الفصل الثاني

ألبرت أينشتين

(١٨٧٩–١٩٥٥م)

اعتاد أعضاء معهد الدراسات العليا في برنستن أن يُطلوا من نوافذ حجرات الدرس في الأيام المشمسة، أو الأيام الممطرة، أو حتى في أثناء العواصف التي كانت تهبُّ بين الحين والحين، فتقع عيونهم على رجل صغير الحجم بَدين وخط رأسه المشيب، يرتدي سروالًا فضفاضًا في غير أناقة وقميصًا ذا بنيقة ليِّنة يعلوه صدرٌ رياضي، يعبر فناء المعهد في طريقه إلى غرفة الدرس الخاصة به. وعلى أحد جدران غرفته سبورة يُدوِّن عليها هذا الرجل الرقيق معادلاته الرياضية، أو يرقب زائريه وهم يتطلعون إليه ممسكًا بالطباشير. هذا الرجل هو ألبرت أينشتين في السنوات الأخيرة من العقد السابع من عمره، وقد تجنَّس بالجنسية الأمريكية، وقنع من أعماق قلبه بعزلته التي اختارها لنفسه في المدينة الجامعية الشرقية الصغيرة، وقد أمسى هذا الرجل وهو لا يزال على قيد الحياة أسطورةً من الأساطير، وكان — غير مُنازَع — أعظم نابغة في العلم في العالم الحديث، ومع ذلك فقد عُرف بإشراق قلبه العطوف، كما عُرف بقوة عقله الخالقة التي بلغت حد الإعجاز.

وأينشتين هو العامل الوحيد لثورة القرن العشرين في الطبيعة؛ تلك الثورة التي عُرفت باسم نظرية النسبية. وقد أضاف — إلى جانب ذلك — كثيرًا إلى تطور نظرية الطاقة الذرية، وسار شوطًا بعيدًا وعرًا وسط الإنتاج العلمي الخطير تميز به العهد الذي عاش فيه. وكان عليه أن يقف سنوات متعددة في وجه المعارضين من أكبر علماء عصره الذين أصابهم الذعر من آرائه، والذين شق عليهم أن يهضموا التغيرات المذهلة في النظرية الأساسية التي تتعلق بالمكان والزمان والكتلة والطاقة والجاذبية، وتتعلق في نهاية الأمر بهندسة الدنيا. ومن المتناقضات العجيبة أنه في الوقت الذي كان يتأهب فيه المجتمع العلمي للاعتراف في حماسة بثورة أينشتين في الطبيعة، وبعد تنبؤات أينشتين فيما يتعلق بالتواء شعاعات الضوء، تلك التنبؤات التي أثبتها بشكل مسرحي فريقان علميان إنجليزيان في عام ١٩١٩م، كان أينشتين نفسه يواصل البحث في جلَدٍ عجيب عن نظرية موحَّدة تضم في قانون واحد الظواهرَ الطبيعية، صغيرةً كانت أو كبيرة. وقد ضم أينشتين ثمرة ثلاثين عامًا من البحث الدائب في هذه المشكلة الضخمة في طبعة عام ١٩٥٠م لكتابه «معنى النسبية». وهكذا نرى أن أينشتين قد تشكَّك مرةً أخرى في عمله العلمي قُبيل انتهاء حياته، وقد وجد هذا الشك إلى نفسه سبيلًا منذ حداثته.

وبالرغم من أن أينشتين كتب مرةً في مقال له عن سيرة حياته: إن الأساس في كيان رجل من طرازه ينحصر كله فيما يفكر فيه وفي الطريقة التي فكر بها لا فيما يعمل أو يعاني، ثم استطرد في الحديث عن طبيعة نظريات الطبيعة حديثًا فنيًّا حماسيًّا، بالرغم من هذا كان أينشتين رجلًا ذا ضمير خلقي لا يتزعزع، متعصبًا لمبادئه؛ ومن ثَم فقد كان رجلًا ذا عقيدة اجتماعية قاسية مستعدًّا في المناسبات الهامة لأن يعمل وأن يقود. ومن الأعمال الجليلة التي قام بها أينشتين في حياته ذلك الخطاب، في ٢ من أغسطس عام ١٩٣٩م، الذي قال فيه في عبارة سهلة: «تقدم إليَّ حديثًا أ. فرمي ول. ز. لارد بمخطوط جديد يدفعني إلى التكهن بأن عنصر اليورانيوم قد يتحول إلى مصدر جديد هام من مصادر الطاقة في المستقبل القريب … إن قنبلةً واحدة من هذه المادة، إذا تفجَّرت في أحد المواني، فقد تُدمره كله تدميرًا، كما تقضي على الأرض التي تجاوره …» وهكذا نرى أن أينشتين قد أصدر قراره الصارم، بعد سنوات متعددة في خدمة السلام والإيمان بالاشتراكية الديمقراطية، وهو قرار يقضي بأنه ليس من المصلحة أن يسمح للنازيين بسبق غيرهم في الحصول على مثل هذه القنبلة، ويتحتم أن تكون الولايات المتحدة أولى الدول التي تطور هذا السلاح الفاتك.

وقد اتخذت صورة أينشتين مكان الشرف إلى جوار صور غاندي وألبرت شفيتزر في الهيئات الأوروبية التي كانت تدعو إلى السلام في عام ١٩٢٠م وما بعده. وبعد عشرين عامًا أصبح يُسمَّى أبا القنبلة الذرية. ولكن المبدأ الذي يفسر هذا التناقض — الذي يبدو شديدًا — يستند إلى قاعدة خلقية بعيدة الغور، وتلك هي «حبه العارم للعدالة الاجتماعية»، الذي ترتَّبت عليه كراهيته الشديدة للفاشية العسكرية التي تسترق الرجال، وتستطيع أن تقضي على عنصر بشري بأسره بوسائلها في الفتك الذريع بالناس. وما إن انتهت الحرب بهزيمة الفاشية حتى نادى أينشتين بضرورة كسب السلام أيضًا؛ إذ إن كسب الحرب وحده لا يكفي؛ ومن ثَم فقد استنكر أينشتين في المرحلة الأخيرة من حياته خطة الاعتماد على التهديد بالحرب الذرية التي ظن أنه لمسها في سياسة الولايات المتحدة أكثر مما لمسها في سياسة الاتحاد السوفيتي. وفي غضون حماسته للسلام والوئام العالمي، أثنى على نوايا السوفيت، ووجَّه اللوم إلى البلاد الحرة التي يستطيع عظماء الرجال فيها أن يعبروا عن آرائهم، وأن تجد هذه الآراء من الناس من يأبه لها.

أمَّا آراؤه الدينية فقد كانت موضع الاهتمام والبحث من جانب أولئك الذين كانوا يعدونه عالمًا قديسًا متفلسفًا. وُلد في ألمانيا من أبوين يهوديين كانا شديدَي العقيدة في الدين — كما قال عنهما ابنهما — أمَّا هو فقد نبذ الدين وهو في صِباه؛ لأنه اقتنع من قراءاته في الكتب العلمية الشائعة بأن قصص العهد القديم ليست صادقة؛ فلما نضج تبلور تقديره للطبيعة، وإحساسه بالعجب والرهبة إزاء لغز الدنيا والوجود الذي لا يمكن تفسيره أو حله، تبلور هذا كله في صورة عقيدة أسماها بحب «الاسبينوزية». لم يعتقد في إله له ذات مستقلة، وإنما الإله عنده كائن في الطبيعة، وهو «الانسجام المنظم لكل ما هو موجود». كانت عقيدته «إحساسًا دينيًّا كونيًّا شاملًا». وهذه العقيدة التي آمن بها في حياته، سواء في صورتها الدينية أو في غير هذه الصورة الدينية، كان معناها «تطوير الفرد تطويرًا حُرًّا بحيث يحمل تبعات نفسه حتى يستطيع أن يُكرِّس جهوده في حرية وابتهاج لخدمة المجتمع الإنساني».

(١) إيمان عالم

ألبرت أينشتين

(١-١) دور العالم اليوم

إن علماء الطبيعة يجدون أنفسهم اليوم في موقف لا يختلف عن موقف ألفرد نوبل؛ فقد اخترع نوبل أقوى مادة متفجرة عُرفت حتى الوقت الذي عاش فيه، وهي وسيلة من وسائل التخريب من الطراز الأول. ولكي يُكفِّر عن هذا الصنيع، ولكي يريح ضميره الإنساني، قدَّم جوائزه لخدمة قضية السلام وللأعمال التي تؤدي إلى السلام. واليوم يُحس علماء الطبيعة — الذين أسهموا في صنع أشد الأسلحة التي عرفها التاريخ فتكًا وخطرًا — بشعور مماثل من المسئولية، بل ومن ارتكاب الذنب. ولا نستطيع أن نكفَّ عن التحذير وتكرار التحذير، ولا نستطيع — بل ولا ينبغي لنا — أن نتراخى في بذل الجهد لكي نُبصِّر أمم العالم — وحكوماته خاصةً — بالكارثة الكبرى التي لا مناص لهم من إيقاعها ما لم يغيروا من موقف كلٍّ منهم إزاء الآخر وإزاء واجبهم نحو تشكيل المستقبل. ولقد عاونَّا في ابتداع هذا السلاح الجديد لكي نسبق أعداء البشرية في التوصل إليه. ولو كان لمن بيدهم هذا السلاح عقلية النازي لانتهى الأمر حتمًا باستعباد بقية العالم وتدميره تدميرًا لا يتصوره العقل. ولقد أسلمنا هذا السلاح لأيدي المناضلين في سبيل السلام والحرية، ولكنَّا لا نلمس حتى اليوم أي ضمان للسلام، ولا نرى أي ضمان للحريات التي وعد بها الشعوب ميثاق الأطلنطي. لقد كسبنا الحرب ولكنَّا لم نكسب السلام. والدول الكبرى التي اتحدت في القتال، تنقسم اليوم بشأن تسويات الصلح. لقد وُعد العالم التحرر من الخوف، ولكن الخوف — في الواقع — قد ازداد كثيرًا منذ انتهاء الحرب. وقد وُعد العالم التحرر من العوز، غير أن المجاعة تُهدِّد اليوم أجزاءً كبيرة من العالم، في حين أن أجزاءً أخرى تمرح في رغد من العيش. وُعد الحرية والعدالة، بَيد أنَّا شاهدنا، ولا زلنا نشاهد، المنظر الأليم، منظر جيوش «التحرير» تطلق النيران على شعوب تطالب باستقلالها وبالمساواة الاجتماعية، وتؤيد في تلك الشعوب ذاتها بقوة السلاح الأحزابَ والأشخاص الذين يصلحون لخدمة أغراض أصحاب المنفعة. كما أن مشكلات الحدود، والتنازع على السلطان — وإن تكن من الأمور البائدة — لا تزال تغطي على المطالب الأساسية، مطالب الرفاهية والعدالة …

إن صورة عالمنا بعد الحرب صورةٌ قاتمة. ولسنا — نحن علماء الطبيعة — في حدود اختصاصنا، من رجال السياسة، ولم نرغب قط فيما مضى في المشاركة في شئون السياسية. بَيد أنَّا نعرف بعض الأمور التي لا يعرفها رجال السياسة، ونُحس أن من واجبنا أن نُصارِح المسئولين وأن نذكرهم بأن الوقت لا يسمح بالارتياح والدعة، وأن الشوط الذي ينبغي لنا أن نقطعه لا يسمح لنا بالتقدم رويدًا رويدًا، أو بتأجيل التغيرات الضرورية إلى المستقبل البعيد. إن الوقت لا يسمح لنا بالمساومة في توافه الأمور. إن الموقف يستدعي بذل الجهود بشجاعة، والتعديل الأساسي في نظرتنا كلها، وفي التصور السياسي بأسره؛ فلعل الروح التي دفعت ألفرد نوبل إلى تقديم الجوائز لمن يخدمون قضية السلام، روح الثقة والإيمان، روح السماحة والأخوة بين الناس، لعل هذه الروح أن تغلب في عقول أولئك النفر الذين تتوقف على قراراتهم مصائرنا، وإلا فالمدنية الإنسانية مصيرها الفناء.١

(١-٢) الأزمة بين الفرد والجماعة

لقد أخذت أصوات لا حصر لها تؤكد منذ مدة أن المجتمع الإنساني يجتاز الآن أزمة، وأن استقراره قد انهار انهيارًا شديدًا. ومن خصائص أمثال هذه الفترات ألا يكترث الأفراد بالجماعة التي ينتمون إليها، صغرت هذه الجماعة أو كبرت، بل لعلهم يعادونها. ولكي أوضِّح ما أرمي إليه دعني أسجِّل هنا خبرة شخصية مررت بها؛ كنت أبحث حديثًا مع رجل ذكي متَّزن وعيدَ حرب أخرى، قد تُعرِّض — في ظني — بقاء الجنس البشري إلى خطر شديد، وذكرت له أن الوقاية من هذا الخطر لا تتحقق إلا بإنشاء منظمة تتجاوز حدود القوميات. وعندئذٍ قال لي صاحبي في هدوء وبرود شديد: «ولماذا تعترض كل هذا الاعتراض على فناء الجنس البشري؟»

وأنا على يقين أن أحدًا من الناس — منذ قرن واحد فقط — ما كان يخطر له أن يذكر مثل هذه العبارة؛ فهي لا تصدر إلا عن رجل حاول عبثًا أن يحصل في نفسه على التوازن المنشود، وفقد الأمل في الظفر به إلى حد كبير. إنها تعبير عن عزلة أليمة ووحشة يعاني منها كثير من الناس في هذه الأيام. فما السبب في ذلك؟ وهل هناك مخرج؟

إن الإنسان كائن انفرادي واجتماعي في آن واحد؛ فهو — ككائن انفرادي — يحاول أن يحمي بقاءه وبقاء أولئك المتصلين به، وأن يُشبع رغباته، ويُنمي قدراته الطبيعية؛ وهو — ككائن اجتماعي — يسعى إلى الظفر بتقدير زملائه في الإنسانية ومجتمعهم، وإلى المشاركة في ملذَّاتهم، وإلى مواساتهم في أحزانهم، وإلى تحسين ظروف حياتهم. وإنما يعلل صفة الإنسان الخاصة التي يتميز بها وجود هذه النوازع المتنوعة التي كثيرًا ما تصطرع في نفسه. وتآلفها على صورة من الصور يُحدِّد للفرد المدى الذي يستطيع أن يبلغه لتحقيق اتزان شخصيته، وللإسهام في رفاهية المجتمع.

ومن الواضح أن اعتماد الفرد على المجتمع حقيقة من حقائق الطبيعة لا يمكن إهمالها، كما هو الشأن في حالة النمل والنحل. غير أن حياة النمل والنحل كلها تحدد أدق وقائعها غرائز جامدة موروثة، في حين أن التكوين الاجتماعي وتشابك العلاقات بين الأفراد يتخذان صورًا مختلفة ويتعرضان لتطورات متعددة؛ فالذاكرة، والقدرة على رسم صور مختلفة من العلاقات، وموهبة الاتصال عن طريق الكلام، كل ذلك جعل بالإمكان تطور العلاقات بين الناس، تطورًا لا تُمليه الضرورات البيولوجية. ويتبدى هذا التطور في التقاليد والنُّظم والهيئات المختلفة، يتبدى في الأدب، وفي الأعمال العلمية والهندسية، وفي الإنتاج الفني. ويفسر لنا هذا كيف يحدث أن المرء يستطيع — بمعنًى من المعاني — أن يؤثر في حياته عن طريق مسلكه، وأن التفكير الواعي والحاجة تستطيع أن تلعب دورًا في هذه العملية.

يكتسب الإنسان عند مولده بالوراثة تكوينًا بيولوجيًّا، يجب علينا أن نعده ثابتًا لا يتغير، ويشتمل هذا التكوين على الدوافع الطبيعية التي تميز الجنس البشري. وهو — فوق ذلك — يكتسب خلال سِني حياته تكوينًا ثقافيًّا يستمده من المجتمع عن طريق اتصاله به وعن طريق مؤثرات عديدة أخرى. وهذا التكوين الثقافي هو الذي يتغير بمرور الزمن، وهو الذي يحدد — إلى حد كبير — العلاقة بين الفرد والمجتمع.

ولو سألنا أنفسنا: كيف ينبغي أن يتغير تكوين الجماعة واتجاهها الثقافي لكي تصبح الحياة الإنسانية مرضية بقدر الإمكان؟ وجب علينا أن ندرك دائمًا أن هناك ظروفًا معيَّنة نعجز عن إدخال أي تعديل فيها؛ فطبيعة الإنسان البيولوجية — كما ذكرت من قبل — لا تحتمل التعديل في الأغراض العملية، ثم إن التطورات التي حدثت في التكنولوجيا وفي نِسب المواليد والوفَيات في القرون القليلة الأخيرة قد خلقت ظروفًا جديدةً نراها اليوم قائمة بيننا. ففي المجتمعات الكثيفة السكان نسبيًّا، والتي تملك سلعًا لا غِنى عنها لاستمرار بقائها، في مثل هذه المجتمعات لا مفر من تقسيم العمل تقسيمًا واسع المدى، ولا مناص من إيجاد جهاز للإنتاج يتصف بالمركزية الشديدة. ولقد انقضى إلى غير رجعة ذلك الزمنُ الذي كان يستطيع فيه الأفراد أو المجتمعات الصغيرة نسبيًّا أن يكتفوا بذواتهم اكتفاءً تامًّا. ولقد نعود بأبصارنا إلى هذا الزمن فنراه شعريًّا خياليًّا. وليس من المبالغة أن نقول إن الإنسان قد بات اليوم يؤلف مجتمعًا كوكبيًّا للإنتاج والاستهلاك.

والآن أراني قد بلغت نقطةً أستطيع عندها أن أشير في إيجاز إلى ما ينحصر فيه لب الأزمة في وقتنا الحاضر، إنه يتعلق بالصلة بين الفرد والجماعة؛ فلقد بات الفرد أشد إدراكًا من أي وقت سبق لاعتماده على الجماعة، بَيد أنه لا ينظر إلى هذا الاعتماد باعتباره ميزة إيجابية، أو رباطًا عضويًّا، أو قوةً وقائية، بل إنه لينظر إليه باعتباره عاملًا من العوامل التي تهدد حقوقه الطبيعية، بل وكيانه الاقتصادي. وموقفه من المجتمع — فوق ذلك — يدعو إلى شحذ دوافع تكوينه الفردي دائمًا، في حين أن دوافعه الاجتماعية — وهي أضعف بطبيعتها — تتدهور شيئًا فشيئًا، وكل الكائنات البشرية — مهما يكن مركزها في المجتمع — تشكو هذا التدهور المستمر. إنهم يُحسون — وهم سجناء أنانيتهم على غير علم منهم — أنهم يعيشون في قلق وعزلة، محرومين من استمتاعهم بالحياة استمتاعًا ساذجًا بسيطًا لا تعقيد فيه. ولا يستطيع المرء أن يجد للحياة معنًى — برغم قِصرها ومخاطرها — إلا إذا كرَّس نفسه للمجتمع.٢

إن قيمة الفرد للجماعة تتوقف أولًا على مدى توجيه مشاعره وأفكاره وأعماله نحو النهوض بمصلحة إخوانه في البشرية، وهو في أعيننا فاضل أو شرير وفقًا لنوع شعوره إزاء المجتمع. وكأن تقديرنا للفرد يعتمد كل الاعتماد على صفاته الاجتماعية.

بَيد أن هذا الرأي لا ينطبق على الصواب؛ فمن الجلي أن كل شيء مما له قيمة في المجتمع — ماديًّا كان أو معنويًّا أو خلقيًّا — يمكن أن يرد عبر الأجيال المتعددة إلى بعض الأفراد المبدعين. فاستخدام النار، وزراعة النباتات التي تؤكل، والآلة البخارية، كل شيء من ذلك كان من اكتشاف رجل واحد.

الفرد وحده يستطيع أن يفكر، فيبتكر بتفكيره قيمًا جديدة للمجتمع، بل يضع معايير خلقية جديدة تُصاغ عليها حياة الجماعة. إن تقدم المجتمع بغير الأفراد المبدعين المستقلين في تفكيرهم وأحكامهم أمرٌ لا يمكن تصوره كتقدم الفرد دون تربة المجتمع التي تغذيه.٣
يا له من موقف عجيب، موقفنا نحن أبناء هذه الدنيا! إن كلًّا منا يسير على وجه الأرض رحلةً قصيرة، لا يدرك لها هدفًا، وإن كان يحسب في بعض الأحيان أنه يُحس به. ولكنَّا إذا نظرنا إلى الحياة اليومية، دون أن نتعمقها، ألفينا أننا إنما نعيش من أجل إخواننا في البشرية — من أجل أولئك الذين تتوقف سعادتنا بأسرها على بسماتهم وراحتهم أولًا، ومن أجل كل أولئك الذين لا نعرفهم معرفةً شخصية ولكنَّا مرتبطون بمصائرهم برباط العاطفة ثانيًا. إنني أذكِّر نفسي مائة مرة كل يوم أن حياتي في الظاهر والباطن تتوقف على مجهود غيري من الأحياء والأموات، وأنه يتحتم عليَّ أن أبذل جهدًا كي أعطي بمقدار ما أخذت ولا زلت آخذ.٤

(١-٣) العلم والمجتمع

يؤثر العلم في شئون الناس عن طريقين؛ أولهما مألوف لكل منا؛ فالعلم يقدم بطريق مباشر، وإلى درجة أكبر بطريق غير مباشر، المعينات التي قلبت حياة الإنسان رأسًا على عقب. أمَّا الطريق الثاني فتربوي في طبيعته، فهو يفعل في العقل فعله. وهذا الطريق الثاني قد لا يكون في وضوح الأول عند النظرة العابرة، غير أنه لا يقل عنه عمقًا وبُعدًا.

إنَّ أوضح أثر عملي للعلم هو أن يمكِّننا من تدبير أشياء تجعل الحياة غنية بالرغم من أنها تعقِّدها في الوقت عينه — وهي مخترعات كالآلة البخارية، والقاطرة، والقوى الكهربية والضوء الكهربي، والتلغراف، والراديو، والسيارة، والطائرة، والديناميت … إلخ. ويجب أن نضيف إلى هذه القائمة ما حققته البيولوجيا وعلم الطب في مجال الاحتفاظ في الحياة، وبخاصةٍ ما أنتجناه من مخفِّفات الآلام ووسائل تخزين الطعام وحفظه. وفي رأيي أن أعظم فائدة عملية تقدمها كل هذه المخترعات للإنسان، هي أنها تحرره من الجهد العضلي الشاق الذي كان لا غِنى له عنه لكي يحتفظ بمجرد البقاء. وإذا استطعنا أن نزعم أننا قد ألغينا الرق، فإنما يرجع ذلك إلى نتائج العلم العملية.

ومن ناحية أخرى نجد أن التكنولوجيا — أو العلم التطبيقي — قد خلقت للإنسان مشكلات خطيرة عميقة. ويتوقف بقاء الإنسان نفسه على إيجاد حل ملائم لهذه المشكلات. ويتعلق الأمر بابتداع نوع من النظم والتقاليد الاجتماعية لا مناص لهذه الآلات الجديدة بدونها من أن تجلب للبشرية أشد الكوارث.

إن وسائل الإنتاج الآلية في حالة اقتصادية لا نظام فيها أدت إلى أن جانبًا لا يُستهان به من الناس لم يعد مطلوبًا لإنتاج السلع، وهؤلاء من أجل ذلك يستبعدون من الدورة الاقتصادية. والنتائج المباشرة لذلك هي إضعاف قوة الشراء وهبوط قيمة العمل نظرًا لحدة المنافسة. ويؤدي ذلك — في فترات تزداد تدريجيًّا في قِصر مداها — إلى شلل خطير في إنتاج السلع. ومن ناحية أخرى نجد أن ملكية وسائل الإنتاج تحمل في ثناياها سلطةً ليس في وسائل الحماية التقليدية في نظمنا السياسية ما يقابلها، ويجد الإنسان نفسه إزاء نضال لا مفر له منه لكي يكيِّف نفسه لهذه الظروف الجديدة — وهو نضال قد يؤدي إلى التحرير حقًّا، إذا برهن أبناء هذا الجيل على أنهم أكْفاء لأداء هذا الواجب الذي وقع على كواهلهم.

وكذلك قرَّبت التكنولوجيا المسافات، وأوجدت وسائل للتدمير جديدة فعالة لم يعهد مثلَها الإنسانُ من قبل، وهي وسائل — إن وُضعت في أيدي أمم تطالب بحرية العمل لا تخضع لقيد — تصبح تهديدًا للأمن، بل ولبقاء الجنس البشري نفسه. ويتطلب هذا الموقف سلطةً قضائية وتنفيذية موحدة لهذا الكوكب بأسره. وتقف التقاليد القومية عقبةً كَأْداء في سبيل إنشاء هذه السلطة المركزية. ونجد أنفسنا هذا أيضًا وسط معركة سوف تحدد نهايتها مصيرنا جميعًا.

وأخيرًا فإن وسائل المواصلات، وتيسير الطباعة والنشر، والراديو، إذا اتحدت بالأسلحة الحديثة، جعلت بالإمكان أن يوضع الجسم والروح تحت السيطرة التامة للسلطة المركزية — وهنا مصدر ثالث من مصادر الخطر على البشرية. وتدل ضروب الاستبداد الحديثة وآثارها المدمرة دلالة واضحة على مدى بُعدنا عن استغلال هذه الأدوات استغلالًا منظمًا لمصلحة البشر. وهنا أيضًا نجد أن الظروف تتطلب حلًّا دوليًّا، مع العلم بأن الأساس السيكولوجي لهذا الحل لم يوضع بعد.

ولننظر الآن في الآثار العقلية التي تنجم عن العلم. لم يكن بالإمكان في العصور السابقة أن يصل الإنسان — عن طريق الفكر وحده — إلى نتائج يمكن للبشر جميعًا أن يقبلوها باعتبارها أكيدةً ولازمة. وأقل من ذلك احتمالًا أن يؤمن الناس بأن كل ما يقع في الطبيعة يخضع لقوانين ثابتة لا تتغير.

فإن النظر إلى القانون الطبيعي من زاوية واحدة — كما كان ينظر إليه الإنسان البدائي عند الملاحظة — أباح نمو العقيدة في الأشباح والأرواح؛ ومن ثَم فإن الإنسان البدائي حتى اليوم يعيش في ذعر دائم من تدخُّل القوى غير الطبيعية التحكمية في مصيره.

إن مزايا العلم الأبدية أنه استطاع بتأثيره في العقل البشري أن يتغلب على شعور الإنسان بالخوف من نفسه ومن الطبيعة؛ فلقد استطاع الإغريق باختراعهم مبادئ علوم الرياضة أن ينشئوا طريقة للتفكير لا يمكن لأحد أن يغير من نتائجها، ثم اخترع علماء النهضة بعد ذلك المزجَ بين التجربة المطردة والطريقة الرياضية. وقد أمست الدقة في صياغة القوانين الطبيعية والتيقن بالاختبار من صحتها — بهذا المزج — ممكنة، حتى لقد نجم عن ذلك أنه لم يعد مجال لخلاف أساسي في الرأي فيما يتعلق بعلوم الطبيعة. ومنذ ذلك الحين أخذ كل جيل يبني على أساس ما ورث من علم ومعرفة، دون التعرض لأدنى خطر من أزمة قد تقوض البناء بأسره.

إن عامة الناس تستطيع أن تتابع دقائق البحث العلمي إلى درجة محدودة فقط، ولكنها تستطيع على الأقل أن تحقق ربحًا واحدًا هامًّا عظيمًا، وذلك هو الإيمان بأن الفكر الإنساني موثوق به، وبأن قانون الطبيعة قانون عالمي.٥

(١-٤) العلم والدين

ليس من العسير أن نتفق على ما نفهمه من العلم. العلم محاولة قديمة من الإنسان لكي يضم الظواهر المحسوسة في هذه الدنيا — بالتفكير التركيبي — في ائتلاف شامل بقدر الإمكان. وبتعبير جريء أستطيع أن أقول إن العلم هو محاولة إعادة بناء الوجود بعد خلقه عن طريق التصور. أمَّا إن سألت نفسي: وما الدين؟ ما استطعت أن أجد الجواب بهذه السهولة. وحتى إن وجدت جوابًا يشفيني في هذه اللحظة، أظل واثقًا بأنني لن أستطيع — تحت أي ظرف من الظروف — أن أوفق — ولو إلى درجة ضئيلة — بين كل أولئك الذين أولَوا هذا الموضوع اهتمامًا جديًّا.

وإذَن فأنا أوثر أولًا أن أستبدل بسؤالي: ما هو الدين؟ أن أسأل عما تتميز به آمال الشخص الذي أتصور فيه التدين. إن الشخص المستنير من الناحية الدينية يبدو لي كأنه رجل حرَّر نفسه — على قدر استطاعته — من قيود رغباته الذاتية، وشغل نفسه بالأفكار والمشاعر والآمال، التي يتعلق بها لقيمتها التي تسمو على ذاته. ويبدو لي أن المهم هو قوة هذا المضمون الذي يسمو على الذات، وعمق الاعتقاد في مغزاه البعيد المتسلط على الأذهان، بغضِّ النظر عن محاولة التوحيد بين هذا المغزى وبين كائن مقدس، وإلا ما استطعنا أن نحشر بوذا واسبينوزا بين الشخصيات المتدينة. وبناءً على ذلك فإن الرجل المتدين هو كذلك لأنه لا يخالجه شك في دلالة هذه الأغراض وتلك الأهداف التي تسمو على الذات وفي ارتفاع شأنها. وهي أهداف لا تتطلب ولا تحتمل أساسًا من العقل، إنها موجودة كأمر ضروري واقعي ضرورةَ من يعتقد فيها وواقعيته. والدين بهذا المعنى هو محاولة قديمة من الإنسان لكي يعي هذه القيم وهذه الأهداف وعيًا كليًّا واضحًا، ولكي يعزز وينشر آثارها على الدوام. فإذا ما تصورنا الدين والعلم طبقًا لهذا التعريف أصبح الخلاف بينهما أمرًا مستحيلًا؛ لأن العلم إنما يحقق فيما هو كائن، لا فيما ينبغي أن يكون، وتبقى القيم بجميع أنواعها من الضرورات التي لا تدخل في نطاقه. أمَّا الدين فلا يتعرض إلا إلى تقويم الفكر الإنساني والأعمال الإنسانية. إنه لا يجد مسوغًا لكي يبحث في الحقائق وفيما بينها من علاقات.

وبالرغم من انفصال مجال الدين عن جمال العلم في ميدان البحث انفصالًا واضحًا، فإنه تقوم بينهما علاقات متبادلة قوية، ويرتكز أحدهما على الآخر في بعض نواحيه. فالدين قد يكون ذلك الذي يحدد الهدف، إلا أنه يأخذ عن العلم — بأوسع معانيه — الوسائل التي تعين على تحقيق الأهداف التي يرسمها لنفسه. ولكن العلم لا يخترعه إلا أولئك المتشبِّعون تمامًا بحب الحق والإدراك السليم. وهذا المصدر من مصادر الشعور ينبع من ميدان الدين. ويتصل بهذا الميدان أيضًا الإيمان بأنه من الممكن أن تكون القواعد التي تنطبق على عالم الوجود معقولة؛ أي يمكن إدراكها بالعقل. ولا أستطيع أن أتصور عالمًا حقًّا بغير هذا الإيمان العميق. ويمكن التعبير عن هذا الرأي بهذه الصورة: العلم بغيرِ دينٍ أعرج، والدين بغيرِ علمٍ أعمى.

ذكرت من قبلُ أنه لا يمكن أن يقوم حقًّا صراع مشروع بين العلم والدين. غير أنه ينبغي لي أن ألقي ضوءًا على هذا الذي ذكرته مرة أخرى في نقطة هامة، ومع الإشارة إلى المضمون الفعلي للديانات التاريخية. ويتناول الموضوع الذي أريد أن أوضحه فكرة «الإله». حدث في أثناء الفترة الأولى من التطور الروحي للبشر أن ابتدع الإنسان من خياله آلهةً على صورة البشر. وكان المفروض في هؤلاء الآلهة أن يقرِّروا بفعل إرادتهم كل ما يجري بعالم الظواهر، أو على الأقل أن يطبعوه بما لهم من تأثير. وكان الإنسان يسعى أن يحوِّر من ميول هؤلاء الآلهة حتى تتجه إلى ما فيه مصلحته بالسحر والصلاة. غير أن الفكرة عن الإله في الديانات التي نتعلمها اليوم تسمو بهذه الصورة القديمة عن الآلهة. وتتضح الصفات الإنسانية التي ننسبها إلى آلهة العصر الحاضر — على سبيل المثال — بالابتهال إلى «الكائن المقدس» في الصلوات، وبالتوجه إليه بالدعاء لكي يحقق أغراضنا.

ولا شك أن أحدًا لا ينكر أن فكرة وجود إله قادر على كل شيء، عادل، عميم الخير، يمكن أن تعطي الإنسان الطمأنينة والمعونة والرشد. وهذه الفكرة أيضًا — بفضل بساطتها — ميسورة لأشد العقول سذاجة. غير أن هذه الفكرة — من ناحية أخرى — فيها بعض مواطن الضعف الأكيدة، وقد أحس الإنسان بهذا الضعف إحساسًا قويًّا منذ بداية التاريخ. فإذا كان هذا الكائن قادرًا على كل شيء، فكل حدث — بما في ذلك كل عمل بشري، وكل فكرة إنسانية، وكل شعور إنساني، وكل أمل — هو من صنعه. فكيف يمكن أن نحمل الناس تبعة أعمالهم وأفكارهم إزاء مثل هذا «الكائن» القدير؟ فهو في عقابه ومثوبته إنما يحكم — إلى حد ما — على نفسه. فكيف يمكن أن يتفق ذلك مع ما نعزوه إليه من خير وعدل.

إن مصدر الصراع القائم اليوم بين مجال الدين ومجال العلم ينحصر في هذه الصورة الشخصية عن الإله. ومن هدف العلم أن يضع قواعد عامة تحدد العلاقة المتبادلة بين الأشياء والأحداث في الزمان والمكان. وصِدق هذه القواعد أو هذه القوانين الطبيعية، عامة، مطلوب قطعًا — ولا تكفي البرهنة عليه. إنه منهاج في أساسه، والاعتقاد في إمكان تحقيقه نظريًّا إنما يقوم على أساس تكرار نجاحه جزئيًّا. ومن العسير أن تجد شخصًا ينكر هذا النجاح الجزئي ويعزو إلى خداع الإنسان لنفسه. وعلى أساس هذه القوانين نستطيع أن نتنبأ بسلوك الظواهر الطبيعية في وقت ما، وفي مجالات معينة بدقة بالغة ووثوق شديد. وهذه الحقيقة تستقر في أعماق الوعي لدى إنسان العصر الحاضر، حتى إن كان ما يدركه من مضمون هذه القوانين ضئيلًا محدودًا.

وكلما ازداد إيمان المرء بخضوع جميع الأحداث لقواعد منظمة اشتد إيمانه بأنه لا يوجد إلى جانب هذه القواعد المنظمة مجال لأسباب ودوافع من نوع آخر. وهو لا يرى وجودًا لإرادة بشرية أو إرادة سماوية كسببٍ مستقل في أحداث الطبيعة. ولسنا ننكر أن العقيدة في تدخُّل الإله في مجرى الحوادث الطبيعية لا يمكن للعلم أن ينبذها — بمعنى أن يتجاهلها تمامًا — لأن هذه العقيدة يمكن دائمًا أن تجد ملاذًا في تلك الميادين التي لم تستطِع المعرفة العلمية بعدُ أن تغزوها.

غير أني أميل إلى الاعتقاد بأن مثل هذا السلوك من جانب رجال الدين عديم القيمة، بل قاتل مميت؛ لأن العقيدة التي تقوى على البقاء في الظلام، ولا تقوى عليه في وضح الضياء، لا بد أن تفقد تأثيرها في الناس، وتعود على التقدم البشري بالأذى البالغ. لا بد لعلماء الدين — خلال نضالهم في سبيل الخير الخلقي — أن يتخلوا عن مبدأ العقيدة في إله له صفة الأشخاص؛ أي لا بد لهم أن يتخلوا عن ذلك المصدر من مصادر الخوف والأمل، الذي وضع في الماضي قوة كبرى في أيدي رجال الدين. لا بد لهم في أثناء جهادهم من استغلال تلك القوى التي بوسعها أن تخلق الخير والحق والجمال في البشرية ذاتها. ولا شك أن هذا عمل أكبر مشقة، ولكنه أكبر قيمة بدرجة لا تقارن. وبعدما يقوم علماء الدين بواجب التهذيب الذي أشرت إليه، فلا ريب أنهم سوف يدركون ببالغ السرور أن الدين الحق قد اكتسب من المعرفة العلمية نبلًا وازداد فيها عمقًا.

وإذا كان من أهداف الدين أن يحرر البشرية بقدر الإمكان من الخضوع للمخاوف والرغبات والشهوات الذاتية، فإن التعليل العلمي يستطيع أن يعاون العقيدة الدينية بمعنًى آخر؛ فلو أنه من الحق أن هدف العلم أن يكتشف القواعد التي تسمح بربط الحقائق وبالتنبؤ بها، إلا أن ذلك ليس هدفه الوحيد؛ فهو يعمل أيضًا على اختصار الصلات المكتشفة إلى أصغر عدد ممكن من التصورات العقلية المستقلة بعضها عن بعض. وهو بهذا السعي نحو الوحدة العقلية للمتعدد يحقق أكبر فرص نجاحه، بالرغم من أن هذه المحاولة عينها هي التي تعرضه للخطر الجسيم، خطر وقوعه فريسةً للأوهام. غير أن كل من لمس بقوةٍ التقدم المطرد في هذا الميدان، يشعر بالتقدير العميق للتعقل الذي أمكن إظهاره في الوجود. وعن طريق الفهم الصحيح يظفر بتحرر بعيد المدى من قيود الآمال والرغبات الشخصية؛ وبذلك يحقق ذلك التواضع الفكري إزاء عظمة العقل المتجسد في الوجود، والذي يشق على الإنسان بلوغه، في أعمق أعماقه السحيقة. ويبدو لي أن هذه النظرة دينية في أسمى معاني الدين؛ ومن ثَم يُخيَّل إليَّ أن العلم لا يُطهر الدافع الديني من أدران ما يَعلق به من صفات إنسانية فحسب، ولكنه يعمل كذلك على تلوين إدراكنا للحياة بلون روحاني ديني.٦

إن الفرد يشعر بخواء الرغبات في الأغراض الإنسانية، وبالسمو والنظام العجيب الذي يتبدى في الطبيعة وفي عالم الفكر. إنه ينظر إلى الوجود الفردي كأنه ضرب من ضروب السجن، ويودُّ لو اتصل بالعالم باعتباره كلًّا واحدًا له دلالته. وقد ظهرت بالفعل مبادئ الشعور الديني الشامل للكون في مراحل تطورها الأولى — في كثير من مزامير داود مثلًا، ولدى بعض الأنبياء. وتشتمل البوذية على عنصر قوي من هذا الشعور، كما عرفنا من مقالات شوبنهور العجيبة بنوع خاص.

وهذا اللون من الشعور الديني، الذي لا يعرف عقيدة بعينها، ولا يعرف إلهًا يتصوره الإنسان على صورته، هو الذي يميز العبقريات الدينية في كل العصور — بحيث لا يقوم نظام ديني (كنيسة) ترتكز تعاليمه الأساسية على تلك العقيدة أو ذلك الإله الذي تصوره الإنسان.

إن أولئك الذين يدركون الجهد الضخم، والإيمان القوي خاصة، الذي يتطلبه العمل التمهيدي في العلم النظري، أولئك وحدهم يستطيعون أن يُحسُّوا قوة الشعور الذي منه وحده يمكن أن ينبعث مثل هذا العمل — برغم بُعده عن حقائق الحياة المباشرة. أيُّ إيمان عميق في معقولية الكون (حتى إن كان ما يبدو من العقل في هذه الدنيا تافهًا ضئيلًا) وأيُّ شغف بالفهم كان عند كبلر ونيوتن حتى استطاعا أن ينفقا السنوات العديدة في عزلة العمل لكي يستخلصا قواعد الحركة السماوية! إن أولئك الذين يستمدون معرفتهم بالبحث العلمي أساسًا من نتائجه العملية سرعان ما يكوِّنون فكرة خاطئة تمامًا عن عقلية أولئك الذين يتحوطهم عالم متشكك، ولكنهم ينيرون الطريق لأمثالهم في الفكر، المنتشرين في الأرض وخلال القرون. ولا يستطيع أن يدرك تمام الإدراك مصدر الإلهام لهؤلاء الرجال، ومصدر القوة التي تجعلهم يثبتون على تحقيق أغراضهم برغم ضروب الفشل العديدة التي تصادفهم، لا يستطيع أن يدرك ذلك الأمر إلا من كرَّس حياته لمثل هذه الأهداف. إنه الشعور الديني الكوني الشامل وحده الذي يمد المرء بمثل هذه القوة. قال أحد المعاصرين — وقد صدق فيما قال — إن العاملين في العلم الجادين في عصرنا هذا المادي هم وحدهم الذين يتصفون بالتدين العميق.٧

المصادر

هذه المختارات من ألبرت أينشتين مأخوذة من مجموعة رسائله، ومقالاته، وبحوثه، وإذاعاته، التي ظهرت في كتابه «من سنواتي الأخيرة» وكتابه «العالم كما أراه».

  • ١ «كسبنا الحرب وخسرنا السلام».
  • ٢ «ما الداعي إلى الاشتراكية؟»
  • ٣ «المجتمع والشخصية».
  • ٤ «العالم كما أراه».
  • ٥ «العلم والمجتمع».
  • ٦ «العلم والدين».
  • ٧ «الدين والعلم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤