الرحلة الثانية

سار كولومب في رحلته الثانية بأربع عشرة سفينة تحمل كل ما يساعد على استعمار أول أرض يطئونها في الدنيا الجديدة. فمن النباتات: الحبوب على اختلاف أنواعها، ومن الحيوانات: المعز والعجول والنعاج والخنازير. وكانت تلك النباتات والحيوانات مجهولة تمام الجهل في البلاد الجديدة. واصطحب كولومب هذه المرة كثيرًا من المبشرين والمرسلين، لا سيما صديقه الحميم «يوحنا بيريس»، وهو أول من نطق بالقداس الشريف على سطح المحيط العجاج فوق تلك اللجج السائلة المتجهة إلى نواحي المعمورة الجديدة، التي سُمِّيت فيما بعد «بأمريقا» نسبة إلى الرحالة الإيطالي المشهور «أمريكوفسبوسي». فسار كولومب قاصدًا تلك الديار النائية لا يلوي على شيء وكأنه قطع تلك الطرق وعاودها ألف مرة. فقام من «بالوس» في الخامس والعشرين من سبتمبر سنة ١٤٩٣، وفي يوم الأحد ٨ نوفمبر اكتشف جزيرة «دومينيك» التي دعاها بهذا الاسم نسبة ليوم اكتشافها (دومينيكو؛ أي الأحد). وبعد زمن أدرك «ماري جالانت» حيث أقام فيها الصليب «يوحنا بيريس» وبشَّر مع باقي رفاقه بين أهالي تلك الجزر.

ثم وصلوا إلى جزيرة كبيرة دعوها «جواد لاب» نسبة إلى أحد قديسيهم. وكان كولومب عمل حساب المسافات بكل تدقيق حتى إنه وصل إلى جزائر «كارايب» التي تسكنها قبيلة متوحشة تُسمَّى «بالكنيبال»؛ وهم قوم من أكلة لحوم البشر. وكان كولومب عازمًا على الاستيلاء عليها وإبادتها عن آخرها أو على الأقل إخافة أفرادها؛ حتى يخفف جراءتهم الفظيعة ويمنع جولانهم المرعب.

وبعد ذلك اكتشف كولومب جزيرة «أنتجوا» ثم «بورتريكو» و«منسرات» التي وجدها خالية خاوية لا سكان فيها ولا قُطان؛ لأن «الكنيبال» أكلوهم عن آخرهم. وأخيرًا في يوم الجمعة ٢٢ نوفمبر سنة ١٤٩٣ وصل الأميرال بسفينته إلى جزيرة «هسبنيولا» عن طريق مصب نهر الذهب، وكان الطريق ظاهرًا بل ويكاد يكون مخطوطًا من قبل. ولم يرَ الإسبان على الشواطئ — بعكس ما كانوا ينتظرون — إنسانًا قط، بل كانت خالية قفرة لا أنيس بها ولا جليس بخلاف ما لاحظوه من عادة الهنود؛ فإنهم كانوا يرونهم مجتمعين منتشرين حول السواحل، لا سيما عندما يرون سفينة مقدمة نحوهم. فتعجب الملاحون لهذا الأمر، ولكن يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب؛ فإنهم وجدوا جثتين ملقاتين فوق الرمال يحوط رقبة الأولى حبل، وكان ذراعا القتيل موضوعين على هيئة الصليب ومربوطين بنفس الحبل، وعلى مسافة من هاتين الجثتين وجدوا أخريين إحداهما ذات لحية دلت دلالة صريحة أن المقتولين هم من البحارة الذين تركوهم في الحصن الصغير الذي ابتنوه قبل مفارقتهم للجزيرة من بقايا السفينة. ولما أطلقوا المدافع لم يسمعوا إلا صداها ولم يجبهم مجيب إلى صيحاتهم بالمرة؛ فتيقنوا حينئذٍ مما حدث بإخوانهم، وتأكد الأميرال من تلك المصيبة التي لحقتهم.

وتحرير الخبر أنه بعدما فارق كولومب وأصحابه الجزيرة وتركوا فريقًا منهم هناك، ثار هؤلاء وهربوا مجدِّين في طلب المناجم الذهبية؛ ليتجروا منها لفائدتهم الخصوصية. ولما علم بذلك الأمير «كاونابو» الهندي الذي كان مسيطرًا على تلك المناجم أحب الانتقام، ففكَّر في نفسه، ووجد أنه بعد عودة من رجعوا إلى إسبانيا وهروب من هرب من الملاحين لا يمكن للباقين الدفاع عن أنفسهم إذا حاول مهاجمتهم. فاقترب منهم ذات ليلة برجاله فوجدهم ساكنين هادئين وكأن على رءوسهم الطير، وليس على أبوابهم حراس يدافعون عنهم وقت الحاجة. فدخل الهنود يتدرجون شيئًا فشيئًا حتى تعمقوا في الحصن، وقتلوا جميع مَن كان فيه مِن البحارة، ثم أوقدوا النار في أكواخهم التي كانوا يقطنونها. أما الأمير «جواكاناجاري» المخلص لكولمب فبادر إلى مساعدة الإسبان، ولكنه لم يدركهم إلا بعد أن قضى عليهم «كاونابو» ورجاله. ثم فرَّق هذا الأخير رجال الأمير «جواكاناجاري» وجرحه في وجهه جرحًا بالغًا، وأحرق أكواخه وأكواخ قبيلته. فعزم كولومب حينئذٍ على بناء مدينة محصنة؛ ليمكنه حين ذاك دفع هجمات الأعداء. فخط الرسومات ورسم بيده على الأرض الشوارع والمنافذ. ثم وضع باسم الثالوث الأقدس أول حجر لأول مدينة شيدها هناك. ثم دعاها إيزابل تَذكارًا لفضل تلك الملكة العظيمة. فشرعوا أولًا في بناء الكنيسة وبنشاط وغَيرة البحارة ومراقبة كولومب لهم، أمكنهم أن يقيموا في أول كنيسة في الدنيا الجديدة يوم ٦ يناير القداديس والصلوات. وكان ذلك اليوم هو عيد الغطاس، فقام بالقداس الاثنا عشر مبشرًا الذين كان اصطحبهم كولومب معه بصفة مرسلين. واعتمد في ذاك اليوم عدد عظيم من الهنود، وبذا تم سرور كولومب. وفي الحقيقة ونفس الأمر إن هذا لمن الأمور التي ينشرح لها صدر كل إنسان يعرف قيمة ذلك الدين.

ثم قرَّ رأيه أخيرًا على أن يرسل إلى إسبانيا للبحث عن مؤن أخرى وذلك ليشغل البحارة. ثم قصد جبال «سباو» ليكتشف المناجم الذهبية، وكان يأمل أن يمكث البحارة مدة تُذكر في الجزيرة، فيها تهدأ أفكارهم، ويزول ما كان يعتورها من الاضطراب.

ولكيما يستميل سكان تلك الجزر ويضرب عليهم بيد من حديد ويدهشهم ويحيرهم في أمرهم؛ خرج من مدينة إيزابل وسط بحارته وكأنه كان ذاهبًا إلى معركة حربية فكانت الطبول تُدق، والأبواق تصوت، والأعلام ترفرف في الفضاء. وساروا على هذه الحال حتى صادفوا طريقًا وعرًا مسدودًا بالصخور والآكام والأتربة المتراكمة والعليقات المتشابكة والجذور المرتبطة مما أربك الطريق وجعلها وعرة يستحيل عبورها، وحينئذٍ صاح كولومب بالضباط المهرة والرجال الأقوياء، وكانوا من شبان الأشراف الذين اشتهروا بالبسالة والبراعة في حرب المغاربة الأخيرة. فاستفز كرستوف همتهم ونخوتهم واستحلفهم بشرفهم ومروءتهم أن يعملوا على ما فيه الفائدة في القريب العاجل، ولم تمر بضعة دقائق وجيزة حتى سلك الطريق بجدهم واجتهادهم، وكانت أول طريق وعرة فتحوها للعابرين في هذا العالم الجديد. ثم وصلوا إلى وادٍ جميل دعوه بالوادي الملوكي، وكان قريبًا من «سيباو»، فابتنى هناك كولومب حصن القديس «توماس» وجعل «بدرو» أحد رجاله العاملين حارسًا له وأميرًا عليه.

ثم كر الأميرال راجعًا فاكتشف في طريقه «جاميكا» وأرخبيل «حدائق الأميرة». وهناك صادفت السفن أنواء عظيمة ورياحًا هائلة، فأحدق بهم الخطر من كل جهة، وصاروا في حالة يرثى لها في وسط تلك الصخور والآكام. وكان التعب قد أضنى كولومب فاستغرق مرة في نومه خمسة أيام وخمس ليالٍ! ولما تيقَّظ من نومه قابل أخاه «برتلماوس» في عرض البحر، وكان راجعًا من إسبانيا حاملًا المؤن المطلوبة، ومعه خطاب من الملكة، وهو أول كتاب أُرسل من أوروبا إلى العالم الجديد.

أما حصن «سنت توماس» — الذي مر ذكره — فقد عانى في غياب الأميرال أنواع المشاق. حيث إنه لما رأى الملاحون أنهم أحرار انقادوا لشهواتهم السيئة فتلصصوا وتطاولوا على الهنود، وكانوا يسبونهم بلا مبالاة، ويذبحون فيهم كأنهم أغنام بلا رعاة، وضربوا على من بقي منهم الغرامات الرابية والرسوم الفاحشة. فاغتاظ الهنود من ذلك وثاروا، وتحالف أمراؤهم تحت رعاية «كاونابو» الآنف الذكر. فحاصر عشرة آلاف منهم حصن «سنت توماس» الصغير، ولكن الإسبان بحرصهم وبقائهم في الحصن تحت إمرة «أوجيدا» أمكنهم بعد ثلاثين يومًا أن يُتعبوا المحاصرين الذين التزموا أن يفكوا الحصار عنهم.

أما «جواكاناجاري» فلم يقطع حبل مودته مع الإسبان، بل كان لهم عونًا عظيمًا ومساعدًا ومنجدًا كبيرًا لا يتركهم في الشدائد، بل يشاركهم ويدافع عنهم على قدر طاقته، فكانوا يستعينون به ويلجئون إليه دائمًا. ولقد أهلك الأمير «جواتجوانا» عشرًا من الإسبانيين، وأحرق كوخهم الكبير الذي كانوا أقاموا فيه شبه مستشفًى؛ فراح المرضى شهداء اللهيب.

أما كولومب مع كونه تأثر من معاملة عساكره للهنود فقد أقسم بالانتقام من قساوة أمرائهم المتوحشين؛ ولذلك هاجم «جواتجوانا» على حين بغتة، وأمر «أوجيدا» بالقبض عليه وشد وثاقه على جواده، ثم اتجهوا جميعًا على هذه الحال نحو مدينة إيزابل. فذُعِرَ الهنود في أول الأمر لهذا المشهد العجيب، ثم انتشروا كالجراد في كل الجزيرة تحت قيادة إخوة الأمير المخطوف الثلاثة. وكان انتشارهم عظيمًا مريعًا سريعًا إذ كانوا يبلغون المائة ألف عدًّا مع أن الإسبان كانوا لا يتجاوزون المائتين وعشرين نفرًا، فكأنهم أرادوا أن يقاتلوا بنسبة واحد ضد خمسمائة نفر تقريبًا؛ ولذلك كان فزع الإسبان يعظم كلما نظروا إلى تلك النسبة المريعة: إسباني واحد ضد خمسمائة هندي متوحشين! يا للفزع! يا للرعب!

أما كولومب فسلَّم القيادة العامة لأخيه ثم استغرق في الصلوات والطلبات إلى العزة الإلهية بحرارة عظيمة. وإذ أطلق الهنود في الهواء نيِّفًا وخمسمائة سهم أظلم لها الجو وسُدَّ لهولها الفضاء. ثم هبَّت ريح شديدة عند طلبة كولومب حولتها جميعًا إلى جهة أخرى، فسقطت بعيدًا دون أن تصيب المرمى؛ فاندهش لذلك جماعة الهنود اندهاشًا عظيمًا، ثم ولوا الأدبار في كل أرجاء الجزيرة، بينما كان الإسبان يصيحون بأعلى أصواتهم: يا للعجيبة! يا للمعجزة! ولزيادة فرحهم وكثرة سرورهم انطلقوا وراءهم حتى طردوهم عن آخرهم. ولقد دُعي ذلك النصر الباهر والفوز الخارج عن دائرة المعقولات: «معجزة القسي»، وصار يُذكر في التاريخ محفوفًا بكل تجلة وإكرام. فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء يدبِّر الأمور بحكمته البالغة، ويعمل كل غريبة ومعجزة:

يُدبِّر ما فات ابن آدم أمره
فسبحان رب العرش فيما يدبر

ثم دعا كولومب المكان الذي صلَّى فيه: «الجبيل المقدس».

أما حاكم حصن «سنت توماس» فكان قد هرب وعاد إلى بلاده، حيث وشى في حق كولومب ذلك البطل المغوار متهمًا إياه بالجور والاعتساف. فتراءى للملكين حينئذٍ أنه من الأوفق انتداب رجل يختبر الحالة، ويُجري كل ما يلزم، ثم يرفع تقريرًا عن ذلك للملكين. فوقع الانتخاب على أجوادو — ويا ليته لم يقع عليه — فمع أن كولومب كان أحسن إليه وغمره بإحسانه ومننه، فقد ذهب إليه متناسيًا ذلك متشامخ الأنف متعجرفًا. فبادر بجمع شهادات سيئة في حق كولومب مِن كل مَن كان مستاء منه من البحارة الفسقة الفاسدين، والعساكر القليلي التربية، والهنود الذين كانوا يشتكون مُرَّ الشكوى من الإسبان وطمعهم الأشعبي، وذلك رغمًا عما كان يتخذه كولومب من الاحتياطات الكثيرة.

فأراد كولومب أن يشرع في الرجوع، وإذ هدمت العواصف سفينة «النينا» التي كانت كأنها محفوظة برعاية العلي وحُسن عنايته، فإنه أصلحها وابتنى له أخرى دعاها «الصليب المقدس». ولما أوشك أن يقوم بلغه خبر وجود منجم ذهبي عظيم جدًّا، فأرسل مع أخيه برتلماوس العلَّامة الجيولوجي «بابلو بلفس» لقياس نهر «هانيا» وفحص الأراضي المجاورة له. فوجدوا على مسافة ستة أميال أن الأرض كانت كثيرة الذهب فكانوا يجمعونه بمقادير عظيمة جدًّا، وكميات هائلة لدرجة أنهم كادوا يظنون الأمر حلمًا.

ثم رجعوا إلى «مدينة إزابل» حاملين قطعًا من الذهب عظيمة القدْر. أما كولومب فأخذ يحمد الله ويشكره كجاري عادته، لا سيما وقد أنعم عليهم بكل تلك المنن الكثيرة.

وفي العاشر من مارس سنة ١٤٩٦ أقلعت السفن قاصدة بلاد الإسبان وعليها كولومب وأجوادو وعدد كبير من البحارة، فعاكستهم الرياح معاكسة شديدة. ولما تعمقوا في المياه، وبلغوا وسط المحيط يوم ٢٠ مايو اشتدت العواصف وعظمت الأنواء، وكادت المؤن تنفد؛ فجاع القوم واشتد بهم الطوى، وأخذوا يدمدمون بصوت خافت، ثم علت الأصوات وتفاوضوا في أمر إلقاءِ الهنود الذين أتوا معهم في البحر حتى تكفيهم المؤذن، وافتكر البعض الآخر في ذبحهم وشيهم وأكلهم. وفي السابع من يونيو بلغ الأميرال خبر الثورة التي قامت بين البحارة، فتأثر لمسمعها واغتاظ وجاهر بأعلى صوته: «إنه ولو استوجب الأمر موتنا جميعًا واحدًا فواحدًا لا يمكن أن يمس أحدنا الهنود بأقل أذًى، وكونوا على يقين أننا سندخل مياه رأس «سنت فنسان» بعد ثلاثة أيام على الأكثر.» وفي الواقع رأوا في اليوم الثالث الأرض التي نوه عنها كولومب تمامًا.

وفي الحادي عشر من يونيو دخلت السفن في ميناء «كاديس». وإذ مثل كرستوف بين يدي إيزابل نزع من فكرها كل ما كان اتُّهم به نظرًا لتواضعه ووداعته وحُسن أساليبه في الكلام. أما الملكة فكانت تعزيه قائلة: «فلنجدَّ يا كولومب أكثر فأكثر في نشر اسم العلي ورفع شأن دينه القويم في تلك البلاد الجديدة النائية، واعلم أيها الأميرال أني أريد متابعة البحث في تلك الأراضي المجهولة والاستقصاء عن مجاهلها، وإتمام المشروع، ولو لم أجنِ من ورائه ثمت فائدة.» ثم حدثته بشأن منحه قطعة أرض تبلغ مساحتها مائة وخمسين فرسخًا مربعًا من أراضي هسبنيولا يطلق عليها اسم «مركيزات» أو «دوقيه»، وذلك في أي نقطة يختارها الأميرال بنفسه؛ لكي يجعلها مقاطعة ملوكية يقيم بها بصفته واليًا على تلك البلاد. ولكن كان حنق أعداء كولومب عليه عظيمًا حتى إنه ما أمكنه أن يُقلع بست سفن من ميناء «سان ليكادي باراميدا» إلا بعد مضي سنتين. ومن ضمن ما أجروه من الفعال السافلة أنهم استأجروا أحد الأوباش لكيما يسبه علنًا بقلة الشرف والخسة والدناءة، وكل الألفاظ البذيئة والعبارات القبيحة التي يمجها السمع. كل ذلك على مشهد من الجمهور وخصوصًا أمام بحارته وأنفاره. فاشتد كولومب غضبًا واستشاط غيظًا وصفعه ذات مرة صفعة شديدة على وجهه، فلم يعاود الكرَّة بل ذهب كأنه لم يكن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤