حال الغرب

ما كان العقل ليرضى بانحطاط مراتب أعماله، وسقوط دولة أفعاله؛ ولذلك فريثما كان الشرق يلِجُّ في الظلماء، كان الغرب يعانق الأضواء، وما لبث أن تبوَّأ الغرب صهوة الضحى، وهار نهار الشرق وانمحى، وما زالت مناطق النور تمتد في الغرب أن غمرت القارة، وأضحت هناك قارة، وهكذا فتحت الأبصار والبصائر، وتنوَّرت الأسرار والسرائر، حتى انتشر العلم والجهل انطوى، وجلس العقل على عرشهِ واستوى. فتكملت المعارف والمفهومات، وتجمَّلت المعقولات والمنقولات، وسقطت الأكاذيب والأباطيل، وهدمت الخرافات والأضاليل، وارتفعت الحقايق، وتشيَّدت الطرايق. فلم يعد للفلك أحكام، ولا للعين سهام، ولا للجن مسارح، ولا للأرواح مراسح، ولا للسحر تأثير، ولا للأحلام تفسير، ولا للكيمياء إحالةُ بسيط، ولا بين المفقود والموجود وسيط. بل فتوح معقول، وكشف مجهول، وإبداع روابط، واختراع ضوابط، وإيراد موارد، وإرشاد شوارد، وتحصيل طرايق، وتنصيل طوارق، وتمهيد طرقات وصنايع، وتشييد متاجر وبضايع. فهناك الشمس ثبتت في مقرها، والأرض دارت على دايرتها ومحورها، والحكمة لبست ثوب الكمال والآداب، وسحبت مطاريف الجلال، والطبيعة فشت أسرار الأجسام، والشريعة فصلت بين الحقايق والأوهام. والكيمياءُ حررت عناصرها من حكم الاستقصات المتغلبة، وأظهرت جواهرها من صدف الآراء المتقلبة، حتى وطَّدت أصولها، ومكَّنت فصولها. والطبُّ نشر راياته وأعلامه، وكلل بشاير الظفر هامه، فافتتح معاقل الأمراض، ورضَّ قوارض الأعراض، إن يكن بقوة الأصول العنصرية، أو بفواعل الحواصل النباتية. واليدويات تحكمت هناك واستحكمت، وخضعت الأثقال وسلمت، فطار الإنسان على البخار، واختصر مطولات البحار، وضيَّق رحبات القفار. واستخدم البرق رسول أخباره، والنور مصور آثاره. وهكذا فقد سطا الإنسان الغربي على أجزاء الكاينات وكلياتها، واستخدم مجموعاتها ومفرداتها، حتى تمم نقصان الشرقي، ورقى عليه بالضرب والترقي. فلا حياة إلا هنالك، ولا ريب في ذلك، فهناك الراحة والمراح، والطرب والأفراح، والأمن والأمان، والحسن والإحسان، والثروة والغنى، والخصب والجنا، والمراسح واللهو، والمشاهد والزهو، والرقص واللعب، والأغاني والأدب، فلا يضجُّ الملل في القلوب، ولا يعج الضجر والكروب، وكل روحٍ ترتاح إلى علاقتها، ولا تحمل نفس فوق طاقتها، حتى إذا كان امرؤٌ نضو تعب، وحليف وصب، غارقًا في الأكدار، وخابطًا في الأقدار، فهو يرى ما يعزيه، ولا يرى ما يؤذيه. وبينما كنتُ ذات ليلةٍ في باريس خائضًا في كتابي، تائهًا بين خطائي وصوابي، وأنا حبيسٌ في حجرتي، لا أنيس لي غير وحدتي، مللت أنس تلك الوحدة، ورخاء هذه الشدة، وأنفتُ مسامرة ذاك النديم الصامت، أو الصديق الشامت، فهربت إلى الشارع لا أعلم أين أنطلق، هرب الطير من القنص المنغلق، سكران بخمرة التأملات، مهشمًا تحت مطارق المشكلات، وما زلت أن أوقفني بابٌ كبيرٌ، محفوف بحرس التنوير، فلبثت قليلًا، ثم دخلت دخيلًا، وإذا المحل مرسح رواقص، وملعب عواقص، وما زلت هناك إلى أن احترقت ناحية الدجى، والليل إلى الغرب التجا، فخرجت إذ ذاك، وها شرح ما رأيت هناك.

ليلة رقص

كفى على هذا الورق
أسكب أنوار الحدق
العلمُ بحرٌ زاخرٌ
وفيه قد طاب الغرق
لكنما للعقل أو
قاتٌ ووقتٌ للحمق
كذاك للنهار أشـ
ـغالٌ وشغلٌ للغسق
ها ملك الليل بدا
يجلى على عرش الفلق
والغرب قد حاك لهُ
في الأفق برفير الشفق
والشمس حلت في الخبا
والنجم في الأوج انطلق
وسكن الكل سوى
نفسٍ أبت إلا القلق
نادى الهنا هيَّا فيا
نفس اركضي فلا زلق
قومي إلى نهب الصفا
ها عَلَمُ الحظ خفق
باريس لما أصبحت
سَمًا حوت كل الفرَق
وسبيت جهنمٌ
وبابها قد انغلق
فلنغتنم هذه السما
قبل زوال المتفق
حتامَ أخلو جامعًا
في الذهن أفكارًا عتق
من فاز بالزنبق لا
يصبو كثيرًا للحبق
ومن أصاب اللحم لا
يقول ليت لي المرق
ومن كسا بخلعةٍ
هل يفكرنَّ بالخلق
سعيًا إلى اللذات ما
دمت على بعضٍ رمق
وأركب على خيل الصبى
وأسبق فاجرًا سبق
لكل سن مسلكٌ
له نظامٌ ونسق
فالمرءُ في الدنيا سدًّا
يُحاك والعمرُ شقق
وكل قلبٍ بالمنى
يبني إلى يوم الغلق
ما القلب إلا شجرٌ
وما المنى إلا الورق
ومنيتي مدينةٌ
فيها لي السعدُ برق
أجولُ فيها وعلى
فمي مجالٌ للملق
أقطف من لذاتها
ما عُدَّ لي وما اتفق
وفي لظى شبيبتي
كل أسًى قد احترق
لا أرعوي ولو عوى
كل عذول أو نهق
وليلةٍ سوادها
كالمسك بالطيب عبق
أوحى إليَّ الوقت أن
أطوفها دون رفق
فرُحت أجري والدجى
يزيد فوقي من حنق
مهرولًا كأنني
أسعى لدينٍ مستحق
ما زلت حتى صِرت في
مغنى عن المغنى انطبق
كأنه بحرٌ بهِ
تموج ربات الحلق
فخضتُ فيه وأنا
أشقُّ أمواج الخرق
إذا بصوت قال لي
مهلًا أما تخشى الغرق
كم أنت يا هذا قبا
قلت كذا كل قبق
فصار يهجو أبهتي
وطول ثوبي ذي اللبق
بكل لفظٍ شاردٍ
وكل معنى لم يطق
فلم أزل مطولًا
عليه بالي أن مزق
وليت منى الابتدا
فالضرب للذي سبق
قلت له ما تستحي
يا قفصًا تحت طبق
أو قصبة في سلةٍ
أو خنصرًا في مختنق
قال وهل نحن الذي
بالأزرِ شوَّهنا الخلق
رُح يا فتى من فئةٍ
نساؤها مثل الحقق
ومن زوايا سقرٍ
جمالهنَّ مسترق
فالشعر حيَّاتٌ سعت
والخد نيران الحرق
والصدغ يُدعى عقربًا
والخال دودًا أو علق
والوجه يُدعى عندكم
بدرًا أتهوون البهق
ولم نزل في جدل
وبيننا يجري العرق
حتى انتهينا آخرًا
للوفق والوفق أحق
والجمع قد قال لنا
كلٌّ بما قال صدق
وربَّ خيرٍ جاءَ من
ضدٍّ مع الضد اتفق
وإذا جلسنا والقلا
هار بزلزال القلق
إذا غزالٌ جانبي
يغزو فؤادي بالحدق
كأنه مكوَّنٌ
من جوهرٍ لا من علق
يفترُّ عن ظرافةٍ
منها سنا الحسن انبثق
وينثني عن قامةٍ
غصن الهوى منها بثق
مَن لي بها رشاقةً
شاقت ومكحولًا رشق
يطرق في الأرض ومن
مبسمه الشوق اندفق
فناظرٌ يرعى الحيا
ومبسمٌ يرعى الشبق
ولم يزل طير الهوى
يصدح في دوح الأرق
ونحن في تمازج
والجنب بالجنب التصق
حتامَ تنحى للنوى
فقلتُ لا ومن خلق
فقال ها الصبح بدا
قلت ولو كان انفلق
ولم نقم حتى اختفى
دخان مركب الغسق
ولاح سلطان النها
رِ لابسًا تاج الألق
والشهب من شراره
قد ذبن والليل احترق
هنا افترقنا وأنا
أمشي وعيني بالطبق

فها خيَّم التمام على الغرب وعم، فتأمل زوالًا إذا قيل تم، أوَما ترى النزاع بدا يسعى بين ملله، والحسد بين دوله، فكلٌّ وقف على قدم الطراد، وفغر فم الفساد، مكدودًا بمراده، ومعمودًا بعناده، وهذا دليل الدمار، وطليعة الدثار. ولا بدع، فالشرق أخذ يطلب ماله، ليسترجع ما له، وما الزيادة إلا الفايدة المكررة، صلاحةً في الدين مقررة، وها قد استرجع الشرق متاعه، ورفع سنجقه وشراعه، وذلك على عهد عظمة سلطاننا عبد العزيز، ذي الشوكة والسطوة والإدارة والدراية والتمييز، مبدع هذا العصر الزاهر، وجامع نفايس الأوايل والأواخر، وقد قلت تاريخًا لجلوس عظمته على عرش السلطنة السنية:

تاريخ الجلوس الهمايوني

بشرًا لكم بالفوز يا كلَّ البشر
فالدهر عن وجه المكارم قد سفرْ
ولتنعمنَّ نفوسكم فاليوم قد
لاحت شموس العز من فلك القدر
أهدى العزيز لنا الخليفة عبده
من كان في عثمان كنزًا مُدَّخر
فاهتزَّت الدنيا به فرحًا وقد
طُوِيَ الأسى والسعد كالسحب انتشر
وبدت بجود الملك بارقةُ الهنا
وهمى على الآفاق من نعمٍ مطر
وافترَّ ثغر الدهر عن شنب الصفا
فصفت لنا الأيام واندثر الكدر
ملكٌ على عرش الخلافة مذ علا
ظهر النعيم وحاز عِزًّا من صغر
كل الملوك كواكبٌ لكنما
عبد العزيز لكلهم شمسًا ظهر
قد زيَّن التخت العليَّ بمجده
أبدًا كما قد زيَّن الطرفَ الحور
بالعدل كسرى والتسلط قيصرٌ
وذكا سليمان به وقوى عمر
نامت عيون الناس تحت ظلاله
أمنًا وبات لحفظه يرعى السهر
فيه غدا غصن التمني معطيًا
ثمر النجاح وكلنا نجني الثمر
أخلى قلوب الشعب من خوف الردى
وأحلَّ فيها الرعب منه والحذر
لكم الهنا يا خاضعون لحكمهِ
فلقد ظفرتم بالرجاءِ المنتظر
قد سدَّ طرق النايبات بحزمهِ
عن ساحة الملك الذي فيه ازدهر
وإذا تولَّى الملك ملكٌ حازمٌ
لا يتركنَّ به سبيلًا للضرر
كتب القضاءُ على صفاح سيوفه
لا عيش للعاصي إذا السيف اشتهر
قد ألبست كل البلاد يمينه
حلل الأمان وقد نضت عنها الخطر
فأعاد ما هدم الزمان مشيدًا
بعزيمة تحكي الزمان إذا اقتدر
وبنى من النعماءِ حصنًا للورى
هذه هي الجدوى فقل نِعم الأثر
فلتسعد الدنيا به ولتبتهج
كل الملا ولتفرح الدول الأخر
كن يا أمير المؤمنين مسربلًا
بالفوز ما غنَّى الهَزار على الشجر
ما أنت إلا الشمس في أوج العلا
وإليك كالحرباء كلٌّ قد نظر
إن المهيمن مذ دعاك خليفةً
في الأرض كي ترعى الأنام بما أمر
نادى لديك العرش عش يا ذا القوى
والدهر قال مؤرِّخًا سد بالظفر
سنة ١٢٧٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤