الدولة البويهية الفارسية في العراق
(١) بدء دولة بني بويه
وعلى أثر ذلك كاتبه أهل «شيراز» يستدعونه، فسار إليهم سنة ٣٢٢ﻫ/٩٣٤م، فقاتَلَه ياقوت عامل الخليفة، ولكنه فشل وانهزم ودخل علي «شيراز»، فدانت له بلاد «فارس» كلها واشتهر، ولما قُتِل مرداويج انضمت عساكره إلى علي هذا، وكان الخليفة يومئذٍ الراضي بالله، فكتب إليه علي وإلى وزيره علي بن مقلة يطلب تقرير البلاد عليه بألف ألف درهم — مليون — في السنة، فأُجِيب إلى ذلك وبعثوا إليه بالخُلَع واللواء، ولما قوي أمر علي أقطع أخاه الحسن «أصفهان»، وأخاه أحمد «كرمان»، وأقام هو ﺑ «فارس» ملكًا عامًّا إلى أن مات سنة ٣٣٨ﻫ، بعد أن أسَّسَ أكبر دولة فارسية شيعية في الشرق.
وأول غارة شنَّهَا البويهيون على «العراق» كانت في سنة ٣٢٦ﻫ الموافِقة لسنة ٩٣٧م، وذلك أن أبا عبد الله البريدي كان قد انهزَمَ من «ابن رائق» و«بجكم التركي» — يحكم — المتغلبين على الخلافة ﺑ «بغداد»، وسار إلى «اصطخر» مستنجدًا بعلي بن بويه، فأرسل أخاه أحمد لأخذ «العراق»، فسار هذا بجيوشه حتى وصل «أرجان»، فلاقاه هناك «بجكم» والي مدينة «واسط»، وكان قد سار لصده، وبعد عدة معارك انهزم «بجكم» إلى «الأهواز»، فتقدَّمَ أحمد إلى عسكر مكرم وقاتَلَ حاميتها الذين تركهم فيها «بجكم»، فهزمهم ففروا إلى «تستر»، ثم سار أحمد إلى «الأهواز» وملكها عنوةً وفرَّ «بجكم» إلى «واسط»، وعلى أثر ذلك حدث خلاف بين أحمد وبين ابن البريدي فهرب الثاني، فعلم باختلافهم «بجكم» فأرسل جيشًا واستردَّ «الأهواز» وأكثر البلاد التي استولى عليها أحمد، فلما فشل أحمد استنجد بأخيه علي فأمده بالجيوش، فعاد واستولى على «الأهواز»، أما «بجكم» فإنه سار من «واسط» إلى «بغداد» واستولى عليها، وقلَّده الخليفة الراضي بالله إمارة الأمراء؛ خوفًا من شره، وذلك سنة ٣٢٩ﻫ، وكان ابن البريدي بعد أن فرَّ من أحمد قد أقام ﺑ «البصرة»، وصار يراسل «بجكم» ويحرِّضه على المسير إلى «الجبل» ليرجعها من الحسن بن بويه، ثم يسير إلى «الأهواز» فيستردها من أحمد بن بويه، واتفق معه فأمدَّه «بجكم» بخمسمائة فارس وسار هو إلى «حلوان» في انتظاره، وبقي ابن البريدي يتربَّص ببجكم وينتظر أن يبعد عن «بغداد» فيهجم هو عليها، فأدرك ذلك «بجكم» فرجع إلى «بغداد»، ولما عظمت الفتن في «بغداد» وتوالت الاضطرابات في «العراق»، وتولَّى إمارة الأمراء توزون التركي — تورون أو طوسون — كان أحمد مقيمًا ﺑ «الأهواز» يراقب كلَّ ما يجري في «بغداد» من الأعمال، ويأخذ الأخبار عن الحوادث التي تقع فيها، فاغتنم فرصة نكبة الخليفة المتقي بالله فحمل بجيشه إلى «واسط» سنة ٣٣٣ﻫ، فلاقاه توزون والخليفة المستكفي بالله بالعساكر، فرجع أحمد إلى «الأهواز» وظلَّ يترقَّب الفرص، ولما اشتدت الفتن في «بغداد» وضاقت بها الجبايات على العمال، وخلا بيت المال وامتدت الأيدي إلى أموال الناس، وزاد ظلم الأتراك في «العراق»، وتقاعَدَ الناس عن الأعمال فغلت الأسعار وقُطِعت الطرق، وأصبحت البلاد العراقية فوضى، واضطرب حبل الأمن، وتولَّى إمارة الأمراء زيرك بن شيرزاد التركي، وأخذ أهل بغداد بالجلاء عنها، خصوصًا التجار خوفًا من المصادرات، وضاق الأمر بالناس وسئموا تجبُّر الأتراك وظلمهم وغدرهم بالخلفاء؛ استغاثوا بأحمد بن بويه سرًّا، وكتب إليه أحد القواد الأتراك المدعو «ينال كوشه» يطمعه في «العراق» — كتب إليه لبغضه لزيرك بسبب ما كان بينهما من العداوة — فنهض أحمد مغتنمًا فرصة تلك الفتن المحزنة، وسار بجيوشه الديلم من «الأهواز» مسرعًا، فخرج إليه زيرك بمَن معه من جيوش الأتراك وقبائل الأكراد الذين جمعهم، فالتقى الفريقان، وبعد معارك هائلة انهزم زيرك بمَن معه، وسار قاصدًا «الموصل» بعد أن تولَّى الإمارة ثلاثة أشهر، واختفى الخليفة في داره ﺑ «بغداد» وخاف خوفًا شديدًا واضطرب الناس.
أما أحمد بن بويه، فإنه قدَّم كاتبه حسن المهلبي، فلما دخل هذا «بغداد» ظهر الخليفة المستكفي ودعا المهلبي إلى داره وأظهر له السرور والفرح بانتصار أحمد وقدومه.
ثم دخل أحمد «بغداد» في شهر جمادى الأولى سنة ٣٣٤ﻫ باستقبال عظيم، وذهب إلى دار الخليفة واجتمع به، فولَّاه الإمارة وحلف له وخلع عليه وألبسه طوقًا من الذهب وسوَّره بسوارين من الذهب، وفوَّض إليه تدبير المملكة، وعقد له لواءً وأمر أن يُخطَب له على المنابر، ولقَّبه «معز الدولة»، ولقَّب أخاه عليًّا «عماد الدولة»، وأخاه الحسن «ركن الدولة»، وأمر بضرب ألقابهم على الدراهم والدنانير.
(٢) معز الدولة أحمد بن بويه ٣٣٤–٣٥٦ﻫ
لما استتب أمر معز الدولة في «العراق» ورتَّبَ شئون البلاد، أقام ببغداد فاستأمن إليه أبو القاسم البريدي من «البصرة»، وكان حاكمًا عليها وضمن له «واسط» وأعمالها، فعقد له عليها في السنة نفسها (٣٣٤ﻫ)، وعلى إثر ذلك حجر معز الدولة على الخليفة، وقدَّر له برسم النفقة كل يوم خمسة آلاف درهم — وهو أول مَن فعل ذلك من البويهيين، وأول مَن ملك «بغداد» منهم — وبعد قليل حدثت بينه وبينه الخليفة وحشة، ورآه يسعى في إعادة حقوق الخلافة المغصوبة، فعزم على خلعه، فاجتمع به في قصر الخلافة في محفل حافل، وبينما هم جلوس دخل اثنان من كبار الديلم وتناوَلَا يد الخليفة، فظنهما يريدان تقبيلها، فمدَّها فجذباه عن سريره ووضَعَا عمامته في عنقه، وأخذَا بخناقه وساقوه ماشيًا إلى دار معز الدولة في أسوأ حال، وهناك خلعوه واعتقلوه، وسملوا عينيه، وظلَّ في دار السلطنة معتقَلًا حتى توفي في سنة ٣٣٨ﻫ.
أما معز الدولة فإنه لما ساق أصحابه الخليفة، نهض من دار الخلافة وسار إلى داره، فضربت البوقات والطبول، ونهب الديلم ما في قصر الخلافة من الأموال الثمينة، فاستاء الأهلون ونقموا على معز الدولة فاضطربت بغداد، فلم يبالِ معز الدولة بشيء، بل إنه جمع رجاله وأحضر أبا القاسم الفضل بن المقتدر فبايعه بالخلافة، وأخذ له البيعة العامة فلقَّبوه «المطيع لله» (٣٣٤–٣٦٣ﻫ/٩٤٥–٩٧٣م)، ومنذ ذاك اغتصب معز الدولة ما بقي من حقوق الخلافة، ولم يَبْقَ للخليفة غير كاتب يدبِّر أملاكه وإقطاعه التي تركها له ليسد بها حاجاته، وأصبحت سلطة الخلافة مسلوبة تمامًا، ولم يَبْقَ للخليفة غير الاسم والتوقيع على المناشير، وصارت الوزارة من جهة البويهيين بعدما كانت من جهة الخلفاء.
وظل السعد يخدم معز الدولة حتى بلغ ما لم يبلغه أحد قبله في الإسلام إلا الخلفاء.
الحرب في بغداد
على أثر خلع الخليفة المستكفي ومبايعة المطيع، جهَّزَ ناصر الدولة بن حمدان — صاحب الموصل — جيشًا كبيرًا لقتال معز الدولة وطرده من «بغداد»؛ لأنه ساءَه استيلاء معز الدولة على «بغداد» وخلعه المستكفي وسلبه حقوق الخلافة، فبلغ ذلك معز الدولة فجهَّزَ جيشًا وأرسله لملاقاته بقيادة موسى بن فيادة وينال كوشه التركي، فالتقى الجيشان في «عكبرا»، فانتصر ناصر الدولة وتقدَّمَ قليلًا، فاضطر معز الدولة إلى تجهيز جيش جديد قاده بنفسه وأخذ معه الخليفة، فحدثت بين الفريقين حروب شديدة، فأرسل معز الدولة في أثناء ذلك القائد زيرك بن شيرزاد التركي — الذي التحق به — بفرقة من عساكره إلى «بغداد» لخلوِّها من الجيوش، فاستولى عليها زيرك بغتةً باسم «ناصر الدولة»، وعلى أثر ذلك توجَّهَ ناصر الدولة من «سامر» إلى «بغداد»، فانحاز إليه ينال كوشه ومَن معه.
الاضطرابات في العراق
وفي السنة نفسها (٣٣٥ﻫ) انتفض أبو القاسم بن البريدي ﺑ «البصرة»، فأرسل معز الدولة جيشًا لقتاله، فبلغ ذلك ابن البريدي فسيَّرَ جيوشه للقتال، فالتقى الجمعان في «واسط»، فدارت الدائرة على جيش ابن البريدي وبلغه خبر الهزيمة، فجهَّزَ جيشًا ثانيًا، فخرج معز الدولة من «بغداد» بجيش كبير ومعه الخليفة المطيع لله قاصدًا طرد ابن البريدي من «البصرة»، فلما وصل إلى «الدرهمية» استأمن إليه جيش «البصرة»، فاضطر ابن البريدي إلى الهرب وفرَّ إلى القرامطة، فدخل معز الدولة ومَن معه «البصرة»، وذلك في ٣٣٦ﻫ، وبعد أن نظم شئونها ولَّى عليها وزيره حسن المهلبي ورجع إلى «بغداد».
ولما كانت سنة ٣٣٧ﻫ امتنَعَ ناصر الدولة بن حمدان عن إرسال المال المقرَّر إرساله إلى «بغداد»، فحمل عليه معز الدولة بجيوشه الديلم، فلما اقترَبَ من «الموصل» فرَّ ناصر الدولة إلى «نصيبين»، فدخل معز الدولة «الموصل» بدون قتال، وبينما هو عازم على مطاردة ناصر الدولة بلغه قدوم الجيوش الخراسانية على «جرجان» و«الري» لقتال أخيه، فاضطرَّ إلى مصالحة ناصر الدولة، فتمَّ الصلح بينهما على أن يؤدي ابن حمدان عن بلاده مليونًا من الدراهم في كل سنة، وأن يُخطَب لبني بويه في جميع بلاده: «الموصل» و«الجزيرة» و«سنجار» و«نصيبين» و«الرحبة» و«رأس العين» و«الخابور».
فرجع معز الدولة إلى «بغداد»، فانقطعت الاضطرابات أكثر من ثلاث سنوات في «العراق»، فحمل في سنة ٣٤١ﻫ يوسف بن وجيه صاحب «عمان» على «البصرة» وحاصَرَها أيامًا، فقاتَلَه أميرها حسن المهلبي حتى اضطره إلى الرجوع بالفشل.
فهدأت الأحوال إلى سنة ٣٤٧ﻫ، فامتنع ابن حمدان عن تأدية ما عليه من المال، فزحف عليه معز الدولة لأخذ بلاده، فانهزم ابن حمدان إلى حلب، وبعد مراسلات تصالَحَا وعاد كلٌّ منهما إلى مقره على أن يدفع ابن حمدان في كل سنة مليونين من الدراهم عن بلاده إلى معز الدولة.
ولم تمضِ سنة على ذلك الصلح حتى فسدت نية معز الدولة على ناصر الدولة، فحمل عليه بجيوشه ومعه وزيره المهلبي، وحجته في ذلك تأخير إرسال المال المقرَّر — والظاهر أنه كان يريد إضعافه أو محو حكومته؛ لئلا تكون بجانبه إمارة عربية قوية — ولما اقترب ابن بويه من «الموصل» فرَّ ابن حمدان إلى «نصيبين»، ثم بدأت غارات بعضهم على بعض حتى ضعف أمر ابن حمدان، فاضطر إلى الهرب إلى «حلب» عند أخيه سيف الدولة، وكتب إلى معز الدولة يسأله الصلح، فأبَى وحجته في ذلك أنه خالَفَ مرة بعد مرة، فاضطرَّ سيف الدولة إلى أن يكون ضمان البلاد التي لأخيه ناصر الدولة باسمه، وتعهَّد بدفع مليونين وتسعمائة ألف درهم سنويًّا، وأن يكون الحكم فيها لأخيه، فتمَّ الصلح وعاد كل منهما إلى مقره، وذلك في سنة ٣٤٨ﻫ، وبعد مضي خمس سنوات امتنع ناصر الدولة عن دفع الضمان السنوي — أي المال — فعادت الحرب بين الفريقين، وحمل معز الدولة على «الموصل»، فانهزم منها ناصر الدولة إلى «نصيبين» فلحقه معز الدولة، فلما اقترَبَ منه فرَّ منها إلى «جزيرة ابن عمر»، وبينما معز الدولة يتتبع آثار ناصر الدولة في جزيرة «ابن عمر»، إذ حمَلَ ناصر الدولة على «الموصل» بغتةً ومعه أولاده وجيوشه، فدخلها وفتك بالديلم وأسَرَ كبراءهم وغنم جميع ما فيها من الأموال والذخائر التي لمعز الدولة، فاضطرَّ الأخير إلى عقد الصلح، فتمَّ بينهما وعاد معز الدولة إلى «بغداد».
وفي أيام معز الدولة جرى في «بغداد» مأتم رسمي في يوم عاشورا على الحسين ابن الإمام علي، بأمرٍ أصدره في سنة ٣٥٢ﻫ، قضى بإغلاق جميع الأسواق، وبمنع الطبَّاخين من الطبخ، وبإخراج نساء يلطمن في الشوارع ويُقِمْنَ العزاء للحسين، وهذا أول يوم جرى فيه مأتم رسمي على الإمام ابن الإمام، ومعز الدولة هذا أول مَن فعل ذلك؛ إرضاءً لأبناء مذهبه الشيعة.
ومات معز الدولة ﺑ «بغداد» في ١٣ ربيع الآخر سنة ٣٥٦ﻫ، وكان ولي عهده ابنه «بختيار» الملقَّب ﺑ «عز الدولة»، ووزيره الحسن المهلبي، وحاجبه سبكتكين، وكاتباه أبا الفضل العباس بن الحسين وأبا الفرج محمد بن العباس.
(٣) عز الدولة بختيار ٣٥٦–٣٦٧ﻫ
لما مات معز الدولة ﺑ «بغداد» في ١٣ ربيع الآخر سنة ٣٥٦ﻫ، وكان ابنه بختيار الملقَّب ﺑ «عز الدولة» ولي عهده تولَّى الأمر بعده، فأصدر الخليفة المطيع لله منشوره في ذلك وخلع عليه ولقَّبَه «عز الدولة»، وأول شيء فعله عقد الصلح مع عمران بن شاهين أمير البطائح.
ولم يكن عز الدولة كأبيه في السياسة والتدبير، بل كان ضعيف الرأي، سيئ التدبير، مشغولًا بالملاهي، مسيئًا إلى رجال حكومته، حتى إنه طرد كبار الديلم طمعًا في إقطاعاتهم، وسبب ذلك شغب الجند عليه ﺑ «بغداد» وكانوا يومئذٍ طائفتين؛ الديلم والأتراك، فتوالت الفتن بسبب سوء تدبيره وقلَّتِ الأموالُ وكثرت حروبه مع أمراء البلاد المجاورة له ﮐ «الموصل» و«البصرة» وغيرها، حتى زالت هيبته وطمع به أعداؤه، وانقطع عنه سبكتكين التركي لسوء سيرته، وعصى ﺑ «البصرة» أميرها أخوه حبشي بن معز الدولة، وثار عليه في سنة ٣٥٧ﻫ، فأرسل عز الدولة وزيره أبا الفضل العباس بن الحسين فانتصر الوزير على حبشي وقبض عليه وصادَرَ أمواله التي ﺑ «البصرة»، وأرسله مخفورًا إلى أخيه عز الدولة ﺑ «بغداد» فحبسه.
ثم ثار في سنة ٣٥٩ﻫ أمير البطيحة عمران بن شاهين، فسار لقتاله عز الدولة حتى نزل ﺑ «واسط»، ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى «الجامدة»، فانحدر إليها بالجيش وحاصَرَ «البطيحة»، فطال أمد الحصار — وعز الدولة ﺑ «واسط» ينتظر الظفر — فضجر الجيش وثار على أبي الفضل، فاضطر إلى عقد الصلح مع عمران وصالَحَه على مال يرسله في كل سنة إلى عز الدولة، فعاد الجميع إلى «بغداد» وذلك في سنة ٣٦١ﻫ.
وفي هذه السنة (٣٦١ﻫ) جاء إلى «بغداد» فريق كبير من المسلمين مستصرخين بما فعل الروم في «الجزيرة» و«نصيبين»، فثارت عامةُ «بغداد» تريد حرب الروم، فطلب عز الدولة من الخليفة مالًا لتجهيز الجنود، فقال له الخليفة: «تلزمني النفقة على الحرب إذا كانت البلاد في يدي وتجبى إليَّ الأموال، أما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء، وإنما يلزم مَن في يده البلاد، وليس لي إلا الخطبة، فإذا شئتم أن أعتزل فعلت.» فلم ينفع الخليفة احتجاجه، وهدَّدَه عز الدولة فخاف على نفسه من القتل ولم يكن عنده مال، فاضطر إلى بيع أنقاض داره وأثاثها وثيابه، فجمعت أربعمائة ألف درهم، فسلَّمَها إلى عز الدولة، فشاع أن الأمير صادَرَ الخليفة، ولما قبض عز الدولة المال صرفه على مصالحه وتقاعَدَ عن الحرب، فانقطع حديث الناس عن الحرب.
الفتنة بين الديلم والأتراك
دخلَتْ سنة ٣٦٣ﻫ، فسار عز الدولة إلى «الأهواز»، فحدثت هناك فتنة بين الديلم والأتراك أدَّتْ إلى حرب دموية بين الطرفين، فانتصر عز الدولة للديلم واعتقل رؤساء الأتراك، ففتك الديلم بالأتراك، وبلغ ذلك مَن في «البصرة» من الديلم، فنودي بالبصرة بإباحة دماء الأتراك، فقُتِل منهم عدد كبير، واستولى عز الدولة على إقطاع سبكتكين التركي — حاجب أبيه معز الدولة.
وبلغ ذلك سبكتكين — وهو يومئذٍ ببغداد — فثار بمَن معه من الأتراك، ونهب دار عز الدولة، واستولى على حكومة «بغداد»، وطلب من الخليفة المطيع لله أن يخلع نفسه ويسلِّم الخلافة إلى ابنه عبد الكريم، وكان المطيع قد أصيب في هذه السنة (٣٦٣) بالفالج، وثقل لسانه وتعذَّرت الحركة عليه، فخلع نفسه وبايَعَ لابنه عبد الكريم ولقَّبَه «الطايع لله»، فتمت له البيعة (٣٦٣–٣٨١ﻫ).
أما عز الدولة فإنه كان قد سار من «الأهواز» إلى «البصرة»، ثم سار إلى «واسط»، فبلغه ما حدث ببغداد فتوجَّه إليها، فلما وصلها ورأى الأتراك قد استولوا على الدولة، أخذ يدبِّر المكيدة على سبكتكين، فأغرى رجاله الديلم بإذاعة خبر موته ليأتي سبكتكين إلى داره للعزاء فيقبض عليه، ففعلوا ذلك، غير أن سبكتكين لم تَفُتْه هذه الحيلة، فحاصر دار عز الدولة ثم وضع النار فيها، فخرج أهلها وطلب عز الدولة الذهاب إلى «واسط» بمَن معه، فأذن لهم سبكتكين، فانحدروا في «دجلة» ومعهم الخليفة الطائع — وفي الحقيقة أنه طائع — فبلغ سبكتكين خروج الخليفة معهم، فأرسل جماعة من رجال لإرجاعه فردُّوه إلى «بغداد»، وقوي أمر الأتراك ببغداد، وعلى أثر ذلك استولى سبكتكين على جميع ما كان لعز الدولة من الأموال المنقولة والثابتة، فتحمَّسَ الديلم الذين في «بغداد» وثاروا، فنهبوا أموال الأتراك، فحدثت من جرَّاء ذلك فتنةٌ عظيمةٌ وانقسَمَ البغداديون إلى حزبين: السنة وهم أنصار الأتراك، والشيعة وهم أنصار الديلم. وبعد قتال دام بضعة أيام في شوارع المدينة وأسواقها، انتصر السُّنةُ وأحرقوا دور الشيعة، ثم هدأت الأحوال من نفسها.
أما عز الدولة فإنه عندما وصل مدينة «واسط» استنجد بابن عمه عضد الدولة المستقل ببلاد فارس، فلما علم الثاني بضعف أمر الأول وما فعله الأتراك معه، عزم على المسير لنصرته، فسار في عساكر «فارس» سنة ٣٦٤ﻫ قاصدًا «واسط»، ولما وصلها واجتمع بعز الدولة اتفَقَا على أن يسير عضد الدولة إلى الجانب الشرقي من «بغداد»، ويسير عز الدولة إلى الجانب الغربي منها، فيحاصِرَاها من جميع الجهات، ثم سارَا بالجيوش على تلك الخطة حتى أحاطوا بالمدينة، وكان سبكتكين قد مات قبل أن يحاصِرَا «بغداد»، فخرج إليهما عضد الدولة والتقوا بالقرب من «تكريت»، وبعد عدة معارك، وولى الأتراك مكانه أفتكين التركي، فتجهَّزَ هذا لصد جيوش الديلم، فلما أحاطوا ببغداد اتخذ خطة الدفاع ودافَعَ هو ورجاله دفاعًا شديدًا، وفي أثناء ذلك غلت الأسعار وقلَّتِ الأقوات حتى احتاج أفتكين إلى الطعام، واضطر إلى كبس بيوت البغداديين، فكبسها وأخذ منها كل ما وجده من الطعام، فاضطرب حبل الأمن وكثر النهب والسلب في المدينة وسادت الفوضى فيها، وأخيرًا اضطر أفتكين إلى منازلة عدوه خارج المدينة، فخرج إليه وقاتلت جنوده قتالًا شديدًا، وبعد معارك هائلة انهزم بمَن معه إلى «تكريت»، واستولى عضد الدولة وعز الدولة على «بغداد».
ولما كان عضد الدولة طامعًا في «العراق» وعالمًا بضعف عز الدولة وقلة المال عنده، أغرى الجنود على أن يثوروا عليه ويطالبوه بنفقاتهم، فشغبوا عليه وبالَغوا فيه، فاحتار عز الدولة؛ لأنه كان لا يملك شيئًا من المال، فأشار عليه عضد الدولة بعدم الاكتراث بهم والتظاهر بالتنازل عن الملك، فظنه عز الدولة — لضعف رأيه — أنه ناصحٌ له ومدبِّرٌ، ففعل ما أشار عليه وأغلق باب داره وصرف حجَّابه وكُتَّابه، فشاع في المدينة أن عز الدولة قد تخلَّى عن الملك، فاجتمع رجال الحكومة والجنود حول عضد الدولة، ففرَّقَ على الجيوش الأموال، وجلب إليه قلوبهم فنودي له بالمُلك.
ولما نجح عضد الدولة في حيلته، اعتقل عز الدولة وإخوته وصفا له الجو ببغداد.
وعلى أثر ذلك ثار في سنة ٣٦٤ﻫ المزربان بن عز الدولة، وكان متوليًا على «البصرة» من قِبَل أبيه، وكاتَبَ أمراء البلاد يطلب منهم نصر أبيه، فكتب إلى ركن الدولة يخبره بما فعل ابنه عضد الدولة بأبيه، فغضب ركن الدولة لهذا الأمر وكتب إلى ابنه يأمره بأن يعيد الملك إلى عز الدولة، فأجابه يُعلِمه بضعف رأي عز الدولة، وأنه لا يقدر على ضبط الملك وتدبيره، وأنه إذا ترك «العراق» له ربما ضاع من بني بويه كافة، فأساء أبوه الرد عليه وحبس وزيره ابن العميد أبا القاسم، فاحتال الوزير على ركن الدولة حتى أقنعه على شرط أنه إذا أطلقه من السجن يعيد الملك إلى عز الدولة، فأطلقه على هذا الشرط، فسار إلى «بغداد» وخوَّف عضد الدولة من أبيه وحذَّرَه عاقبة التعنُّت، وصادَفَ ذلك انتقاض بعض العمال على عضد الدولة، واتفاق الأمراء الذين راسَلَهم ابن عز الدولة على قتاله واجتماع كلمتهم على نصر أبيه، فخشي عضد الدولة عاقبة الأمر، فأخرج عز الدولة من السجن وأعاده إلى منصبه، وسار عن «بغداد» راجعًا إلى مقره، واستلم عز الدولة زمام الأمور.
ولما مات ركن الدولة سنة ٣٦٦ﻫ وتولَّى ملكه ابنه عضد الدولة، كان عز الدولة يسعى في اجتذاب الأمراء إليه ليقوى بهم على عضد الدولة، حتى إنه أغرى بعضهم في الانتقاض عليه، فعلم ذلك عضد الدولة فعزم على أخذ «العراق» منه، وسار بجنوده نحوه، فخرج عز الدولة إلى «واسط» لصده، وبعد معارك شديدة اندحر عز الدولة وتَحصَّنَ في «واسط» وطلب الصلح، فتردَّدَتِ الرسل بينهما أيامًا بدون فائدة، وأخيرًا سار عضد الدولة إلى «بغداد» ودخلها بسلام، وكتب إلى عز الدولة يدعوه إلى الطاعة ويأمره بالخروج من «العراق» إلى أي قُطْر شاء إلا «الموصل»، فخرج عز الدولة من «واسط» قاصدًا «سورية»، وذلك سنة ٣٦٧ﻫ الموافقة لسنة ٩٧٧م.
(٤) عضد الدولة بن ركن الدولة (٣٦٧–٣٧٣)
عندما دخل عضد الدولة «بغداد» خلع عليه الخليفة الطائع، وتوَّجَه بتاج مجوهر وطوَّقه وسوَّره بسوارين — على جري العادة — وقلَّده سيفًا من الذهب، وعقد له لواءين، أحدهما مذهَّب والآخَر مفضَّض، وكتب له عهدًا قُرِئ بحضرته، وأمر أن يُخطَب له على المنابر بالملك، وأن يُضرَب اسمه ولقبه على الدراهم والدنانير، ولما خرج عضد الدولة من قصر الخلافة أرسل إلى الخليفة هدية فاخرة نقلها خمسون حمَّالًا، من جملتها خمسون ألف دينار وألف ألف درهم — مليون — وخمسمائة ثوب من الحرير وثلاثين صينية مذهَّبة فيها المسك والعنبر والكافور والند وغير ذلك من الثياب والفرش والخيل.
أما عز الدولة فإنه لما خرج من «واسط» قاصدًا «سورية» ووصل «حديثة الفرات»، وافاه أبو تغلب بن حمدان في عشرين ألف مقاتل وكان من أنصاره، فاتفق معه على قتال عضد الدولة وإخراجه من «العراق» فزحَفَا على «بغداد»، ودارت الدائرة على جيش ابن حمدان وانتصر عضد الدولة وأسر عز الدولة وقتله وقتل وزيره أبا طاهر محمد بن بقية بن علي الملقَّب «نصير الدولة»، وكانت بينه وبين عضد الدولة عداوة لأسباب طويلة أهمها أنه أغرى عز الدولة على قتال عضد الدولة، وقد طلبه عضد الدولة بعد أن ملك بغداد وقتل عز الدولة، فقبض عليه وألقاه تحت أرجل الفيلة فقُتِل، فأمر بصلب جثته فصُلِبت عند داره بباب الطاق ببغداد، وذلك سنة ٣٦٧ﻫ، فرثاه أبو الحسن محمد بن عمران الأنباري أحد العدول ببغداد، بقصيدته المشهورة التي مطلعها:
ويُروَى أن عز الدولة لما قصد «سورية» كان معه حمدان بن ناصر الدولة الحمداني، فأغراه حمدان على أخذ «الموصل» من أخيه أبي تغلب بن ناصر الدولة — وكان مغاضبًا لأخيه — فلما وصل «تكريت» أوفد إليه أبو تغلب رسولًا يسأله القبض على حمدان وإرساله إليه، وأنه إذا فعل ذلك سار إليه بنفسه ليقاتِل عضد الدولة ويعيده إلى ملكه، فقبض بختيار على حمدان وسلَّمَه إلى رسل أبي تغلب، فحملوه إليه فحبسه، ثم سار بختيار بعشرين ألف مقاتل واجتمع بأبي تغلب عند «حديثة»، ومن هناك زحَفَا على عضد الدولة وانتشبت الحرب بينهما، فانتصر عضد الدولة وأسر بختيار ثم قتله، وفَرَّ أبو تغلب بأصحابه راجعًا إلى «الموصل»، فنقم عضد الدولة على أبي تغلب لخيانة العهد والولاء، وسار إلى «الموصل» فرحل عنها أبو تغلب إلى «نصيبين»، فأرسل عضد الدولة جيوشه في طلبه، فخرج أبو تغلب من «نصيبين» فتبعته جنود عضد الدولة حتى اضطر إلى الهرب إلى «أرضروم» ومنها إلى غيرها، وسار إلى «سورية» وأخيرًا قُتِل هناك، وانقرضت دولة الحمدانيين من «الموصل» بعد أن دامت نحو أربع وسبعين سنة، أي منذ ولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان في خلافة المكتفي سنة ٢٩٣ﻫ، إلى أن استولى عضد الدولة عليها سنة ٣٦٧ﻫ، وطرد أبا تغلب بن ناصر الدولة وضبط بلاده، ولما تمَّ الأمر لعضد الدولة فيها جعل عليها أبا الوفاء طاهر بن محمد، وعاد هو إلى «بغداد».
ولما تمَّ أمر عضد الدولة الدولة في «العراق» طمع في الاستيلاء على «البطيحة»، وأرسل جيشًا بقيادة وزيره المطهر بن عبد الله، فهزمه الحسين بن عمران، ولما لم يكن المطهر هزم قبلًا خاف سقوط منزلته عند عضد الدولة، فقتل نفسه، وعلى أثر ذلك صالَحَ عضد الدولة أمير «البطيحة» الحسين على مال يأخذه منه كل عام.
وفي هذه السنة (٣٦٧ﻫ) اعتقل عضدُ الدولة أبا إسحق إبراهيم الصابي الكاتب المشهور ببغداد، وعزم على إلقائه تحت أيدي الفيلة، فشفعوا فيه ثم أطلقه سنة ٣٧١ﻫ، وسبب ذلك هو أن إبراهيم كان كاتبًا في ديوان الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة بختار بن معز الدولة، ثم تقلَّدَ ديوان الرسائل سنة ٣٤٩ﻫ، وكانت تصدر عنه رسائل إلى عضد الدولة بما يؤلمه فحقد عليه، ولما مات الصابي سنة ٣٨٠ﻫ رثاه الشريف الرضي بقصيدة بديعة أولها:
وبعد أن هدأت الأهوال شرع عضد الدولة في عمارة «بغداد»، فعمَّر جوامعها ومدارسها وأسواقها وجدَّد ما اندثر من الأنهار التي حولها، وذلك سنة ٣٦٩ﻫ، وكانت قد خربت المدينة من توالي الفتن والاضطرابات، ومن الغرق الذي أصابها مرارًا أثناء اشتغال حكوماتها وأهلها في الحروب والثورات التي أشغلتهم عن تحكيم السداد وعن تعمير كل ما خرب.
وفتح عضد الدولة صدره للعماء وناظَرَهم في المسائل وأكرمهم وشجَّعَهم على نشر العلوم والفنون، ورغَّبَ الناس في الاشتغال بذلك ونشَّطهم على توسيع نطاق الزراعة والتجارة، فزهت «بغداد» في أيامه وتوفَّرت فيها الأموال وامتلأ بيت المال، وقصدها جماعات من رجال العلم صنَّفوا له كتبًا عديدة في علوم مختلفة، فاشتهر ببغداد في أيامه جماعة من العلماء والحكماء والأدباء والأطباء وغيرهم، وبنى في سنة ٣٧١ﻫ مارستانًا كبيرًا على طرف الجسر في الجانب الغربي من «بغداد»، نقل إليه كل ما يلزم له من الأدوية والآلات، ورتب له ٢٤ طبيبًا، وفيهم الجرَّاحون والكحَّالون والمجبرون، وممَّن كان يدرس صناعة الطب فيه الطبيب إبراهيم بن بكس، وكان رئيس هذا المارستان الشيخ أبو منصور صاعد بن بشر الطبيب، وهو أول مَن عالَجَ الأمراض التي كانت تُعالَج بالأدوية الحارة وبالأدوية الباردة، ولما نجح في عمله عُيِّنَ رئيسًا لهذا المارستان، وكان يُسمَّى «المارستان العضدي»، وهو مدرسة للطب ومستشفى معًا.
وفي هذه السنة ٣٧١ﻫ أرسل عضد الدولة من «بغداد» القاضي أبا محمد بن الطيب الأشعري المعروف ﺑ «ابن الباقلاني» سفيرًا إلى قيصر الروم قسطنطين التاسع، فسافَرَ ابن الباقلاني إلى «القسطنطينية» يحمل جواب رسالة ورَدَتْ على عضد الدولة من القيصر في مسألة أدبية، وكان ابن الباقلاني هذا من أكبر رجال العلم والأدب في «العراق».
وأراد عضد الدولة أن تكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب، فحمل الطائع على أن يتزوج بابنته، فتزوَّجَها على صداق مائة ألف دينار، فجمع الخليفة بهذا الزواج بين بنت عضد الدولة وبنت عز الدولة التي تزوَّجَها قبلًا على مثل ذلك الصداق.
وتوفي عضد الدولة ﺑ «بغداد» سنة ٣٧٣ﻫ بعد أن اتسع ملكه، فحمل نعشه إلى مشهد الإمام علي، وكان عاقلًا فاضلًا حسن السيرة والسياسة والتدبير محبًّا للعلوم والفنون والعمران، سعدت في أيامه بلاد «العراق»، وعاش العراقيون تحت راية عدله بهناء وسلام، وهو أول مَن ضرب الطبل على بابه، وأول مَن عقد له الخليفة لواءين، وأول مَن تسمَّى ﺑ «ملك» في الإسلام.
وقد اشتهر عضد الدولة شهرةً فائقةً وملك بلادًا كثيرة عدا «العراق»؛ لأن عمه أبا الحسن علي الملقَّب «عماد الدولة»، الذي هو زعيم هذا البيت ومؤسِّس دولتهم، كان قد تبناه لعدم وجود ولد له، وأحضره عنده وأكرمه وأجلسه على سرير المملكة وأمر الجنود بطاعته، وعهد إليه بالملك على «فارس» بعده، فلما توفي سنة ٣٣٨ﻫ استولى عضد الدولة على بلاد «فارس»، ثم استولى بعد قليل على «كرمان» سنة ٣٥٧ﻫ، وأقطعها لولده أبي الفوارس، ولما مات أبوه ركن الدولة ٣٦٦ﻫ استولى على ممالكه أيضًا، ثم حدثت بينه وبين ابن عمه عز الدولة بختيار وحشة كما تقدَّمَ، فاستولى على «العراق» ٣٦٧ﻫ ثم حمل في السنة نفسها على «الموصل» وما يتبعها من البلاد التي كانت لبني حمدان، فاستولى عليها أيضًا، ثم وقعت بينه وبين إخوته وحشة فاستولى على أكثر ما بأيديهم من البلاد حتى عظم أمره. ومن وزرائه الصاحب بن عباد الأديب الشهير، وكان مؤدِّبَ عضد الدولة العلَّامةُ أبو الفضل محمد بن العميد الملقَّب بالأستاذ، المتوفَّى سنة ٣٦٠ﻫ.
(٥) صمصام الدولة ٣٧٣–٣٧٧ﻫ
وتولَّى بعد عضد الدولة ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار، فخلع عليه الخليفة على جري العادة وخطب له على المنابر، ولكنه لم يكن كأبيه؛ فأساء السيرة مع العراقيين، وطرح عليهم كثيرًا من الرسوم، حتى إن أهل «بغداد» كادوا يثورون عليه؛ فمن ذلك أنه لما احتاج إلى المال سنة ٣٧٥ﻫ ضرب ضريبة على ثياب الحرير والقطن التي تُنسَج في «بغداد» ونواحيها، وأمر بإحصاء ما سيُجبَى من تلك الضريبة، فبلغت مليون درهم في السنة، وعلى أثر صدور هذا الأمر ثار أهل «بغداد» واجتمعوا في جامع الخلفاء وعزموا على الامتناع من صلاة الجمعة، فاضطربت الأحوال واضطرَّ صمصام الدولة إلى إلغاء هذه الضريبة.
ولما كانت سنة ٣٧٣ﻫ حدثت وحشة بين صمصام الدولة وبين أخيه شرف الدولة أبي الفوارس، وكان الثاني عالمًا بعدم رضاء أهل «بغداد» وجنودها على صمصام الدولة وكرههم له وشغبهم عليه لسوء تدبيره، فاغتنم فرصة ذلك الاضطراب وزحف من «الأهواز» على «العراق» بخمسة عشر ألف مقاتل من الديلم، فاستولى على «البصرة» وولَّى عليها أخاه أبا الحسين، ثم ولَّى عليها أبا طاهر بن عضد الدولة.
فبلغ ذلك صمصام الدولة، فأرسل لقتاله جيشًا بقيادة الأمير أبي الحسن بن دبعش، فجهَّزَ شرف الدولة له جيشًا بقيادة الأمير دبيس بن عفيف الأسدي، فانهزم جيش صمصام الدولة وأسر قائده، ثم ولى في سنة ٣٧٤ حماية الكوفة أبا طريف عليان بن ثمال الخفاجي، وعلى أثر ذلك في سنة ٣٧٥ﻫ عصى بالبصرة أبو طاهر بن عضد الدولة واستقلَّ بها، فأرسل شرف الدولة جيشًا فانتصرَ عليه وقبض على أبي طاهر، ولما رأى صمصام الدولة قوة شرف الدولة أرسل يطلب الصلح، فاستقرَّ بينهما على أن يُخطَب لشرف الدولة بالعراق قبل صمصام الدولة، ويكون صمصام الدولة نائبًا عنه، فلما كانت سنة ٣٧٦ﻫ عادت الفتن بينهما، فسار شرف الدولة بجيوشه حتى وصل «واسطًا» واستولى عليها.
فشغب الجند ببغداد على صمصام الدولة وأجمعوا على تسليم المُلك إلى أخيه شرف الدولة، وكتبوا إليه يستقدمونه، فخاف صمصام الدولة اتساع الخرق، فسار بجماعة من رجاله إلى «واسط» ليصالِح أخاه، فلما التقى به طيَّبَ قلبه وأكرمه، ولما أراد الرجوع إلى «بغداد» وخرج من منزل شرف الدولة، قبض عليه واعتقله وسار نحو «بغداد» ومعه أخوه المعتقل، فدخلها بدون حرب وذلك في رمضان سنة ٣٧٧ﻫ.
وفي أيامه قويت شوكة «باذ الكرذي الحميدي»، وكان قد استولى على «ديار بكر» و«ميافارقين» و«نصيبين»، فأرسل صمصام الدولة جيشًا لقتاله، فانتصر «باذ» بعد عدة معارك ثم استولى على «الموصل» في سنة ٣٧٣ﻫ، وأقام فيها وقوي أمره حتى طمع في «بغداد»، فخافه صمصام الدولة، فأرسل جيشًا كثيفًا بقيادة زياد بن شهراكويه الديلمي، فدارت بينها رحى الحرب في سنة ٣٧٤ﻫ، فانكسر «باذ» وانهزم بأصحابه وعادت «الموصل» إلى البويهيين.
(٦) شرف الدولة ٣٧٧–٣٧٩ﻫ
دخل شرف الدولة «بغداد» فركب إليه الخليفة الطائع وهنَّأه وعهد إليه بالسلطنة، وتوَّجَه وألبسه سوارين وخلع عليه، وأمر فقُرِئ عهده وخُطِب له على المنابر، وصار له لقب «السلطان» بدلًا من لقب «أمير الأمراء»، فأحسن شرف الدولة السيرة ووجَّه نظره إلى أحوال المملكة، وشرع يصلح ما أفسدته الفتن المتوالية؛ فردَّ الأملاك المغصوبة إلى أهلها، منها أموال النقيب أبي أحمد والد الراضي، وأموال الشريف محمد بن عمر الكوفي، وأقَرَّ على الناس مراتبهم، ثم وجَّهَ نظره إلى تشجيع العلوم والفنون، وبنى مَرْصَدًا في طرف بستان دار المملكة ببغداد، وجمع فيه الفلكيين وأمرهم برصد الكواكب، فرصدوها له، منهم أبو سهل ويجن الكوهي وذلك سنة ٣٧٩ﻫ، وأكرم هذا السلطان العلماء وقرَّبهم، ولم يحدث في أيامه بالعراق ما يخل بالنظام غير حادثتين وقعَتَا في «بغداد»: الأولى أن عساكره الذين كانوا نحو الخمسة عشر ألفًا من الديلم، استطالوا على جنود الأتراك الذين كانوا في المدينة، وحدثت بينهم منازعة عن دار وإصطبل، وآلَتِ المنازعة إلى القتال داخل «بغداد»، فانتصر الديلم لكثرتهم وانخذل الأتراك لأنهم كانوا يوم ذاك ثلاثة آلاف رجل، فنادَى الديلم بإعادة صمصام الدولة إلى المُلك فارتاب منهم شرف الدولة، ووكَّل بصمصام الدولة مَن يقتله إنْ همُّوا بذلك.
ولما انخذل الأتراك لقلتهم ورأوا أنفسهم غير قادرين على الانتقام من الديلم لكثرتهم، التجئوا بالأهلين من السنة، فاتفقوا معهم فانتصروا على الديلم بمساعدتهم وفتكوا بهم وشتتوهم، فاعتصموا بشرف الدولة، فأصلح بينهم وحلف بعضهم لبعض، وعلى أثر هذه الحادثة أرسل شرف الدولة أخاه صمصام الدولة مسجونًا إلى بلاد «فارس»، فاعتُقِلَ هناك.
أما الثانية، فهي أن قائد الجيوش «قراتكين» الذي كان قد أفرط في الدولة حتى صار حملًا ثقيلًا على شرف الدولة، حدثت بينه وبين منصور بن صالحان وزير شرف الدولة وحشة، فأغرى الجنود بالشغب على الوزير، فثاروا عليه وأسمعوه ما يكره، فانبسط لهم الوزير ولاطَفَهم فسكنوا، فأصلح شرف الدولة بين الوزير والقائد وشرع سرًّا في تدبير الخلاص من القائد حتى تمكَّنَ بعد أيام قليلة من القبض عليه وعلى جماعةٍ من أنصاره وصادَرَ أموالهم، فشغب الجند فقتل شرف الدولة القائد وولَّى مكانه «طغان الحاجب»، فسكن الجيش وأخلد إلى السكون، وتوفي شرف الدولة ببغداد سنة ٣٧٩ﻫ.
وفي هذه السنة (سنة ٣٧٩ﻫ) استولى على «الموصل» أبو طاهر إبراهيم، وأبو عبد الله الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان.
(٧) بهاء الدولة ٣٧٩–٤٠٣ﻫ
وتولَّى الأمر بعد شرف الدولة أخوه أبو نصر بهاء الدولة بن عضد الدولة، فركب الخليفة الطائع إليه ودخل عليه يعزيه بأخيه، فقبَّلَ أبو نصر الأرض بين يدي الخليفة وأظهر له احترامًا عظيمًا، ثم عاد الخليفة إلى قصره، فحضر عنده الوجوه والأمراء والعلماء وأبو نصر، فخلع عليه الخليفة سبع خلع وطوَّق عنقه بطوق كبير من ذهب، وألبسه سوارين من الذهب، ومشى الحجَّاب بالسيوف بين يديه، فقبَّل الأرض بين يدي الخليفة وجلس على كرسي أُعِدَّ له، فقُرِئ عهده ولقَّبَه الخليفةُ «بهاءَ الدولة».
ولما تمَّ الأمر لبهاء الدولة استخلف على «بغداد» أبا ناصر خواشاذه، وسار هو منها إلى «جرجان» سنة ٣٨٠ﻫ وملكها، وجرت بينه وبين صمصام الدولة الذي فرَّ من السجن بعد وفاة شرف الدولة حروبٌ عديدة، ثم اصطلَحَا وعاد بهاء الدولة إلى «بغداد».
وفي أثناء غياب بهاء الدولة حدثت ببغداد فتن عديدة، تارةً بين الديلم والأتراك، وأخرى بين السُّنَّة والشيعة، فلما عاد أصلح ما أفسدته تلك الفتن، وبينما هو يُصلِح ما فسد إذ شغب الجند عليه لتأخير مرتباتهم، فاحتاج إلى المال فأغراه أبو الحسن بن المعلم — وكان مقرَّبًا عنده — بالقبض على الخليفة الطائع وأطمعه في أمواله، وصادَفَ أن الخليفة كان قد حبس رجلًا من خواص بهاء الدولة، فاغتاظ منه وأضمر له السوء وأرسل إليه في الحضور عنده، فجلس الخليفة حسب العادة على سريره متقلِّدًا سيفه، فجاء بهاء الدولة ومعه جماعة من حاشيته، فقبَّلَ الأرض بين يدي الخليفة وجلس على كرسيه، وكان قد أوصى بعض رجاله بالقبض على الخليفة، وبينما هم جلوس تقدَّمَ رجاله إلى الخليفة وجذبوه من سريره ولفُّوه في كساء وصعدوا به إلى دار السلطنة وهو يستغيث ويقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» فحبسوه وأخذ بهاء الدولة كلَّ ما كان في قصره وأنفقه على الجند، فاضطربت «بغداد» لهذه الحادثة، وكان الشريف الرضي ببغداد، فقال في ذلك أبياتًا منها:
ونهب الناس بعضهم ونقموا على بهاء الدولة، ولكنه لم يبالِ بهم وأجبَرَ الطائع على خلع نفسه وأشهد عليه بالخلع، وأنفذ جماعة من الوجوه إلى «البطيحة» لإحضار أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله، فأحضروه إلى «بغداد» وخرج لاستقباله بهاء الدولة والأمراء والعلماء والوجوه وأدخلوه قصر الخلافة وبايعوه ولقَّبوه «القادر بالله» (٣٨١–٤٢٢ﻫ)، ولما تمَّتِ البيعة حمل الطائع المخلوع إلى قصر القادر بالله، فبقي مكرمًا إلى أن مات.
وكان القادر هذا عالمًا فاضلًا أديبًا شاعرًا؛ فتمكَّنَ بحُسْن سيرته وتدبيره من إرجاع بعض مجد الخلافة.
وفي عهد بهاء الدولة سنة ٣٨١ﻫ بنى وزيره سابور بن أردشير مكتبةً كبيرةً على مثال بيت الحكمة الذي أنشأه هارون الرشيد، وزاد فيه عبد الله المأمون، بناها في محلة بين السورين في الجانب الغربي من «بغداد» وسمَّاها «دار العلوم»، وجعل فيها من الكتب الخطية النفيسة أكثر من عشرة آلاف كلها بخطوط الأئمة ورجال العلم، فكانت أشهر مكتبة في «بغداد»، بل كانت مجمعًا للعلماء والأدباء والفلاسفة من عراقيين وغيرهم — وقد أُحرِقت هذه المكتبة فيما احترق من محلات الكرخ يوم مجيء طغرل بك أول ملوك السلوجوقية إلى «بغداد» سنة ٤٤٧ﻫ.
وفي هذه السنة (سنة ٣٨١ﻫ) استولى على «الموصل» أبو الذؤاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل، وهو رأس دولة بني عقيل أول دولة بني المقلد أو آل المسيب في «الموصل»، ولما تمَّ أمره فيها كتب إلى بهاء الدولة يُخبِره بذلك ويسأله أن ينفذ إليه مَن يُقِيم عنده من أصحابه يتولَّى الأمور — كنائب — فأرسل إليه قائدًا من قوَّاده، ثم استبدَّ أبو الذؤاد بالأمور كلها، فأرسل بهاء الدولة أبا جعفر الحجاج بن هرمز بعسكر كثير لقتاله، فوصل «الموصل» وطرد أبا ذؤاد وملكها، ثم دارت بين أبي ذؤاد وبين عساكر بهاء الدولة عدة معارك انجلت بفوز البويهيين.
ولما توفي أبو الذؤاد سنة ٣٨٧ﻫ سار أخوه المقلد إلى «الموصل»، واستمال بعض الجنود الديلمية وكتب إلى بهاء الدولة يضمن منه «الموصل» وأعمالها بمليونين من الدراهم، وفي أثناء ذلك حمل على «الموصل»، فانهزم منها سرًّا أبو جعفر عامِل بهاء الدولة وسار إلى «بغداد»، فدخلها المقلد وتمَّ أمره فيها.
وفي الوقت نفسه كان المقلد يتولَّى حماية غربي الفرات من أرض «العراق»، وله عليها نائب، ولما كان بهاء الدولة مشغولًا في محاربة أعوان أخيه صمصام الدولة، جرت بين نائب المقلد وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فسار المقلد منتصرًا لنائبه، فدارت رحى الحرب بين المقلد وبين جنود بهاء الدولة، فلما سمع بهاء الدولة بذلك أرسل أبا جعفر الحجاج إلى «بغداد» وأمر بمصالحة المقلد خوفًا من إثارة الحرب، فراسَلَ أبو جعفر المقلد واستقرَّ الصلح بينهما على أن يحمل المقلد عشرةَ آلاف دينار إلى بهاء الدولة سنويًّا، وأن يُخطَب له في البلاد، ثم خُلِعت على المقلد الخُلَع السلطانية ولُقِّب ﺑ «حسام الدولة»، وأقطع «الموصل» و«الكوفة» و«القصر — قصر شيرين» و«الجامعين — الحلة»، غير أن المقلد لم يحمل من المال إلا قليلًا، ثم قطعه وعظم شأنه وخافه البويهيون وغيرهم.
وفي أيامه في سنة ٣٨٦ﻫ حمل على البصرة أحد قوَّاد صمصام الدولة البويهي اسمه «لشكرستان»، فقاتَلَه نوَّاب بهاء الدولة فانتصَرَ عليهم بمعاضدة جماعة من البصريين منهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، ودخل البصرة ظافرًا في هذه السنة، ولما دانت البصرة لهذا القائد شره في أموال الناس، فابتزَّ أموال المثرين وفتك بجماعة كبيرة من البصريين، فهاجَرَ منها عدد كبير ومكث «لشكرستان» بالبصرة أكثر من شهر، فزحف عليه أمير «البطيحة» مهذب الدولة أبو الحسن علي بن نصر، وكان تحت سيادة بهاء الدولة، فلما اقترب من البصرة فرَّ منها «لشكرستان».
ولما كانت سنة ٣٩٤ جهَّزَ مهذب الدولة جيشًا قويًّا، وأرسله بقيادة أحد قوَّاده أبي العباس بن واصل لقتالِ «لشكرستان» وطرده من البصرة، وبعد معارك دامت أكثر من شهرين انهزم «لشكرستان» بمَن معه، فاستولى أبو العباس على البصرة وذلك في سنة ٣٩٥ﻫ، وقتل في هذه الفتنة نحو الخمسة آلاف من الفريقين، فلما استتب أمر أبي العباس بالبصرة خلع طاعة مهذب الدولة واستبدَّ بالأمور، فأرسل مهذب الدولة لطرده منها جيشًا ففشل، ثم جهَّزَ له جيشًا ثانيًا بقيادة أبي سعيد بن ما كولا ففشَلَ أيضًا، وقوي أمر أبي العباس فقصد «البطيحة»، وبعد قتال استولى على أكثرها، وفي أثناء ذلك اضطربت عليه البلاد فخاف على نفسه فترك «البطيحة» وعاد إلى البصرة.
كل ذلك جرى في البصرة وأطرافها وبهاء الدولة مقيم في «الأهواز»، فلما بلغته قوة أبي العباس واستبداده بالبصرة خاف عاقبة أمره، فأحضر عنده عميد الجيوش من «بغداد»، وجهَّزَ له جيشًا كبيرًا وسيَّره لقتال أبي العباس، فهزمهم أبو العباس، واستمرت الحرب بينه وبين جيوش بهاء الدولة مدةً، ثم حمل عليه بهاء الدولة بخمسة عشر ألف مقاتل، فاندحر جيشه وعاد بالفشل، فطمع أبو العباس ﺑ «الأهواز»، فحمل بجيشه عليه فدحرته جيوش بهاء الدولة وعاد بالخسران، وعلى أثر هذه الهزيمة زحف بهاء الدولة بجيوش كثيرة على «البصرة» فانتصر على أبي العباس، ثم حاصَرَ المدينة أربعة أيام، فاستولى عليها عنوةً وقبض على أبي العباس فقتله، وذلك في سنة ٣٩٧ﻫ.
ثم ولَّى على «البصرة» الوزير أبو غالب، وعاد هو إلى «الأهواز».
وبقي عميد العراق — ويُروَى عميد الجيوش — أبو علي بن جعفر ﺑ «بغداد» نائبًا عن بهاء الدولة حتى مات سنة ٤٠١ﻫ، فولَّى مكانه بهاء الدولة أبا غالب ولقَّبَه فخر الملك، فظلَّ هذا ﺑ «بغداد» نائبًا على «العراق» حتى مات بهاء الدولة سنة ٤٠٣ﻫ ﺑ «أرجان»، وحُمِل نعشه إلى «بغداد» ومنها نُقِل إلى مشهد الإمام علي ودُفِن هناك، وممَّنْ تولَّى ديوانه ﺑ «بغداد» علي بن محمد الكاتب، وهو الذي صنَّف له المنشور البهائي، وهو نثر كتاب الحماسة.
(٨) سلطان الدولة ابن بهاء الدولة ٤٠٣–٤١١ﻫ
وتولَّى بعد بهاء الدولة ابنه أبو شجاع سلطان الدولة، فأبقى فخر الملك ﺑ «بغداد» نائبًا على «العراق»، وولَّى «البصرة» جلال الدولة أبا طاهر بن بهاء الدولة، ثم غضب سلطان الدولة على فخر الملك لأنه خالَفَه في بعض الأمور، فأمَرَ بالقبض عليه في سنة ٤٠٦ﻫ، فأرسل مخفورًا من «بغداد» إلى «شيراز»، فقتله هناك وولَّى على «العراق» أبا محمد الحسن بن سهلان ولقَّبه «عميد الجيوش»، فبقي هذا مقيمًا في «بغداد» يدير أمور «العراق» إلى سنة ٤١١ﻫ.
وفي أيام سلطان الدولة توفِّي ﺑ «بغداد» الشريف الرضي الحسن بن محمد في سنة ٤٠٤ﻫ، وكان عالمًا فاضلًا، وشاعرًا مفلقًا، وكاتبًا بليغًا، تولَّى نقابة نقباء الطالبين في سنة ٣٥٩ﻫ، ثم ضُمَّتْ إليه الأعمال التي كان يليها أبوه، وهي النظر في المظالم والحج بالناس، وكان له من سمو المقام ما دعاه أن يكتب إلى الخليفة القادر بالله من قصيدة طويلة:
وجاء سلطان الدولة إلى «بغداد» في سنة ٤٠٧ﻫ وأقام بها أيامًا، ثم سار منها لقتال أخيه أبي الفوارس مشرف الدولة، ولم يرجع إلى «بغداد» إلا في سنة ٤١١ﻫ، بعد أن تَمَّ الصلح بينه وبين أخيه المذكور، وما كادت قدماه تستقر ﺑ «بغداد» إلا وثارت عليه الجنود فيها، ونادوا بولاية أخيه مشرف الدولة، فأسكتهم بالمال وعزم على الذهاب إلى «واسط»، فطلبوا منه أن يستخلف مشرف الدولة على «بغداد»، فاستخلفه كرهًا وسار إلى «واسط»، ثم عزم على المسير إلى «خوزستان»، فاستخلفه على «العراق» كله بعد أن تحالَفَا أن لا يستخلف أحدٌ منهما أبا سهلان، فلما وصل سلطان الدولة إلى ششتر استوزر بن سهلان، وسيَّره بالعساكر لحرب مشرف الدولة وإخراجه من «العراق»، فاغتاظ مشرف الدولة واتَّحَدَ مع الأتراك وجهَّزَ جيشًا جرَّارًا مؤلَّفًا من الأتراك والديلم، والتقى بالوزير قرب «واسط»، وبعد معارك انهزم الوزير وتَحصَّنَ ﺑ «واسط» فحاصَرَه مشرف الدولة حتى اضطره إلى الفرار بمَن معه، فدخلها مشرف الدولة وأعلن استقلاله في «العراق».
وفي أيام سلطان الدولة هذا أُسِّسَتْ في «العراق» الدولة المزيدية في أرض الحلة في سنة ٤٠٣ﻫ، أسَّسَها أبو الحسن علي بن مزيد من بني أسد، وتولَّى بعده ابنه دبيس سنة ٤٠٨ﻫ بعهد منه، ثم حدثت بينه وبين أخيه الأكبر المقلد فتنةٌ في سنة ٤١٦ﻫ، فانتصر بنو عقيل للمقلد وأمدَّه جلال الدولة أيضًا فانهزم، وأخيرًا وقع الصلح بينه وبين جلال الدولة، وتعهَّدَ دبيس بدفع المال المقرَّر في ولايته واستقام أمره، ثم حدثت في سنة ٤٢٤ﻫ بينه وبين أخيه الآخَر ثابت فتنةٌ، فأمدَّ البساسيري ثابتًا، فتمكَّن ثابتٌ من التغلُّب على ملك دبيس، ثم انتصر دبيس على ثابت بمساعدة خفاجة وعاد إلى ملكه — ولم تكن الحلة حينئذٍ بُنِيت — ثم تصالَحَا على أن يكون لثابت بعض الأعمال، ودامت هذه الدولة ١٤٢ سنة تقريبًا، أي من ٤٠٣–٥٤٥ﻫ.
وأول ملوكها أبو الحسن علي بن مزيد، وآخِرهم علي بن دبيس بن صدقة — انقرضت في عهد السلطان مسعود السلجوقي.
(٩) مشرف الدولة بن بهاء الدولة ٤١١–٤١٦ﻫ
تقدَّمَ ما جرى بين سلطان الدولة وبين أخيه مشرف الدولة، وكيف استولى الثاني على «العراق» وأعلن استقلاله، ولكنه بعد انتصاره على جيوش أخيه سلطان الدولة دخل «بغداد» بجيش كبير من الديلم، فخرج الأهلون لاستقباله وهابَه الناس كثيرًا، فعظم أمره وعلا شأنه وخُوطِب بشاهنشاه — ملك الملوك — وخُطِب له بالمُلك على المنابر، واستمرَّ ملكه على «العراق» إلى أن توفي ببغداد سنة ٤١٦ﻫ.
وفي أول عهده ازداد استبداد قرواش في البلاد، فعزم مشرف الدولة على محو إمارته وأخذ البلاد منه — الموصل والكوفة والأنبار وغيرها — فحرَّك عليه بني أسد وأمدَّهم بالجند والمال، فساروا إلى قرواش وقاتلوه، وبعد معارك انهزم قرواش برجاله وتبعه بنو أسد حتى أدركوه وأسروه وسلَّموه إلى مشرف الدولة، فضبط مشرف والدلة بلاد قرواش وأسره، وبعد أيام قليلة انهزَمَ من الأسر، ثم كتب إلى مشرف الدولة يسأله الصفح، فأبى ذلك.
ولم يحدث في أيام مشرف الدولة في «العراق» شيءٌ يُذكَر غير ما تقدَّمَ.
(١٠) جلال الدولة ابن بهاء الدولة ٤١٦–٤٣٥ﻫ
وفي أول عهده تزلف له قرواش — ابن أبي جعفر المقلد الملقَّب ﺑ «حسام الدولة» — وأخلص له فأعاده إلى ملكه، وبعد مدة استبدَّ قرواش بالبلاد واستأثر بجبايتها ثانيةً، وامتنع عن مراجعة جلال الدولة في الأمور، فأثار عليه جلال الدولة بني أسد وخفاجة، وأمدَّهم بالجند والمال، فالتقوا بقرواش قرب «الكوفة»، وبعد عدة معارك هرب قرواش إلى «الأنبار»، فطاردوه حتى بلغ «الموصل» وتحصَّن فيها سنة ٤١٧ﻫ، وفي تلك الأثناء ثارت الفتن والاضطرابات في داخلية بلاد الدولة البويهية، واشتغل البويهيون في إخمادها، فاغتنم قرواش تلك الفرصة وعاد إلى بلاده.
ولسوء تدبيره وضعف رأيه كثرت الفتن في «بغداد»، وتوالَى فيها شغب الأتراك وعظم أمرهم فيها، وكثر المفسدون واللصوص، وانتشر الأعراب في البلاد فنهبوا النواحي والقرى، وقطعوا الطرق وبلغوا أطراف «بغداد» حتى وصلوا إلى جامع المنصور، وسلبوا ثياب النساء في المقابر، بل إن الفوضى عمَّتْ في أيامه جميع البلاد العراقية، وكثر السلب والنهب والقتل وضعف أمر الدولة البويهية في العراق وخصوصًا بغداد، حتى حاوَلَ البغداديون ترك وطنهم لعدم الأمن وشيوع الفوضى في المدينة وما يليها، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلًا لانقطاع الطرق وانتشار اللصوص في كل الجهات، حتى إن جماعة من الأكراد نهبوا دوابَّ بعض الجنود ونهبوا ثمرة قراح — مزرعة — الخليفة القائم، فلم يتمكَّن جلال الدولة من القبض عليهم لعجزه، فعظم ذلك على الخليفة واضطرَّ أن يهدِّده، فأمر القضاة والفقهاء بالإضراب عن العمل بترك القضاء والفتوى ففعلوا، فلما لم يحصل الخليفة على شيء أمر بترك الإضراب.
وحدثت في أيامه في سنة ٤١٩ﻫ فتن عظيمة بين الديلم والأتراك في البصرة، وأخيرًا انتصر الأتراك وقوي أمرهم فيها وأخرجوا الديلم منها، فلما كانت سنة ٣٢٠ﻫ أرسل «أبو كاليجار بن سلطان الدولة» جيشًا بقيادة بختيار وأمره أن يأخذ «البصرة»، فاستولى عليها وطرد منها حاكمها الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة، ونهب الديلم أسواق المدينة، ودام النهب سبعة أيام وصُودِرت أموال التجَّار وتلفت نفوس كثيرة، فأرسل جلالة الدولة وزيره أبا علي بن ماكولا بجيش كبير في سنة ٤٢١ﻫ، فسار إليها أبو علي في ٤٠٠ سفينة ومعه عبد الله الشرابي، وبعد قتال مع بختيار اندحَرَ أبو علي ووقع أسيرًا، فلما علم «جلال الدولة» بمصير جيشه جهَّزَ جيشًا ثانيًا، فانتصر جيشه واستولى على «البصرة»، وعلى أثر ذلك حدث نزاع بين عساكر «جلال الدولة» فتفرقوا، فعاد القائد بختيار إلى «البصرة» واسترجعها لأبي كاليجار، فجهَّزَ «جلال الدولة» جيشًا آخَر في سنة ٤٢٤ﻫ، وأرسله بقيادة ابنه الملك العزيز، وكان في تلك الأثناء على «البصرة» أبو القاسم من قِبَل «أبي كاليجار»، وكان قد استبدَّ بها وعصى عليه، فلما اقتربت منه جيوش جلال الدولة سلَّمَ «البصرة» بدون حرب، ولكنه بقي كمساعد للملك العزيز في تدبير شئون «البصرة»، وبعد قليل حدث بينهما خلاف أدَّى إلى وقوع معارك بينهما داخل المدينة، وكانت النتيجة طَرْد الملك العزيز من «البصرة»، ثم أُعطِيت هذه المدينة بالضمان لأبي القاسم على أن يدفع في كل سنة سبعين ألف دينار إلى «أبي كاليجار».
فلما كانت سنة ٤٣٠ امتنع أبو القاسم من تسليم المال إلى أبي كاليجار، وصار تارةً ينحاز إلى جلال الدولة وأخرى إلى أبي كاليجار، فحمل عليه أبو كاليجار بجيش كبير في سنة ٤٣١ﻫ، وبعد قتال حاصَرَ «البصرة» حصارًا شديدًا، فاستولى عليها عنوةً وأعطاها بالضمان إلى ابنه عز الملوك، على أن يدفع له سنويًّا مائة ألف دينار، وجعل معه مساعدًا أبا الفرج بن فسانجس، وظلت «البصرة» في قبضته مدة، ثم خرجت من يد البويهيين حينما زال ملكهم من «العراق».
ومع عجز جلال الدولة وضعفه لُقِّبَ في سنة ٢٥٩ﻫ ﺑ «ملك الملوك».
وفي أيامه توفي الخليفة القادر بالله، فبُويِعَ لابنه أبي جعفر عبد الله ولقَّبوه «القائم بأمر الله» (٤٢٢–٤٦٧)، فضيَّقَ جلال الدولة على القائم بأمر الله حتى إنه أخذ منه في سنة ٤٣٤ﻫ أموالًا كانت مقرَّرة للخلفاء من ذي قبلُ، فحدثت بينهما وحشة دامت إلى أن مات جلال الدولة ﺑ «بغداد» في ٦ شعبان سنة ٤٣٥ﻫ، بعد أن ملك ست عشرة سنة وأحد عشر شهرًا، أو كانت أيامه مشحونة بالفتن والحروب مع أبناء أعمامه منازعيه في الملك تارةً ومع الأمراء أخرى.
(١١) أبو المنصور، وأبو كاليجار ٤٣٥–٤٤٠ﻫ
لما مات جلال الدولة كان ابنه الأكبر الملك العزيز أبو المنصور في مدينة «واسط»، فبُويِع له ﺑ «بغداد»، وكتبت إليه الجيوش بالبيعة والطاعة، وطلبوا منه القدوم إلى «بغداد»، وشرطوا عليه تعجيل حق البيعة — إكرامية أو بخشيش — وبلغ خبر مبايعته الملك أبا كاليجار البويهي المستولي على «فارس»، فأخذ يراسل القوَّاد والجند ويعدهم بالأموال الكثيرة وكثرة العطاء حتى استمالهم إليه، وكان أبو المنصور قد أخَّرَ حق البيعة الذي اشترطه الجند عليه، فعدلوا عنه ومالوا إلى أبي كاليجار، وكتبوا إليه يسألونه القدوم إليهم، وقطعوا خطبة أبي المنصور وأعلنوا بيعة أبي كاليجار وخطبوا له على المنابر، فلما علم أبو المنصور بذلك خاف الغدر، فسار في سنة ٣٤٥ﻫ مستجيرًا بقرواش وبنصر الدولة بن مروان، وبقي مقيمًا عند نصر الدولة حتى مات في «ميافارقين».
أما الملك أبو كاليجار، فإنه بعد أن استوثق من الجند واستقرَّتِ القواعد بينه وبينهم، وتيقَّنَ من البيعة له، أرسل أموالًا طائلة إلى الجند وأهدى إلى الخليفة عشرة آلاف دينار مع تحف كثيرة نفيسة، ثم سار في سنة ٤٣٦ﻫ إلى «بغداد»، فدخلها بمائة فارس من أصحابه وخلع على القوَّاد، وأجرى له الخليفة المراسم المعتادة ولقَّبه «محيي الدين»، وتمَّ الأمر لأبي كاليجار في «العراق» و«فارس»، وخُطِبَ له على المنابر بالملك.
وفي أيام أبي كاليجار حدثت حرب بين قرواش وبين أخيه بدران، فصالَحَ قرواش أخاه بدرًا وأعطاه «نصيبين»، وعلى أثر ذلك حمل الأمير منيع الخفاجي على إقطاع قرواش التي على سقي «الفرات»، فضبطها منه وخطب فيها للملك أبي كاليجار، وذلك في سنة ٤٣٥ﻫ، وفي أيامه قوي أمر السلجوقيين الأتراك، وانتزعوا البلاد من بني بويه وعظم شأن زعيمهم أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق الملقَّب «ركن الدين طغرل بك»، فخافه أبو كاليجار وكتب إليه يسأله الصلح في سنة ٤٣٩ﻫ، فأجابه إليه وكتب طغرل بك إلى أخيه الملك داود بعدم التعرُّض بمملكة أبي كاليجار، ثم استقرَّ الحال بينهما على أن يتزوَّجَ طغرل بك بنت أبي كاليجار، ويتزوج المنصور بن أبي كاليجار بنت الملك داود أخي طغرل بك، وجرى ذلك الزفاف في السنة نفسها (٤٣٩)، ولما كانت سنة ٤٤٠ﻫ، سار أبو كاليجار إلى كرمان فمات في الطريق بعد أن ملك العراق أربع سنوات وشهرين وبضعة أيام.
(١٢) الملك الرحيم ٤٤٠–٤٤٧ﻫ
هو أبو نصر بن أبي كاليجار، كان ﺑ «بغداد» يوم مات أبوه في طريق «كرمان»، فاجتمع رجال الدولة في دار الإمارة، فبايَعوه بالمُلك وحلف له الجيش بالطاعة، فأرسل أبو نصر إلى الخليفة القائم يطلب منه الخطبة وتلقيبه ﺑ «الملك الرحيم»، فأجابه الخليفة إلى ما طلب إلا اللقب؛ فإنه امتنَعَ من إجابته عليه قائلًا: «لا يجوز أن يُلقَّب بأخص صفات الله.» فتردَّدت الرسل والرسائل بينهما من أجل ذلك، وأصرَّ الخليفة على رفض اللقب، فلقَّبَه أصحابه به رغم إرادة الخليفة، وظلَّ هذا اللقب عليه ودانت له بلاد العراق وخوزستان «الأهواز».
وفي أيامه عصى أبو علي بن أبي كاليجار أمير «البصرة»، فحمل عليه «الملك الرحيم» في سنة ٤٤٥ﻫ وحارَبَه فانتصر عليه، وتحصَّنَ أبو علي في «البصرة»، وكان البصريون قد كرهوه لسوء سيرته وتجبُّره وظلمه، فانحازوا إلى «الملك الرحيم» وثاروا على الأمير، فطردوه وسلَّموا المدينة إلى «الملك الرحيم» في سنة ٤٤٦ﻫ، وبعد أن دبَّر شئونها ولَّى عليها البساسيري.
وفي أيامه حدثت ببغداد فتن كثيرة بين السنة والشيعة، قُتِل فيها خلق كثير من الطرفين، ولم تتمكَّن الحكومة من قمع تلك الفتن، بل إنها لم تتمكَّن من قمع الفتن التي كانت تقوم تارةً من أجل المناصب، وأخرى بسبب الاختلاف المذهبي الذي هو من أكبر أسباب انقراض هذه الدولة، ولم تنتهِ الفتن بين السُّنَّة والشيعة حتى قامت بينهما فتنة كبيرة في سنة ٤٤٣ﻫ، قُتِل فيها من الطرفين عدد كثير فيهم مدرس الحنفية أبو سعيد الرحبي، واحترقت في هذه الفتنة المحزنة دور الفقهاء، وضريح الإمام موسى بن جعفر الصادق، وقبر زبيدة زوجة هارون الرشيد، وقبور الخلفاء، وقبور ملوك بني بويه.
وأخذت دولة بني بويه في عهد هذا الملك تزداد ضعفًا على ضعف، وانحلت أمور الدولة ﺑ «بغداد» وغيرها، وبينما كانت هذه الدولة تنحطُّ يومًا فيومًا، كانت دولة السلجوقيين تتوسَّع وتقوى يومًا فيومًا، وكان رجالها قد استولوا على بلاد كثيرة محادَّة شرقي «العراق» في الوقت الذي كان العراقيون قد سَئِموا حكم البويهيين وملوا سياستهم وتمَنَّوا زوالَ مُلْكهم.
وعلى أثر ذلك الانحلال والضعف طمع طغرل بك السلجوقي في الاستيلاء على «العراق»، فتقدَّمَ نحو «بغداد» بعد أن فتح بلادًا كثيرة في الوقت الذي كانت الفوضى فيه ضاربةً أطنابها في «العراق»، والحكومة عاجزة عن كل شيء، وقد انحل أمرها وليس لديها من الجند ما تستطيع به الدفاع عن بلادها، ولا عندها مال تجهِّز به الجيوش.
وكانت النتيجة أن حمل طغرل بك السلجوقي على «العراق» بجيش كبير من الأتراك، فاستولى على «بغداد» مقر الدولة البويهية والخلافة العباسية، وحدثت يوم دخوله «بغداد» فتنةٌ عظيمةٌ احترقت فيها بعض المحلات وكثر النهب والقتل، وذلك في سنة ٤٤٧ﻫ، وانقرضت هذه الدولة من «العراق» بعد أن ملكته مائة وثلاث عشرة سنة من تاريخ استيلاء معز الدولة أحمد على «بغداد»، إلى آخِر أيام «الملك الرحيم» الذي أسره طغرل بك، وعدد هؤلاء الملوك الذين ملكوا «العراق» أحد عشر ملكًا.
وانتقل الحكم في «العراق» بعدهم إلى السلاجقة، ثم إلى الخلفاء العباسيين الذين أعادوا حقهم ونفوذهم، ثم حمل هولاكو المغولي بجيوشه وقرض الخلافة العباسية، فظلَّ «العراق» ينتقل من دولة إلى أخرى، حتى حمل الشاه إسماعيل الصفوي على السلطان مراد بن يعقوب آخِر ملوك دولة الخروف الأبيض التركمانية، وطرده من «العراق»، وسيأتي ذكر ذلك.