حال الحب

إنما الحب رباط الجمهور، ووفاض الأمور، وصديق السراء، وعدو الضراء، به تتفق الشعاير، وتلتصق العشاير، وتبلغ الأوطار، وتغلب الأطوار، لا يقوم لديه عنيت، ولا يسطو عليه صليت، أينما حلَّ رحلت الشرور، ونزل السرور، ونهض الوفاق، ووقع الشقاق، لا يتوطد بيتٌ إلا به، ولا يثبت قومٌ بانقلابه، فهو الأساس المتين، والعضد المعين، وهو البطل المغوار، والعسكر الجرار، لا تنزل راياته الخافقة، ولا تنذل غاراته الدافعة، له الغار كلما غار، والفوز أينما سار، والسطوة حيثما ثار، وله الاعتبار والكرامة، والمجد والفخامة، لا يقبل الشين، ولا يرضى المين، ولا يصحب خلقًا ذميمًا، ولا طبعًا لئيمًا، ولا يلامس متصلِّفًا، ولا يداني متجهرفًا، ولا يرافق الكبريا، ولا يواصل الرياء، ويرفض النفاق، ولا يقبل الصداق، فهو السماحة والحق، والدعة والصدق، والتواضع والأناسة، والشرف والنفاسة، والكرم والجود، والرفد والوفود، والغوث والإعانة، والإحسان والأمانة. ويقسم الحب إلى خمسة أقسام، وهي: الأبوي، والبنوي، والأخوي، والودادي، والعشقي.

أما الأبوي، فهو حب الآباء لأبنايهم، ولا يوجد أصدق وأثبت من هذا الحب، فلا تغيره الأيام، ولا تعارضه الأعوام. أما البنوي، فهو حب الأبناء لآبايهم، وهذا الحب ينحط إلى المرتبة الثانية انحطاط المعلول عن العلة، فلا يبادل الابن والديه مساواة الحب، على أن الابن لا يشعر بمحبة والديه إلا بعد محبتهما له مدة طويلة، أعني كل سن الفتوة، والأغلبية للمتقدم. وبينما يعقل الابن ويبتدي أن يحب والديه، يعود مشعرًا بصعوبة تربيتهما له والتزامه بالطاعة لهما، فإذ يكون مطبوعًا على حب الحرية يرى نفسه غير حاصل عليها، فلا يمكنه أن يحبَّهما بمقدار حبهما له لمعاضتهما إياه في سلوكه. وإذا كان نشأ على خوفهما، فلا يجتمع حب الشيء والخوف منه معًا. فيكون إذًا الحب الأبوي طبيعيًّا، والبنوي أدبيًّا، هذا إذا لم نقل إن الحب نتيجة الموالفة.

أما الأخوي، فهو الحب القايم بين الإخوة، وهذا هو نتيجة الموالفة محضًا. وقد ينقص ويزيد بمقدار هذه الموالفة، وقد يشتد في البعض وينقص في البعض، وقد لا يوجد أبدًا تبعًا لآداب الإخوة وتربيتهم، وما تعوَّدوه من آبايهم. أما الحب الودادي، فهو الحب الذي يوجد بين الأقارب والأصحاب، وهو نتيجة الموالفة أيضًا، وهذا إمَّا أنه يكون مخلصًا، إمَّا أنه يكون لغرضٍ، فالمخلص نادر، والغرضي كثير ومتواتر، وربما انقلب الغرضي إلى مخلص والمخلص إلى غرضي تبعًا لقراين الأحوال ومواقع الأعمال.

أما العشقي فهو حركة تشمل القلب وتشغل الخاطر. أمَّا حصولها فيكون أوَّلًا على طريقة الوداد، أو الميل البسيط. ثم ترتقي إلى درجة الحب، وهو الميل الثابت إلى المحبوب. ثم تصعد أخيرًا إلى درجة العشق، وهناك إذا أفرطت تُدعى بالهوى أو الجوى أو الغرام، وذلك حسب قوتها.

فإذا نزلَ العشق في قلب الشخص رحل صوابه، وصارت كل أفكاره تدور على هذا الاسم، وهكذا فتعود كل تصرفاته منصرفة إلى وجه الحبيب بحيث لا يعود ساعيًا إلا في سبيل مرضاته ولا يطلب إلا شهوده حيثما يغدو موقعًا لملاعب الآلام، ومهبًّا لعواصف الأميال، فيهيم ديمار، ويروغ ويغار. وإذ تبدَّل شهوده بالغيبة تلاعبت به خمرة الأشواق، وعبثت بقلبه نار الأتواق، فيحنُّ ويئنُّ، ويضيق صدره، ويضطرب فكره، ويأخذه القلق، ويشمله الورق، ويتصعَّد ويتنهَّد، ويهيم إلى الطرقات، ويرصد الطاقات، ولا يلذُّ له سوى ترداد ذكر الحبيب واللهج به.

ومن عادة العشق أن يلطف طباع العاشق، ويجعله سميرًا ونديمًا ولبيبًا، ويرقي طبيعته، ويرقص أفكاره، ويدعوها إلى رقة الغزل، والتشبيب بالجمال، حتى يعود يمكنه التلاعب بأحوال كل الوجود، فيصير مصوِّرًا للطبيعة إذ يتوهم فيها الصور المحبوبة لديه، وشارحًا لكل الحركات والظواهر المحيطة به إذ يرى أن لكلٍّ منها خدمة في بيت الحب ولعبًا في مشهد الهوى، على أنه يرى أن الخليقة تتنفس لديهِ بالحياة، وتنفس كربه وترعرع مثواه، فيناجي الأفلاك، ويرسم الرياض، ويخاطب الأزهار، ويطارح الأطيار، ويشخص الليل والنهار. ومن ذلك ما أقول:

نفضَ الشرقُ على وجه المغيب
غبرة الديجور
وسعى الصبح على العود الرطيب
بكئوس النور
فانثنى يرقص والأمر عجيب
رقصة المخمور
بقوامٍ خلتُهُ قدَّ الحبيب
أسكرته الحور

دور

والنسيم العذب يجري في الصباح
حامل الرند
وعلى الأزهار فوق الدوح صاح
بلبلُ السعد
وندى الفجر على النسرين لاح
طالب العقد
قد حكى دُرًّا على جيد ربيب
أو على كافور

دور

ومهاةٍ أقبلت إثر النهار
تحت ظل الليل
أقبلت بعد عتوٍّ ونفار
تستعيد الميل
وهي تدنو بحياءٍ وافترار
والهوى كالسيل
زورةٌ قد أولت الصب الكئيب
بهجة المسرور

دور

حبها القاسي وقلبي ارتبطا
برباط العهد
إنما عقد اصطباري انفرطا
بالجفا والصد
وفوادي لم يزل مختبطًا
في الجوى والوجد
وأنا بين عذول ورقيب
أنجز المقدور

دور

سمحةٌ لي كلما مدت يدا
صاد قلبي القلب
ذات قدٍّ بردا اللين ارتدى
ليت ذا للقلب
وأنا عنها ولو ذقت الردى
ليس لي من قلب
آه كم جار على قلبي السليب
جفنها المكسور

دور

دميةٌ عجباءُ ما بين الدُّمى
تفضحُ الغيدا
ريمةٌ ترتع في قلبي فما
تعرف البيدا
ذات عقدٍ يزدهيني كلما
يلبسُ الجيدا
وعيون كيفما دارت يصيب
نبلها المحذور

ومن ذلك:

بالله قولي لنا يا نسمةَ السحرِ
من أين جئتِ بهذا النافح العطرِ
ومن أمدَّكِ كل اللطف وا عجبي
حتى غدوتِ بشير الصبح للبشرِ
وما فعلتِ مع الروض الأنيق فما
خطرتِ إلا وفاقت أعين الزهرِ
وأي سرٍّ ترى فيكِ الطيور فما
سريتِ إلا وغنَّتْ في ذُرى الشجرِ
فهل سبقتِ عروس الصبح وهي على
نارٍ فقبلتِ خد الورد من قمري
وهل ضممتي رقيق الخصر منه وقد
ثملتِ بالراح بين الطلع والدررِ
وهل شرحتِ لخود الروض يقظته
عند الصباح أمام النرجس النضرِ
وهل رويتِ لأسماع البلابل عن
وساوس الحلي بين الورد والصدر
فها جنيتِ على كل الأنام بما
جنيت من ذلك الوسنان في السحر
بالله يا ريح إن مكنتِ ثانيةً
من صدغهِ فأقيمي فيهِ واستتري

ومن ذلك القبيل:

إذا خطرت نسيمٌ من سعادِ
أثارت كل شوقٍ في فوادي
وإن لمعت بروقٌ من حماها
همى من أعيني صوبُ العهادِ
نجومَ الليل هل تدرين أني
نظيركِ لم أذُق طعم الرقادِ
فقصِّي يا نجوم عليَّ مما
علمتِ من المواقع والجهادِ
فليس سواكِ لي أبدًا سميرٌ
يعزِّيني ويعلم ما مرادي
ويروي لي حديث ذوي التصابي
ويسعفني على حمل السهادِ
ويا ورقاءُ وفق الأيك ناحت
أمن هجرٍ نواحكِ أم بعادِ
أراكِ ترددين عليَّ لحنًا
يذيبُ سماعه قلب الجمادِ
فقد هيَّجتِ مهجة كل صب
وقد رنَّحتِ معطف كل شادِ
ويا قُضُبَ الأراك أراكِ سكرى
لعلكِ شمتِ ثغر سعاد بادي
فميلي يا غصون عليَّ ميلي
نعم بكِ للهوى لعبت أيادي
ويا زهر الربى من أين آتٍ
عبيرُكِ هل شممتِ شذا سعادِ
فعدت بأعينٍ سهرى وجسمٍ
نحيلٍ واهتزازٍ وارتعادِ
ويا ماءَ الغدير أراك مثلي
تئنُّ ولست مفئود الفؤاد
فأنت على فراش الوصل تجري
طوال الدهر من دون ابتعادِ
رويدك يا غرامُ فكلُّ خلق
غدا بيديك مطروح القيادِ
فكم يا فاسدًا لك من صلاحٍ
وكم يا صالحًا لك من فسادِ
وكم يا داعيًا لك من مجيبٍ
وكم يا ظالمًا لك من منادي
فما من دولةٍ دامت ولكن
لدولتك الدوام على التمادي
وكل فتى لها عبدٌ ولكن
نظيري ليس يوجد في العبادِ
فوا عجبًا لقلبي كيف يقضي
شروط الأسر وهو بلا رشادِ
وغانية علقتُ بها غرامًا
بدت لي كالزلال لقلب صادي
فهمتُ إلى ورود الثغر منها
عسى الجريال يروي ذا اتقادِ
وعيس صبابتي تسعى إليها
على لغبٍ وداعي الشوق حادي
أسيرُ ونصب عيني نار سلمى
وبين جوانحي قدحُ الزنادِ

ومن ذلك الوجه موشح:

لاح بدرُ الحسن من برج الحما
فنضى بالنور سجف الغلسِ
وسقانا إذ رنا مبتسمًا
خمرةً قد عصرت من نرجسِ

دور

قمرٌ ضاءَ سنا طلعتهِ
في دجى الشعر فلا غاب القمر
وبدا الورد على وجنتهِ
فغدا للقلب يحلو والنظر
كتب الحسن على غرتهِ
لا ينال الوصل إلا من صبر
وعلى قلبي هواهُ رسما
صور الشوق بنار الهجسِ
وأعاد الطرف يرعى الظلما
والدراري صرن لي كالحرسِ

دور

هزَّ من قامتهِ رمح الهوى
وانتضى من جفنهِ سيف القضا
وأتى يسلب روحي والقوى
بعدما قد كان عني معرضا
ليت يدري ما بقلبي من جوى
علَّه يبكي عليه إن قضا
صحتُ مذ أورث جسمي السقما
بالجفا وهو شفاءُ الأنفسِ
يا غزال الحي رفقًا بي فما
تركت عيناك لي من نفسِ

دور

أيها الغالب بالطرف الكحيل
مغرمًا يرعى الصبا والوصبا
تهْ بما شئت فلي صبرٌ جميلٌ
إذ أرى الدنيا لمن قد غلبا
لك ثغرٌ باللما يشفي العليل
بأبي أفديه ثغرًا أشنبًا
ورضابٌ ليتهُ يطفي الظما
من فواد فيهِ نار القبسِ
ودلالٌ بعذابي حكما
فأنا اليوم كثير الهوسِ

دور

زارني والليل كالبحر اعتكر
وبهِ الشهبُ جرت كالسفن
والدراري قد حكت فيهِ الدرر
أو عيون الغيد إذ تغمزني
وعلى كل الورى ألقى القمر
حزم النور وهم في الوسن
فلثمتُ الخدَّ منه والفما
وهو يسبيني بلطف الميسِ
والدجى مدَّ علينا خيمًا
ليت لا تطوى خيام الحِنْدِسِ

دور

وانثنى عني وقد لاح السحر
والتهى كُلٌّ بتوديع الحبيب
والندى كلَّل تيجان الزهر
وشدا الطير على الغصن الرطيب
وضياءُ الصبح في الشرق انتشر
وانطوى الديجور في وادي المغيب
فلكم ذاق فوادي ألما
حينما ودَّعتُ كرهًا مونسي
ولكم أجريتُ دمعًا كالدما
من عيونٍ في الهوى لم تنعسِ

دور

جرَّد الأفق على عنق الظلام
صارم الأنوار والقطبُ يدور
وغدا للصبح في الشرق اضطرام
ولجيش الليل في الغرب فتور
فبكت للبين أجفان الغمام
أدمعًا لاحت بأفواه الزهور
ونجوم الأوج غارت في السما
وتوارت في حجاب الأطلسِ
وفوادي قد غدا مضطرما
مذ تقضى طيب ذاك المجلسِ

دور

سطر الفجر على لوح الجلد
بيراع النور أحكام النهار
فازدهى وجه السما بعد الكمد
إذ بدت شمس الضحى والنجم غار
وكذا الثور جرى خلف الأسد
راكب الحوت ودبُّ الأوج طار
وصبت روحي إلى ذاك الحمى
حيثما يرتعُ ظبي الإنسِ
فهناك الحظُّ لي قد قسما
في ليالٍ قد مضت كالعرسِ

دور

يا أخا الأشواق سم صبرًا على
ذلك الوجد الذي فيك جرى
واحمل العشق ولا تشكُ البلا
فالهوى يجري على كل الورى
إن كأس الحب يحلو للملا
وبه كلُّ فوادٍ سكرًا
بئس قلبٌ لم يذق حبَّ الدمى
فهو أحلى من مذاق الأكؤسِ
ورعى الله فؤادًا ختما
بدم العشق وبالشوق كسي

دور

غرَّد الحسن على دوح القود
فغدت ترقص أعطاف الجوى
واستوى الورد على عرش الخدود
لابسًا حلة سلطان الهوى
والعيون السود بالسحر تسود
ولها تخضع أرباب القوى
حدقٌ تفعل بالقلب كما
فعلت كأس الطلى بالأرؤسِ
ونهودٌ غادرتني أبكما
دهشة وهي شفاءُ الخرسِ

ومن ذلك النمط:

حتامَ يا ذات الجمال الأعظمِ
تهوين تعذيبي فجسي أعظمي
مهلًا فقد بلغ الجفا ما شئت من
جسدي ورفقًا بالشجي المغرمِ
قسمًا بحسنك وهو خير أليةٍ
عندي وقطُّ بغيره لم أقسمِ
لا أبتغي الإعتاق من أسر الهوى
أبدًا ولو سفكت بواتره دمي
أفدي التي أبدت لعيني وجنةً
تزهو بحسن تضرَّج وتضرَّمِ
قنواءُ إذ هزت قناة قوامها
ناديت وا تلفي وفرط تألمي
يا قلبُ هذا الحبُّ فاحمل ضيمه
علنًا ولا تسمع لهذر اللومِ
واصبر على البلوى فكيف ترد ما
دفعت إليكَ يدُ القضاءِ المبرمِ
قل للذي يشكو الهوى وهوانهُ
سلم أمورك للأحبة تسلمِ
يا ربة الحسن التي سبتِ النهى
يكفيكِ ما فعلت عيونكِ فارحمي
حللتِ فصلي وهو غير محلل
وحرمتِ وصلي وهو غير محرَّم
عودي المحبَّ فسقمهُ لكِ شاهدٌ
عن صحة الحبِّ الذي لم يسقم
لا أشكونَّ لكِ الصبابة والجوى
حذر المخيبة فارحمي أو فاظلمي
فإذا رآكِ القلبُ ضجَّ كأنهُ
لكِ يقصدُ الشكوى على كره الفمِ
لا تحجبي عني جمالك ذا السنى
فبغير منظره أنا لم أُنعم
وإذا حجبت بهاء ذاكَ الحسن عن
عيني فأنظره بعين توهمي
والوهم يجلي للفتى ما لم يكن
طوع العيان فكم بهِ من مغنمِ
أفدي بروحي ذلك الوجه الذي
جمع الجمالَ ولطفَ ذاك المبسمِ
زيحي لثامك يا ابنة الصبح التي
قد أصبحت شرفًا لكل الأنجمِ
فمتى ترى عيناي ما قتلت بهِ
روحي عسى تحيا بمنظره أكسمي
فلو انجلت كل الغواني لي ولم
أكُ ناظرًا لسناكِ لم أتنعمِ
إن كانَ لا يبنى لغيركِ منزلٌ
في مهجتي فصبابتي لم تهدم
فإذا بسطتِ القلب بسطَ مشرِّحٍ
وفحصتِ عضو العقل فحص معلِّمِ
تجدي بذا غيَّ الهوى عوض الهدى
وبذاكَ نيران الجوى بدل الدَّم
قومي انظري حوض المياه عسى إذا
عاينتِ حسنكِ ترحمين تتيمي
فلقد حويتِ من المحاسن ما بهِ
أصبحت ذا قلبٍ بحبك مغرمِ
لك قامةٌ قامت بها طُرَفُ الصبى
فحلت وطرفٌ كالظبا والأسهم
ولواحظٌ ما غازلتني خفيةً
إلا وأخفت فيَّ كلَّ تألمِ
حدقٌ أحلنَ دمي وكل عناصري
بقوى الجمال إلى الغرامِ المرغمِ
حتى غدوتُ بغير أنسك لا أرى
حظًّا ولو قد حزتُ كلَّ تنعمِ
هذا هو الشرف الذي لسواكِ لم
يسمح به فتدللي وتحكمي
شرفٌ لديهِ كلُّ قلبٍ خافقٌ
أبدًا وكلُّ فمٍ يرى كالأبكم
أيحلُّ في شرع الهوى لكِ هجر من
لم يرجُ منك سوى محادثة الفمِ
فأنا وإن كان الهوى بي محدقًا
عفٌّ نفيسُ النفس لم أتجرَّم
ولقد صبرتُ على تباريح الجوى
صبرًا تعجب منهُ كل متيم
فضعي يديك على ضنا صدري عسى
تدرين ما فعل الغرام بأعظمي
وإذا الغرام أماتني كمدًا فذا
حقٌّ قد استوفاه حسنكِ فاسلمي
ليت القضا يحتال أن يلقيكِ في
وادي الهوى لتري عذاب المغرم
فمن المحال على خليِّ القلب أن
يدري صبابات الشجى المكلم
أُذني عن العذال واللوام في
صممٍ وطرفي عن سواكِ غدا عمي
يا لايمي دعني فلا أسلو وهل
يصغي المحبُّ إلى الملام المظلمِ
عبثت أيادي الدهر بي فأذبنني
وأعادت العبراتُ مثل العندمِ
حتى كأن جميع أعضاي غدت
غدرًا لإفراز الهيام الأعظم
كم ليلةٍ قد بات طرفي ناثرًا
درر الدموع لدى دراري الديجم
أرعى مسير الشهب في كبد العلا
وأنا أنادي أيها الفجر اهجم
إذ ينجلي المريخُ كالدينار في
كف السما والمشتري كالدرهمِ
وكأنَّ جبار النجوم على الدجى
جبَّار قومٍ فوق صهوة أدهمِ
حيث المجرَّةُ نهرُ نور في السما
يسقي حديقة نرجس من أنجمِ
فإذا نظرت إلى السماء وجدتها
بنجومها مثل الطراز المعلمِ
فمناظر الأفلاك راقت كل ذي
سهر فما أشقى عيون النوَّمِ
فالسهدُ مثل الشهد للعشاق قد
يحلو وللخالينَ مثل العلقمِ
يا للهوى كم قد أرِقت دياجرا
بهوى غزال راح يغزو كالكمي
ظبيٌ إذا ما لاح صحت تشوُّقًا
يا مقلتي هذا نعيمك فاغنمي
يا أيها الرشاءُ الذي سلب النهى
مني وغادرني أليف تظلم
كن راحمًا من قد سكنت فواده
صبٌّ لديك رحمت أم لم ترحم
وإذا صرمت حبال ذياك الولا
فأنا لحبل صبابتي لم أصرمِ
ضحك الحسود شماتةً لما رأى
منك القطوب فبَكِّهِ بتبسم
ليس الحسود يسود قط فقلبه
متعذِّبٌ أبدًا بنار جهنم

ومن ذلك النسق:

ما زال يعصي الهوى والحسن يخضعهُ
حتى جرت في لهيب الحب أدمعهُ
صب إلى كل حسناء صبا ولها
لكن إليكِ وقاك الله مرجعهُ
هيهات يعشق قلبي يا مناي سوى
هذه العيون التي بالسحر تصرعهُ
لواحظ فوقها بالحسن قد كتبت
يد الصبى جاذبٌ لا شيءَ يدفعهُ
فإن أكن عنكِ أظهرتُ السلوَّ فذا
تظاهرٌ كان يشقيني توقعهُ
أين السلو وطرفي كان يسرق من
مرآكِ إذ لحت ما في القلب موقعهُ
عودي إليَّ فثوب الميل نحوك لا
يبلى ولست مدى الأيام أخلعهُ
واسترجعي ذلك الأنس القديم ولا
تنسي هوًى في أقاصي القلب مرتعهُ
لا تنكري الحب أو خبي اصفرارك إذ
أبدو فوجهُ المعنَّى ذاك برقعهُ
لحسن وجهك فِعلٌ لستُ أدركه
على فوادي فكم في السر يصرعهُ
لم أدرِ هل قد أراني البرقُ ثغرك إذ
بسمت أم ذاك ماء الظرف ينبعهُ
كأنما بين عينيك الجمال دعا
قلبي إلى فتنة فانساب يتبعهُ
صرعت ذا القلب بالألحاظ ظالمة
فظلَّ يخفقُ حتى ضاع موضعهُ
مدَّت لهُ عينكِ الكحلاءُ سلسلة
خفية نحو أوج العشق ترفعهُ
هناك مرآكِ عند القرب يوسعهُ
وجدًا وذكراكِ عند البعد تفجعهُ
إليك كلُّ كمالٍ ينتمي ولذا
عليك كل جمال قام مَهيَعهُ
لذاك لا أنثني نحو السوى فأنا
وافٍ وثوبُ غرامي لستُ أنزعهُ
هذه يدي ووثاق العهد يربطها
وذا فوادي وعضب الشوق يقطعهُ
وذي دموعي وخوف الهتك يمسحها
وذاك نوحي وأذن الليل تسمعهُ
قومي بنا يا ابنة الصبح المنير إلى
روضٍ بهِ الزهر يحلو لي تنوعهُ
حيث الغدير رأى غدر القضا فجرى
يئنُّ والشطُّ يلويهِ ويدفعهُ
كأنهُ راكضٌ يبغي قتال عدًى
والريحُ بالزردِ الفضيِّ تدرعهُ
وفوقهُ لغصون الحور مشتبكٌ
يحكي صراع عفاريتٍ توقعهُ
والبدر من خلل الأوراق يطلب أن
يلوح والريح تعطيهِ وتمنعهُ
كغادةٍ نظرت معشوقها فغدت
تلوي الإزار قليلًا ثُمَّ ترجعهُ
والشهب تلقي على ظهر الغمام سنًى
كأنها بحبال النور ترفعهُ
والبرق مثل حراب النار يرشق من
قوس السحاب وبطن الجو يبلعهُ
حتى إذا ما الدجى ضمن الوهاد هوت
قبابهُ وانزوى في الأفق مجمعهُ
والشرق من فمهِ المفترِّ رشَّ على
وجه السما ماءَ نورٍ راق منبعهُ
والغرب جمعَ جيش الليل فيه وقد
أحاطهُ بذراعيهِ يودعهُ
وقد سَرَت نسماتٌ خلتها سحرًا
روح الظلام الذي قد تمَّ مصرعهُ
والصبح أرسل تلك الروح تسرق من
زهر الربى ما على الدنيا تضوعهُ
صبت عيوني إلى وجه التي سلبت
لبي وملت على صبري أشيعهُ
تلك التي كلما لاحت لدى نظري
ضجَّ الفؤاد بصدري وهو يفرعهُ
تلك التي إن أكن صارمتها غضبًا
فكلُّ مُرِّ عذاب كنت أجرعهُ
تلك التي حينما زارت عقيب قلى
ترنو إليَّ بطرفٍ سال مدمعهُ
والحسن يطفح من أقطار طلعتها
والوجدُ يقطرُ في قلبي فيوجعهُ
وضعت في يدها ذات الغرام يدي
والعهدُ بينهما يحيي توقعهُ
قالت وقد ذبلت ألحاظها خجلًا
كنرجس جاء حر الشمس يلذعه
أيُّ الذنوب جرى مني وهبكَ أنا
أذنبتُ فاذكر جنونًا كنت تصنعهُ
إني أشعت سلوى حيث لا سببٌ
وكيف قلبك في غيري تضيعهُ
أنا التي لك قد خصصت قلبي إذ
لبست ثوب غرام رحت تخلعهُ
أنا التي في الدجى أصبو لشخصك عن
شوق وفي مهجتي الحراءِ أطبعهُ
أنا التي بك أيدي الشوق قد ربطت
طرفي وطرفك عني السهو يقلعهُ
أجبتها ولهيب الوجد متَّقِدٌ
وفي فوادي أسيافٌ تقطعهُ
الذنب مني فكفي أدمعًا حجبت
برق الشباب بطرفٍ جلَّ مبدعهُ
يا مهجتي يا مرادي يا حياة دمي
يا من بغيرك طرفي لا أمنعهُ
إليكِ ما زلت مجذوبًا بغير يدٍ
وفي حشاي الهوى ما زال مربعه
وكلما كنت أنهى القلب مني عن
ذاك الهوى كان يعصاني ويتبعهُ
فأيُّ سحرٍ عليه قد رميت وما
هذا الذي لك عنفًا راح يخضعهُ
إن قلت حسن فكم بين الورى حسن
أو قلتِ طبعٌ فأنَّى لا أطبعهُ
ها قد عرفت عرفت السرَّ فهوَ على
عينيكِ يفشيه إجهاشٌ ويطلعهُ
أنت التي لك ميلٌ لي إليك دعا
ميلي بعنفٍ فجهلًا كنتُ أقمعهُ

ومن ذلك الصدد:

ما للمليحة غضبى لا تكلمني
كأنها بي لم تسمع ولم ترَني
غضبى وما إليَّ من ذنبٍ كما علمت
سوى افتتاني بمعنى وجهها الحسن
ما بال أعينها في الأرض مطرقةً
وكلما أطرقت عيناي ترمقني
ونحن في مجلسٍ قد قام من نخب
فمن حسودٍ ومن واشٍ ومن خشنِ
عسى العيون التي قد أتلفت كبدي
كلَّت من الفتك أو ملَّت من الفتن
أو أنها علمت ما قد جنت فغدت
من الخجالة ترنو مثل ذي وسن
هذا إذا لم تكن من غيرةٍ غضبت
عليَّ وهمًا فما عادت تغازلني
ليت المليحة تدري أنني كلفٌ
بها إلى غيرها ما ملتُ في زمني
ولي ثباتٌ عجيبٌ في الهوى عجبت
منه الجبال وحار الدهر ذو المحن
على عهودي وودي قد ثبتُّ لدى
صدم الزمان ولم أنقض ولم أخُنِ
رويد جوركِ يا غضبى بلا سبب
مني الرضاءُ وهل للآن لم يحن
أطلت إعراضك الريميَّ فالتفتي
كالريم نحو فتى أحيى الهوى وفني
حتى يراكِ فيغدو والحشى قطعٌ
والعقل في ذهل والقلب في حزن
ما زال يهواك حتى صار يحسب ما
بين الملا من عباد الشمس والوثن
مهلًا أيا صنم الحسن الذي سجدت
له قلوب الورى من سالف الزمن
شمشومُ داودُ حمنونُ ابنهُ تبعًا
كذا سليمان ربُّ العقل والفطن
لله درَّهُم كلٌّ غدا لبني
حواء قدوة طهر الروح والبدن

وقال أيضًا:

أسبلت فوق صحاحٍ مراض
وجلت تحت سوادٍ بياض
غادةٌ في ليلِ طرتها
مدمعي والنومُ فاضَ وغاض
وجهها الراضي رياض البها
آه وا شوقي لتلك الرياض
وخدودٌ جعلت قليها
قاسيًا فظَّا وهنَّ بضاض
ما رنت كالظبي إلَّا وقد
خلت حال الأمر في القلب ماض
وإذا قامت بأردافها
ضاقَ صبري بين تلك العراض
عَبْلٌ لولا نهوض الصبى
كان لم يسمح لها بانتهاض
أيها الحسن العجيب أنا
لك عبدٌ فاقضِ ما كنت قاض
صلْ وطلْ واحكم وتِه وأتمِرْ
فأنا راضٍ بما أنت راض
أنت لي كل الرغابِ وما
أنت في الدنيا بشيءٍ تعاض
كل أهوائي انقرضن وما
لاهتمامي في هواك انقراض
خضتُ منذ الحمل بحر الهوى
وإلى الآن أقاسي المخاض
ها أنا فيهِ على سفرٍ
بادي الإنفاض خالي الوفاض
فمن الأشجان زادي ومن
مدمعي مائي متى شيت فاض
يا أحباي أفاعي النوى
في فوادي لا تكفُّ العضاض
حكم الدهرُ لفرقتنا
ما على حكم القضاء اعتراض
ذكركم زلزلةٌ في الحشى
ولها في كل جسمي انتفاض
وهواكم بي صحيحٌ ولو
عندكم علَّ ودادي وهاض
لا تظنوا أنني مثلكم
أذكر العهد متى الديك باض
ذلك البين ليال على
عاشق شقَّ الليالي وخاض
يا سراة السفح لا زلتم
في انبساط والعدى في انقباض
ما رعى الهفاف غيطانكم
وسقى الرجاف تلك الغياض

وقال:

ته بما شئت بالهوى وتحكم
واظلم الصبَّ ما شكى وتظلم
إن تكن ظالمًا فظلمك عدلٌ
لمحبٍّ عُني لديك وسلم
لك سلمت يا حبيبي أمري
فلك اليوم أن تجور وترحم
يا هلالًا سبى العيون ببدرٍ
لاح من هالة الجمال المعظم
سد بطرفٍ لهُ لسانٌ وسيفٌ
بهما كلم الفؤاد وكلم
وكذا جر عليَّ إذْ ليس لي من
ذاك واقٍ ولا الزمان إذا هم
ما استجار المحبُّ بالدهر من جو
رك إلَّا كالمستجير من الرَّم
سفكت بالفتور أعينك السـ
ـود دمي فالأمان يا سافك الدم
قد قضى الله أن أكون عميدًا
بك فارفق إن القضاء لمبرم
كم وكم عن هواك حاولت سلوا
نًا لأقضي منك انتقامًا وكم لم
فصوابي ذو العدل يدعو إلى الثأ
ر وقلبي ذو الحلم يعفو ويرحم
ذاك ثأرٌ إن يحلو فالعفو أحلى
وكلا الخلتين في الحب علقم
ليس لي حيلةٌ بها العدل يرضى
غير أخذي عليَّ ذنبك فأسلم
إن ذنبي ذنبٌ عظيمٌ ولكن
لك عفوٌ عن ذلك الذنب أعظم
إن أكن قد سلوتُ عنك فما كا
ن سلوي إلا سحابًا تجهَّم
كيف أسلوك يا معذِّب قلبي
لا ومن يدري ما بقلبي ويعلم
فأنا ما بدلت تبرًا بترْبٍ
مذ بدلت الدينار أنت بدرهم
وعلى كل حالة إن أحل يو
مًا فإني أتوب حولًا وأندم
أنت غصن الهناء في العين لكن
أنت والله في الحشا شجر الهم
فجفاك العريض أقتل من سُمٍّ
وصبري المريض أضيق من سَم
وأنا في الحالين ميِّتٌ وحيٌّ
بالجفا والرجاء والله أعلم

ومن ذلك المنوال:

يا سعاد لا تسلي
عن بكاي ذا شغلي
لو علمت سفك دمي
ما بعدت عن مقلي
كيف حلتِ عن كلف
عنك قطُّ لم يحلِ
وابتعدتِ عن مقل
عدن بعد في عللِ
في نواك يا طلبي
قد بليت كالطللِ
صرت فاقدًا رشدي
مثل شارب ثملِ
والهوى على مهل
والصبى على عجلِ
فالشباب زال وما
للشباب لم يزلِ
والجمال منكِ إذا
لاح فاز بالمقلِ
فاغنميه قبل فنًا
فالجمال كالدولِ
وابتلي الفواد ولو
لا الرجا لكان بلي
إنني على أملٍ
باللقاء والقبلِ
والممات أحسن من
عيشةٍ بلا أملِ
يا بكا مودَّعتي
نحو أعيني انتقلي
أعيني مُعَوَّدَةٌ
في الهوى على الهطلِ
ذا الوداع أودعني
حرقةً إلى الأزلِ
قد أضعتِ عهد يدي
إذ قطعتِ متصلي
يا سعاد لن تصلي
للعهود إن تصلي
ما أنا سوى رجلٌ
يستسير كالرجلِ
رغم ذا الزمان وما
في خطاه من خطلِ

وقد يخامر الحب النكد، ويداهمه الحسد، وتسعى فيه الوشاة، وتحدق به اللحاة، فينقلب الحب إلى سلوان، والودُّ إلى عدوان، ويبتدل الوصال بالصدود، والأرق بالهجود، ولا يعود للعذل مقال، ولا للنسيب مجال. وحينئذ يهتف المجد بصوت السُّلُوِّ، ويتكلم بلغة الخلو، شارحًا أسباب سلوانِه، وبواعث عدوانه، ويحدث عن الانقلاب، كما قلت في هذا الباب:

أأذوبُ لا والله لست أذوبُ
إن قال تركٌ قلت ذا المطلوبُ
إنِّي امرؤٌ عف الطباع وليس لي
بهوى الذي لم يهوني تشبيبُ
لا أنكرنَّ عليه حق دلاله
فجماله للناظرين عجيبُ
ولكل عين أعينٌ ترنو له
ولكل قلب في هواه قلوبُ
لكنَّ قلبي لا يرن بحب ذي
قلب أصم الطبع ليس يجيبُ
وكذاك لم أنكر أناسة وجههِ
لكنه شرس الفواد غضوبُ
ما لم يكن بين القلوب تبادلٌ
في الحب لا حبٌّ ولا محبوبُ
رُح يا رسول إلى الحبيب وقل له
مات الغرام لك البقا فتطيبُ
إن المحب سلاك فأبشر بالمنى
واذهب فأنت لمن تشاء حبيبُ
وليهن واشٍ ولتسر حواسد
وليرض لاح وليقرب رقيبُ
والله لو لم يدعني هو أوَّلًا
بوداده لوداده فأجيبُ
ما كنت لا والله همتُ بمثلهِ
حُبًّا ولم يكُ مضَّني التخييبُ
لكنما لا يعرف الدنيا سوى
من راح يكشفها له التجريبُ
يا ظبي بل يا نافرًا عن ودِّ مَن
قد كان منك لوده التسبيبُ
والله لم يضرب فؤادي بالهوى
لو لم يئن فؤادك المضروبُ
وكذاك لم يسكب بحبك مدمعي
لو لم يبن لي دمعك المسكوبُ
والآن أنت رميت بي سهم الجفا
فرددته لك والمصيب يصيبُ
أبت المروءة أن يقيم على الهوى
قلبي وقلبك للسوى مقلوبُ
أما فلا عاد الجمال يصيدني
حتى يصيد أبا العرين ربيبُ
مذ شبت عشقًا عفتني فأغظتني
فلسوف من غيظي عليك تشيبُ
ولكم شجبت بذا إلى سهر الدجى
ها نمت فاسهر أيها المشجوب
قد تبت عنك فلست أرجع لا ومن
يهب الندامة ذا الخطأ فيتوب

ومن ذلك:

دع ذكر حادي السرى والوخد والإبل
وخل عنك حديث الطل والطلل
وزر مواقع هوج اليعملات على
عوج الأباطح بين السهل والجبل
ولا تضج على سجف ولا حدج
ولا تعج على ظعن ولا جمل
واهجر ربوع خيام لا يجاورها
غير الرغام ولا تحوي سوى الهمل
ما لي وللطنب الممدود في وتد
يقوم بالسبب الزحاف ذي العلل
لا عاد يحسن لي ذوق التغزل في
منازل غرقت في أبحر الغزل
قد انحنى المنحنى من ثقل ما وضعوا
عليه من لاعجات قمن كالقلل
كذا اللوى قد لوى من وجدهم سأمًا
وقد ذوى البان من أشواقهم وبلي
كذا الغضا من زفير الهائمين به
ناداهمو بلسان الحال وا شغلي
وقد عدا بالدما وادي العقيق على
طفحٍ فكم قد أذابوا فيه من مقل
دعني فلست أنا إن كنت ذا كلف
ممن يشوب صحيح القول بالدغل
ولست ممن إذا جدَّ الغرام به
أضحى يكابده بالرمز والحيل
فهل إذا طعنت قلبي قدود بني
حسن أطيب بذكر البان والأسل
وهل إذا ما رمت ألحاظهم كبدي
أقول هذي رماة النبل من ثعل
وهل إذا ثغر من أهوى تبسم لي
أطارح الأبرق البرَّاق بالقبل
لا والذي خلق الإنسان مكتسيًا
بالذوق غير عقيم العقل والعمل
لكل عصر رجال حسب دولته
فالآن ما الرجل العبسي بالرجل
كذا لكل زمان ألسن نطقت
بكل معنى جديد غير مبتذل
قد كان بالنازحين العيس تعسف في
قفر الفلا طالعات الخب والرمل
واليوم لم يبق للأقفار من رهط
ولم يعد لظهور النجب من دخل
ولم يعد في خيام العرب من سكن
غير اللصوص وسقط الناس والسفل
فهل إذا ما جرت بالصحب باخرة
في البحر أو في الثرى أشكو إلى الإبل
ومن إذا الشمس في لوح الضحى رقمت
بياضها قال هذي صفرة الطفل
هذي عصور علينا في الحجى جدد
فلا تبلبلها بالأعصر الأول
فقد أصاب بهذا الدهر كل فتى
بحر الكمال فلا يهفو إلى الوشل
وربَّ طالب شيء ليس يدركه
أمسى وفي قلبه لدغ من الأمل
إذا بدا لي شأوٌ لا وصول له
فلا أقولن عمري ليت ذلك لي
وإن أرم ود قلب غير منقلب
فإنني رمت ظِلًّا غير منتقل
تأبى النفوس العوالي أن يخامرها
حب الأسافل كره الأعين النجل
وكيف يرعى كرام الطبع دون أذى
عهد اللئام رعاة الخَوْن والخطل
والله إن خان ميثاقي الحبيب سلا
قلبي وحليت جيد الحب بالعطل
قولوا لميلعةٍ والورد يطبع في
أحداقها شيم الحيران والثمل
ضربتِ بالغدر قلب الصب فاندملت
جراحه من ضراب الغنج والكحل
وقد أخذتِ بأركان الهوى فهوت
وقعًا كما أخذَ الغدَّارُ بالبطل
قومي أريني أيا من بالهوى عبثت
وجهًا كسته يد الإبرام بالهبل
ما لي أراكِ بلا لطفٍ ولا خجل
من بعد ما كنتِ ملءَ اللطف والخجل
ما لي أراكِ إلى كلٍّ على طمحٍ
وكنتِ لي بالحيا مكحولة المقل
ما لي أرى النفس منكِ الآن قد سقطت
على الحضيض وكانت في ذرا الكلل
ما بال وجهك هذا القحُّ ملتفتٌ
لكل داعٍ وداع كل ذي شغل
مهلًا فلا تدعي نفسًا على طمعٍ
بالوصل منك ولا قلبًا على غلل
فملَّ هذا وذا أقوى وذاك سلا
وأنت أنت بلا سلوى ولا ملل
وعنك كلُّ فتى قد عاد مجتنبًا
سوى فتى من بني الأوباش والهمل
كاتمت ذا الكاشح النذل الهوى ففشا
وراح عن دُبر يروي وعن قُبل
من الأعاجم لا أصلٌ ولا حسبٌ
ولا صفاتٌ سوى الفحشاء والزلل
وحش من الحيوان السقط مفترسٌ
وإن بدا بشرًا فالمسخُ ذو خلل
ما كان قط ليرضى أن يرى شرفًا
فطبعه من طباع البغل والوَعل
يريش نبل المساوي والفساد لكي
يرمي الصلاح ولكن قط لم ينل
وإن يكن بكِ قد تمت رمايته
فأنت ممن أصابتهم يد الفشل
أغنيته عن جميع الناس فافتخري
بذاك يا فخر فرد قام عن جمل
حسب الذباب افتخارًا أنها شبعت
عن الفقاع وجاع النحل في العسل
قد كنت لي في مراح العز سارحةً
تمشين كالليث إعجابًا على مهل
والآن صِرت تجاه الذل مجفلةً
تسرين كالضب حيرى في يد الوجل
فسوف تلقين أهوال الأسى ندمًا
من حيث ألقى الأسى عن ناظريَّ جلي
قد كنتُ أندب حظي منك نضو جوى
وها أنا الآن في ضحكٍ وفي جذل
قد كان يلقاك طرفي مطرقًا خشعًا
والآن تلقين طرفي غير محتفل
واليوم تبكي عليك العاذلات كما
قد كنت أبكيك بين العذر والعذل
فلا برحت بأفواه الملا مثلًا
ومنك لا برحت نفسي على جفل
بشراك بشراك بالصيت الذي لك قد
بدا فقد سرتِ بين الناس كالمثل
واستبشري بوقوع الود عنك فذا
حملٌ عليك ثقيلٌ غير محتمل
لا تأسفي إن يكن منك الجمال مضى
فإن دولته من أقصر الدول
وهل مرادك إلا خدع ذي بله
فاستبضعي رقع التمويه واشتغلي
يا للزوال خدود الورد قد ذبلت
كذاك غارت عيون النرجس الخضل
وقد هوت كل أركان الشباب سوى
قلب توطد بالوسواس والخبل
تبادل الصبح والديجور لونهما
فابيضَّ هذا وذاك اسودَّ بالعجل
ولم يعد من مليء الجسم منك لنا
سوى جلود على عظم بلا عضل
فلا يغرنَّ قومي البارزات فما
هذه سوى خرق شُدَّت على قصل
ولا يغش فتى هذا الجمال على
ذاك الخنا فهو يحكي ألسن الشعل
وهكذا كل نبراس يضيء له
جوفٌ يضمُّ ظلامًا بالدخان ملي
تلك الخصال التي رنت قباحتها
والحسن قبحٌ على مستقبح الخصل
وجود مثلك في الأنثى أتاح لها
مقتًا وقد يؤخذ المنقود بالزغل
إنِّي وما ضم قلبي من سلوِّك لم
أعتب عليك فكم لي عنك من بدل
لكن عتبي على قلبي فعادته
أن يصحب الناس والدنيا بلا دخل
خذوا من الناس يا ذا الناس حذركمو
فكم من الناس ذئبٌ في كسا حمل
ما عدت أخشى الضواري بعد غدركمو
أنا الغريق فما خوفي من البلل
جنيت ذنبًا أرى فيه معاقبتي
من لي بتمسيح ذنبٍ باهظ الثقل
بنات حواء ما أنتنَّ غير بلا
على بني آدم كلٌّ بكنَّ بلي
لكُنَّ فضلٌ فكم منكنَّ لي أدبٌ
وربما صحت الأجسام بالعلل

ومن ذلك أيضًا:

لا تدَّعي ببقاءِ العشق والتمسي
غيري فأين مزاج الكفِّ والنفسِ
العشق لا يدع الأنفاس فاترة
ولا يغادر لمس الكف كالقبسِ
علمت أنك قد خنت الغرام فلا
تخادعيني بلين القد والميسِ
ولا تظني ابتسام الثغر يخدعني
فليس لي خاطرٌ في ذلك اللعسِ
سلكت طرق الهوى عسفًا كذي ذنب
من السما أو من الشطرنج كالفرسِ
لذا خلعتُ ثياب الحبِّ مكتسيًا
ثوب السلوِّ ولم ألبث على هوسي
وقد حملت سلاح الصد عنك لكي
أردَّ شوقي فأنجو من يدِ الرجسِ
كوني بغيري في حظ كذا ليكن
ذا الغير مستهديًا فالتيه في الغلسِ
فسوف يرجع مغدورًا على ندم
ببكى الدجى وينادي آه وا تعسي
ما أنت إلا كريش طاردتهُ بلا
رفق يدُ الريح بين الأربع الدرس
تذكري حينما أقسمتِ لي شرفًا
بأن قلبك عني غير منعكسِ
يومًا وضعنا بلا فحص يدًا بيدٍ
وقد عقدنا عهودًا عُدنا في خرسِ
إذ لم أكن عالمًا أن العهود جرت
من كفِّ مستأنس في كف مفترسِ
فلم يكن منك قبض الكف لي علنًا
للعهد لكن لخنق الحبِّ بالخلس
نعم لخنق الهوى وا حسرتاه نعم
لقتل ودي نعم للنكث والسجس
ما لي أراك تريقين الدموع بلى
ذيلي وتبغين مني مرجع الأنس
هلا علمت بأن الرأس مني لم
يخضع ولي قدمٌ في الذل لم يدس
لا عاد يخطر في بالي الهوى فدعي
هذا الفتى آمنًا من خلقك الشكس
أنذرت قلبي بما أوحى السلوُّ لذا
سقطت منهُ كأرطاميس من زفس
يكفي فوادي ما قاسى وما احتملت
جوارحي من وقود الشوق والهجس
آهًا ووا أسفي كم قد نثرتُ على
هواك لؤلؤَ دمعٍ راح في البخس
وكم سهرتُ الدجى شوقًا وعينك في
نوم فها الآن طرفي عنك في نعس
وها عيونكِ قد أمست مسهدة
ترجو إليَّ وصولًا وهي في الدلس
وها غدا اليوم منك القلب ملتمسًا
ترجيع عشقي وقلبي غير ملتمس
لا تفرحي إن نظرتِ الوجه مني ذا
بشاشة فالهوى تحت البشوش نسي
ولا تظني اصفراري في قدومك عن
خطور حب ولكن عن ظهور مسي
فلا يغرُّك لينُ الطبع مني أو
بشاشتي فأنا قاسٍ كنبل قسي
كذاك المنظر المرآة تظهر من
ماءٍ ولكنها للمس من يبس
دعي دعي ذلك الصبَّ الذي فعلت
بهِ طباعكِ فعل الظالم الشرسِ
فلست ألقي على باغي الأسى نظري
ولو يكون بأنوار البدور كُسي
قد كان يدوي بصوت الوجد قلبي إذ
أراكِ والآن أضحى جامد النفسِ
وكان ينطق فكري بالغرام بلا
صمتٍ فبُدِّل ذاك النطق بالخرس
وكم سفكتُ دموعي أو دماي على
رجليكِ أرجو الرضا من وجهك العبس
قد كنتِ حزنًا لقلبي والهوى نكدٌ
والآن صار له السلوان كالعرس
بغضتُ عشقك حتى لو تجسم لي
شخصًا لكنت أريهِ الشنق بالمرسِ

ومن ذلك أيضًا:

سُلوًّا فذا كبرٍ عهدتُك يا قلبي
ألم تر أنَّ الحبَّ أشرك في الحب
ألم تر من تهواه مال إلى السوى
وعنك تخلى ريثما صرت في الركب
لحى الله حُبًّا روحه في يد النوى
فما هو إلا رمةٌ في يد القرب
وما هو إلا خدعةٌ لا محبةٌ
وما أصله يا صاح إلا على الكذب
فلا عدت أمشي في طريق الهوى فذا
طريقٌ به من يمشي أصبح كالضب
طريق العنا والبوس والضيم والضنا
وسهد الدجى والسقم والنوح والندب
رأيت الهوى مغرى بضربي على المدى
فأضربت عنه الصفح والضرب بالضرب
سعادُ أما والله أنتِ وطيدةٌ
على الحب لكن طالما الشمل في الصحب
وأنتِ على الميثاق ساهرةٌ بلا
رقاد ولكن طالما الشمس في القطب
إذا كنت يا سعدي كبرت فأنت هل
صغرت ولم يبرح صباك هوى الصب
وإن بصدغَيك الغضون لذا الصبى
مجارٍ وفي صدغيَّ للكبر والكرب
كأنك بالمرآة همت صبابة
فلم تنظري فيها سوى الحسن والعجب
لعل ذبول الورد عن وهج الصبى
نشا فمياه الورد جلَّت عن النضب
تعلَّة من ظنَّ الشباب كنجمة
على القطب ما زالت تضيءُ بلا غرب
وهبك شباب العمر دام فهل فتى
يدوم على عهد الشباب بلا قلب
وهيهات فالأكوان سوف تحل في
قبور الفنا والأرض تحرق كالعشب
فذا مشهدٌ لا بدَّ من سدل حجبه
زوالًا ليبدو غيره من ورا الحجب
إذا كان في باريس كل العلا يرى
ففيه لقنسرين كل العلا مخبي
فكلُّ عمار فيهِ رمز خرابه
وكل خراب عن عمار له ينبي
وفي حزن بعض الناس للناس فرحة
وفي قومة المربوب منقلب الرب
وإن دخول النفس في الخطب مخرجٌ
لحزم النهى فالحزم يحصل في الخطب
وللناس أخلاقٌ وعادٌ وأنفسٌ
يطاوعن حكم الأين والحين والحقب

ومن ذلك أيضًا:

إياكِ إياكِ تأويبي وتقريبي
ولازمي لازمي بعدي وتغريبي
وحاولي كل صدٍّ عن محادثتي
واستقبليني بتزوير الأحاجيب
وإن حضرتُ فخطِّي في الثرى عوضًا
عن القيام بتسليم وترحيب
وإن نطقتُ فقولي فاه ذو حصر
وإن رويتُ فقولي ذو أكاذيب
وفضِّلي كل ذي نفس عليَّ فلا
أذل مني بين المرد والشيب
والله لو لم أكن شر الأنام لما
أحببتُ مثلك يا أدنى المحابيب
قابلتِ خيري بشري والوفا بجفا
كذاك طابقت تعميري بتخريبي
هيهات يحسب إنسانًا لديك فتى
يرعى الزمام بقلب غير مقلوب
قد كنت أهواك صافي القلب طيبهُ
فلم يرقك صفائي لا ولا طيبي
ورحت تهوين نكس القوم باذخة
به وبدلت مقبولًا بمشجوب
فخان عهدك مقلوبًا عليك ومذ
سمعت ذا قلت راح الذيب بالذيب
فسوف تبكي عليك الشامتات كما
عليَّ أبكيت عذالي بتعذيبي
وما فترت بسوق الشوق مرخصة
ما كان يغليه إنشادي وتشبيبي
حتى جعلت عرين الأسد مكلبة
ومنزل العهر إخدار الرعابيب
لذا غدوت أروم البعد عنكِ بلا
صبرٍ وقد كنت أرجو كل تقريب
وللفتى طلباتٌ يختلفن على
قدر اختلاف الدواعي والمطاليب
ها تبت عنك وعن كل الهوى أبدًا
وأنتِ عني وعن كل الهوى توبي

غيره:

يا عاذلون استريحوا فالشجيُّ خلا
ويا وشاة تهنوا فالمحب سلا
سلا وبالغ بالسلوان خاطره
حتى جرى في الملا سلوانه مثلا
سلا وأصبح لا يشكو صروف جوًى
ولا سهاد دجًى ولا عذاب قلى
نعم سلوتُ نعم عفت الغرام نعم
فرَّ الولوع نعم كل العنا بطلا
وارتحت من كل مهذار يلحُّ فقد
زال الهوى فأزال العذر والعذلا
تلك التي خلبت عهدي وقد جلبت
على ودادي لها ما يصدع الجبلا
حسبت أن ودادًا عندها ووفًا
حتى اختبرت فلا ودٌّ هناك ولا
خيانةٌ مزَّقت صبري مرارتها
كل الخيانات أضحت بعدها عسلا
بالأمس كنت على قومي أتيهُ بها
واليوم قد أصبحت عارًا عليَّ علا
وكنت أهتزُّ فخرًا كلما ذُكِرت
فصرت إن ذكرت لي أنحني خجلًا
لا بدع أن أستحي من ذكر من ولعت
بالقدح بي بعدما أوسعتها غزلا
فلا رعى الله يومًا عهد خائنة
قد أشمتت من درى أمري ومن جهلا
أنا الذي بيدي أوقعت نفسي في
تلك الفخاخ فإن أعتب فذاك على
تعلموا أيها العشاق واتخذوا
أمثولةً لم تروا يومًا لها مثلا
قضيت كل شبابي في محبة من
مذ شاب فودي راحت تطلب البدلا
وما درت أن عصر اليأس داهمها
وأنها قد غدت بين الملا هملا
قد عوضتني بمن دوني لذاك غدت
دونًا فيا ويح من ينحط بعد علا
وأنكرت قدر معروفي ومعرفتي
فصار إنكارها في قلبها وجلا
كأنما الذوق يأبى أن يقوم على
أنثى فليت الأناثى لا ترى رجلا
لأصبرنَّ على تجديد دولتها
فالدهر من شأنهِ أن يقلب الدولا
فسوف يضحكني صرف الزمان على
أحوالها وسيبكيها أسًى وبلا
كم أضحك الدهر من باكٍ ينوح وكم
أبكى ضحوكًا وكم رقى وكم خذلا

غيره:

يليق لذي العجباء أن تتدللا
وفرضٌ عليها أن تتيه على الملا
وحقٌّ لها أن لا تكلمني ولا
تراني ولا تلقي سلامًا ولا ولا
وحلمٌ لنا منها إذا عفَّ حكمها
ولم نجعل الأعلى على الأرض أسفلا
فمن قدرها أن تكسف الشمس في الضحى
وتخسف وجه البدر في كبد العلا
وتهبط بالسبع الشداد على الثرى
وتفصم شمل الكاينات وتفصلا
وتستوقف الأفلاك عن دورانها
وتقلب أبراج السما وتزلزلا
وتهدم أركان الطبيعة كلها
وتجعل تنظيم الوجود مبلبلًا
وتقلع أطناب السحاب وتنسف الـ
ـجبال وتبقي واسع البحر جدولًا
وتبطش بالأقدار والخطب والقضا
وتضرب شرع الكون فردًا ومجملا
وتجدع بالإذلال أنف الفتى ولو
أناف على الجوزاء شأوًا ومنزلًا
وتسحق أحكام الزمان برجلها
وتكسر رأس الدهر إن صال واعتلا
لها البدر نعلٌ والسها فص خاتم
وكل الدراري والنجوم لها حلى
فها كل هذا حقها غير منكرٍ
نعم كل هذا حقها ولها ولا
نعم كيف لا وهي التي خانت الوفا
وبالغدر والإبرام قابلت الولا
وقد قذفت بالنكس عهدي ومزقت
يمين الهوى عمدًا ومدت يد القلى
لذلك قلبي قد سلاها وعافها
وها هي بعد العز تعنو تذللا
فيا حسرة اسمٍ كان يسند بالثنا
فأصبح حرفًا معجم الحكم مهملا

وقال أيضًا:

طرقتُ خباها بغتةً يوم تبكير
فصبحني وجهٌ كرقعة تصويرِ
هناك على المرآة كانت مكبةً
تموِّه خديها بصبغة حنجور
فأيقنت أني في الهوى كنت والعًا
بمسحوق تبييض ومحلول تحمير
وكنت أرى أني بمقصورة جوٍّ
إذا أنا أهوى رامجًا ضمن حابورِ
مظنة نُبل في محتة هُجْنَة
حكت عزف زنبور على وزِّ طنبورِ
ولما رأيت الشيب في فودها نما
عجبت لصبح لاح في ظل ديجورِ
وقلت عساها أمسكت أم ضجيعها
جفاها فذا تاجٌ على رأس مهجورِ
جمالٌ على فرش الهوى مات والشقا
أحال لهُ مسك الغداف لكافورِ
لكِ الله من هذا الذي كان طالعًا
مع الصبح من مغناك يجري كمذعور
فهل خلفٌ لي ذا على فتن الهوى
نعم فاعشقي يومًا خلا خلف شحرور
نهلتُ أنا ماءَ الصبا منكِ كلهُ
وخلفت للأغيار ماءَ الحناجيرِ
أنا نحلة الأزهار أجني نفيسها
خليقًا وأبقي غثَّها للزنابير
غدرتِ وهذا الغدر ريحٌ أمامه
أنا والهوى طودٌ وريشة عصفور
فما أنا ممن غدر مثلك مضَّهُ
وأي كريم في الورى غير مغدور
إذا قلت فالأفعالُ تتلو مقالتي
ولو كنت مطبوعًا على كل تقصير
توهم قومٌ أنهم أسد الشرى
وعند التلاقي أجفلوا كالسنانير
إذا قام شاهين الطيور مشمرًا
على ساقه خابت ظنون الزرازير
وإن هبَّ نسر الجوِّ فيه محوقًا
تفرَّق في الآجار جمع العصافير
يحاول ضرب اسمي الحسود ودونهُ
زحام الليالي واقتحام الأعاصير
تبوأت باز الدهر في حومة العدى
فرارًا فرارًا يا صفوف الفرافير
أنا بينكم لكنني ضعت بينكم
وربَّ صحيح ضاع بين مكاسير
فمي وفمُ الباغي يصيحان إنما
بمأذنة هذا وذلك في بير
يحوقلُ خصمي إذ يراني وصاحبي
يروح بتهليل عليَّ وتكبير
أنا صخرة الوادي إزاءَ معاندي
وأعظم خطب للذي رام تحقيري
على أنني غيثٌ ثجاجٌ لذي الوفا
وملحٌ أجاجٌ للخئون ابن خنزير

وقال أيضًا:

تشآمت إذ في النوم طيفك وافاني
فيا ليت نومي لم يعد بعد سلواني
حلفت يمينًا لا أراك فإن أكن
جرحت يميني في الكرى فالكرى الجاني
وماذا يريد الطيف مني وإنني
سلوت سلوًّا عنك ليس لهُ ثاني
فلو مثل الماءُ القراح لأعيني
خيالك لم أشرب ولم أطفِ نيراني
سلوتكِ والدنيا تضجُّ بسلواني
عليكِ وأهلي يعجبون وخلاني
فكلٌّ لهُ علمٌ بأني كنت في
هواك صريعًا ضايعًا مدنفًا فان
وكنت إذا أنشدت فيك قصيدة
ترامت عليها أنفس الإنس والجانِ
فيا ليت قومي يعلمون الذي جرى
مِنَ الغدر والإبرام منك لإحساني
وفيتكِ حتى خنتني بخيانة
تحير من فحشائها كل خوانِ
فها وجهك المنكود يشهد بالذي
فعلتِ وها ما بين عينيك عدواني
على أن ذياك الجمال قد انمحى
ولم يبق من ملح سوى لمح إنسان
إلامَ إلامَ العجب إذ لم يعد سوى
شنار وفي المرآة عندك برهاني
قضى حسنك الباغي وجنزه القضا
وأدرجهُ من ذا المشيب بأكفان
نظيرك دهرٌ ساحرٌ بك غشني
وحير أصحابي بأمري وأقراني
لحى الله أيامًا بوجدك جزتها
فيا ليتني ما كنت فيها بوجدانِ

وقال أيضًا:

ما غريمي في الحبِّ غيرُ ثباتي
وثباتُ المحب عين الشتاتِ
ليتني كنت كالحبيب بلا قلـ
ـب فلا كان منبت الحسراتِ
لحفاظ الحياة قد خلق القلـ
ـبُ ولكن قلبي لسلب حياتي
أيها القلب قد قضيت مرامًا
فإلامَ الولوع بالشهواتِ
تُب عن الحب والعنا وعلى السلوان
ثِب وانجُ يا أخا الوثباتِ
كيف يا غالبًا أسودَ الردى صِر
تَ أسير الهوى بعين مهاةِ
عجزت أسيف المصايب عن كسـ
ـرك حتى انكسرت باللحظاتِ
أنت أبكيت أعين الدهر ذي الغد
ر فأتى يبكيك غدرُ فتاةِ
ذلك الحسن يصرع الأسد السا
طي ويغزو الكميَّ ذا الغزواتِ
إنما الحرُّ لم يخر حسن ذاتٍ
قطُّ ما لم يزن بحسن صفاتِ
فسلوًّا يا قلب إن كنت حُرًّا
عن قبيح الصفات باهي الذاتِ
ذا حبيبٌ عيناه لم تخلقا إلا
لرشق الجميع بالنظراتِ
كلما شاب لمَّةً شبَّ لؤمًا
فشبابٌ ناءٍ وشيبٌ آتِ
ما عليهِ فقد هصرت صباهُ
دانيَ القطف طيب الثمراتِ
ثم غادرته فضالة لون
سرسمًا في صحايف الطيباتِ
يا خليفي في حبه فاتك العهدُ
فوات الحبيب عند الفواتِ
كن أمينًا عليه من رجعتي حر
مة أمنٍ من أحسن الحرماتِ
فلمثلي الثبات في كل شوطٍ
ولغيري الترداد في الرجعاتِ
طايرٌ كان في يد الشهم نسرًا
وبغاثًا غدا بأيدي البغاةِ
هكذا الشاة في حمى الليث ليثٌ
وبوكر الذباب جيفة شاةِ
ربَّ ميِّتٍ كأنه في حياة
عند حيٍّ كأنه في مماتِ

وربما كان السلو هجعة رقاد، وهدنة جلاد، حتى إذا عرض حادث، أو زال باعث، تيقظ المحب للحال، ورجع إلى جهاد الجمال، مستعطفًا برجعته، ومستعذرًا عن غفلتهِ، ويستسمح عما مضى، ويستبيح عوض الرضا، وهكذا يرجع بعد نفاره، ويقع بعد فراره. وعلى هذا الحال، قلت هذا المقال:

رجع المحب إليك بعد سلوهِ
ودنا يروم رضاك بعد عتوه
صبٌّ رأى برجوعهِ كل المنا
وكذا رقى كل العلا بدنوهِ
وغدا وضيع النفس بعد علوها
وهوى على قدميك رغم سموهِ
والله ما بالغت بالإعراض لو
لم يدعُ ذلك منكِ فرط غلوهِ
وإذا غضبت فلم يكن غضبي سوى
ثورات هذا الحب حال نموهِ
لم يخلُ منكِ وعنكِ لم يكُ معرضًا
قلبي فإنَّ إليكِ كل حنوهِ
شجر الحياة وفيهِ حبك قد جرى
مجرى الحياة فلم أعش بخلوهِ
لا يألف السلوان صبٌّ دأبه
يلفيك في آصاله وغدوه
عودتِ خاطره الضجيج على المدى
يهواكِ حتى زال كَل هدوِّهِ
فإذا ثنتهُ عنك فترة صدفة
وارتد بعد علمتِ بُعْدُ سلوهِ
فإليكِ يدنيني الهوى بدنوِّه
مني ويقصيني الرجا بعلوهِ
عادى الرجا قلبي وصادقهُ الهوى
فاحتار بين صديقهِ وعدوهِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤