الفصل الثالث

أجنازيو سيلون

(١٩٠٠م–…)

نستطيع القول عن أجنازيو سيلون بأن حياته كلها كانت رحلة دينية في سبيل الحرية، ومع ذلك فإن هذا الفنان الذي كان يسعى إلى الحقيقة قبل كل شيء، الذي استخدم قُواه الذهنية العظيمة لتحقيق العدالة الاجتماعية، يوحي إلى القارئ بشدة تعلقه وحبه لموطنه في إقليم أبرزي بإيطاليا ولساكنيه من الفلاحين المتواضعين. ويقول أحد ناقديه إنه بالنسبة إلى أبرزي كان يحمل ما حمل من قبلُ روبرت فروست من مشاعر. غير أن هذا النقد لا يشير إلا في القليل إلى النظرة العالمية الخلقية الشاملة التي كانت تتميز بها طريقة سيلون في السخرية، كما أنه لا يشير كذلك بقدر كافٍ إلى تلك النزاهة الخالصة التي جعلت من هذا الرجل مُنظمًا (بمعنى هذه الكلمة في الحركة الاجتماعية) كما جعلت منه أيضًا في كثير من المواقف ثائرًا فذًّا جسورًا.

وُلد سيلون في أول مايو من عام ١٩٠٠م في بسينا دي مارسي، وهي قرية صغيرة في أبرزي بالابنين. وكانت أسرته من صغار أصحاب الأراضي في الإقليم، فحرصوا على أن يتلقى تعليمه في المدارس الكاثوليكية. فلما بلغ الفتى السابعة عشرة من عمره أصبح سكرتيرًا للمزارعين الذين كانوا يعملون في إقليم أبرزي، ويمثل الفلاحين الذين عرفهم حق المعرفة، والذين كان يؤثر أن يقضي جانبًا كبيرًا من وقته معهم أيام طفولته. وقد هلكت أمه وأبوه في زلزال سنة ١٩١٥م. وبعد ذلك ببضع سنوات هجر سيلون وأخ له، نجا من الكارثة، من إقليمهما لكي يعملا في سبيل قضية الشباب والعمال في روما.

وأصبح سيلون أحد مؤسسي الحزب الإيطالي الشيوعي، ورئيسًا لتحرير مجلة أفانجارديا الأسبوعية التي تصدر في روما. وفي عام ١٩٢١م قام بزيارة إلى روسيا. وعند عودته إلى إيطاليا أقام في تريست، وأخذ يحرر صحيفة العمال اليومية «آل لافوراتور». وكما ذكر في المقتطفات التي سوف نوردها فيما بعد، بقي في إيطاليا بعد إصدار القوانين الخاصة التي صدرت ضد المعارضين للفاشية، وبعد تنفيذها. وهكذا اجتاز سيلون الامتحان الخطير الذي تعرَّض له في عمله السري، وهو يطبع الصحف غير المشروعة، علمًا بأن أمرًا بالقبض عليه قد صدر، واستولى الفاشست على آل لافوراتور، وقبض على أخيه الذي نجا من الزلزال الذي قضى على أكثر أفراد الأسرة، وأودع السجن، وضُرب حتى مات، فعاد أدراجه إلى أبرزي، باحثًا عن مأوًى، حتى عثر عليه لدى أصدقائه الفلاحين، لفترة ما.

وفي عام ١٩٣٠م اختلف سيلون مع الحزب الشيوعي، وفي العام التالي استطاع الهروب عبر الحدود إلى ألمانيا. ومن هناك رحل إلى جهات أخرى في أوروبا، متعرضًا للحبس والنفي في مناسبات عديدة، في مختلف الأقطار. وفي عام ١٩٣١م أقام بسويسرا، ولبث بها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشست. وفي هذه الفترة كتب سيلون رواياته؛ فنتامارا، والخبز والنبيذ، وغيرهما. كما دوَّن تاريخًا عن الفاشية في إيطاليا، وأخرج مجلدات من المقالات السياسية، والمحاورات، ونقدًا سياسيًّا هامًّا للمجلات الاشتراكية في جميع أنحاء العالم. وفي عام ١٩٤٤م عاد سيلون إلى إيطاليا ليواصل عمله زعيمًا فكريًّا للحزب الاشتراكي الإيطالي، ومديرًا لصحيفة أفانتي!

وإن مجرد سرد هذه الوقائع في حياة سيلون لا يصور البتة القوى المعنوية الكبرى عند هذا الكاتب الذي نجح في الظفر بالشهرة خلال سنوات منفاه عن طريق كتبه المثيرة التي تدعو إلى العجب. وفي هذه الكتب رسم في صور بشرية حية محنةَ استخفاف الدول الدكتاتورية بالروح الإنساني. وقد أثارت هذه الصور أذهان المثقفين في غرب أوروبا وأمريكا، كما هزَّت قلوبهم. وعندما عاد بذاكرته إلى خبرته الشخصية في العقيدة الاشتراكية، التي ظن أول الأمر أن الحزب الشيوعي سيقوم ببثِّها، والتي عرف بعد سنوات أليمة تكشَّفت له فيها الحقيقة أنها سبب الفساد والاضطهاد، عندما عاد بذاكرته إلى ذلك كله قال: «إن الاشتراكية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، سلكت مسلك الصائد الذي خرج ليصيد طائر السمان فوقع بين أنياب الذئاب.» ولم يستطِع أن ينجو من هذه الذئاب إلا «الأصحاء من الرجال، الذين يتصفون بالصدق والكمال». وذلك عن طريق التساؤل، والعصيان، والبحث الشخصي، والآلام النفسية. فهل سيكون هؤلاء هم الرجال الذين سيحررون روح الإنسان التي تضطر الآن إلى «أن تنقذ نفسها بالاختفاء»؟ هذا لغز عويص ليس من العسير حله. غير أن سيلون يرى أن «إعادة الكشف عن التراث المسيحي في ثورة هذا العصر هي أهم كسب حققناه في السنوات الأخيرة لضمير هذا الجيل».

والقطعة المختارة التي نوردها فيما يلي مقتطفة من فصل في كتاب غير عادي نُشر في عام ١٩٤١م تحت عنوان «المعبود الذي أخفق»، وهو يحتوي على مقالات دبَّجها أصحابها عن سيرة حياتهم، وهم جميعًا من «أعضاء الحزب». وهؤلاء هم آرثر كسلر، وأجنازيو سيلون، ورتشارد رايت، الذين يعرضون في أمانة فذَّة ولاءهم للشيوعية في الماضي، ثم إدراكهم فيما بعدُ أن الشيوعية أكبر خدعة للأمل في حرية الإنسان. وهنا يفلح سيلون في إثارة الشعور — في مقال موجز — الذي يصوره بطريقة فنية دقيقة في رواياته الخيالية، وهو الشعور بأن الفرد في أعلى مستوياته يسمو على كل النظم الاقتصادية والاجتماعية المصطنعة التي تتعسف به وتحاول أن تحرمه استقلاله الروحي. وقد بيَّنَّا أن سيلون — حتى حينما يتزعم العمال المظلومين — إنما يفعل ذلك بروح الاستقلال الفردي بالرأي التي جعلته لا يؤمن بأمثال هذا الشعار — «الوعي الطبقي» — لأن الأشخاص الذين صوَّرهم سيلون كانوا من الفلاحين، ولم يكونوا من العمال الأُجراء. وغاية ما آمن به سيلون في الاشتراكية، هو أقرب ما يكون إلى إثارة العطف نحو الجائعين، والمعوزين، والعاجزين، وأولئك العظماء — مهما يكونوا من المغمورين — الذين هم على استعداد للاستشهاد في سبيل الاعتقاد في الإنسانية والإيمان بها. أمَّا ما تبقَّى من رحلة سيلون الدينية التي قام بها ليحقق العدالة الاجتماعية والحرية، فينحصر في إيمان ثابت لا يتزعزع بإمكان تخطيط نظام اقتصادي على الأسس الاشتراكية يقوم على قاعدة احترام الفرد بصورة ديمقراطية صحيحة. وفي إحدى قصص سيلون التي نشرها تحت عنوان «السيد أرسطو» يمسك سمبلسيو — وهو على شفا الموت — بيدِ راعٍ عجوز آواه، ويقول: «اعلم أن الإنسان يستطيع أن يفعل الخير!» وهي عبارة على بساطتها معقَّدة، تنم عن الماضي وتنبئ بالمستقبل.

(١) المعبود الذي أخفق

أجنازيو سيلون

(١-١) لماذا صِرت شيوعيًّا؟

في ذلك المساء من شهر نوفمبر بميلان، حينما أردت أن أشرح لأصدقائي لماذا تمسكت — وأنا في السابعة عشرة من عمري وما زلت في سنوات الدراسة — باشتراكية زِمَرْوالد، اضطررت إلى أن أعود بذاكرتي، خطوةً خطوة، إلى السنوات الأولى من حياة المراهقة، بل لقد وجدتني مرغمًا على أن أذكر حكايات عن صباي؛ لكي أكتشف أول المصادر التي أمدَّتني بنظرة إلى المجتمع — اتخذت فيما بعدُ صيغة سياسية — وكان لا بد أن يظهر فيما بعدُ أنها نظرة ثائرة. إن المرء في السابعة عشرة من سنه، وفي وقت الحرب، لا يلتحق بحركة ثورية تضطهدها الحكومة، إلا إذا كانت الدوافع إلى ذلك جدية خطيرة.

نشأت في إقليم جبلي في جنوبي إيطاليا. والظاهرة التي تركت في نفسي أقوى الآثار، حينما بلغت سن الرشد، هي ذلك التباين الشديد، التباين الشنيع السخيف الذي لا مبرر له، بين الحياة العائلية والحياة الفردية من ناحية، وهي حياة كريمة نزيهة تقوم على أسس سليمة في جملتها، وبين العلاقات الاجتماعية، التي كانت في كثير من الأحيان جافَّة ومليئة بالحقد والخداع من ناحية أخرى.

كنت طفلًا في الخامسة من عمري حينما كنت — ذات يوم أحد — أعبر الميدان الصغير في قريتي، في صحبة أمي، وهي تقودني من يدي، فشهدت منظرًا ينمُّ عن كثير من القسوة والغباء، وهو منظر أحد أعيان البلدة وقد أطلق كلبه الضخم على امرأة فقيرة، وهي خائطة ملابس، كانت خارجة من إحدى الكنائس. فانكفأت المرأة المسكينة فوق الأرض، وقد أُصيبت بجِراح بالغة، وتمزَّق رداؤها إربًا إربًا. وعمَّ الاستنكار في القرية، ولكنه استنكار في صمت. ولم أدرِ قَط كيف عنَّ لهذه المرأة المسكينة أن تُقاضي هذا العمدة! ويا لها من فكرة غير موفَّقة فكرت فيها! فقد كانت النتيجة الوحيدة لهذا الإجراء هي سخرية القضاء، بالإضافة إلى ما أصابها من قبلُ من أذًى. وأقول مرةً أخرى إنه بالرغم من أن كل من رآها أشفق عليها، وبالرغم من أن كثيرًا من الناس قد عاونها سرًّا، فإن المرأة التعسة لم تستطِع أن تجد شاهدًا واحدًا على أهبة لأن يُدلي بشهادته أمام القاضي، ولم تجد محاميًا يتولى الدفاع؛ في حين أن محامي «الجناح الأيسر» الذي تولَّى قضية العمدة قد حضر في الميعاد، كما حضر عدد من الشهود المرتشين الذين حنثوا في أيمانهم حينما زوَّروا رواية ما حدث، واتهموا المرأة بإثارة الكلب، فبرَّأ القاضي العمدة، وحكم على المرأة المسكينة بدفع النفقات — وكان رجلًا فاضلًا نزيهًا في حياته الخاصة.

وبعد بضعة أيام سمعت القاضي في بيتنا يسوغ حكمه قائلًا: «لقد سارت الأمور بما لا يرضى ضميري، وأؤكد لكم بشرفي أنني كنت في غاية الأسف. ولكن حتى لو شهدت بنفسي هذا الحادث الأليم باعتباري مُواطنًا عاديًّا، ولم يكن بوسعي إلا أن أوسع الرجل لومًا، فإني — برغم ذلك — كقاضٍ لا بد لي من الأخذ بالشهود، ولقد كانت الشهادة لسوء الحظ في مصلحة الكلب.»

وكنت في السابعة من عمري حينما حدثت أول حملة انتخابية أستطيع أن أذكرها من ناحيتي. ولم يكن لدينا في ذلك الحين أحزاب سياسية؛ ولذا فقد استقبل الناس إعلان هذه الحملة بقليل جدًّا من الاهتمام. غير أن الشعور العام قد التهب حينما أُذيع أن أحد المرشحين هو «الأمير»، ولم تكن ثَمة حاجة إلى أن يذكر اسمه أو اسم أبيه لكي يعلم الناس أي أمير كان معنيًّا؛ فقد كان يملك الضيعة الكبرى التي استحوذ عليها باحتلاله عنوةً لمساحات الأراضي الشاسعة التي استُصلحت في القرن الماضي بتجفيف بحيرة فوسينو. ولا يزال ما يقرب من ثمانية آلاف أسرة (أي أغلبية سكان الجهة) يشتغلون اليوم بفلاحة هذه الضيعة التي تبلغ مساحتها أربعة عشر ألف هكتار. وكان الأمير يفكر في استعطاف هذه الأسرات التي تتبعه لكي يعطوه أصواتهم حتى يكون نائبًا عنهم في البرلمان. وأخذ وكلاء الضيعة، الذين كانوا في خدمة الأمير، يتفوهون بعبارات تنمُّ عن الحرية المنزَّهة عن كل موطن من مواطن الزلل، فيقولون: «من الطبيعي أن أحدًا منكم لن يُرغَم على إعطاء صوته للأمير. هذا أمر مفهوم. ومن الطبيعي أيضًا أن أحدًا منكم لا يستطيع أن يرغم الأمير على أن يسمح لأولئك الذين لا يعطونه أصواتهم على أن يعملوا في أرضه. إننا في عصر الحرية الحقيقية لكل إنسان. أنتم أحرار، وكذلك الأمير حر.» وقد أحدث إعلان هذه المبادئ (الحرة) ذعرًا عامًّا مفهومًا بين الفلاحين؛ لأنك تستطيع أن تدرك في يسر أن الأمير كان أشد من يمقت الناس في هذا الجزء من البلاد. وما دام في برجه العالي باعتباره مالكًا كبيرًا إقطاعيًّا لا يراه أحد (فإلى ذلك الحين لم يره — حتى من بُعد — أحد من المستأجرين الذين يبلغ عددهم ثمانية آلاف)، فإنَّ كره الجمهور له كان جائزًا، وهو يشبه تلك اللعنات التي يصبُّها على الآلهة المعادية. وهذه اللعنات تُرضي النفوس بالرغم من أنها لا تعود عليها بنفع. ولكن السماء اليوم تنفطر، والأمير يهبط حتى يصبح على مرأًى من سكان هذه الدنيا الفانية، وعليهم منذ الآن — بناءً على ذلك — أن يُعبروا عن سخطهم في حدود دائرة حياتهم الخاصة الضيقة، وأن يستعدوا للترحيب به في طرقات القرية بما يستحق من تكريم.

والظاهر أن أبي لم يرضَ بقبول مثل هذا المنطق. وكان أصغر إخوته العديدين، وكلهم من صغار الملاك. كان أصغرهم، وأشدهم قلقًا، والوحيد من بينهم الذي يميل إلى شيء من التمرد. وذات مساء جاء إخوته الذين يكبرونه ونصحوه بالحرص والتروِّي لصالح الأسرة جميعًا. وكان هذا المساء بالنسبة إليَّ (ولم يُلقِ أحد منهم إليَّ بالًا؛ لأن الكبار يحسبون أن الصغار لا يدركون أمثال هذه الأمور) شديد التبصرة. قال أكبر الإخوة: «إنني لا أُماري في أن ترشيح الأمير مهزلة حقيقية؛ فالترشيح السياسي يجب أن يقتصر على المحامين وغيرهم من أرباب الكلام. أمَا وقد رشَّح الأمير نفسه، فكل ما نستطيعه هو أن نؤيده.» وأجاب أبي قائلًا: «إذا كان ترشيح الأمير مهزلة، فلست أفهم لماذا نؤيده!»

– لأن معيشتنا تتوقف عليه، كما تعلم جيدًا.

– لا يكون ذلك في السياسة؛ فنحن فيها أحرار.

– إننا لا نزرع السياسة، إنما نزرع الأرض.

– إن حياتنا تتوقف على الأمير باعتبارنا فلاحين للأرض، وليس هناك ذكر للسياسة في عقودنا الزراعية، ليس بها ذكر إلا للبطاطس والبنجر. أمَّا كناخبين فنحن أحرار.

– ووكيل الأمير حر أيضًا في عدم تجديد عقودنا. ومن أجل هذا فنحن مضطرون إلى أن نقف بجانبه.

– لا أستطيع أن أعطي صوتي لرجل لمجرد أني مُرغَم على ذلك. إنني حينئذٍ أشعر بالمذلة.

– لن يعرف أحد لمن تعطي صوتك؛ فأنت تستطيع أن تصوت كما تشاء بكامل حريتك، وسرية الدوائر الانتخابية كفيلة بذلك، ولكن خلال المعركة الانتخابية يجب علينا أن نقف إلى جانب الأمير مجتمعين.

– كان يسرني هذا لولا أن ذلك يخجلني، ولكن صدقوني؛ إنني أخجل من ذلك كثيرًا.

ولكي ينتهي الجدل إلى وفاق، توصَّل أبي وأعمامي إلى هذا الرأي الوسط. لا يظهر أبي مؤيدًا للأمير أو معارضًا له.

وقامت بالإعداد لرحلة الأمير الانتخابية السلطاتُ المدنية ورجال الشرطة والفُرسان المسلحون ووكلاء المزرعة، وتكرَّم الأمير ذات يوم أحد بالمرور خلال القرى الأساسية في دائرته الانتخابية، دون أن يتوقف أو يُلقي خطابًا. وظل أبناء الجهة يذكرون هذه الرحلة أمدًا طويلًا، لا لشيء إلا لأنه قام بها في سيارة. وكانت هذه أول مرة نشهد فيها السيارة، بل إن كلمة «سيارة» نفسها لم تجد لها مكانًا بعدُ في لغة حديثنا اليومية، وكان الفلاحون يُسمونها «العربة التي لا تجرُّها الخيل». وفي يوم الأحد هذا خرج جميع سكان القرية للقاء الأمير في عُرض الطريق التي كان ينتظر أن يسلكها، وبدت علامات متعددة تدل على الإعجاب والمحبة الجماعية للأمير. وكانت الجماهير ترتدي أجمل ثيابها، وكانوا في حالة من النشوة العظمى التي لا يعرف الجميع أسبابها. ووصلت العربة التي لا تجرُّها الخيول في وقت متأخر، وعلا ضجيجها خلال الجماهير المحتشدة وعبر القرية، دون أن تقف أو حتى أن تبطئ في سيرها، مخلِّفةً وراءها سحابة من الغبار الكثيف الأبيض.

وبعد يومين وصل من روما رجل عجوز ضئيل الجسم، وكان يرتدي نظارة ويحمل عصًا سوداء وحقيبة صغيرة، ولم يعرفه أحد، وقال إنه طبيب عيون، وقد رشَّح نفسه ضد الأمير، وتجمَّع حوله نفر من الناس مستطلعين، وأكثرهم من الأطفال والنساء، الذين ليس لهم حق التصويت. وكنت بين الأطفال أرتدي سروالًا قصيرًا، وأحمل تحت إبطي كتبي المدرسية. ورجونا هذا الرجل العجوز أن يخطب فينا، فقال: «ذكِّروا آباءكم أن التصويت سِري. وليس عندي شيء غير هذا.» ثم قال: «إنني رجل فقير، أعيش من عملي كطبيب عيون، ولكن إذا شكا أحدكم من عينيه فأنا على استعداد لأن أعالجه بغير مقابل.» فأتينا له بامرأة عجوز تبيع الخضر، وكانت تشكو من عينيها، فقام بتنظيفهما، وأعطاها قارورة صغيرة بها بضع قطرات، وشرح لها طريقة استعمالها، ثم قال لنا (وكنا جماعة من الأطفال ليس غير): ذكِّروا آباءكم بأن التصويت سِري. ثم انصرف. ولشدَّ ما كانت دهشتنا جميعًا حينما نمى إلينا أن أغلبية كبرى من الناخبين — لسرية الدوائر الانتخابية — قد صوَّتت ضد الأمير، وأعطت أصواتها لهذا الطبيب المجهول. وكانت فضيحةً كبرى.

وفي عام ١٩١٥م حدث زلزال لم نعهد شدته من قبل، ودمَّر جانبًا كبيرًا من إقليمنا، وقتل في ثلاثين ثانيةً ما يقرب من خمسين ألف نسمة. ولشدَّ ما كانت دهشتي حينما وجدت كثيرًا من أبناء قريتي قد استقبلوا هذه الكارثة المروعة كأنها أمر طبيعي. ولم يلقَ منهم تفسير الجيولوجيين المعقَّد الذي روته الصحف سوى الازدراء. وفي بلد مثل بلدنا، حيث تقع المظالم المتعددة دون عقوبة الظالم ينظر الناس إلى تكرار حدوث الزلازل على أنها ظاهرة ليست بحاجة إلى تفسير سوى مجرد حدوثها، بل إن من العجب ألا يتكرر حدوث الزلازل أكثر من ذلك. والزلزال يقضي على الغني والفقير، وعلى المتعلم والجاهل، وعلى الحاكم والمحكوم على السواء، ويلقي بهم جميعًا تحت أنقاض المنازل. وفي هذا نجد التفسير الحقيقي لقوى الاحتمال عند الإيطاليين عندما تحل بهم كوارث الطبيعة؛ فالزلزال ينفذ ما ينص عليه القانون ولا يقوم بتنفيذه، وهو المساواة بين الناس جميعًا.

أمَّا ما بدا لأهالي ناحيتنا الفقراء أنه مصيبة أشد خطرًا من أي كارثة طبيعية فهو ما حدث بعد الزلزال؛ ذلك أن برنامج إعادة بناء الدولة قد بدأ تنفيذه مصحوبًا بدسائس لا حصر لها، وبالخداع والسرقة والغش والتزوير، وبكل ضروب الخيانة. وقد أمدَّني ببعض المعلومات من هذا القبيل عن أعمال إجرامية معينة اقترفها كبار مهندسي إحدى المصالح الحكومية صديقٌ لي طردته هذه المصلحة من خدمتها. ولم تدهشني هذه المعلومات بقدر ما أثرت في نفسي، فسارعت إلى نقل هذه الوقائع إلى بعض أصحاب النفوذ ممن عرفت فيهم الاستقامة والنزاهة لكي يفصلوا هؤلاء المجرمين. ولم ينكر أصدقائي الشرفاء صحة ما ذكرت لهم، بل أيدوه بما لديهم من خبرة. ولكنهم — برغم هذا — نصحوني بأن أبتعد عن هذا الموضوع، وألا أشتبك بسذاجتي في أمور من هذا القبيل. وقالوا لي مخلصين: «أنت شاب، ولا بد لك من إتمام دراستك، وأمامك مستقبلك تفكر فيه، ولا ينبغي لك أن تعرِّض نفسك لأخطار أمور ليست مما يخصك.» قلت: «لا شك أنه من الأفضل أن يصدر التشهير بهؤلاء الخونة من كبار مثلكم، لديهم سلطة ونفوذ، وألا يصدر من شاب في السابعة عشرة من عمره.»

وأصابهم الذعر من قولي، وأجابوني بقولهم: «لسنا مجانين، سنُعنى بالأمور التي تخصنا، وليس لنا شأن بأمور غيرنا من الناس.»

ثم تحدثت في الموضوع بعد ذلك مع بعض القساوسة أصحاب القداسة، ثم مع بعض الشجعان من أقاربي. وقد توسلوا إليَّ جميعًا أن أبتعد عن مكمن الخطر هذا، وأن أنصرف إلى دراستي، وأفكر في مستقبلي وفي عملي، وذلك بالرغم من إقرارهم بأنهم كانوا على علم بالأمور الشائنة التي كانت تجري في ذلك الحين. وأجبتهم بقولي: «سأفعل ذلك مسرورًا، ولكن أليس من بينكم أحد على استعداد لأن يعلن عن هؤلاء اللصوص؟» وردوا عليَّ وهم يشعرون بالفضيحة: «لسنا مجانين؛ فإن هذه الأمور ليست مما يخصنا.»

وعندئذٍ بدأت أفكر جديَّا أنه قد يكون من الخير أن أقوم — مع غيري من الشبان — ﺑ «ثورة» جديدة تنتهي بالقضاء على مكاتب المهندسين الفاسدين قضاءً مبرمًا. غير أن صاحبي الذي دلني من قبلُ على انحرافهم في المعاملة صرفني عن هذا العزم. وكان أكبر مني سنًّا وأكثر خبرةً. واقترح عليَّ أن أعلن الاتهام في إحدى الصحف. ولكن أي صحيفة؟ فقال لي: «هناك صحيفة واحدة يمكن أن تهتم بنشر اتهامك، وهي صحيفة «الشيوعية».» ومن ثَم شرعت في العمل، وكتبت ثلاث مقالات، وهي أول ما كتبت في حياتي، وعرضت في تفصيل السلوك الفاسد لمهندسي الحكومة من ناحيتنا، وبعثت بها إلى صحيفة «أفانتي». وقد نُشر المقالان الأولان فورًا، وأثارا تعليقًا كثيرًا من قراء الصحيفة، ولكنهما لم يثيرا قَط أحدًا من المسئولين. أمَّا المقال الثالث فلم يظهر؛ لأن أحد الزعماء الشيوعيين — كما علمت فيما بعد — تدخل مع هيئة التحرير. وقد أظهر لي ذلك أن وسائل الغش والخداع التي كنا نعانيها كانت أوسع انتشارًا مما بدا لي أول الأمر، وأن فروعها تمتد حتى إلى الشيوعية دون أن يراها أحد. ومهما يكن من شيء، فإن الاتهام الجزئي الذي ظهر في الصحيفة دون أن يتوقعه أحد كان يحتوي على مادة تكفي لإقامة عدد من القضايا، أو على الأقل لتأليف لجنة للتحقيق، غير أن شيئًا لم يحدث.

(١-٢) إغراء الشيوعية

أعلم تمام العلم أن الرأي الذي كنت أحاول أن أعرضه في هذه الصفحات قد بلغ من الإيجاز حدًّا يجعله رأيًا متكلفًا. وإن كنت أذكر هذا الاعتراض الآن فليس ذلك لأني أود أن أنبذ الرأي أو أن أقسم بالصحة المطلقة لما ذكرت. وأنا أؤكد للقارئ صدق ما رويت وإن كنت لا أضمن مطابقته للواقع. وأنا نفسي كثيرًا ما أدهش حينما أجد — عندما أعود بذاكرتي إلى تلك الفترة من حياتي التي قضيتها مع زملائي، وهي فترة بعيدة تكاد تكون قبل التاريخ — كيف لا يستطيع هؤلاء الزملاء أن يذكروا البتة، أو كيف يذكرون في غموض — إن هم تذكروا — إطلاق تلك الحوادث التي كان لها أثر حاسم في نفسي؛ في حين أنهم — على نقيض ذلك — يستطيعون أن يذكروا في وضوح شديد حوادث أخرى كانت بالنسبة إليَّ تافهة عديمة الدلالة. فهل كان هؤلاء الزملاء جميعًا «شركاء في الإثم على غير وعي منهم؟ وبأي قضاء محتوم، وبأي داعٍ يختار الإنسان — في سن معينة — لنفسه إما أن يكون شريكًا في الإثم، وإما أن يكون متمردًا، على ما في هذا الاختيار من أهمية؟» من أي مصدر يستمد بعض الناس عدم احتمالهم للظلم من تلقاء أنفسهم، بالرغم من أن الظلم لا يقع إلا على غيرهم من الناس؟ ومن أين يستمدون ذلك الشعور المفاجئ بالذنب عندما يجلسون إلى موائد مُترَعة بالطعام، في حين أن غيرهم يتضوَّرون من الجوع، وتلك الكبرياء التي تجعلهم يؤثرون الفقر والسجن على الاحتقار؟

لست أدري، وربما لا يدري أحد، أنه في لحظات معينة يتحول أكمل اعتراف وأعمقه إلى مجرد سرد للوقائع، ليست فيه إجابة عن هذا السؤال. وكل من فكَّر في نفسه أو في غيره جديًّا يعلم أن بعض القرارات تصدر عن دافع شديد الخفاء، وأن بعض الاتجاهات غامضة لا يمكن تفسيرها.

ففي لحظة من لحظات عصياني امتزج الحب بالكراهية. والوقائع التي تسوغ شعوري بالمهانة، والدوافع الخلقية التي بعثت فيَّ هذا الشعور، هذه وتلك كانت تصدر مباشرةً عن الإقليم الذي وُلدت فيه. ولعل هذا يفسر كذلك لماذا كان كل ما كتبت حتى اليوم، وربما ما سوف أكتبه في المستقبل، برغم رحيلي إلى الخارج وإقامتي به، يتعلق كله بهذا الإقليم عينه، أو على وجه أدق، بذلك الجزء منه الذي تقع عليه العين من البيت الذي وُلدت فيه، وهو لا يزيد على ثلاثين أو أربعين كيلومترًا عن يمين وعن شمال. وهو إقليم كغيره من أقاليم أبرزي، تافه من حيث تاريخه الدنيوي، ويكاد يكون كله مسيحيًّا وينتمي إلى العصر الوسيط في تكوينه، والمباني الوحيدة التي تستحق الذكر أديرة وكنائس، وأبناؤه اللامعون كانوا لعدة قرون قديسين ونحَّاتين للصخور. وظروف الحياة الإنسانية به كانت دائمًا شاقة بوجه خاص. وأهل الإقليم يتقبلون الألم دائمًا باعتباره أول قوانين الطبيعة، كما يلقى الصليب ترحيبًا وتكريمًا من أجل ذلك. ومذهب الفرنسسكان والفوضى كانا دائمًا طريقين من طرق العصيان التي يمكن للنفوس الحية في ذلك الجزء من العالم أن تسلكها. ولم يستطع رماد الشك أن يخنق، في قلوب أولئك الذين كانوا أشد من غيرهم عناءً، الأمل القديم في إقامة مملكة السماء على الأرض، والأمنية القديمة في أن تحل الرحمة محل القانون، والحلم القديم الذي دار في رأس جيوا كشينو دافيور و«الطائفة الروحانية» و«أتباع السماء».١ وهذه حقيقة لها أهمية أساسية كبرى؛ فهي في إقليم قاحل مُجهِد مُتعِب لا رجاء فيه كإقليمنا، كنز حقيقي، وثروة لا تُحَد. غير أن رجال السياسة لا يدركون وجودها، ورجال الدين يخشونها، وربما لا يدري من أين مأتاها إلا القديسون. وأمَّا ما كان بالنسبة إلينا دائمًا أشد عسرًا، إن لم يكن مستحيلًا، فهو أن نتلمس الطرق والوسائل التي تؤدي إلى ثورة سياسية، لكي نخلق مجتمعًا حرًّا منظمًا.
ولقد ظننت أني وصلت إلى هذا الاكتشاف عندما انتقلت إلى المدينة وبدأت أول اتصالي بحركة العمال. وكان ذلك بالنسبة إليَّ نوعًا من أنواع الصعود إلى السماء، والإنقاذ من عزلة لا تحتمل، والوقوف على أرض ثابتة، وكأنه اكتشاف قارة جديدة.
ولما بلغت هذه المرحلة أدركت الضرورة المُلحَّة لفهم تطورات العمل الذي شُغلت به، والتحقق منه، ومقارنته بالدوافع التي ساقتني أصلًا إليه، واستولت عليَّ هذه الفكرة تمامًا، وسلبتني كل هدوء نفسي. وإذا كان لعملي الأدبي الضئيل أي معنًى، أو حللته إلى أعماقه، فهو هذا: لقد حان الوقت الذي بات معنى الكتابة فيه عندي ضرورة مطلقة لا مناص منها، وحاجة قصوى إلى تحرير نفسي من فكرة استولت على كل قلبي، وإلى تبيان معنى هذا الموقف الأليم الحاسم الذي كنت أقفه، وتعيين حدوده وحدود ذلك الولاء الأعمق الذي كنت لا أزال أحس به. لم تكن الكتابة بالنسبة إليَّ قط، ولن تكون، إذا استثنينا لحظات موفقة من النشوة الروحية، متعة جمالية هادئة. إنما كانت استمرارًا للنضال أقوم به في ألم وعزلة. أمَّا عن الصعوبات وأوجه النقص في التعبير الذاتي التي كنت أكابدها أحيانًا فلم تنشأ عن قصور في التزام قواعد الكتابة الجيدة، وإنما نشأت عن ضمير كان يُصرُّ في عناد على احترام نزاهته، وهو يناضل في سبيل علاج بعض الجراح الخفية، والتي ربما كانت تستعصي على الشفاء؛ إذ ليس هناك من شك في أن الإخلاص وحده لا يكفي، إذا أراد المرء أن يكون صادقًا.

ولم يكن التحاقي بحزب الثورة العمالية يعني مجرد توقيعي مع أفراد منظمة سياسية، إنما كان معناه التحول من عقيدة إلى أخرى، والإخلاص التام للعقيدة الجديدة؛ ففي تلك الأيام كان معنى اعتناق الاشتراكية أو الشيوعية علنًا أن يلقي المرء بنفسه في مهب الريح، وأن ينفصل عن أبويه، ويتشرد بغير عمل. وإذا كانت النتائج المادية لهذا التحول شديدة قاسية، فإن صعوبات الانتقال الفكري من محيط إلى آخر لم تكن أقل إيلامًا. ولقد اهتزَّ من أساسه عالمي الخاص الداخلي، عالم «العصور الوسطى» الذي ورثته واستقر في أعماق نفسي، والذي أخذت عنه — لو رجعت إلى الأصول الأولى — اتجاهي الأول نحو الثورة، اهتز من أساسه كأنه تعرَّض لزلزال عنيف، وانصهر كل شيء، وأصبح كل أمر مشكلة: الحياة، والموت، والحب، والخير، والشر، والحق؛ كل ذلك تغيَّر معناه أو فقد كل معنًى سابق له. من اليسير أن يجابه المرء الخطر حينما لا يكون وحيدًا، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يصف اليأس الذي يستولي على القلب حينما يتخلى المرء إلى غير رجعة عن إيمانه بخلود الروح؟ كان الأمر بالنسبة إليَّ أكثر جدية من أن أناقشه مع أي إنسان آخر. ولربما رأى زملائي في الحزب أن المسألة لا تستحق إلا السخرية، ولم يعد لي بعد هؤلاء الزملاء صديق؛ ومن ثَم تلونت الدنيا في عيني بلون آخر، وسِرت وحيدًا بغير رفيق. ما أشد حاجة أمثالي إلى الإشفاق!

إن ظروف الحياة التي فرضها على الشيوعيين الغزو الفاشستي للدولة كانت شاقة عسيرة، ولكنها إلى جانب ذلك ساعدت على تأييد بعض النظريات السياسية الشيوعية، كما هيَّأت الفرصة لإيجاد نوع من أنواع التنظيم يتفق إلى حد كبير مع العقلية الشيوعية؛ ومن ثَم فقد تحتَّم عليَّ أنا كذلك أن أهيئ نفسي لعدة سنوات لأن أعيش غريبًا في بلادي، فكان عليَّ أن أغيِّر اسمي، وأن أتخلى عن كل صلة لي سابقة مع أسرتي أو أصدقائي، وأن أحيا حياة زائفة لكي أبعد عن نفسي كل شك في اشتراكي في حركة انقلابية؛ فأمسى الحزب هو الأسرة، وهو المدرسة والكنيسة والثكنات، وكل ما يقع بعيدًا عن الحزب لا بد من تدميره وإعادة بنائه من جديد. وما أشبه هذه الحالة النفسية التي يُمسي خلالها كل مجاهد بمفرده تدريجًا صورة مكررة من نظام جماعي، بتلك الحالة النفسية التي كانت شائعة في بعض النظم الدينية والكليات العسكرية، مع تطابق في النتائج يكاد يكون تامًّا؛ فكانت كل تضحية تقابل بالترحاب باعتبارها مساهمة شخصية في «دفع ثمن الخلاص الجماعي». ويجب أن نؤكد أن الروابط التي كانت تصل بيننا وبين الحزب كان تشتد وثوقًا، لا أقول برغم المخاطر والتضحيات التي كانت تحيط بنا، ولكن بسبب هذه المخاطر والتضحيات عينها. ويفسر لنا ذلك جاذبية الشيوعية لبعض طوائف الشباب من الرجال والنساء، وللطبقة المثقفة، وللأفراد الذين يتصفون بشدة الحساسية وسماحة النفس ممن يعانون كثيرًا من عبث المجتمع البرجوازي.

(١-٣) الاستبداد الشيوعي

لم يكن عجيبًا أن أخرج من الأزمات الداخلية الأولى التي هزت أركان الشيوعية الدولية بشيء كثير من الشك في الشيوعية ذاتها. وقد نشأت هذه الأزمات من أن الأحزاب الأساسية التي تمسكت بالشيوعية الدولية الجديدة كانت أبعد ما تكون عن التجانس، حتى بعد القبول الرسمي للشروط الواحدة والعشرين التي وضعها لينين ليتحكم في القبول.

حدثت هذه الأزمات الداخلية في محيط بعيد جدًّا عن محيطي؛ ومن ثَم فلم يكن لها فيَّ أثر. ولا أقول ذلك مفاخرًا، بل إني — على العكس من ذلك — إنما أحاول تفسير الموقف. إن اطراد التدهور في الشيوعية الدولية نحو الاستبداد والبيروقراطية أثار في نفسي النفور والاشمئزاز، غير أنه كانت هناك أسباب اضطرارية حملتني على التردد في التخلي عنها، منها عطفي على الزملاء الذين ماتوا أو أُودعوا غياهب السجون، وانعدام وجود أية قوة منظمة تناهض الفاشستية في إيطاليا في ذلك الحين، والتدهور السياسي السريع — والتدهور المعنوي في بعض الأحيان — الذي حل بكثير ممن تخلَّوا من قبلُ عن الشيوعية، وأخيرًا توهمي بأن الشيوعية الدولية ربما عادت إليها صحتها على أيدي العمال الأجراء في بلاد الغرب، إذا وقعت أزمة داخل النظام السوفيتي.

وفيما بين عامَي ١٩٢١ و١٩٢٧ في أكثر من مناسبة تردَّدت على موسكو، واشتركت — كعضو في الوفود الشيوعية الإيطالية — في عدد من المؤتمرات والاجتماعات التي عقدتها اللجنة التنفيذية. وكان أشد ما أذهلني في الشيوعية الروسية العجز المطلق — حتى عند أشخاص أفذاذ حقًّا من أمثال لينين وتروتسكي — عن الإنصاف في الحكم عند مناقشة الآراء التي كانت تتعارض مع آرائهم. وكل معارض — لمجرد الجرأة على المعارضة — سرعان ما يوصم بأنه خائن، نهَّاز للفرص، مأجور. فالشيوعية الروسية لا تعرف «المعارضة الصادقة». أيُّ انحراف هذا الذي دفع أولئك الذين يُسمونهم الماديين والعقليين إلى أن يضعوا في جدلهم العقائد فوق قوة الفكر والمنطق على الإطلاق؟! إننا لا نجد في التاريخ تعصبًا شبيهًا بهذا إلا إذا عُدنا إلى عهد محاكم التفتيش.

وعندما هممت بمغادرة موسكو في عام ١٩٢٢م قالت لي ألكسندرا كولونتاج: «إذا قرأت في الصحف أن لينين قد ألقى عليَّ القبض لأني سرقت الملاعق الفضية بالكرملين، فاعلم أن ذلك معناه أني لست على وفاق تام معه بشأن مشكلة صغيرة من مشكلات السياسة الزراعية أو الصناعية.» وقد اكتسبت كولونتاج روح السخرية في الغرب؛ ولذا فقد كانت لا تستخدمها إلا على قوم من الغرب. وحتى في ذلك الحين، في تلك الأعوام الحماسية، من إقامة النظام الجديد، في ذلك الوقت الذي لم تسيطر فيه العقيدة الجديدة سيطرة تامة على الحياة الثقافية، كان من أشق الأمور أن نصل إلى اتفاق مع أي شيوعي روسي في أبسط الأمور، وفي أشدها وضوحًا في أعيننا، كان من أشق الأمور لا أقول أن نصل إلى اتفاق، بل على الأقل أن نتبادل التفاهم، حينما كنا نتحدث عن معنى الحرية عند رجل من الغرب، حتى إن كان من العمال. ولقد قضيت مرةً عدة ساعات محاولًا أن أشرح لإحدى مديرات مصلحة النشر الحكومية لماذا يجب عليها على الأقل أن تشعر بالخجل من جو التثبيط والإرهاب الذي كان يعيش فيه الكُتاب السوفيت، ولم تستطِع إدراك ما كنت أحاول أن أحدثها عنه.

قلت لها على سبيل المثال: «إن الحرية هي إمكان الشك وإمكان الوقوع في الخطأ، وإمكان البحث والتجريب، وإمكان الرد بكلمة «لا» على أي صاحب سلطان — سواء في ميدان الأدب، أو الفن، أو الفلسفة، أو الدين، أو الاجتماع، أو حتى السياسة.» فتمتمت هذه الموظفة الكبيرة في المحيط الثقافي السوفيتي مذعورة، وقالت: «ولكن هذا معناه معارضة الثورة …»

(١-٤) ثورة استالين المضادة

كان لكل الصعوبات التي تجابه حكومة السوفيت صداها في الشيوعية الدولية، بالإضافة إلى الخلافات الداخلية الناجمة عن التنافر بين الأعضاء الذين يؤلفونها. وقد اتضح بعد وفاة لينين أن حكومة السوفيت لا تستطيع أن تتحاشى مصير كل دكتاتورية، وهو ضيق الهرم السياسي تدريجًا في عناد لا يلين. ولقد لاقى الحزب الشيوعي الروسي — الذي قمع كل الأحزاب الأخرى المنافسة، وقضى على إمكان إجراء أية مناقشة سياسية عامة في الجمعيات السوفيتية — نفس المصير. وسرعان ما حلَّت سياسة الأداء الحزبية محل الآراء السياسية للأعضاء. ومنذ تلك اللحظة كان يقضي على كل خلاف في الرأي بين أعضاء الهيئة الموجهة بإبادة الأقلية والحكم عليها بالموت. وبدأت الثورة — التي قضت على أعدائها — تلتهم أعز أبنائها. ولم تعرف الآلهة العطشى أي تهاون أو مهادنة.

وفي مايو من عام ١٩٢٧م اشتركت مع تجلياتي كمُمثِّل للحزب الشيوعي الإيطالي في جلسة غير عادية للهيئة التنفيذية للشيوعية الدولية بعد تضخمها. وقد وفد تجلياتي من باريس، حيث كان يدير السكرتيرية السياسية للحزب، ووفدت من إيطاليا، حيث كنت مسئولًا عن الهيئة السرية، والتقينا في برلين، وواصلنا المسير إلى موسكو معًا. وفي أول جلسة حضرناها خُيِّل إليَّ أننا وصلنا في وقت متأخر جدًّا، وكنا في مكتب صغير في مقر رياسة الشيوعية الدولية، وكان ثالمان الألماني يقوم برياسة الجلسة، وقد شرع فورًا في قراءة مشروع قرار ضد تروتسكي، لكي يقدم في الاجتماع العام لجميع الأعضاء. وقد استنكر هذا القرار في أقسى عبارة وثيقة كان تروتسكي قد وجَّهها إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي. وكان الوفد الروسي في اجتماع ذلك اليوم للهيئة السرية للرؤساء يتكون من أعضاء أفذاذ، وهم: استالين، وريكوف، وبخارين، ومانيولسكي. وبعد قراءة القراء سألنا ثالمان: هل نحن نوافق على الاقتراح؟ وكان من رأي أوتومار كونين الفنلندي أن القرار ليس شديدًا بالدرجة المطلوبة. وحيث إن أحدًا من الحاضرين لم يطلب الكلمة، فقد قدمت اعتذاري — بعد مشورة تجلياتي — عن الحضور متأخرًا، بحيث لم أستطِع أن أطلع على الوثيقة المستنكرة. فأعلن ثالمان صراحةً «بأنهم كذلك لم يطلعوا على الوثيقة».

وقد آثرت ألا أصدق أذني، فكررت اعتراضي بصورة أخرى، وقلت: «قد يكون من الحق أن تستنكر وثيقة تروتسكي، غير أنه من الواضح أني لا أستطيع استنكارها قبل أن أطلع عليها.»

فكرَّر ثالمان القول «بأنهم أيضًا لم يطلعوا عليها، كما لم تطلع عليها أكثرية الوفود الحاضرة، فيما خلا الروس …»

وهنا تدخَّل استالين، وكان يقف في أحد جوانب الغرفة، وبدا كأنه الشخص الوحيد بين الحاضرين الذي اتسم بالهدوء وضبط النفس.

وقال: «إن المكتب السياسي للحزب لم يرَ ضرورة لترجمة وثيقة تروتسكي وتوزيعها بين ممثلي الهيئة التنفيذية الدولية؛ لأن بالوثيقة إشارات عديدة إلى سياسة حكومة السوفيت …»

فسألني أرنست ثالمان: هل اقتنعت بردِّ استالين؟ فقلت: «إنني لا أعارض في حق المكتب السياسي للحزب الشيوعي الروسي في احتفاظه بسرية أية وثيقة، ولكني لست أفهم كيف يمكن أن يطلب إلى غيرهم أن يستنكروا وثيقة مجهولة!» وهنا اشتد السخط عليَّ وعلى تجلياتي الذي بدا عليه تعضيد ما ذكرت.

وكان استالين من بين الحاضرين وحده الذي بقي هادئًا لا يساوره اضطراب، وقال: «إذا كان هناك عضو واحد يعارض في مشروع القرار فلن نتقدم به.» ثم أضاف إلى ذلك قوله: «وربما كان زملاؤنا الإيطاليون على غير علم تام بموقفنا الداخلي.» واقترح أن تؤجَّل الجلسة إلى الغد، وأن يُكلَّف أحد الحاضرين بقضاء المساء مع زملائنا الإيطاليين ليشرح لهم موقفنا الداخلي. وكل هذا الواجب الكريه إلى فاسيل كولاروف البلغاري.

وقد أدى الواجب بلباقة وروح فكهة؛ دعانا إلى تناول الشاي ذلك المساء في غرفته بفندق لوكس، ثم واجه هذا الموضوع الشائك بغير مقدمات، وقال مبتسمًا: «لنكن صرحاء، هل تظنون أنني اطلعت على هذه الوثيقة؟ كلا، لم أطلع عليها … وليس الموضوع يا أصحابي الإيطاليين الأعزاء موضوع الوثائق … إنه موضوع النضال من أجل السلطة بين مجموعتين متعاديتين لا يمكن التوفيق بينهما، وعلى المرء أن يختار بينهما. أمَّا أنا فقد تم اختياري؛ فأنا مع حزب الأغلبية. ومهما يكن ما تقول به الأقلية، ومهما يكن ما تفعله، وأي وثيقة تحررها ضد الأغلبية، أقول لكم مهما يكن ذلك، فإنني أؤيد الأغلبية، ولا تهمني الوثائق، فلسنا هنا في معهد علمي.» وصبَّ لنا الشاي في الأقداح مرةً أخرى.

وأخذ يتمعن فينا بعين المدرس الذي أُرغِم على معالجة شابَّين متمردين، ثم سألنا موجهًا إليَّ الخطاب بصفة خاصة: «هل كنت واضحًا في كلامي؟»

وأجبت قائلًا: «بكل تأكيد، كنت واضحًا جدًّا في الواقع.» ثم سأل مرةً أخرى قائلًا: «وهل أقنعتكم؟» قلت: «لا.» وأراد أن يعرف لماذا، قلت: «لا بد لي أن أشرح لك لماذا أعارض الفاشستية …»

وفي صبيحة اليوم التالي تكرَّر في غرفة الرؤساء السرية المنظر الذي حدث في اليوم السابق، وساد هذه الغرفةَ الصغيرة — التي حُشر فيها اثنا عشر منا — جوٌّ غير عادي من العصبية، وسأل استالين كولاروف قائلًا: «هل شرحت الموقف لزملائنا الإيطاليين؟» وأكَّد له البلغاري أنه شرحه شرحًا وافيًا. وكرَّر استالين ما قاله من قبلُ، وهو: «إنه إذا عارض في الاقتراح عضو واحد، فلن يقدم للجمعية العمومية، ولا يمكن أن يصدر قرار ضد تروتسكي إلا إذا كان إجماعيًّا.» ثم التفت إلينا وسأل: «هل زملاؤنا الإيطاليون يؤيدون مشروع القرار؟»

وشاورت تجلياتي ثم صرحت «بأنَّا نحتم الاطلاع على الوثيقة المذكورة قبل أن ننظر في الاقتراح …»

فقال استالين: «لقد سحبنا مشروع القرار.» وبعدئذٍ تكرَّر المنظر الهستيري الذي حدث في اليوم السابق، بالرغم من احتجاج كيوسنن وركوسي وبير وغيرهم احتجاجًا ينطوي على الاستنكار والغضب. واستنتج ثالمان من موقفنا «الشائن» أن اتجاه نشاطنا المضاد للفاشستية كله في إيطاليا لا بد أن يكون خاطئًا، وإذا كانت الفاشستية لا تزال متأصلة جدًّا في إيطاليا فذلك خطؤنا قطعًا؛ ومن أجل هذا طلب أن تُصفى سياسة الحزب الشيوعي الإيطالي تصفيةً شاملة.

وفي طريق عودتي قرأت في إحدى صحف برلين أن الهيئة التنفيذية للشيوعية الدولية قد وجهت نقدًا شديدًا إلى تروتسكي بسبب وثيقة أعدَّها بشأن الحوادث الأخيرة في الصين، فتوجهت إلى مكاتب الحزب الشيوعي الألماني، وطلبت إلى ثالمان أن يدلي بتفسير ما قرأت، وقلت له في حدة: «هذا غير صحيح.»

بَيد أنه ذكر لي أن ميثاق الشيوعية الدولية يخوِّل للرياسة — في الأمور العاجلة — أن تتخذ أي قرار باسم الهيئة التنفيذية.

(١-٥) استمرار إيماني بالشيوعية

أحسست في ذلك الحين كأنني رجل تلقيت ضربة شديدة على رأسي. بَيد أني ما زلت قائمًا على قدمي، أمشي وأتكلم وأشير، ولكن دون أن أدرك تمام الإدراك كل ما حدث.

غير أن الإدراك قد تم بعد ذلك في بطء وفي عسر خلال السنوات التالية، وما فتئت حتى يومنا هذا أفكر فيما أدركت، وأحاول أن أزداد له فهمًا. وإن كنت قد ألفت الكتب فلم يكن ذلك إلا محاولة مني للفهم، ولأن أجعل غيري كذلك يفهم. ولست البتة على يقين بأني بلغت غاية جهدي، والحقيقة هي أن اليوم الذي تركت فيه الحزب الشيوعي كان بالنسبة إليَّ يومًا حزينًا، كان كأنه يوم حداد، حداد على شبابي الضائع. وقد نشأت في إقليم يلبس أهله فيه الحداد فترةً أطول منها في أي إقليم آخر. وليس من اليسير على المرء أن يتحرر من تجربة عميقة كتلك التي مرَّت بي في المنظمة السرية للحزب الشيوعي. إن شيئًا من تلك التجربة يبقى في النفس ويترك في سلوك المرء أثرًا يدوم ما دام على قيد الحياة. ويستطيع المرء في الواقع أن يلحظ كيف أن الشيوعيين السابقين يمكن تمييزهم، إنهم يؤلفون طائفة منفصلة، كما يؤلف رجال الدين السابقون والضباط المتقاعدون، وما أكثر الشيوعيين السابقين اليوم! ولقد قلت مرةً لتجلياتي مازحًا من عهد قريب: «إن المعركة الأخيرة سوف تنشب بين الشيوعيين والشيوعيين السابقين …»

إن إنعام النظر في التجربة التي مررت بها ساقني إلى تعميق الدوافع إلى انفصالي الذي يرجع إلى أبعد من البواعث الطارئة التي أدت إليه. غير أن إيماني بالاشتراكية (الذي أستطيع فيما أحسب أن أقول إن حياتي كلها تشهد به) بقي أشد حيويةً عندي من أي عهد سبق. ويرجع هذا الإيمان في صميمه إلى ما كان عليه حينما ثُرتُ أول الأمر على النظام الاجتماعي القديم، وهو رفض الاعتراف بوجود قدر مقسوم، ومد الدوافع الخلقية من محيط الفرد والأسرة المحدود إلى مجال النشاط الإنساني بأسره، والحاجة إلى الأخوة الفعالة، وتأكيد سمو الإنسان الفرد على كل النظم الاقتصادية والاجتماعية التي تتعسف به. وأضفت إلى ذلك بمر السنين الشعور اللدني بكرامة الإنسان والإحساس بتقدير ذلك الحافز في الإنسان الذي يسعى دائمًا إلى التجاوز عن حدوده، ويرجع في أساسه إلى شعوره الأزلي بعدم الاطمئنان. ولست أحسب أن هذا الضرب من الاشتراكية خاص بي وحدي على أية صورة من الصور. وإن هذه «الحقائق المتهورة» التي ذكرتها لَترجع إلى ما قبل ماركس. وقد وجدت في النصف الثاني من القرن الماضي ملاذًا لها في حركة العمال التي تولَّدت عن الرأسمالية الصناعية، وما فتئت مصدرًا من مصادر وحيها الدائمة. ولطالما عبرت عن رأيي في العلاقة بين الحركة الاشتراكية والنظريات الاشتراكية. وهذه العلاقة ليست جامدة ولا ثابتة على الإطلاق؛ فالنظريات — مع تطور الدراسات الجديدة — قد تصبح بالية أو منبوذة، ولكن الحركة تواصل سيرها. وليس من الدقة في شيء على أية حال — بالنسبة إلى الصراع القديم بين أصحاب المبادئ وأصحاب التجارب في حركة العمال — أن أُعَد من بين أعضاء الطائفة الثانية. ولست أتصور السياسة الاشتراكية مرتبطة بأية نظرية من النظريات، إنما هي مرتبطة بالإيمان. وكلما اشتد تدعيم النظريات الاشتراكية بأنها «تقوم على أساس علمي» كانت أقرب إلى صفة الزوال، في حين أن القيم الاشتراكية دائمة. وليس التمييز بين النظريات والقيم ملحوظًا بدرجة كافية، ولكنه أساسي جذري. فعلى مجموعة من النظريات يستطيع المرء أن يؤسس مدرسة من المدارس، في حين أنه على مجموعة من القيم يستطيع أن يؤسس ثقافة من الثقافات، أو مدنية من المدنيات، أو طريقة جديدة يعيش عليها الناس معًا.

المصادر

كل المقتطَفات مقتبَسة مما أسهم به أجنازيو سيلون في مجموعة المقالات التي صدرت تحت عنوان «المعبود الذي أخفق»، والتي جمعها رتشارد كروسمان.
١  وهم من أتباع البابا ساستين الخامس، وهو ناسك من أبرزي، انتُخب للبابوية في أغسطس من عام ١٢٩٤م، ثم تنازل عنها بعد ثلاثة أشهر ونصف شهر، وانخرط في سلك القديسين في عام ١٣١٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤