الفصل الرابع

إ. م. فورستر

(١٨٧٩م–…)

يمكن تعريف فورستر تعريفًا صحيحًا بأنه إنساني ترجع أصوله الفلسفية إلى أرازمس ومونتيني. وينبغي لنا أن نضيف إلى هذه الأصول التي تتصف بشيء من الشك البارد يسري في عروقها دفعة قوية من الرومانتيكية المعدلة وميلًا شخصيًّا بحتًا لا يسبب للقارئ ضيقًا نحو البر والمحبة. كان ينعت فورستر بأنه «من أعقل الكُتاب الأحياء». وإذا أمكن للعقل أن يخلو من كل أثر من آثار الغباء، كان هذا الوصف ملائمًا له كل الملائمة. وروايته «رحلة إلى الهند» التي نُشرت في عام ١٩٢٤م ربما كانت أشهر ما عُرف وأكثر ما قُدر له في أمريكا. ومع ذلك فبعض النُّقاد يرون أن روايته الأولى «حيث تخشى الملائكة أن تطأ»، التي قدم بها أهم موضوعاته وآياته الكبرى «هواردز إند»، من الأعمال الفنية التي لها قيمة أسمى.

إنَّ إ. م. فورستر هو في الواقع أكثر من أن يكون واحدًا من الكُتاب الذين يتكلمون الإنجليزية في هذا العهد؛ فهو شخصية أدبية يُسمونه «أستاذًا» في مدرسة كمبردج بلومزبري، ويمكن أن يُعَد من تلاميذه صديقته الكبرى المرحومة فرجينيا وولف والروائية الموهوبة إليزابث بوين. وفورستر — كغيره من الكُتاب المعاصرين المتنوعين الآخرين — اهتم اهتمامًا كبيرًا بالنقد، وإن يكن ما أداه في هذا الباب لا يُقاس إلى ما أداه ت. س. إليوت.

كان فورستر بمثابة الناقد والضمير اللاذع للطبقة الإنجليزية الوسطى المرتفعة التي تخرَّج أبناؤها في المدارس الخاصة، وكانوا نماذج بشرية ﻟ «القلب الذي لم يتطور». وكان جانب من عمل فورستر يتجه نحو إثارة الوادعين، وإرغامهم على مواجهة «المنبوذين» اجتماعيًّا من المجتمع غير الإنجليزي أو من الطبقة الدنيا الإنجليزية. كما يتجه نحو إثارة الشعور الصحيح والتصرف التلقائي الذي ينبغي أن يحطم الوجود البشري الذي ينقسم طبقات. وبرغم هذا فليست لدى فورستر رسالة ذات صبغة «اجتماعية»، ولم يهدف إلا إلى إنسانية أغنى وأكثر اعترافًا بالفرد. وقد بلغ حبه لبلاده — إنجلترا — من العمق والثقة ما جعله يُوجِّه إليها أشد الأسئلة إقلاقًا للضمير (كما فعل في روايته «رحلة إلى الهند») دون أن ينسى أنه يشغل نفسه في هذا أساسًا ﺑ «مشكلة عائلية». وربما كان ما ارتآه فورستر من عهد باكر جدًّا وعده الخلل المؤلم في الضمير المستبد، و«الوحشية المنطوية على الغباء التي تحطم المشكلات بدلًا من أن تعمل على حلها»، ربما كان ذلك ما قوَّى إيمانه في وسيلة أخرى هي وسيلة الحرية والتسامح، دون أن يقع في الوهم المألوف بأن هذا المزيج المركب من الخير والشر في طبيعة البشر يمكن أن يتحلل إلى عنصرين منفصلين لا يشوب أحدهما الآخر؛ ومن ثَم فهو يحيي الديمقراطية مرتين بدلًا من ثلاث.

وُلد إدوارد مورجان فورستر في لندن في أول يوم من أيام عام ١٨٧٩م. ويستطيع فورستر أن يزعم لنفسه ميراثًا من امتياز الطبقة الوسطى المثقفة، عن طريق أسرة أمه. أمَّا عن طريق أبيه، الذي كان مهندسًا معماريًّا من أصل مختلط من الإنجليز والويلزيين، فإن الكاتب يستطيع أن يزعم لنفسه شيئًا أقل من ذلك صلابةً ولكنه أشد تحررًا، وذلك هو الميل نحو الابتكار الخيالي. وقد كتب فورستر عن تربيته الأولى حينما كان تلميذًا «خارجيًّا» بمدرسة تنبردج، حيث كانت إحساساته الأليمة من عدم شعوره بالامتزاج بالمدرسة تصطحب بتصور أشد لما يمكن أن يعنيه الامتزاج بها من مصير أشد للنفس تحطيمًا. وقد وجد البلسم الشافي لروحه الجريحة في كلية كنج بكمبردج، ذلك المركز العلمي الذي ربطته به علاقة ودية دامت مدى الحياة. وهناك — كطالب — اكتسب صداقة ج. لويس دكنسن، الذين رحل معه بعد بضع سنوات إلى الهند. وبعدما انتهى من دراسته بالكلية بوقت قصير قصد إيطاليا حيث كتب بعض رواياته الأولى. ولما عاد إلى إنجلترا في عام ١٩٠٧م ألقى بعض المحاضرات بكلية العمال، ثم أتم روايته «الغرفة ذات المنظر»، كما أتم روايته «هواردز إند» في عام ١٩١٠م. وقُبيل الحرب العالمية الأولى اشتغل فورستر بالصحافة الأدبية، ومارَس كتابة المسرحيات، وفي أثناء رحلته إلى الهند مع دكنسن شرع يسجل الملاحظات تمهيدًا لرواية عن الهنود وعن الإدارة الاستعمارية البريطانية، ومشكلة الإمبراطورية. وخلال الحرب العالمية الأولى اشتغل فورستر بشئون الحرب في الإسكندرية، ولم يعد إلى لندن حتى أعلن السلام، ومكَّنته رحلة ثانية إلى الهند في عام ١٩٢١م من إتمام مذكراته لإخراج الرواية. وفي عام ١٩٢٤م نشر «رحلة إلى الهند» التي نالت جوائز أدبية عديدة، ومن بينها جائزة «جيمز تيت بلاك مموريال». وفي عام ١٩٢٧م دعا فورستر إلى إلقاء محاضرات كلارك السنوية بكلية كنج في كمبردج، وقد اختار موضوعًا لمحاضرته «أوجه الرواية» الذي ظهر فيما بعدُ على شكل كتاب بهذا العنوان.

وبالرغم من أن فورستر من الناحية الدستورية بعيدٌ كل البعد عن النشاط السياسي، فإن اهتمامه بالثقافة، واعتمادها — الذي لا محيص عنه — على الحرية، جعله على وعي تام بالتطورات السياسية في هذا القرن. وقد استعرض الفترة التي تقع بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ونعتها بأنها «المدخل النحس إلى عصرنا الحاضر». وفي إذاعة له في أثناء الحرب العالمية الثانية ضد النازية قال: «إنني بحكم مهنتي ككاتب، لا أعرف شيئًا عن الاقتصاد أو السياسة، ولكني شديد الاهتمام بما يُسمونه بالثقافة — وهي تسمية ملائمة — وأريد لها الازدهار في العالم كله.» وبهذا الالتزام دخل فورستر المعركة ضد حكم الاستبداد، وضد مبادئه في الرقابة، وضد العدو الداخلي، الذي يُسمِّم الجو الذي تتنفس فيه الحرية الفردية بعدم التسامح والتحيز العنصري والتعصب الذميم. ويعترف ليونل نزلنج للرجل بقدره في كتاب له عنه، يقول فيه: «إنه أحد رجال الفكر الذين لم يؤدِّ بهم تفكيرهم قَط إلى الزعم بأنهم فوق البشر، والذين لا ينزلون عن مستوى البشر إذا أحاطت بهم مُلمة من المُلمات.»

والمختارات التالية مأخوذة عن كتاب «تحيتان للديمقراطية»، وهو مجموعة مقالات نُشرت في عام ١٩٥١م.

(١) دفاع عن الفردية

إ. م. فورستر

(١-١) الاعتقاد في الأشخاص

إنني لا أعتقد في «العقيدة». غير أن عصرنا هذا عصر الإيمان، ومن حولنا مذاهب كثيرة مجاهدة، بحيث يتحتم على المرء دفاعًا عن نفسه أن يكوِّن لنفسه مذهبًا من المذاهب. وفي عالم يكاد يتمزق من الاضطهاد الديني والعنصري، في عالم يسوده الجهل، والعلم — الذي كان ينبغي أن يسود — يلعب دور التابع الإمعة، في مثل هذا العالم لا يكفي التسامح والعطف وحسن المعاملة، بالرغم من أن هذه الصفات هي التي تهم الإنسان فعلًا، وإذا كان الجنس البشري لا ينهار فلا بد لها أن تكون في الطليعة قبل أن ينقضي وقت طويل، ولكنها صفات لا تكفي في الوقت الحاضر، ولا يزيد أثرها قوةً عن أثر زهرة محطمة تحت حذاء عسكري، فهي تنقصها الصلابة، حتى إن كانت تخشوشن بالممارسة. والإيمان في نظري هو الذي يكسبها الصلابة، فهو أشبه بالدعامة العقلية التي يجب ألا تُقام إلا بالقدر الضئيل جهد الاستطاعة. وإني لشديد الكره لهذه الطريقة، ولا أعتقد فيها البتة لذاتها، وأختلف في هذا عن أكثر الناس الذين يعتقدون في «العقيدة»، بل إنهم ليتأسفون لأنهم لا يستطيعون أن يستسيغوا منها أكثر مما فعلوا. وإني لأستمد الشريعة من أرازمس ومونتيني، ولا أستمدها من موسى والقديس بطرس، ولا أقيم معبدي فوق جبل مقدس، وإنما أقيمه في جنة الفردوس التي يدخلها حتى من ليس على خلق، وشعاري هو: «يا إلهي، إني لا أعتقد، فاللهم أعنِّي على عدم الاعتقاد.»

ولكني أعيش في عصر الإيمان — وهو نوع العصر الذي كنت أسمع عنه الإطراء أيام الصبا. إنه عصر لا يسرُّ البتة حقًّا، وهو عصر دماء بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، وعليَّ أن أحتفظ بهدفي فيه، فمن أين أبدأ؟

إنما أبدأ بالعلاقات الشخصية، ففيها ألتمس شيئًا ثابتًا نسبيًّا في عالم مليء بالعنف والقسوة، وهو ليس ثابتًا كل الثبات؛ لأن السيكولوجيا قد شققت ومزقت فكرة «الشخص»، وبيَّنت لنا أن لدى كلٍّ منا ناحية لا تخضع للتعليل، وهي ناحية قد تطفو على السطح في أية لحظة من اللحظات وتحطم فينا الاتزان العادي. إننا لا نعرف حقيقة أنفسنا، ولا نستطيع أن نعرف حقيقة غيرنا؛ فكيف إذَن نستطيع أن نضع أي ثقة في العلاقات الشخصية، أو نتمسك بها وسط العاصفة السياسية؟ إننا من الناحية النظرية لا نستطيع ذلك، ولكنا نستطيعه من الناحية العملية. فإذا كان زيد من الناس ليس زيدًا ثابتًا لا يتغير، أو كان عمرو ليس عمرًا ثابتًا لا يتغير قط، فإنه من الممكن — برغم هذا — أن تقوم بينهما محبة وإخلاص، وعلى المرء — لأجل أن يعيش — أن يفترض أن الشخصية ثابتة لا تتغير، وأن «النفس» وحدة لا تتجزأ، وأن يتجاهل كل ما يناقض ذلك. وما دام تجاهل الدلائل المناقضة خصيصة من خصائص الإيمان، فإني أستطيع أن أعلن بكل تأكيد أني أعتقد في العلاقات الشخصية.

فإذا ما بدأت بها استطعت أن أجد شيئًا من النظام في الفوضى المعاصرة. يجب على المرء أن يغرم بالناس وأن يثق بهم إذا كان لا يريد أن يعبث بالحياة؛ ومن ثَم فإنه مما ليس منه بد ألا يخوننا الناس. ولكنهم كثيرًا ما يفعلون. ومغزى ذلك أنه ينبغي لي — عن نفسي — أن أكون محلَّ ثقةٍ ما استطعت، وهذا ما أحاوله. ولكن الثقة ليست من الأمور التي يتعاقد عليها الناس — وهذا هو الفارق الأساسي بين عالم العلاقات الشخصية وعالم العلاقات في العمل — إنما هي أمر من أمور القلب الذي لا يوقع على وثيقة من الوثائق. وبعبارة أخرى، الثقة مستحيلة ما لم يكن هناك دفء طبيعي. وأكثر الناس لديهم هذا الدفء، غير أن سوء الحظ قد يصادفهم فتنطفئ جذوته. وأكثرهم — حتى إن كانوا من الساسة — يودُّون لو احتفظوا بإيمانهم. وهنا يستطيع المرء — مهما يكن من شيء — أن يبرز ضوءه الخافت هنا، وأن يظهر شعلته المرتعشة الصغيرة الضعيفة، مع العلم بأنه ليس وحده الضوء الوحيد الذي ينير في الظلام، وليس وحده الضوء الذي لا يشمله الظلام. إن العلاقات الشخصية تُزدرى اليوم، وتُعَد من ألوان الترف البرجوازي، وكأنها من ثمار الجو المعتدل الذي انقضى عهده وفات، ويحثُّنا الناس على أن نتخلى عن هذه العلاقات، وأن نُكرِّس أنفسنا لحركة من الحركات أو قضية من القضايا بديلًا عنها. وإني لأمقت فكرة القضايا، ولو خُيِّرت بين أن أخون بلادي أو أخون صديقي، لرجوت أن أجد الشجاعة لأن أخون بلادي. ومثل هذا الاختيار قد يُسيء إلى القارئ الحديث، وربما مد يده الوطنية إلى التليفون في الحال واستنجد برجال الشرطة. ولكن ذلك ما كان ليصدم دانتي؛ فلقد ألقى دانتي ببروتس وكاسيس في أسفل جحيم لأنهما آثرا أن يخونا صديقهما يوليوس قيصر على أن يخونا وطنهما روما. وربما لا يُطلَب إلى المرء أن يقوم بمثل هذا الاختيار — الأليم — غير أن كل مذهب، بالرغم من هذا، وراءه شيء مزعج شاقٌّ لا بد أن يعانيه معتنِق المذهب، في يوم من الأيام، وفي مذهب العلاقات الشخصية كثير من الرعب والمشقة، على المرء أن يتحمله مهما خفَّ أو هان. إن الحب والإخلاص لفرد من الأفراد قد يتعارضان مع مطالب الدولة، وعندئذٍ أقول: لتسقط الدولة، وليس معنى ذلك إلا أن تُسقطني الدولة.١

(١-٢) تحدي زماننا

أنا فردي بمزاجي، أنا كاتب، ومؤلفاتي تؤكد أهمية العلاقات الشخصية والحياة الخاصة؛ لأني أعتقد فيهما. وماذا يستطيع رجل مثلي بهذا الاستعداد، ليست لديه معرفة تكنولوجية، أن يقول عن تحدي زماننا؟٢

إذا كنا نودُّ أن نفلح في مجابهة هذا الزمان، فلا بد لنا من الجمع بين الاقتصاد الحديث والأخلاق القديمة. إن مبدأ الحرية الاقتصادية لا يتمشى مع العالم المادي؛ فهو الذي أدى إلى السوق السوداء وأدغال الرأسمالية. ولا مناص لنا من التخطيط، وإلا ما وجدت ملايين الناس لها مأوًى أو مأكلًا؛ في حين أن مبدأ الحرية هو المبدأ الوحيد الذي يتمشى مع عالم الروح؛ فأنت إن أردت أن تخطط للناس عقولهم وتسيطر عليها فلا بد لك من إصابتها بالشلل، ولا محيص لك من الرقابة والشرطة السرية، وهذا هو الطريق إلى العبودية ومجتمع العبيد. إن أولئك الذين يخططون اقتصادنا يضحكون منا أحيانًا حينما نخشى الاستبداد الدكتاتوري الذي ينجم عن جهودهم، أو قل إنهم يسخرون منا، وهناك علاقة سحيقة الغور بين التخطيط والسخرية على علماء النفس أن يكشفوا سرها، ولكن الخطر الذي لا يولونه اعتبارًا خطر حقيقي. إنهم يؤكدون لنا أن الاقتصاد الحديث سوف يخلق سلوكًا خلقيًّا ملائمًا، وأن الناس حينما يجدون جميعًا المأوى والطعام الملائم سوف تتكون لديهم نظرةٌ ما تكون هي الصحيحة لأنهم الشعب، ولكني لا أستسيغ هذا الزعم. وليس عندي إيمان صوفي بالشعب، إنما عندي إيمان بالفرد. إنه في نظري عمل سماوي، وأنا لا أثق بأية نظرية تحط من شأنه. وإذا وصفك إنسان بأنك لست إلا فردًا قليل الشأن حقيرًا — وقد وُصفت بهذا فعلًا — فلا تتقبل ذلك راضيًا، إنما أنت من الأهمية بمكان؛ لأن كل من سواك فرد كذلك، بمن فيهم ذلك الذي يوجه إليك نقده، وأنت عندما تثبت شخصيتك إنما تؤيد حزبك.

هذا إذَن هو الشعار الذي أواجه به — ولو إلى حد ما — تحدي زماننا. إننا بحاجة إلى الاقتصاد الجديد مع السلوك الخلقي القديم. نريد التخطيط للأبدان ولا نريده للأرواح. ولكن هذه هي المشكلة: أين ينتهي البدن وتبدأ الروح؟ كانوا في العصور الوسطى يرسمون خطًّا واضحًا يفصل بينهما، وكان الناس طبقًا لنظرية العصور الوسطى أيام الإمبراطورية الرومانية المقدسة يعطون أبدانهم لقيصر وأرواحهم لله. غير أن هذه النظرية عجزت عن التطبيق؛ فالإمبراطور الذي كان يمثل قيصر اصطدم في الواقع مع البابا الذي كان يمثل المسيح. ونحن نجد أنفسنا في أزمة شبيهة بهذا اليوم. هبْ أنك ترسم سياسة لتوزيع الأطعمة توزيعًا عالميًّا، فأنت لا تستطيع ذلك دون أن ترسم سياسة عالمية للسكان، ولا تستطيع ذلك دون أن تتحكم في عدد المواليد وتتدخل في حياة الأسرة. ولا بد لك من الإشراف على الأبوة والأمومة، وأنت حينئذٍ تتعرض لمملكة الروح، والعلاقة الشخصية، بالرغم من أنك ربما لم تعتزم ذلك. ولا مناص لك من أن تعود مرةً أخرى لذلك الحكم الذي لا مفر منه، وهو مزاجك الخاص؛ فهل أنت إذا حدث تعارض في المبادئ تؤثر الفرد على حساب الجماعة كما أوثر؟ أو هل تؤثر العدالة الاقتصادية للجميع على حساب الحرية الشخصية؟

وكثيرًا ما يحدث هذا التعارض في المبادئ، وهذا الانشقاق في ولاء المرء، في عهد انقلابي كالعهد الحاضر.٣

(١-٣) النظام والفن للفن

المفروض في الواقع أن أتكلم من وجهة نظر الفنان الخالق. وسوف تدركون ما لا بد أن ينتاب الكاتب — الذي يهمُّ كذلك الرجال والنساء والريف — من مشاعر في عالم اليوم. لا شك أنه لا يشعر بالطمأنينة، وهو أحيانًا بائس مجروح الكرامة، ولكنه موقن بأن تطورًا مرسومًا لا بد أن يحدث إذا أردنا للعالم ألا ينحل، كما أنه يأمل أن يوجد في الاقتصاد الحديث مجال للعلاقات الإنسانية؛ ولذلك النشاط الذي لا يلقى تقديرًا، والذي يسمونه بالفن. ماذا ينبغي للكاتب، أو الفنان، أن يفعل عندما يواجه تحدي هذا الزمان؟ عليه بإيجاز أن يعبر عما يريد، لا عما تطلب إليه سلطات التخطيط أن يعبر عنه؛ عليه أن يفرض على نفسه نظامًا، لا أن يتقبل هذا النظام من الخارج. وقد يستهدف هذا النظام الجمال، ولا يستهدف الاجتماع أو الأخلاق، وقد يريد أن يمارس الفن للفن. ولطالما استُعمل هذا التعبير استعمالًا سيئًا فأثار ابتسامات السخرية، ولكنه تعبير عميق المعنى. إنه يشير إلى أن الفن انسجام في حدوده الذاتية. للفن قيمته، لا لأنه تربوي (بالرغم من أنه قد يكون كذلك)، ولا لأنه مجدد للقوى (بالرغم من أنه قد يكون كذلك)، ولا لأن كل إنسان يستمتع به (لأن هنالك من لا يستمتعون به)، بل حتى لا لأنه يتعلق بالجمال، إنما للفن قيمته لأنه يتعلق بالنظام، ويخلق لنفسه عوالم صغيرة، فيها انسجام داخلي، في عقر هذا الكوكب الذي يتسم بالفوضى.٤

وأود أن أتصدى الآن لفكرة النظام. ولهذه الفكرة أهميتها في دعواي، وأريد هنا أن أستطرد في الكلام، وأنظر إلى النظام في الحياة اليومية، قبل أن أتعرض للنظام في الفن.

في عالم الحياة اليومية، العالم الذي نقطنه بالرغم منا، كثيرًا ما يتحدث الناس عن النظام، وبالأخص رجال الدولة ورجال السياسة منهم. ولكنهم يميلون إلى الخلط بين النظام والأوامر، كما يخلطون بين الابتكار والقاعدة. والنظام في رأيي شيء يتطور في الداخل، وليس شيئًا يُفرَض من الخارج. إنه استقرار داخلي وانسجام حيوي، ولم يوجد قط في المجال السياسي والاجتماعي إلا للتيسير على المؤرخين. وليس الماضي حقًّا — إذا نظرنا إليه نظرةً واقعية — إلا سلسلة من الحوادث غير النظامية، يتلو أحدها الآخر طبقًا لقواعد يمكن اكتشافها من غير شك. وتتميز قطعًا باطراد الزيادة في تدخل الإنسان، ولكنها برغم هذا كله لا تعدو أن تكون سلسلة من الحوادث غير النظامية؛ ولذا فإن ما أرجوه اليوم — ككاتب — هو نوع من عدم النظام يكون أكثر صلاحية للفنانين من النظام الحالي، ويمدهم بمصادر للوحي أوفى، وبظروف مادية أفضل. وانعدام النظام هذا لن يدوم — فإن شيئًا لا يدوم — غير أن بعض ضروب عدم النظام في الماضي كان لها بعض المزايا، كما كان في أثينا القديمة مثلًا، وفي إيطاليا لعهد النهضة، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر، وفي بعض عهود الصين وفارس، وقد نستطيع أن نقوم بعملٍ ما لكي نتعجل الفترة التالية. ولكن دعنا لا نتجه بقلوبنا مرةً أخرى إلى حيث لا توجد أسباب الفرح الحقيقية. لقد وُعدنا نظامًا جديدًا بعد الحرب العالمية الأولى يتحقق عن طريق عصبة الأمم. غير أن الوعد لم يتحقق، وليست عندي ثقة في الوعود القائمة، أيًّا كان من يؤيدها، فإن العدوان الصارم للعلم يأبى علينا هذا. ولا نستطيع أن نبلغ الاستقرار الاجتماعي والسياسي لأنَّا لا نكفُّ عن الكشف العلمي وعن تطبيقه؛ ومن ثَم فنحن لا نكفُّ عن تدمير النظم التي أقيمت على أساس مكتشفات سابقة أشد بساطة. ولو أن العلم يُكتشف ولا يُطبَّق — أو بعبارة أخرى، لو أن الناس كانوا بالعلم أشد منهم شغفًا بالقوة — لكانت البشرية في موقف أكثر أمنًا وأشد طمأنينة، ولكان الاستقرار الذي يتحدث عنه رجال الحكومات شيئًا ممكنًا، ولأمكن إيجاد نظام جديد يقوم على أساس الانسجام الحيوي، ولاقترب العصر السعيد المرتقب فوق هذا الكوكب. بَيد أن العلم لا يُبدي أية علامة تدل على ذلك. ولقد أعطانا آلة الاحتراق الداخلي، وقبل أن نهضمها ونتمثلها بكثير من المشقة في نظامنا الاجتماعي، أمكنه استغلال الذرة، وحطَّم كل نظام جديد كان من المتوقع ظهوره، فكيف يستطيع الإنسان أن ينسجم مع ما يحيط به، في حين أنه لا يفتأ يتناوله بالتغيير والتبديل؟!

وأود أن أؤكد أن النظام في الحياة اليومية وفي التاريخ، أو النظام في المجال الاجتماعي والمجال السياسي، لا يمكن تحقيقه في ظل الظروف النفسية الحاضرة.

فأين يتحقق؟ لا أقول في المجال الفلكي، حيث جلس على عرشه سنوات عدة؛ فلقد أمست السموات شديدة الشبه بالأرض منذ أينشتين، ولم يعد بوسعنا أن نلتمس الطرف المناقض للفوضى في سماء الليل، ونتطلع، مع جورج مرديث، إلى النجوم، ونحسبها محشودة وفقًا لقانون ثابت لا يتغير، أو نستمع إلى موسيقى الكواكب؛ فليس النظام هناك. ويبدو أن هناك مجالين اثنين في الكون بأسره يمكن أن نلتمس فيهما النظام. أمَّا أولهما، وهو لا يقع في حدود موضوعي، فهو النظام الإلهي المقدس، أو الانسجام الصوفي، وهو ميسور، طبقًا لجميع الديانات، لأولئك الذين يستطيعون أن يتدبروه. ولا محيص لنا عن الاعتراف بإمكان وجود هذا النظام، طبقًا لما رواه البارعون فيه، ولا بد لنا من تصديقهم حينما يقولون إنه يتحقق، إذا كان ممكن التحقيق، بالصلاة. ولقد قال أحد شعراء هذه الطائفة: «إني أدعوك يا من لا يتغير أن تحل بي.» وقال آخر: «اللهم يا من تحبني أودع في الحب نظامًا.» إن وجود النظام الإلهي المقدس لم يثبت قط بطلانه، وإن يكن من العسير اختباره.

أمَّا المجال الآخر الذي يمكن أن يتحقق فيه النظام فهو مجال الجمال، وهو موضوعي هنا؛ إنه النظام الذي يستطيع الفنان أن يبدعه في فنه. وأعود الآن إلى هذا الموضوع فأقول إن العمل الفني، في عُرفنا جميعًا، إنتاج فذ، ولكن لماذا؟ إنه ليس فذًّا لما فيه من مهارة، أو نبل، أو جمال، أو استنارة، أو ابتكار، أو صدق، أو مثالية، أو نفع، أو تربية — وقد ينطوي على أية صفة من هذه الصفات — إنما هو فذ لأنه الشيء المادي الوحيد في هذا الكون الذي يمكن أن ينطوي على انسجام داخلي. وكل ما عدا الفن قد تشكَّل بضغط من الخارج، وإذا أنت أزلت عنه القالب الذي صب فيه تدهور وانهار. أمَّا العمل الفني فيقف من تلقاء نفسه، وهو وحده الذي يستطيع ذلك. إنه يحقق شيئًا كثيرًا ما لوَّح به المجتمع ووعد به، ولكنه كان مخادعًا في كل ما وعد. لقد تدهورت أثينا القديمة، ولكن «أنتيجون» يقف على قدميه. وتدهورت روما في عهد النهضة، ولكن سقف سستين لا يزال مصوَّرًا. وقد عبث جيمز الأول، وبقيت «ماكبث». وعبث لويس الرابع عشر، وبقيت «فيدر»؛ فهل الفن للفن؟ أعتقد ذلك، وأنا في الوقت الحاضر أشد اعتقادًا مني في أي عهد سبق. إنه الإنتاج المنظم الوحيد الذي أخرجه الجنس البشري المتخبط، إنه نداء آلاف الحراس، والصدى العائد من آلاف المتاهات، إنه مصدر النور الذي لا يمكن إخفاؤه (إنه خير شاهد نستطيع أن نقدمه دليلًا على كرامة الإنسان).٥

(١-٤) التسامح

إن كل إنسان يتحدث عن إعادة البناء، ولخصومنا مشروعاتهم لإيجاد نظام جديد في أوروبا يكفلونه بشرطتهم السرية. ونحن من جانبنا نتحدث عن إعادة بناء لندن أو إنجلترا أو المدنية الغربية، ونرسم الخطط للتنفيذ. كل هذا حسن، ولكني عندما أستمع إلى مثل هذا الكلام وأشهد المهندسين المعماريين وهم يرهفون أقلامهم للرسم، والمتعهدين وهم يحسبون تقديراتهم، ورجال الدولة وهم يحددون مجال نفوذهم، وعندما أرى كل إنسان مقبلًا على العمل، أذكر نصًّا مشهورًا يقول: «عبثًا ما يعمل كل أولئك الذين يشيدون البيت، ما عدا السيد الذي يبنيه لنفسه.» ووراء الصورة الخيالية التي ترسمها هذه الكلمات تكمن حقيقة علمية صارمة، وهي أنه ما لم يكن لديه اتجاه عقلي سليم، ونفسية صحيحة، لا تستطيع أن تبني أو تعيد بناء أي شيء يتصف بالدوام. والنص صادق لا لرجال الدين فحسب، ولكن للعاملين مهما تكن نظرتهم. ومما له دلالة أن أحد مؤرخينا، وهو الدكتور أرنولد توينبي، قد اختار هذا النص عينه ليقدم به دراسته العظيمة عن نمو الحضارات وانهيارها؛ فمما لا شك فيه أن الأساس السليم الوحيد لأية حضارة من الحضارات هو توافر حالة عقلية سليمة.

وأية حالة عقلية نعدها سليمة؟ إننا في هذا قد نختلف؛ فإن أكثر الناس إذا سئلوا: أية صفة روحانية نحن بحاجة إليها لإعادة بناء المدنية؟ أجابوا بأنها «المحبة». لا بد للناس من تبادل الحب كما يقولون، وكذلك لا بد للأمم من أن تتحاب؛ وعندئذٍ نقف عند حد سلسلة الكوارث التي تهدد بتدميرنا.

ولكني أعارض هذا الرأي بشدة، رغم احترامي له. الحب قوة عظمى في الحياة الخاصة، بل هو أعظم من كل شيء آخر. غير أن الحب في الشئون العامة لا يجدي، ولقد جُرِّب المرة تلو المرة، في مدنيات العصور الوسطى المسيحية، وكذلك في الثورة الفرنسية، وهي حركة دنيوية أكدت مرةً أخرى ضرورة الإخاء بين البشر. وكانت هذه التجارب تئُول إلى الفشل دائمًا. إن فكرة تبادل الحب بين الأمم، أو بين الهيئات التجارية أو لجان التسويق، أو أن يحب الرجل في البرتغال زميله في بيرو الذي لم يسمع به من قبل، هذه فكرة باطلة، غير واقعية، خطرة. وهي تؤدي بنا إلى شعور عاطفي غامض غير مأمون الجوانب. إننا نتغنى ﺑ «حاجتنا إلى المحبة»، ثم نتقاعد وتسير الدنيا سيرتها الأولى. والحقيقة أننا لا نستطيع أن نحب إلا ما نعرفه معرفة شخصية، ولا نستطيع أن نعرف كثيرًا. إن ما نحتاج إليه في الشئون العامة، وفي إعادة بناء الحضارة، شيء أقل من ذلك مسرحية وعاطفية، وذلك هو التسامح. وهو فضيلة مقبضة، تدعو إلى الملل والسأم. وكثيرًا ما يكون ثقيلًا على النفس، على نقيض الحب في هذا. وهو سلبي يعني احتمال الناس فحسب، أو يعني القدرة على تحمل الأمور. ولا أعرف شاعرًا تغنَّى بالتسامح، أو أقام له تمثالًا. غير أن هذه هي الصفة التي نحن أشد ما نكون حاجةً إليها بعد الحرب، وتلك هي الحالة العقلية السليمة التي نبحث عنها، وهذه هي القوة الوحيدة التي تُمكِّن العناصر المختلفة والطبقات والمصالح المتعارضة من الانضمام بعضها إلى بعض في عملية إعادة البناء.٦

(١-٥) تحيتان للديمقراطية

ويؤدي بي هذا إلى الحديث عن الديمقراطية، «بل إلى المحبة، والجمهورية المحبَّبة، التي تعيش على الحرية وحياة الناس». وليست الديمقراطية جمهورية محبَّبة في الواقع، ولن تكون، ولكنها أقل تنفيرًا من صور الحكومة المعاصرة الأخرى، ومن أجل هذا فهي تستحق منا التأييد؛ فهي تبدأ من افتراض أهمية الفرد، وأن كل صنوف الناس مطلوبة لإنشاء الحضارة. وهي لا تقسم المواطنين إلى رؤساء ومرءوسين، كما تفعل النظم التي تستهدف الكفاية. إنني أشد ما أكون إعجابًا بقوم حسَّاسين يُحبون أن يبدعوا شيئًا ويكشفوا شيئًا، ولا يقيسوا الحياة بمقياس القوة. ومثل هؤلاء القوم يجدون فرصة في ظل الديمقراطية أكثر مما يجدونها تحت أي نظام آخر. إنهم يؤسسون الديانات، الكبرى والصغرى، أو ينتجون الأدب والفن، أو يقومون ببحوث علمية غير مُغرِضة، أو قد يكونون من نُسميهم «عامة الناس» الذين يبدعون في حياتهم الخاصة، فيحسنون تربية أبنائهم، مثلًا، أو يساعدون جيرانهم. كل هؤلاء الناس يحتاجون إلى التعبير عن أنفسهم، وهم لا يستطيعون ذلك إلا إذا منحهم المجتمع الحرية لأداء هذا التعبير، والمجتمع الذي يسمح لهم بأكبر قدر من الحرية هو المجتمع الديمقراطي.

وللديمقراطية ميزةٌ أخرى؛ فهي تسمح بالنقد، وبغير النقد العام لا بد أن تقع الفضائح التي يُكتم سرها. ومن أجل هذا أومن بالصحافة، بالرغم من كل أكاذيبها وابتذالها، وأومن بالحياة النيابية، بالرغم من السخرية التي تتعرض لها أحيانًا ووصف ما يجري في مجالسها بالحديث العابر، ولكني أعتقد في هذه المجالس لأنها مجال للحديث العابر.

ومن ثَم فإني أحيي الديمقراطية تحيتين؛ أولاهما لأنها تسمح بالتنوع، وثانيتهما لأنها تبيح النقد. وتكفيها تحيتان، وليس هناك مجال للتحية الثالثة، التي لا تستحقها إلا المحبة، أو الجمهورية المحبَّبة.٧

(١-٦) القوة أو الابتكار

ثم القوة، وما أدراك ما هي! إننا حينما نحاول أن نكون حساسين، متقدمين، محبين، متسامحين، ينشأ على الفور سؤال لا نرتاح إليه: ألا يتوقف المجتمع كله على القوة؟ فإذا كانت الحكومة لا تعتمد على الشرطة والجيش، فكيف تأمل أن تستطيع الحكم؟ وإذا كان الفرد يقرع على رأسه أو يزج به في معسكر العمل، فأية أهمية إذَن تكون لآرائه؟

ولا تحيرني هذه المشكلة كما تحير غيري؛ فأنا أدرك أن المجتمع كله يتوقف على القوة. غير أن كل الأعمال الخلاقة، وكل العلاقات الإنسانية المهذبة، تقع في الفترات التي لا تكون فيها القوة في الطليعة. وهذه الفترات هي التي لها أهميتها، وأريدها أن تتكرر وأن تطول بقدر الإمكان، وأسميها «الحضارة». ومن الناس من يجعل من القوة مثلًا أعلى ويجعل لها الصدارة ويقدسها، بدلًا من أن يجعلها في المؤخرة ويبقيها هناك ما استطاع. وأعتقد أن هؤلاء الناس مخطئون، كما أعتقد أن المتصوفين — الذين يناقضونهم في الرأي — أشد منهم خطأً حينما يعلنون أن القوة ليس لها وجود؛ فأنا أعتقد أنها موجودة، وأن من واجبنا أن نمنعها من أن تخرج من مكمنها، ولكنها تخرج عاجلًا أو آجلًا؛ وحينئذٍ تدمرنا وتدمر كل شيء جميل نكون قد صنعناه. بَيد أنها لا تخرج دائمًا لحسن الحظ لأن الأقوياء أغبياء.

هذا ما أحسه إزاء القوة والعنف. غير أن القوة — ويا للحسرة — هي الحقيقة النهائية فوق هذه الأرض، ولكنها لا تصل دائمًا إلى مكان الصدارة. ومن الناس من يُسمي فترات اختفائها ﺑ «عهود التدهور»، أمَّا أنا فأُسميها «الحضارات»، وأجد في أمثال هذه الفترات ما يبرر التجربة الإنسانية أساسًا. وإني لأتجه نحو هذه الفترات حتى يصدمني القدر. ولست أدري إن كان مَردُّ ذلك عندي إلى الشجاعة أو إلى الجبن. غير أني على يقين من أنه لولا انصراف بعض الناس في الماضي عن اتجاه القوة، لما تحدَّر إلينا أي شيء مما يصح أن تكون له قيمة. إن الناس الذين أوليهم أكبر قسط من احترامي هم أولئك الذين يسلكون مسلك المخلَّدين، وينظرون إلى المجتمع كأنه أبدي. وكلا الغرضين على خطأ، ولا بد من قبولهما كليهما باعتبارهما حقيقتين ثابتتين لو أردنا أن نواصل الغذاء والعمل والمحبة، وإن أردنا أن نستبقي بعض نوافذ الروح البشرية مفتوحة تخرج منها الأنفاس، وليس من المحتمل أن يهبط على البشرية عهد سعيد، ولن تُقام عصبة للأمم أفضل وأقوى، ولن يجلب للعالم سلامًا وللفرد كمالًا أي ضرب من ضروب المسيحية أو أي دين آخر يحل محلها. إن «قلب الإنسان» لن يتغير، ولكنَّا لا ينبغي لنا برغم هذا أن نيئَس، بل إنا لا نستطيع أن نيئَس، فإن التاريخ يثبت لنا أن الناس كانوا دائمًا يُصرُّون على أن يبدعوا ويبتكروا والسيف مُصلَت فوق الرءوس، وأنهم أدَّوا واجبهم الفني والعلمي والعائلي مجرَّدين عن الغرض والهوى، وأنه من الخير لنا أن نحذو حذوهم برغم الطائرات التي تئزُّ فوق رءوسنا. وهناك غيري من الناس أقوى بصيرةً وأشد شجاعةً يرون خلاص البشرية ماثلًا أمام أعينهم، ويرون في تصوري للحضارة تفاهة رأي، ومراوغة للفرار والهروب.

وليس من شك في أن من المبالغة في الرأي أن نقول باستحالة التحسن في النفوس، أو أن نعتقد أن الإنسان الذي لم يتملك القوة إلا بضعة آلاف من السنين لن يتعلم كيف يقيد من قوته. وكل ما أعنيه أن الناس إذا استمروا في التقاتل كما يفعلون فلن يتحسن العالم عما هو عليه، وأنه ما دام هناك عدد من الناس أكثر مما سبق، وما دامت وسائل تدميرهم لأنفسهم أفتك مما كانت، فإن الدنيا لا بد أن تنحدر إلى الأسوأ. أمَّا ما هو خير عند الناس، وما هو خير بالتالي في هذه الدنيا، فهو إصرارهم على الابتداع، واعتقادهم في الصداقة والولاء منزَّهين عن الأغراض والأهواء. وبالرغم من أن «العنف» لا يزال بالفعل أعظم شريك لنا في هذا العالم المضطرب، فإني أعتقد أن الابتداع لا يزال كذلك — وسيظل أبدًا — قوةً كامنة تطفو على السطح كلما هبط العنف إلى القاع؛ ومن ثَم فإنه بالرغم من أني لست من المتفائلين إلا أني لا أستطيع أن أتفق مع سوفوكليز في رأيه بأنه كان من الأفضل للإنسان ألا يولد. وبالرغم من أني لا أرى دليلًا على أن المواليد الجدد يفضلون المواليد الذين سبقوهم — شأني في ذلك شأن هوراس — إلا أني أهيئ الفرصة لنظرة أشد تفاؤلًا. إن هذه اللحظة التي نعيش فيها من أشق اللحظات، وليس بوسع المرء إلا أن يكتئب، وأن ترتعد فرائصه ذعرًا ورعبًا، وربما لا يسعه أيضًا إلا أن يكون قصير النظر.٨

(١-٧) الاعتقاد في أرستقراطية الحساسين

إننا في بحثنا عن طريق للخلاص ربما اتجهنا نحو عبادة الأبطال، ولكنَّا لن نجد، فيما أحسب، سبيلًا للخلاص في هذا الاتجاه. إن عبادة الأبطال رذيلة خطرة، ومن المزايا الثانوية للديمقراطية أنها لا تشجعها، أو تعمل على إيجاد ذلك النوع من المواطن الذي نسميه «الرجل العظيم»، بل إن الديمقراطية، على نقيض ذلك، تعمل على إيجاد أنواع مختلفة من صغار الناس بدلًا من ذلك الرجل العظيم، وهو عمل أسمى كثيرًا. بَيد أن الناس الذين لا يستطيعون أن يأبهوا بتنوع الحياة، ولا يستطيعون أن يكوِّنوا لأنفسهم رأيًا خاصًّا، لا يرضيهم ذلك، ويتشوقون إلى بطل يخرُّون له راكعين ويتبعونه غير مُبصِرين. ومما له دلالة أن البطل جزء لا يتجزأ من النظام التحكمي الذي ذاع في هذه الأيام؛ فالنظام الذي يعتمد على إبراز الكفايات لا يمكن أن يسير بغير بضعة أبطال يبرزون في المجتمع لكي يزيلوا عنه أثر الغباء، وكأنهم الفاكهة التي ندسُّها في الطعام الفاسد لكي نجعله مستساغًا. في هذا النظام يتصدر بطل من الأبطال وعن يمينه وعن يساره بطلان آخران أصغر منه شأنًا. ويُعتبر هذا النظام أمرًا مستحبًّا. ويطمئن إلى هذا الثالوث الجبان والسئوم، وينحني احترامًا له، ويشعر بالقوة والتسامي.

ولكني لا أثق في «عظماء الرجال»؛ فهم يخلقون حولهم جماعة متكررة متشابهة، وكذلك بِرْكة من الدماء في كثير من الأحيان. وأحس دائمًا بما يحسه رجل صغير الشأن حينما أراهم يسقطون، ولكني برغم هذا أومن بالأرستقراطية، إذا كانت هذه هي الكلمة الصحيحة، وإذا جاز لرجل ديمقراطي أن يستعملها. غير أنها ليست أرستقراطية القوة التي ترتكز على علو المرتبة والنفوذ، ولكنها أرستقراطية الحساسين، وأولئك الذين يراعون شعور غيرهم، وكل مقدام جسور. وإنك لتجد أعضاء هذه الأرستقراطية في جميع الأمم وبين جميع الطبقات، وفي كل العصور، وإن بينهم لتفاهمًا خفيًّا كلما تلاقَوا، إنهم يمثلون التراث الإنساني الصادق، والنصر الوحيد الدائم لهذا الجنس البشري الغريب الذي ننتمي إليه على أسباب القسوة والفوضى. وإن آلافًا منهم لتهلك في غمرة النسيان، وقلَّ منهم من يظفر باسم عظيم. وهؤلاء حساسون إزاء أنفسهم، كما هم حساسون إزاء غيرهم، وهم يحافظون على مشاعر الناس دون أن يكونوا سببًا في ضيقهم. وليست شجاعتهم اختيالًا، ولكنها قدرة على الاحتمال. وهم يستطيعون أن يتقبلوا الفكاهات، وكم من مرة أدرك أصحاب السلطان قيمتهم فتصيَّدوهم واستغلوهم، كما كان كهنة قدماء المصريين، أو رجال الكنيسة المسيحية، أو الموظفون المدنيون في الصين، أو الحركات الجماعية، أو غير ذلك من الطرق العجيبة، ولكنهم كانوا دائمًا ينفُذون من خلال ما نُصب لهم من شِباك ويلوذون بالفرار. وعندما تُغلَق أبواب المصايد لا تراهم في بطونها؛ فمعبدهم، كما قال أحدهم، هو «قداسة المحبة القلبية»، ومملكتهم، التي لا يملكونها أبدًا، هي العالم الفسيح.

ومع وجود هذا النوع من الناس ضاربًا في الأرض ومعترضًا طريقنا دائمًا إذا كانت لنا عيون ترى، وأيدٍ تُحس، لا يمكن أن نحكم على تجربة الحياة فوق هذا الكوكب بالفشل الذريع. وبوسعنا أن نرحب بهذه التجربة باعتبارها مأساةً فحواها أننا عجزنا عن إيجاد وسيلة نستطيع بها أن ننقل هذه المزايا الفردية إلى الشئون العامة؛ ذلك أنه عندما يظفر الناس بالنفوذ تراهم يسيرون على عوج وينحرفون أحيانًا؛ لأن الاستيلاء على السلطة يرفعهم إلى منطقة لا يجدي فيها الإخلاص الذي يعرفه الناس. إن مخلِّص البشرية في المستقبل، إذا كُتِب له الظهور، لن يبشر بدين جديد، ولن يخرج عن مجرد استغلال هذه الأرستقراطية التي أشرت إليها، وسوف يجعل إرادة الخير والمزاج الطيب الكامن فعلًا في النفوس ذا أثر وذا قوة.

إنَّ ما تقدَّم هو آراء رجل يؤمن بالفردية وبالحرية، وجد الحرية مداسةً تحت الأقدام، فأحسَّ أولًا بالخجل، ثم تطلَّع حواليه، وقرَّر أنه ليس ثَمَّة سبب يدعو إلى الخجل ما دام غيره من الناس، مهما تكن أحاسيسهم، يشعرون كما يشعر بعدم الاطمئنان. أمَّا عن الفردية، فلست أرى مهربًا منها، حتى إن أردت ذلك. يستطيع البطل الدكتاتور أن يسحق مواطنيه حتى يصبح كلٌّ منها شبيهًا بالآخر، ولكنه لا يستطيع أن يصهرهم في رجل واحد؛ فإن ذلك فوق طاقته. يستطيع أن يأمرهم بالانغماس، ويستطيع أن يحثهم على التلاشي في الجماعة، ولكنهم يولدون منفردين رغمًا عنهم، ويموتون منفردين. ونظرًا لأن كلًّا منهم محدود الطرفين، ولا يستطيع أن يتجنبهما، فإنه لا بد أن يخرج دائمًا عن الخط الدكتاتوري المرسوم. إن ذكرى الميلاد وتوقع الموت تكمن دائمًا في نفس الإنسان، وتفصله عن غيره؛ ومن ثَم تجعله قادرًا على تبادل الرأي معهم. لقد أتيت إلى هذه الدنيا عاريًا، وسوف أخرج منها عاريًا! وهو أمر جميل حقًّا؛ لأنه يذكِّرني بأني عارٍ تحت قميصي مهما يكن لونه.٩

المصادر

كل المختارات مقتبَسة من مجموعة مقالات إ. م. فورستر وبحوثه وإذاعاته التي نشرها تحت عنوان «تحيتان للديمقراطية».
  • ١ «ما أومن به».
  • ٢ «تحدي زماننا».
  • ٣ نفس المصدر.
  • ٤ نفس المصدر.
  • ٥ «الفن للفن».
  • ٦ «التسامح».
  • ٧ «ما أومن به».
  • ٨ نفس المصدر.
  • ٩ نفس المصدر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤