الفصل الخامس

جون موريس كلارك

(١٨٨٤م–…)

جون موريس كلارك هو أحد رجال الاقتصاد المبرِّزين في أمريكا، وقد لعب دورًا أساسيًّا في إعادة توجيه جهود الاقتصاديين نحو القضايا الاجتماعية العاجلة في زماننا هذا، وكان من الطلائع الذين مثَّلوا دوائر الأعمال في نظريات، والذين فصلوا الملامح الأساسية التي يتميز بها اقتصادنا المختلط. وفي أدائه لهذا الواجب، لم يتقيد كلارك بالفروض المبسطة الثابتة التي تمسُّ الاقتصاد ولا تغوص فيه، تلك الفروض التي كان يقوم عليها علم الاقتصاد القديم المعتمد، والتي لقَّنها إياه والدُه جون بيتس كلارك، وهو من الرجال النابهين البارزين. وقد أدى الجانب الإنشائي من عمله إلى سلسلة متصلة الحلقات من المكتشفات التي تعلل تلك النواحي من حياتنا الاقتصادية التي تتصف بأنها أكثر واقعية وأقوى فاعلية، والتي تبحث في المشكلات الكبرى التي تتعلق بحرية الإنسان وبالعوامل الاقتصادية في ظروف العصر الحاضر.

وُلد كلارك في نورثهامبتن بماساشوستس عام ١٨٨٤م، وتلقَّى تعليمه في العقد الأول من هذا القرن في كلية أمهرست وجامعتَي كولمبيا وشيكاغو حينما كانت تسيطر على الفكر والسياسة الاقتصادية «فروضُ الرضا والقناعة». وعلى هذه الفروض التي تدعو إلى حرية التعامل تؤدي عمليات السوق التي يسودها التنافس إلى معادلة المطالب الحقيقية للمستهلكين بالتكاليف الحقيقية للمنتجين في ظروف تستغل فيها المصادر استغلالًا كاملًا. وقد عرض كلارك في باكورة أعماله — في الرسائل التي أعدَّها ليقنع بها زملاءه في المهنة — مواضع النقص في النظريات القديمة، وصاغ وسائل جديدة للتحليل يهاجم بها مشكلات مصادر الثروة المستغلة، وقصور وسائل التسويق، وسوء توزيع مصادر الثروة توزيعًا مكانيًّا في ضوء الغايات البشرية والتكاليف الاجتماعية. وفي أوائل العشرينيات من هذا القرن صدرت هذه المباحث في كتابين يحتويان على آراء إنشائية بنَّاءة أصبحت من الأسس المعتمدة في هذا الميدان، وهذان الكتابان هما: «دراسات في اقتصاديات التكاليف المرتقبة»، و«الرقابة الاجتماعية على الأعمال».

وبعد عام ١٩٢٩م تعمَّق كلارك في مباحثه، ونقل اهتمامه إلى الكشف عن الوسائل التي تعالج بها مشكلات الكساد، والحرب، وتسريح الجيوش، وتضخم العملة، وسوغ هذه الوسائل التي دعا إليها. وقد تقدَّمت دراسته لدورات العمل حتى أمكن أن تصدر في مجلدين، هما: «العوامل الاستراتيجية في دورات العمل» عام ١٩٣٤م، و«اقتصاديات تخطيط الأشغال العامة» في عام ١٩٣٥م. وهاتان الدراستان اللتان سبقتا كينز لعبتا دورًا هامًّا في توجيه انتباه الاقتصاديين نحو العوامل الاقتصادية الكبرى التي تؤثر في الاقتصاد عامة، كما أدَّتا إلى إقناع جمهور أكبر بالدور التوجيهي لسياسة الحكومة المالية والنقدية في زيادة الدخل القومي، والإنتاج، وتوفير العمل. وفي خلال هذه الفترة اشتغل كلارك مستشارًا اقتصاديًّا للحكومة، وللجنة التخطيط القومي (في عام ١٩٣٤م) ولإدارة الانتعاش القومي (١٩٣٤–١٩٣٥م)، وبدخولنا الحرب أمسى مستشارًا لمكتب إدارة الأثمان (١٩٤٠–١٩٤١م). وقبل أن تنتهي الحرب وجَّه التفاته إلى تحليل «تسريح هيئات الرقابة الاقتصادية إبان الحرب» لكي يبحث في طريقة إيجاد أعمال كافية في ظل نظام تلقائي حر، يلعب فيه كلٌّ من الحكومة — من ناحية — ونشاط الأفراد — من ناحية أخرى — دورًا يُتمم الآخر. وبعد الحرب أخَذ ضغط التضخم الاقتصادي يزداد، فركَّز كلارك تفكيره في مشكلة الإجراءات العامة والخاصة التي يجب أن تُتخذ لتحقيق مواصلة النمو الاقتصادي دون تضخم. «إن الإنسان بحاجة إلى أن ينتمي إلى مجتمع أصغر حجمًا وأكثر ذاتيةً من الدولة صاحبة النفوذ المطلق، ولكن الوحدات التي تقابل هذه الحاجة — بما فيها نقابات العمال — ليست أجزاءً من مجتمع متكامل، وإنما هي مجموعات احتكارية، في حرب مع غيرها. ولفضِّ هذا النزاع دون القضاء على الحرية يحتاج الأمر — فيما يبدو — أولًا إلى أن تتوازن قوى هذه المجموعات توازنًا معقولًا، كما يحتاج ثانيًا إلى أن تمارس المجموعات نفوذها مع تحملها مسئوليةَ ما تصنع. ووسائل تحقيق ذلك واجب من واجبات صفاتنا كمواطنين وقدرتنا على الابتكار الاجتماعي.»

ولم تقتصر — عند جون موريس كلارك ذاته — صفات المواطن والقدرة على ابتكار وسائل جديدة لعلاج المشكلات العاجلة في العصر الحاضر على المجتمع الأمريكي، بل كتب كتابة مقنعة عن الحاجة إلى قبول الدور الذي يجب علينا أن نؤديه في مجتمع عالمي أوسع، كما كتب عن تهديد الشيوعية لهذا المجتمع، وعن تحدي المناطق التي لم تتقدم بعد ذلك. والتحق بجماعة من الاقتصاديين عالمية ممتازة، ونصح الأمم المتحدة بالإجراءات التي تُتخذ للتقدم الاقتصادي، وفي كل ما أدى من عمل أبدى اهتمامًا شديدًا بالحاجة إلى «الدفاع عن أسلوب للحياة يتفق ورفاهية الفرد وحريته وكرامته، وإلى تطويل هذا الأسلوب وتحسينه ليقاوم الدفع القوي للشيوعية الدكتاتورية التي تسير نحو عالم لا يؤيد الديمقراطية». والقطعة المختارة من كتابه «ماذا نستبدل بالعبودية؟» تنمُّ عن اشتغال كلارك بالوسائل الاقتصادية للغايات الإنسانية.

وقد كان جون موريس كلارك أستاذًا غير متفرِّغ بجامعة كولومبيا منذ عام ١٩٥٣م، وشغَل بجدارةٍ كرسي الأستاذية الذي يحمل اسم جون بيتس كلارك.

(١) ماذا نستبدل بالعبودية

جون موريس كلارك

(١-١) انحلال أم انتقال؟

تحدَّث الأستاذ شتول عن «الفوضى التي نعيش فيها اليوم، وهي أخطر ما مر بنا منذ سقوط روما». ولا يشك أحد في هذا الخطر، ولا يمكن لأحد أن يعرف يقينًا — اللهم إلا إن كان مؤمنًا أو يائسًا — إن كانت هذه الفوضى هي حالة الاضطراب التي لا مفر منها التي تلازم طور انتقال كبير، أم هي من علامات فناء الحضارة، وهي حضارة فسدت جذورها حتى باتت لا تقوى على حمل عبء الجذع الثقيل والفروع المنتشرة على مساحة واسعة. ونحن نعلم أنه لا يزال بهذه الحضارة كثير من العناصر الطيبة، ولكن كثيرًا من الحضارات التي كانت مثلها تنطوي على عناصر طيبة قد ذوى من قبلها. وإن الميزان الذي ينبئ بالبقاء أو الفناء قد يكون غاية في الدقة، كالفارق الذي يفصل بين الهزيمة والنصر في معركة ملتحمة.

ولا يدل الانحلال حتمًا على أن الأفراد أسوأ اليوم بطبيعتهم مما كانوا من قبل. والواقع أنَّ تماسك المجتمع — حينما يتعقد، وحينما تضعف الفردية ونمو الحرية العقلية والخلقية من النظم القديمة — بحاجة إلى أفراد أفضل. ولقد تغلَّب الأفراد الأقوياء على هذه الحرية. والناس جميعًا لديهم هذه الحرية اليوم، سواء نمَوا نموًّا كافيًا لمقابلة متطلبات هذه الحرية أم لم ينموا. إنهم ينبذون القيادات القديمة والنظم القديمة، ويتقبل أكثرهم نظمًا جديدًا وقيادات أخرى. غير أن هذه النظم والقيادات الجديدة قد تُصاغ على هواهم، ومصالحهم الطائفية، وما يميلون إليه، أكثر مما تُصاغ وفقًا لما يتطلبه بناء اجتماعي سليم. وقد اكتسبت الطوائف قوةً تمكِّنهم — تحت قيادة تستغل هذه القوى الهدَّامة — من تحطيم المجتمع بدلًا من تعزيزه وتقويته. إن الأسس القديمة التي كانت تعتمد عليها الأخلاق قد بقي تأثيرها في بعض الناس وفقدت تأثيرها في بعضهم الآخر. وأخذ مفهوم النواميس يتغير، وأمسى لكل طائفة ناموسها. وبالرغم من اشتداد الروح الطائفية، فإن القاعدة القديمة — قاعدة الأنانية والمصلحة الخاصة التي لا ترعى مصالح الآخرين — ما زالت قائمة، بعدما تغلبت على العوائق التي كانت فيما مضى تحدُّ من أخطارها. إن إعادة إنشاء ناموس يقبله كل إنسان نوعٌ من الجهد الذي يتطلب انقضاء قرون طويلة من الزمان. وقد تحل بنا الكارثة خلال هذه القرون.

ولست أظن أن شعبًا من الشعوب قد واجه من قبلُ واجب إنشاء ناموس للسلوك الاجتماعي، والأساس الروحاني الذي يرتكز عليه، مع مثل هذا العزوف — الذي نلمسه اليوم — عن قبول القيادة أو السلطة إلا فيما يعزز المصلحة الطائفية التي تتعارض مع مصالح الطوائف الأخرى. إن روح الشك التي تسود هذا العصر أفادت في هدم الأساطير التي ضلَّل بها القادة المزيفون الشعوب لصالح هؤلاء القادة أنفسهم. ولكن هذا الشك إذا تمادى إلى حدِّ نبذ جميع الآراء ما خلا تلك التي تعزز المصالح الخاصة بصورة واضحة — وهو قمينٌ بهذا — فإن بوسعه حينئذٍ أن يحطم قدرتنا — كشعب — على التضامن في العمل بدرجة من الحرية معقولة.

ويجدر بنا أن ندرك خطورة هذه الأزمة. غير أن أفضل إيمان نتمسك به هو الاعتقاد بأنَّا في مرحلة انتقال لا انحلال. حقًّا لقد كنا نمرُّ بمرحلة انتقال خلال القرن التاسع عشر، وهو انتقال أثار الحيرة عند هنري آدمز الذي نفذ فيه إلى أبعد مما نفذ أكثر الناس. وكانت ضروب الحرية التي استمتعنا بها آنذاك صورًا انتقالية، بالرغم من أن كثيرًا من الناس ظنها صورًا نهائية. ولكنا ما زلنا نأمل أن تكون الحرية ذاتها شيئًا أكثر من قصة عابرة، ربما حدثت في فترة قصيرة قبل أن يفرض منطق الثورة الصناعية نفسه فرضًا كاملًا. ويبدو أن هذا الأمل هو أكثر من تفاؤل لا يستند إلى تعليل عقلي؛ فمن وراء النواميس الخلفية المتغيرة، لا يزال الإنسان العادي يميل ميلًا شديدًا إلى العيش وفقًا لناموس يرضى عنه إخوانه في الإنسانية. نعم إن في داخل الطوائف نظمًا وقيادات، غير أن بين هذه الطوائف إدراكًا للحاجة إلى التوافق أعم مما يبدو في أكثر الأحيان في البيانات العامة التي تتخذ صورة النداء السياسي الخاص بما ينطوي عليه أي نداء سياسي من عيوب.

إن ما نُسميه «الرأسمالية» عقيدة توقف موقف المدافع عن نفسها، والمدافع يخسر كثيرًا من المواقع. أمَّا المبادأة فتكمن في قوًى أخرى. ويبدو أنه لن تكون هناك رجعة إلى المضاربة الفردية. فإن حدثت، فلن يكون فيها حل مشكلة الضمان. ويجب علينا أن نتقدم على أساس يحتوي على الضمان. غير أن الجماعية المطلقة هي بالنسبة إلينا في موقف المدافع أيضًا، وبخاصةٍ النوع المركزي منها. أمَّا الجماعية اللامركزية، التي قد تحتفظ بقدر أكبر من المرونة والحرية، فليست من الأمور التي يستطيع الإنسان أن ينشئها إنشاءً، ولا بد لها أن تكون نتيجة للتطور. وهي تعتمد على نمو القيود والنظم التلقائية عينها التي نحتاج إليها لكي نجعل نظامنا المختلط في الوقت الحاضر فعَّالًا؛ ومن ثَم فإن السؤال القائم الآن هو: في أي اتجاه إنشائي نستطيع أن نتقدم به، وأي بناء إيجابي نستطيع أن نقيمه من القوى التي تملك المبادأة في الوقت الحاضر؟

(١-٢) الفرد والجماعة والدولة

إننا بحاجة إلى تعريف الحقوق الطبيعية للإنسان في وضع جديد، وفي مضمون جديد، ولقد نأخذ على فكرة الحقوق الطبيعية أنها ارتبطت — إلى حد كبير — بمجموعة من القواعد المعينة التي تقوم على صورة من الفردية بالية عتيقة، وتعزو إليها صفة من الدوام لا تستند إلى أساس، كما أنها طبقت نوعًا من المساواة الشكلية المبنية على التعاقد على مجتمع لم تعد وظائفه المتنوعة تتفق مع هذا الإطار، وإنما تختفي وراء ذلك صورة ذهنية عن طبيعة الإنسان — حاجاته، واستجاباته، وقدراته — وعن النظم التي يتطلبها لكي يحقق طبيعته الفردية ويؤدي واجبه في المجتمع. هذه هي حقوقه الطبيعية، التي لا يمكن للمجتمع أن يتجاهلها دون أن يتحمل الجزاء الذي تمتد جذوره في طبيعة المجتمع وطبيعة الإنسان. غير أن النظم التي تتجسد فيها هذه الحقوق لا تثبت على صورة واحدة، وهذه النظم — باستثناء بعض الحالات الأساسية — ليست هي بعينها بالنسبة إلى الهيئات التجارية والمساهمة في الإنتاج، وإلى الطبيب، والأستاذ، والعامل في مناجم الفحم. إن كل جيل لا بد أن يكشف عنها من جديد، مع تغير الظروف، وتغير المعرفة بالإنسان ذاته.

وآراؤنا الأساسية في العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة هي من وراء هذا كله تتطور بتأثيره وتتغير. ولقد عشنا — في هذا الصدد — في دنيا صراع بين مجردات كاذبة — المجتمع المجرد، أو الدولة المجردة، أو الفرد المجرد. وقد بنينا حضارتنا الحرة على أسطورة الفرد المجرد، الذي تقوم الدولة والجماعة لخدمته؛ على اعتبار أن المجتمع ليس إلا مجموعًا عدديًّا لأمثال هذا الفرد، وأن الدولة أداتهم، تؤدي لهم أفضل خدمة إذا هي أعطتهم أقصى حرية لخدمة أنفسهم. وعلى نقيض هذه النظرية، وبالإفادة بما فيها من مغالاة وعيوب، نشأ مبدأ الدولة المتحكمة، التي يعيش فيها الفرد لخدمة الجماعة التي تتجسد في الدولة، وتشمل سلطة الدولة كل شيء في الحياة.

ومعنى هذا عمليًّا أن السلطة ليست فقط بغير حد، ولكنها كذلك بغير مسئولية.

غير أن نفورنا من هذا المبدأ ينبغي ألا يقودنا إلى تأييد نقيضه في الطرف الآخر الذي يؤدي إلى تأليه مصلحة الفرد الشخصية المستقلة التي لا تحتمل أي نوع من أنواع المسئولية؛ لأن كلتا هاتين النظريتين لا تمسُّ إلا جانبًا واحدًا من الجانبين، ولا تمثل حقيقة الإنسان والمجتمع، وكلتاهما لا تصلح أساسًا سليمًا لبناء صرح اجتماعي، إنما المجتمع الطيب هو الذي يفرض واجبات على أعضائه، واجبات يتطلب أداؤها استخدام قدراته استخدامًا كاملًا، ويتقبل فيه الأعضاء هذه الواجبات قبولًا تامًّا شاملًا وعن رضًا وطواعية. وحتى مجتمعنا الذي يغالي في الفردية يعترف بسيادة الدولة حينما تهاجم، بالرغم من أنه يجاهد جهادًا شاقًّا للاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الحرية الشخصية، حتى إبان الحروب.

ويطمئن الأفراد اجتماعيًّا إذا هم سلَّموا للجماعة بالسيادة بشرط أن تكون الجماعة من النوع الذي يجد حياته ورفاهيته في حياة أعضائه ورفاهيتهم، وفي حسن العلاقة بين بعضهم وبعض. ومما يدعو إلى أمن الجماعة أن ترى رفاهيتها في رفاهية أعضائها، فتفسح في المجال لأغراضهم الفردية، إذا هم برهنوا على أنهم حيوانات اجتماعية وليسوا وحوشًا أو آلات لا تبحث إلا عن ذاتها — إذا كان الفرد منهم يحسب لحاجات غيره وأغراضه حسابها، ويعتبر نفسه مسئولًا أساسًا عن سلوكه مسلك عضو في جماعة. وبهذا النوع من أنواع الفرد، وفي هذا الضرب من ضروب الجماعة، لا يبقى من المستحيل أن نوفِّق بين الفكرتين المتعارضتين، ويمكن أن تتحدا في مركب واحد منتج، ويهبط الصراع إلى حد أن يصبح مجرد ملاءمة بين تفصيلات النقاط الفرعية.

وفي هذا النوع من أنواع المجتمع تمسُّ الدولة أقوى عامل محسوس لدى الجماعة، ولكنها ليست العامل الوحيد. وبالرغم من أن الدولة بحاجة إلى أن تملك سلطة الحكم العليا النهائية — ولا نتعرض الآن إلى المشكلة التي تتعلق بحق الثورة الأعلى — فهي تستطيع أن تسير الأمور مع ممارستها لحد ضئيل من سلطة الحكم، واحتفاظها — برغم هذا — بحياة جماعية منظمة.

وعلى قدر ما تكون المسئولية الاجتماعية للأعضاء ناقصة، تكون النتيجة مضطربة.

أمَّا إذا ساد إحساس بالمسئولية أساسي قوي، فإن الاضطراب لن يبلغ حد الفوضى، ولن تكون بالدولة حاجة إلى إقامة نفسها — كما فعلت ألمانيا النازية — هيئة تتجسد فيها الجماعة تجسدًا كاملًا، وتفرض نفوذها على وجود الفرد من جميع نواحيه، بل تتألف — بدلًا من ذلك — جماعات عديدة تمثل أجزاء المجتمع، وما دامت لا تنازع غيرها فهي في ذاتها مجتمعات صغرى. أمَّا في حالة النزاع فعليها إما أن تكيِّف نفسها وإما أن تخضع لغيرها.

(١-٣) الحاجة إلى مجتمع اقتصادي

لقد خدعنا أنفسنا زهاء مائة وسبعين عامًا، فحسبنا أننا نستطيع بمراعاة المصالح الخاصة دون أية مسئولية إزاء الصالح العام أن نقيم مجتمعًا لا يتقدم فيه الناس فحسب، بل يعيشون فيه أيضًا خلال تقدمهم مكرَّمين منسجِمين. ولقد وضعنا ثقتنا في سوق آلية، تهتم برواج السلع وتهمل الأشخاص، وفي سياسة، لا تقيم إلا وزنًا ضئيلًا للأخلاق، وتمثل مصلحة معينة أكثر مما تمثل صالح المجموع. وفي الوقت عينه كان هناك عاملان من عوامل الإصلاح — هما: المجتمع الذي يحترم فيه كل جار جاره، وعامل الدين — أخذا يضعفان في قدرتهما على التأليف بين الناس. وفي كثير جدًّا من شئون الحياة اليومية ترى الفرد أولًا عضوًا في جماعة اقتصادية من الجماعات، ثم هو بعد ذلك أمريكي (أو وطني). وقد نرثي لهذا المآل، غير أن ما يحزُّ في القلب فعلًا هو أن المجتمع هو الذي أدى إلى هذا الموقف، بإهماله أجيالًا طويلة للحاجات الضرورية، وبتعاميه عن حقيقة الإنسان وحقيقة الجماعة.

وقد بدأنا نتنبه للحاجات الواضحة المحسوسة، وشرعنا نعدُّ لهذه الحاجات عُدتها. فمن الناحية الإنسانية والروحية بدأنا نتحسس طريقنا نحو معايير مشتركة، أو على الأقل نحو قاعدة نعيش على أساسها معًا بما لدينا من معايير. غير أن ما لدينا من مخلفات يجب تسويتها كثير. علينا أن نتعلم المعنى العملي لهذه الحقيقة، وهي أن المجتمع ليس مجرد شيء يتطلع إليه الفرد للمنفعة — وإن يكن فيه هذا الجانب — ولكنه كذلك شيء يدين له الفرد بالواجبات، وعلينا أن نتعلم أيضًا أن المكاسب يجب أن يسوغها ما نقدمه من معونة، لا للزبائن وحدهم، أو حتى لصناعة من الصناعات، وإنما للصالح العام في جملته، وكان لا بد من إعادة الكشف عن هذه الحقيقة بعد أجيال من الحياة في عالم كان يتوقع من كل فرد أن يرعى صالح نفسه فقط.

ولا تستطيع الدولة مراعاة الحاجات المهملة إلى حد يسير فقط، أمَّا الجانب الأكبر من هذه الحاجات فلا ترعاها إلا الجماعات التي تناضل في سبيل تعزيز مصالحها على حساب مكانة الجماعات الأخرى المعهودة. وهذه طريقة طبيعية سليمة لإحداث التغيرات الضرورية، إذا كانت الجماعات تدرك الخطر الاجتماعي فيما تفعل، وإذا كانت السلطة — فيما بين الجماعات — متوازنة توازنًا متسقًا يكفي لمفاداة تعرُّض أية جماعة من الجماعات لما تُحدِثه السلطة التي لا تحدُّ من أثر فاسد معروف. وقد ألقى برين ج. هوفد رئيس المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي بيانًا قويًّا عن الشروط الضرورية، وكان ذلك منذ فترة وجيزة، قال: «الحرية هي الاجتماع عن طواعية مع الأفراد الآخرين، الذين هم كذلك أحرار؛ ومن ثَم فإن الحرية الفردية لا يمكن أن تتفق مع القدرة على استغلال الأفراد الآخرين أو على كبت حرياتهم … يجب على الفرد أن يفهم ظروف حياته الخاصة لكي يقرر في حكمةٍ أن عليه أن يحتمل هذا القدر من القانون أو من الطاعة لكي يستمتع بهذا القدر من الحرية أو ذاك. مثل هذا الفرد فقط هو الرجل الحر — بقدر المستطاع — الذي يحدُّ فيما بينه وبين نفسه من حريته الخاصة في سبيل أكبر قسط ممكن من الحرية للجميع. والمجتمع الذي يتألف من أمثال هؤلاء الأفراد المتحررين يستطيع أن يهضم كل ما تحدثه التكنولوجيا من تغيرات وكل ما يحل بالعلاقات الاجتماعية من تطورات، وبوسعه أن يشكِّل القوى الديناميكية في صورة تطور مطرد، تلك القوى التي بغير هذا تكون قمينة بإشعال نار الثورة.»

ويحدِّد لنا هذا البيان مستوًى عاليًا دقيقًا، وهو يتصور ضرورة الخضوع للقانون، ولا يجعل للفرد حرية اختيار مدى هذا الخضوع؛ ومن ثَم فإن ذلك يقتضيه أن يقبل طائعًا قرارًا إجماعيًّا قلَّما يحدِّد مقدار الخضوع كما يريد الفرد أو يختار. وسيُضطر الفرد إلى أن يتنازل عن كثير من حريته الشخصية في سبيل الخضوع للجماعة، وذلك ما لم يحدد حريته، في كثير من الأمور، دون أن ينتظر القانون ليقوم بهذا التحديد. والقواعد التي تتحكم في مثل هذا التحديد، وإن يكن من السهل قبولها نظريًّا، عسيرة عند تطبيقها على الحالات الملموسة، وبخاصة إن كانت هذه الحالات مما يمسُّ الفرد ذاته. إن أولئك الذين يطالبون بحقوق جديدة لا يستطيعون أن يتبينوا في وضوحٍ ما يلازم هذه الحقوق من واجبات، بل ولا يستطيعون أن يدركوا أن الحقوق الجديدة تتضمن واجبات جديدة، وإلا فهي حقوق مضيعة. وأشق من ذلك في إدراكه مخاطر النفوذ الذي لا يحدده غرض اجتماعي سليم. وحينما نواجه هذه المطالب مواجهةً صحيحة، نستطيع عندئذٍ أن نزعم أننا نكوِّن مجتمعًا اقتصاديًّا.

(١-٤) الحاجات الدينية والمجتمع

إن حاجات الإنسان وقدراته على إنشاء مجتمع من المجتمعات تتضمن حاجاته وقدراته الدينية؛ ومن ثَم فإن من واجبنا أن نبحث عن العناصر التي تعاون تعاونًا بنَّاءً على تحقيق ذلك. ويجب أن نؤكد أن النظرة التطورية إلى أصول الآراء الدينية ليست دليلًا على صحة أو خطأ هذه الآراء في صورتها الراهنة. غير أنها قد تدفعنا نحو التسامح ونحو قبول التطور الذي لا يزال مستمرًّا. والهدف النهائي هو أن نؤلف بين أناس يختلفون في نظراتهم الدينية لكي يؤدوا واجب بناء المجتمع.

إن الإنسان يفسر ما لا يفهمه في الكون في حدود ما يفهمه؛ على اعتبار أن هذه الأمور الغامضة عمل شخصي تقوم به الأرواح الخيِّرة، أو الأرواح الشريرة. وتأتي في نهاية الأمر فكرة كائن خير، أوحد، عادل، قادر على كل شيء، لمصير كل فرد لديه أهميته — في عقائدنا نحن أهل الغرب. وقد تهذَّبت هذه النظرة لما زادت إنسانية الإنسان، وأمكن صياغة الكون القائم على أساسها وفقًا لتقدم العلوم، وإن تكن الصياغة جزئية وفي وقت متأخر. ويتألف هذا البناء الديني من مواقف مختلفة من الرهبة والتقديس للقوى الكونية، ومن الفروض العقلية، وكذلك من لقانة بشرية وكونية كبرى، مُدركة إدراكًا ناقصًا ومصوغة صياغةً ناقصة، ومن استنتاجات منطقية من هذه الصيغ. والمنطق — إذا طُبق على هذه الصورة — فقد يكون قوة مريعة؛ فقد كانت محاكم الاضطهاد الديني — إذا سلَّمنا بما قامت عليه من مقدمات — منطقية تمامًا وبغير رحمة. ويشتمل البناء الديني أيضًا على روح الأخوة البشرية، وعلى المبادئ الخلقية الشكلية، وعلى المثوبة والعقاب، وعلى أمل انتصار الخير واندحار الشر. وهو يفعل فعله عن طريق التأثير في الدوافع الشخصية، وعن طريق الضغط على أنواع السلوك الاجتماعي الظاهري.

وقد وحَّدت كنيسة العصور الوسطى بين العقيدة والسلوك الخلقي، كما تحكَّمت في السلوك الاقتصادي والاجتماعي. وكانت معاييرها مألوفة، تكفل شيئًا من الحماية للرجل العادي، وجانبًا كبيرًا منها للنظام القائم. وكان لها نفوذ دنيوي بلغ حدًّا لم يعد اليوم بالإمكان. وكانت عالمية، تدعم نظامها عقوبة جهنم، وهي نار واقعية طبيعية. وربما لا يستطيع أن يفل من هذا النفوذ للكنيسة سوى تضخم العمل التجاري في العصر الحديث. غير أن الإصلاح البروتستنتي حرم الكنيسة من العالمية الضرورية للتحكم في التصرفات العالمية الاقتصادية، كما مد من الفردية حتى بلغت الأساس الديني للأخلاق، وكذلك كان العلم يضعف من سيطرة العقيدة اليقينية.

ثم فقدت البروتستانتية مؤقتًا الاهتمام بالتحكم الموضوعي في الصلات الاجتماعية، وتعرَّضت بخاصة للهجوم من الراديكاليين على اعتبار أنها «مخدِّر للجماهير». والآن بعد أن أخذت تحاول أن تعوِّض الوقت الذي فقدته في هذا الميدان، فإن سلطانها مقيَّد بالتغيرات التي لا يمكن النكوص فيها تاريخيًّا، وهي التغيرات التي أشرت إليها؛ فلقد أضحى التزام الدين تطوعًا، والجحيم فرضًا غامضًا، والرعايا في المواقف التي يريد الدين أن يسيطر عليها، متنافرين غير منسجمين، ينخرط في سلكهم كثيرون متمردون صراحةً على الدين. فولاية تنسي تضمُّ دايتن، حيث حوكم سكوبس لنشره مبادئ التطور، كما تضم أوك ردج، حيث كان مولد عصر الذرة. وليس الأمر هيِّنًا أمام الكنيسة وهي تحاول أن تُدخل مرةً أخرى المبادئ الملائمة للأخلاق الاجتماعية في بناء اقتصادي ثابت مستقر، نما خلال نحو مائة وسبعين عامًا على عقيدة أنه يستطيع أن يتقدم تقدمًا معقولًا بغير هذه المبادئ.

وإني لَأُحب أن أتصور عالمًا، لا يرغب في الاعتماد على القوى غير الطبيعية التي لا تتفق والأسباب العلمية ونتائجها، ولكن العلم لم يقتل فيه إحساس الرجل العادي بتقدير الأمور التي يعالجها الدين؛ ثم أتساءل ماذا عساه فاعلًا بهذه الأمور في عالم امَّحت فيه العقائد الدينية والكونية الموروثة؛ هل يرى أن الميراث الاجتماعي للإنسان يتضمن سندًا خارجيًّا، لا يدرك كُنهَه الإنسانُ العادي؛ لأنه يخضع لقواعد السيكولوجيا والعلوم الاجتماعية؟ أو هل يرى أن الميراث العنصري للإنسان يتضمن شيئًا في اللاوعي أقوى من قدراته الواعية، ويمكن وصفه بحق بأنه قوة كونية، تجعل كل امرئ يحمل بين جنبَيه شيئًا من الخلود على وجه الظن، ويحمل يقينًا شيئًا من حياة العنصر البشري الدائمة؟

هل يا تُرى يرى أن هذه الحقيقة العلمية إنْ هي إلا جزء من قوى الطبيعة العالمية التي صاغ حولها الناس صورهم الذهنية عن الآلهة، وأن هذه الصور الذهنية — استنادًا إلى ذلك — تُمسي أقرب إلى الحقيقة من الآلية العلمية المجردة التي تتجاهل هذه الحقيقة، وأن الحقيقة العلمية تمثل قوةً يعيش فيها الإنسان وتعيش في الإنسان، وتؤدي له كثيرًا من الأمور التي تعبر عنها الأديان القائمة، بطريقتها الخاصة، في نصوص مكتوبة لا يحيط بها حصر؟ أعتقد أن ذلك ممكن، وأن مثل هذه المادة تحتاج إلى أن تكون جزءًا من التصورات الدينية التي يمكن أن تكون حقيقية لقومٍ شاعت بينهم طرق التفكير العلمية. إنَّا إذا أكَّدنا هذه الصورة الذهنية، فقد لا تتضخم في أعيننا الفوارق بين مختلف المذاهب.

ومن الأمور التي ينبغي لمثل هذا العالم أن يدركها هو أننا حينما نجعل حياة الإنسان معبِّرةً عن الجانب الاشتراكي البنَّاء من هذا الميراث العنصري، لا يكفي أن نعظ الأفراد الذين تقوم أعمالهم اليومية على أساس فردي صارم، وإنما يجب علينا أيضًا أن نراعي أن القاعدة الفردية في تغير. ولم تنسخ بعدُ قوانينُ السوق كل المدى الفردي في العمل وكل مسئولية. والهيئات المسئولة وإن تكن اجتماعية إلى حد ما إلا أن لديها إمكانيات فردية غير مستقلة، ونحن بحاجة إلى أن نجعل لهذه الإمكانيات أثرها في بناء الأعمال اليومية، وإلا فلن يفلح إحياء المحاولة لكي نجعل الأخلاق المسيحية فعالة في الأمور الدنيوية. وقد بلغنا حدًّا لن تعيش فيه مدينتنا إلا إذا هي قطعت شوطًا كبيرًا في سبيل النجاح.

(١-٥) مغامرة الذكاء الخطرة

إذا كانت هذه الجولة غير المعهودة في مجالات الطبيعة البشرية وحاجات الإنسان قد أبرزت لنا حقيقةً ما، فهي أن الذكاء مغامرة خطرة. إنه يتلمس الوسائل التي تؤدي إلى سد الحاجات التي لم تسمح الطبيعة البدائية بسدها، وهو يتطلب منا أمورًا قد تثور عليها طبيعتها اللاواعية، وهو يبني أسسًا «معقولة» للسلوك الاجتماعي ثم يشرع في هدم هذه الأسس التي بناها ويسلبها قوتها، وهو ينادي بمبادئ تبعث آمالًا لا يستطيع المجتمع أن يحقِّقها كاملة، أو أن يخفِّف من حدتها فيحطمها ويقضي عليها.

إن المرء في ردود أفعاله لا يكيِّف هذه الردود تمامًا طبقًا لحاجات المواقف المختلفة، فتتخبط أو تنحاز انحيازًا منحرفًا. وينطبق هذا الحكم على كل أمر من الأمور، من أبسط الغرائز إلى «أرقى» الأعمال، في صورة المجردات الخلقية أو قواعد السلوك ذات الصبغة المعينة، أو المذاهب الدينية التي وصفها تسن بأنها «الأضواء المنكسرة». والمذاهب لا تفسح مجالًا كافيًا للدرجات المتفاوتة والأنواع المختلفة من الأحكام الشاملة الكونية التي تصدر عن البديهة، كما أن قواعد السلوك لا تقابل التنوع الذي لا حد له من الشخصيات البشرية والمواقف الإنسانية. وكذلك نجد أن القاعدة التقليدية ﻟ «الفضائل الاقتصادية» التي آمنَّا بها قد أخذت تتحول، وهي بحاجة إلى موازنة جديدة بين المصلحة الذاتية ومسئولية الجماعة، كما أنها تجاهلت حاجات الإنسان باعتباره حيوانًا اجتماعيًّا، وينبغي أن تفسح لها المجال. إننا لم نبنِ قط «مجتمعًا عظيمًا» على أساس مشترك من الحرية والأخلاق الاجتماعية التقدمية. وهذا الواجب الذي لم يسبقنا إليه أحد هو الذي يواجهنا اليوم.

إن حياتنا الاقتصادية وتفكيرنا الاقتصادي قد أكَّدا مقدار ما نسدُّ من حاجات، ومقدار الأنواع التي يمكن أن تنزل إلى السوق، دون الإشارة إلى نوع هذه الحاجات التي نسدُّها أو التي نستنكرها. إن حياتنا الاقتصادية وتفكيرنا الاقتصادي قد اهتمَّا بالقدرة على تحقيق الأهداف دون الإشارة إلى الأغراض البشرية التي من أجلها تستغل هذه القدرة. وقد أمست القدرة بغير هدف اجتماعي وثنًا يقود حضارتنا إلى حافة الفوضى والخراب. وكلنا يدرك اليوم أن هتلر قد استطاع أن يملأ هذا الفراغ إلى حد كبير؛ لأنه قدَّم لشعبه هدفًا معيَّنًا. ولسنا بحاجة إلى مثل هذا الهدف، ولا إلى أي هدف جماعي يسود ويسيطر، اللهم إلا حينما يكون المجتمع مهدَّدًا بالخطر. ولكنا بحاجة إلى إدراك جماعي لأهداف المجتمع التي تدفع دفعًا واعيًا إلى الأمام حاجات هذا المجتمع وأهدافه.

لماذا تحتاج الدولة إلى مجتمع منظم من خلفها، دولة يقابل تكوينها تكوين هذا المجتمع؟ إنها بحاجة إلى ذلك لأنها بدونه لا تجد لها سبيلًا آخر غير الإرغام والفوضى. وإذا كان المجتمع متماسكًا تماسكًا شديدًا، استطاع أن يوجه الدولة إلى أداء أمور مختلفة تحسن الدولة أداءها، ولا تلجأ إلى الإرغام إلا لكي تحدَّ من نشاط الأقليات التي لا تتجاوب. أمَّا إذا كانت في المجتمع «حالة طبيعية» تكاد تكون حالة من حالات الحرب، فالدولة إذَن إما أن تُخفِق في حفظ نظام محتمل، وإما أن تقوم به على حساب الإرغام الشامل الذي لا يميز، والحرية الشخصية في كلتا الطريقتين مفقودة.

والجماعات الاقتصادية التي ننتظم فيها اليوم تقترب جدًّا من هذا الوضع؛ فهي تقرب طريق الإرغام والفوضى بحيث لا تتوافر لنا راحة أو أمن. وهذه الجماعات من الضخامة بمكان، شديدة التعقيد، تعي أهدافها وعيًا تامًّا وتعقلها تمامًا، وهي لذلك لا تستطيع أن تنظم نفسها في مجتمع من النوع «الطبيعي» الذي يحدثنا عنه علماء الأنثروبولوجيا، والذي كان يوجد — مثلًا — في جزر البحر الجنوبي قبل أن تغمرها حضارة الجنس الأبيض. وتنظيم هذه الجماعات المتقاتلة يجب أن يتم بذلك النوع المقصود من العمل الذي يرتبط بنظرية «العقد الاجتماعي». والظاهر أننا في دور من أدوار التطور البشري الذي يمكن أن تطبق فيه صورة من صور نظرية «العقد الاجتماعي» لأول مرة على نطاق «المجتمع الكبير». ولا يكون ذلك شاملًا لعملية تنظيم المجتمع كلها؛ إذ لا بد أن يكون هناك شعور باطني برباط مشترك — هو على الأقل الخطر من أن يهلك بعضنا بعضًا — وذلك لكي نضع أساسًا للاعتراف بالحقوق والمسئوليات المتبادلة. وهنا نعود إلى موضوعنا الرئيسي.

إن ذلك يقتضي المغامرة في إعادة البناء، وهي مغامرة لا تكفل لها النتائج السعيدة. إن العالم في براثن نضال جسيم، في أحد جانبَيه قوًى تدفع نحو الفوضى والاضطراب، قوًى سياسية واجتماعية واقتصادية وخلقية، وفي الجانب الآخر قوًى تسير نحو السيطرة المركزية، وبين هذه وتلك يقف أولئك الرجال وتلك القوى التي تحاول في استماتةٍ أن تستخلص قاعدة علمية لمجتمع إنساني منظم، يمكن أن يحتفظ بدرجة فعالة من الحرية والديمقراطية، وذلك دون تحطيم المجتمع بممارستهما ممارسة فوضوية وبالغلو فيها غلوًّا هدَّامًا. وليس هناك معنًى في أن نطالب — في عالم الطاقة الذرية — بقيام عالم آمن تسوده الحرية والديمقراطية.؛ فقد حكم على المجتمع أن يعيش عيشةً خطرة، وليس منا من يشك في ذلك. وفرصتنا في الكفاح تتوقف على تنمية قدرتنا على التفكير والعمل الحر البنَّاء، برغم سيف داموكليز المُصلَت فوق رءوسنا.

المصادر

كل هذه المختارات منتقاة من محاضرات ج. م. كلارك التي نُشرت تحت عنوان «ماذا نستبدل بالعبودية؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤