمكن أن تُحَل إلا عن طريق العقل، لا عن طريق الفصاحة وحجة العقيدة. إن الخطر الأكبر الذي يهددنا ليس هو الخوف من الأفكار، وإنما هو «انعدام» الأفكار، وأقصد الأفكار الخاصة، التي تعالج المشكلات الملموسة على الفور، وهي مشكلات بلغت من التعقيد حدًّا لا يستطيع الزعم بإيجاد حلول لها جميعًا إلا الجاهلون.

ومذهب التحرر — أخيرًا — لا يتصور الحياة في مجرد البقاء وفي السلام بأي ثمن، وإنما يتصورها في ضوء الآراء والمُثل التي لا يمكن أن تتحقق بدونها حياة جديرة بالإنسان.٧

(١-٦) عقيدة الطبيعي

من الحق بغير شك أن الموطن الكوني للإنسان يحدُّ من قوته إن لم يحدَّ من أحلامه؛ فهو مصدر دائم لتذكيره بقصوره إزاء صعوبة انقياد الأشياء وصفة الزوال في كل ما يبني. ولكن من الحق أيضًا أن قصور الإنسان هو مصدر فرصة، وهو شرط ضروري لكل عمل يؤديه. ومن هذا الحق وذاك لا نستطيع أن نستنتج أن الطبيعة كفيلة بمُثل الإنسان العليا، أو هي على الأقل ليست كفيلة بمُثله الديمقراطية، ولكنها أيضًا ليست عدوًّا للمثل الإنسانية، إنما أصدقاء الإنسان وأعداؤه هم غيره من بني الإنسان؛ فالديمقراطية لا تحتاج إلى تعضيد كوني سوى «فرصة» فعل الخير. وهذه الفرصة تتوافر لها؛ لأن الإنسان جزء من الطبيعة. وليس من المعقول أن نتطلب أكثر من ذلك، حتى إن كان يستحق الطلب. والطريقة التي يعمل بها الإنسان وفقًا لما لديه من فرص دليلٌ آخر على ما في الوجود من إمكانيات موضوعية وقدرة على التجديد. والرجل الديمقراطي العاقل يواجه مخلصًا إمكانيات الوجود، وغيبياته، وما ظهر منه، وتقلباته، وهو يواجه ذلك بمقدار صلته بمجرى الأمور، وهو رجل متحرر من الجنون الخيالي الذي يسعى إلى نبذ حقائق العلم، ومن تلك العقيدة العجيبة التي تؤمن بأن الطبيعة جمهورية ديمقراطية، وهي عقيدة لا يمكن قبولها إلا باعتبارها خيالًا شعريًّا. إنه يقبل الدنيا كما يصفها العلم، وهو يستخدم معرفته بالدنيا لكي يزيد من سلطان الإنسان على الأشياء، ويحد من سلطانه على الإنسان، ولكي يقوي الزمالة بين الأشخاص الأحرار المتساوين الذين يجاهدون في سبيل قيام مجتمع أسعد وأعدل.٨

المصادر

المقتطَفات التي اخترناها هنا لسدني هوك مقتبَسة من كتابه «زندقة لا مؤامرة»، ومن مقالاته «المذهب الطبيعي والديمقراطية» في كتبه «المذهب الطبيعي وروح الإنسان»، ومن مقاله «المستحب والعاطفي في أخلاق ديوي» في كتابه «جون ديوي: فيلسوف العلم والحرية»، ومن مقاله «الدين ورجال الفكر» في «مجلة الحزبي».
  • ١ من كتاب «المذهب الطبيعي وروح الإنسان».
  • ٢ من كتاب «المذهب الطبيعي وروح الإنسان».
  • ٣ من كتاب من مقاله ﺑ «مجلة الحزبي».
  • ٤ من كتاب من مقاله ﺑ «مجلة الحزبي».
  • ٥ من كتابه «المذهب الطبيعي وروح الإنسان».
  • ٦ من كتابه «جون يوي: فيلسوف العلم والحرية».
  • ٧ من كتابه «زندقة لا مؤامرة».
  • ٨ من كتابه «المذهب الطبيعي وروح الإنسان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤