الدولة البرتية
أو الدولة الفارسية الثالثة في العراق ١٢٦ق.م–٢٢٦ بعد الميلاد
عندما ضعفت الدولة السلوقية اليونانية التي قامت على أنقاض دولة الإسكندر الذي قرض
الدولة الكيانية، اغتنم البرتيون
١ فرصة ضعفها، فنهض فيهم زعيمهم أرشك — أيشك، أرشاق — فاجتاح بقومه بلاد
البرتيين سنة ٢٥٠ق.م، وخرج على السلوقيين، ثم أعلن استقلاله سنة ٢٤٨ق.م وأسَّسَ
الدولة البرتية.
٢
ومات أرشك في السنة التي أعلن استقلاله فيها،
٣ وظل أعقابه يوسعون مملكتهم بما كانوا يفتحونه من بلاد الدولة السلوقية حتى
أصبحت دولتهم واسعة الأطراف، ثم حملوا على العراق سنة ١٤٣ق.م، وبعد حروب استمرت أعوامًا
بين الأمتين «البرتيون واليونان»، وجلبت على أهل هذا القطر الذي صار ميدانًا لتلك الحروب
حينذاك أنواع النوائب، ثم تمَّ أمر البرتيين في العراق سنة ١٢٦ق.م في عهد ملكهم مهرداد
السادس (١٧٥–١٢٦ق.م)،
٤ واتخذوا مدينة «سلوقية» التي بناها سلوقس الأول اليوناني على الضفة اليمنى
من «دجلة» عاصمةً لهم، بعد أن فتكوا بأهلها لتحزُّبهم للسلوقيين، ثم ابتنوا مدينة تجاه
«سلوقية» على الضفة اليسرى من «دجلة» وسموها «قطيسفون»، وجعلوها عاصمةً لهم بدلًا من
سلوقية، فسمَّى العرب هذه المدينة «طيسفون»، وسماها اليونان «أكتسيفون».
(١) شكل حكومة البرتيين
كان نظام الدولة البرتية يختلف باختلاف الأقوام والأقاليم، وكانت تنقسم إلى ممالك
صغيرة أو مقاطعات مستقلة، ولكل واحدة منها ملك يحكم عليها ويخضع للملك البرتي
المقيم في «أكتسيفون»، فهي والحالة هذه أشبه بالولايات المتحدة، ومن تلك الممالك
الصغيرة التي كانت في «العراق» إمارة «ميشان» التي كانت في موقع البصرة، وإمارة
«حطارا» التي كانت قرب «تكريت»، وإمارة «حدياب» التي كانت في أرض الموصل وما
يجاورها، أي بين الزابين وتمتد إلى الشرقات وإلى نصيبين وقاعدتها أربيل، وإمارة
«الحيرة» المشهورة التي كانت في موقع أبي صخير، وهي حكومة عربية أسَّسَها مالك بن
فهم التنوخي سنة ١٣٨م.
(٢) العراق في عهد البرتيين
بعد أن تمَّ أمر الدولة البرتية في بلاد «بابل»، أطلقوا لأهلها الحرية التامة في
كل شيء، وأبقوا قوانين البلاد وشرائعها على ما كانت عليه قبلًا، ولم يتعرَّضوا
بديانات أهل البلاد ولا بعاداتهم وعوائدهم، ومنحوا لبعض المدن استقلالًا إداريًّا،
ولبعضها استقلالًا إداريًّا وسياسيًّا، فكان في عهدهم لكل مدينة استقلال بلدي وحق
في انتخاب القضاة والمجلس الإداري، كما كان في مدن الأقطار الأخرى التي تحت حكمهم،
إلا أنهم جعلوا على العراق حاكمًا عامًّا فارسيًّا يدير شئون تلك المدن المهمة تحت
إشراف الملك البرتي المقيم في «أكتسيفون»، وفرضوا على كل مدينة ضريبة سنوية
تؤدِّيها للحكومة، وبذلك تمتَّع العراقيون في أكثر عهد هذه الدولة بالحرية التامة،
وعمرت بلادهم وكثرت ثروتهم، خصوصًا وأن البلاد كانت هادئة لم يحدث فيها حرب دينية
أو فتن مذهبية، إلا ما كان يحدث أحيانًا بين أهل البلاد وبين اليهود من الفتن بسبب
الاختلاف الديني، مما لا علاقة له برجال الدولة؛ لأن البرتيين لم يكن عندهم فرق بين
دين وآخَر، ولا تعصُّب لدين من الأديان حتى دينهم الرزدشتي الذي كانوا عليه؛ وما
كان يحدث بين هؤلاء الملوك وملوك «سورية» في الحروب التي كاد يتطاير بعض شررها على
أبناء الرافدين.
(٣) الحروب بين البرتيين وملوك سورية
لما تمَّ أمر البرتيين في العراق وأسَّسوا دولة كبيرة تضم عدة أقاليم، حاولوا
التسلُّط على سورية — كما حاوَلَ السلوقيون ملوك سورية الذين طُرِدوا من العراق
إرجاعه إليهم — فسبَّبَتْ تلك المطامع حروبًا دامت أعوامًا طوالًا خسرت فيها
الدولتان خسائر فادحة، وأصيب بسببها أبناء الرافدين ببعض النوائب.
فلما انقضى عهد السلوقيين من سورية سنة ٦٤ق.م وقام فيها الرومانيون، طمعوا في
العراق كما طمع البرتيون في سورية، فامتدت من أجل ذلك بينهم الحروب وأكثرها كانت
تقع فيما بين النهرين، ولكنها كانت في أول الأمر سجالًا بين الأمتين، ثم صار النصر
حليف الرومانيين
٥ وحمل طريانوس الإمبراطور الروماني سنة ١١٤م بجيش كبير على البرتيين
في أيام الملك خسرو الذي سماه بعضهم أرشاق الرابع والعشرين، فانتصروا عليهم، وتوغل
الإمبراطور في بلادهم حتى استولى على سواحل «دجلة» من جبال «أرمينيا» إلى «خليج
فارس» سنة ١١٥م، واستولى على مدينة «سلوقية» و«أكتسيفون» وغيرها من مدن العراق،
وزعزع أركان الدولة البرتية وكاد يقضي عليها، إلا أن الملك البرتي خسرو تمكَّنَ
أخيرًا من جمع جيوشه المتفرقة، وحمل على الرومانيين وأخرجهم من بلاده فعادوا بالفشل.
٦ ولم تمضِ أعوام قليلة حتى عادت الحرب بين الدولتين سنة ١٦٤م، فانتصر
الروم أيضًا وتوغلوا في «العراق» وحاصروا عاصمة الملك «أكتسيفون» سنة ١٦٥م، ولم
يرجعوا عنها حتى عقدوا صلحًا يرضيهم، فلما دخلت سنة ١٩٥م عادت الحرب فاندحر
البرتيون وتقدَّمَ الرومانيون وتوغلوا في «العراق»، وتمكَّنوا من الاستيلاء حربًا
على «أكتسيفون» فنهبوها.
وظل البرتيون تارةً ينتصرون على الروم وأخرى يندحرون أمامهم، وآونة يعقدون الصلح
معهم، حتى انقضت أكثر مدتهم في نزاع وحروب، هذا عدا ما كان يحدث أحيانًا من الفتن
الداخلية التي كانت تقوم تارةً بين الأسرة المالكة لتنازعهم على الملك، وأخرى من
الشعب فيختل النظام وتضطرب أمور المملكة، ويؤدي ذلك إلى خلع الملك أو قتله،
وأحيانًا كان الرومانيون يتدخلون في شئون الدولة بسبب تلك الفتن المتوالية حتى تحكم
الضعف فيها واختلَّ نظامها، وأخذت تنحطُّ عامًا فعامًا، وزالت هيبتها وطمع بها
أعداؤها، وكان آخِر ملوكها أردوان الرابع (٢١٦–٢٢٦م).
٧
(٤) انقراض الدولة البرتية
جلس أردوان الرابع على العرش في الوقت الذي كانت فيه الدولة البرتية قد أنهكتها
الحروب الخارجية — التي تَقدَّمَ ذكرها — والفتن الداخلية التي بدأت منذ سنة
١٩٧م، تارةً بين الأسرة وتارةً يثيرها الشعب على ملوكها لضعف الدولة، حتى طمع بها
أعداؤها، فزادت في عهده الفتن والاضطرابات، وكثرت المشاغب في الأسرة المالكة،
فاغتنم الرومانيون فرصةَ تلك الاضطرابات المتوالية التي أنهكت الدولة، وحمل
الإمبراطور الروماني قراقلا على ما بين النهرين سنة ٢١٦، ثم عقد خلفه مرقيانوس في
سنة ٢١٧م صلحًا مع أردوان هذا، ولكن الدولة البرتية لم تكد تستريح من الحروب
الخارجية حتى ثار الفرس سنة ٢٢٤م بزعامة أردشير بن بابك من آل ساسان،
٨ الذي عزم على تأسيس دولته، ونهض بقومه من الهضاب التي في غربي «إيران»،
فأخضع في مدة قصيرة جميع بلاد «فارس»، وتبعه خلق كثير من الفرس الميديين، ثم حالَفَ
جماعة كبيرة من الملوك والأمراء الذين تحت سلطة البرتيين فانحازوا إليه، وعزم على
محو تلك الدولة التي حكمتهم مدة خمسة أجيال، فهمَّ أردوان الرابع بإخماد تلك الثورة
بادئ بدء، فخابت مساعيه بعد عدة معارك دارت رحاها بينه وبين أردشير، فاندحرت جيوشه
وأعلن أردشير ملوكيته المستقلة في «باخترا» وسمَّى نفسه ملكًا.
وبعد حروب دامت نحو
سنتين انتصر أردشير انتصارًا باهرًا، ومزَّقَ جيوش الدولة البرتية، وافتتح «العراق»
وغيره من الأقطار التي تحت حكمهم، ودخل عاصمة الملك «أكتسيفون» سنة ٢٢٦م، واستولى
على جميع ما كان لتلك الدولة من المستملكات والبلاد والأموال، وانهزم الملك البرتي
أردوان الرابع إلى جبال «أرمينيا» — وقيل قتل في المعركة الأخيرة
٩ — فانقرضت دولة البرتيين التي أسَّسها «أرشك» بعد أن دامت ٤٧٤ سنة (٢٤٨
قبل الميلاد–٢٢٦ بعد الميلاد)، وضمت مدن «إيران» الحديثة وأكثر بلاد الأفغان،
وقسمًا كبيرًا من «تركية آسيا»، وأقاليم متسعة من أملاك «روسيا» الحالية و«العراق»
وبلاد «آشور» وبلاد «مادي» التي في ضمنها «كردستان»، وملكت في بعض الأحيان بلاد ما
بين النهرين — الجزيرة — لأنها كانت تارة تكون للروم وتارة لهم، ولكنها لم تحكم
«العراق» إلا نحو ٣٥٢ سنة (١٢٦ق.م–٢٢٦ بعد الميلاد)، وعدد ملوكهم الذين حكموا
العراق ٢٠ ملكًا، أولهم مهرداد السادس وآخِرهم أردوان الرابع،
١٠ وقد وجد الباحثون من النقابين في مدينة لاكاش — لجش — قصرًا من بناء
هؤلاء الملوك قد شيَّدوه فوق هيكل أنينو الذي كان مرصودًا لإله المدينة.
١١
(٥) تتمة لما تقدَّمَ
لقد اختلفت أقوال المؤرخين في مدة هذه الدولة وعدد ملوكها منذ نشأت حتى انقراضها؛
فمِن قائل إن مدتها كانت ٣٩٧ سنة، ومِن قائل إنها عاشت ٤٨١ سنة، ومِن قائل إنها
دامت ٤٧٤ سنة، ويزعم بعضهم أن عدد ملوكها ٣١ ملكًا، ويقول آخَرون ٣٠ ملكًا، وإن
الذين حكموا العراق منهم عشرون ملكًا أولهم مهرداد السادس، وآخِرهم أردوان الرابع،
ويروي البعض أن عددهم ١٩ ملكًا. وكذلك جاءت أسماء هؤلاء الملوك مختلفة جدًّا؛ فمنهم
مَن يُسمَّى أردوان باسم أرطبان، ومنهم مَن يذكر أولغاش بدلًا من أردوان، ومنهم مَن
لم يذكر اسم أحد من هؤلاء الملوك إلا في سياق ذِكْر حادثة حربية أو فتنة داخلية.
وبينما نرى تواريخ الرومانيين تذكر أربعة ملوك سُمُّوا باسم أردوان، نرى تواريخ
الفرس لا تذكر غير ملكين سُمِّيَا بهذا الاسم، ونرى من جهة أخرى أن بعضهم يلقِّب كل
ملك بلقب أرشاق، ويقول إن أولهم أرشاق الأول وآخِرهم أرشاق الواحد والثلاثون.
١٢
ورأى بعض المؤرخين أن الذي تولَّى بعد أرشك الأول أشكان الأول، ثم أشكان الثاني،
ثم شابور، ثم بهرام، ثم بلاش، ثم هرمز، ثم نرسي، ثم فيروز، ثم بلاش الثاني، ثم
خسرو، ثم بلاشان، ثم أردوان، ثم خسرو الثاني، ثم بلاش الثالث، ثم كودرز، ثم نرسي
الثاني، ثم كودرز الثاني، ثم أردوان الثاني، وبه انقرضت هذه الدولة.
ويقول آخَر إن الذي تولَّى الأمر بعد أرشك أخوه تيرداد، ثم أردوان الأول، ثم
أفراسياب، ثم فرهاد، ثم مهرداد الأول الذي قاتل السلوقيين وأخذ منهم بلاد «مادي»
وبلاد «آشور» وبلاد «بابل»، وأَسَرَ الملك السلوقي ده مترئيوس في الحادثة التي وقعت
على ساحل «الفرات» بعد حروب هائلة. ويروي لنا غيره أن أولهم أرشاق أو أرشك ثم
تسيردات الأول، ثم أرشاق الثاني، ثم أبراهاباط، ثم أبراهاط الأول، ثم ميثريدات
الأول، ثم أبراهاط الثاني، ثم أرطبان الأول، ثم ميثريدات الثاني، ثم أرطبان الثاني،
ثم سيناطروق، ثم أبراهاط الثالث، ثم ميثريدات الثالث، ثم أورود، ثم أبراهاط الرابع،
ثم أبراهاطاس، ثم أورود الثاني، ثم أونون، ثم أرطبان الثالث، ثم تيردات الثاني، ثم
وردان، ثم كوتارز «أوكورتارسن»، ثم أوجودرز، ثم أولغاش الأول، ثم باقور، ثم خوسرو،
ثم برثاتسباط، ثم أولغاش الثاني، ثم أولغاش الثالث، ثم أولغاش الرابع، ثم أرطبان
الرابع. وذكر بعضهم أن الذي جلس على العرش بعد أرشك هو تيراد، ثم أردوان الأول، ثم
أفراسياب، ثم فرهاد الأول، ثم مهرداد الأول، ثم فرهاد الثاني، ثم هرمز، ثم فرهاد
الرابع — ولم يذكر الثالث — ثم فيروز، ثم خسرو، ثم بلاش الثالث — ولم يذكر بلاش
الأول ولا الثاني — ثم أردوان الخامس — ولم يذكر غير الأول قبل هذا — وبه انقرضت
هذه الدولة.
وخلاصة القول: إن المؤرخين لم يتمكَّنوا من ضبط أسماء ملوك هذه الدولة بصورة
صحيحة، ولم يتوفَّقوا إلى معرفة تاريخها بالضبط؛ ولذلك تناقَضَتْ أقوالهم واختلفت
أخبارهم، خصوصًا وأن هذه الدولة لم تترك آثارًا تاريخية حتى يتوصَّل الباحثون إلى
ما يحتاجه التاريخ، ومع ذلك فإننا قدمنا في أبحاثنا ما هو الأرجح، وذكرنا في هذا
البحث ما وصلنا عن المؤرخين، ولا بد من يوم نقف فيه على ضالتنا بواسطة ما يستخرجه
النقَّابون من أطلال المدن القديمة، ولا سيما إذا حفروا أطلال «أكتسيفون» التي كانت
عاصمة هذه الدولة.
١٣