الفصل الثالث

المعرفة، والاعتقاد، والإيمان

على حدِّ معرفتنا، لم يشكَّ لوك خلال أي مرحلة من حياته في أن بعض الأفراد على علم بالفعل بواجبهم تجاه الله؛ إذ كانت هذه ببساطة حقيقة نابعة من واقع تجربته. لكنه أيضًا لم يوضِّح خلال أيِّ مرحلة من حياته الفكرية أسبابَ هذه القناعة على نحو واضح وسهل التفسير. وفي أوائل عام ١٦٥٩، قبل أن يَشْرع في كتابة أيٍّ من مؤلَّفاته الرسمية، وضع بحماس — وتخيُّل — تصوُّرًا للعلاقة بين معتقدات الإنسان ورغباته التي يُنظَر فيها إلى العقل بوضوح بوصفه عبدًا للعواطف؛ فبدلًا من أن يسيطر العقل ببساطة على أفعال الإنسان وتصرفاته، فإنه لا يعدو أن يكون أكثر من مجرد وسيلةٍ لتبرير رغباته. وأسوأ من ذلك أن فشله لم يكن مجرد فشل في السيطرة، وإنَّما نَقيصة أخلاقية. وقد شابَ الفشلُ الأخلاقي بدوره الفهمَ الإنساني في مُجمله، وأخَلَّ بكل مفهوم راسخ يقضي بأنَّ لكل إنسان هويته الفردية الخاصة به (رسالة في التسامح). وتتكرَّر هذه المفاهيم الثلاثة طوال حياة لوك الفكرية؛ تارةً بثقة أكبر، وتارةً بعناءٍ أكبر. وكان رأيه بأن الكثير من المعتقدات البشرية تستحق اللوم، وأن الأفراد مسئولون في المقام الأول عن معتقداتهم، واحدة من أكثر القناعات رسوخًا في فِكره، لكنه كان أيضًا من الآراء التي وجد صعوبةً بالغة في تبريرها. ولكي يكون ثمة ترابط منطقي في أفكاره، كان لا بد من وضع تصوُّرٍ واضح للكيفية التي يمكن بها مبدئيًّا أن يتخلص الأفراد من المعوقات العاطفية التي تعترض عمليةَ الفهم؛ أي الكيفية التي يمكن أن يفهم بها الأفرادُ عالمَ الله وذواتهم، ويستوعبوها بالصورة التي هي عليها وليس كما يُؤثِرون أن تكون. وإلى جانب ذلك، كان لا بد أيضًا من وضع تصوُّر واضح لكل إنسان بوصفه كائنًا قادرًا على تحمل مسئولية أفعاله. وثمة ارتباط وثيق بين مفهومَي التفويض الأخلاقي ونطاق الفهم البشري وحدوده في فِكر لوك، وحيثما كان يحتدم الصراع بينهما — كما حدث في السنوات التي أعقبت نشر «مقال في الفهم البشري» — كان لوك يختار تعقُّب الآثار المترتبة على مفهوم التفويض الأخلاقي، لكن من بين هذين المفهومين، بالطبع، كان تصوُّرُه لنطاق الفهم البشري وحدوده الذي طرحه في «مقال في الفهم البشري» هو المفهومَ الذي أقرَّ هو نفسه بأنه رائعته الفكرية؛ وكان هذا هو نفسه المفهوم الذي عَلِقَ في مخيِّلة الأجيال القادمة.

كان العمل الأول الذي حاوَلَ لوك فيه أن يستكشف هذه الموضوعات عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها في كلية كنيسة المسيح بعنوان «مقالات حول قانون الطبيعة»؛ إذ كان يرى أن القانون الطبيعي مصدره مشيئة الله، وأنه يمكن — بل يجب أيضًا — إدراكه بنور الطبيعة من خلال إعمال العقل البشري. وفي إطار النظام الطبيعي، يوضِّح القانون الطبيعي للإنسان ما ينبغي أن يفعله وما لا ينبغي؛ ما يتطلَّبه هذا النظام من الإنسان باعتباره مخلوقًا عاقلًا يتمتع بإرادة حرَّة (مقالات حول القانون الطبيعي). كان موقف لوك غامضًا تجاه الجدل الرئيسي في النظرية الأخلاقية المسيحية منذ العصور الوسطى، المتمثِّل في الخلاف القائم بين أولئك الذين رأوا الالتزامات البشرية على أنها تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على مشيئة الله، وبين أولئك الذين رأوا أنها تعتمد فقط على مقتضيات العقل والخصائص الفعلية للعالم الطبيعي. ومن الواضح أنه شعر (بل ظل بالفعل يشعر طوال حياته) بقوةِ كلٍّ من هذين الرأيين، لكن كلما كان يُضطر إلى الاختيار بينهما (وعلى نحوٍ أكثر وضوحًا، كلما كان يشعر أن امتثال البشر لقانون الطبيعة أمرٌ مشكوك فيه عن جدٍّ)، كان يختار مشيئة الله التي يثق فيها. وفي «مقالات حول القانون الطبيعي» قدَّم محاولةً بسيطةً — لكنها غير حاسمة — لبحث التعارُضات الواضحة بين هذين الرأيين، ولم يكترث لوك كثيرًا بالدفاع عن وجود قانون الطبيعة وقوته المُلزِمة في مواجهة الاعتراضات المشكِّكة فيه. (لكن من الجدير بالذكر أن استجابته الأخيرة لمثل هذه الشكوك، تمثَّلَتْ في الجزم بأن غياب قانون الطبيعة من شأنه أن يجعل كلَّ إنسان الحَكَمَ المستقلَّ والأعلى على أفعاله (مقالات حول القانون الطبيعي)؛ وهو اعتراض له وقعٌ بالغ الغرابة على آذان الإنسان في العصر الحديث.)

بدلًا من ذلك، ركَّزَ لوك على السؤال عن الكيفية التي يمكن بها للإنسان أن يعرف بالضبط ماهيةَ قانون الطبيعة، وأوضحَ أربعَ طرق محتمَلة للمعرفة: الكتابة، والتقاليد، والتجربة الحسية، والوحي الخارق للطبيعة أو الوحي الإلهي. لكنه استبعد الطريقةَ الأخيرة؛ ليس لأي سبب يدعو إلى التشكيك في وجوده، وإنما لأنه من الواضح أنه ليس بالشيء الذي يمكن للإنسان أن يدركه بفِكره أو عقله أو تجربته الحسية فقط. (ومع ذلك، يعود لوك إلى هذه الاحتمالية بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا في «معقولية المسيحية».) استُبعِدت فكرة النَّقشُ؛ فلو كان قانون الطبيعة منقوشًا حقًّا في قلوب كل البشر، إذن لاتَّفَقَ البشر أجمعين ببساطة على كلٍّ من المبادئ الأخلاقية والتأمُّلية التي آمنوا بها، ولَاستطاع الشباب وغير المتعلمين والهمجيون استيعابَ تلك المبادئ بوضوح بالغ (مقالات حول القانون الطبيعي). كما استُبعِدت التقاليد؛ لأن القناعات الأخلاقية للمجتمعات المختلفة تختلف اختلافًا هائلًا؛ فما يراه مجتمعٌ على أنه ملكية له، يراه مجتمع آخَر على أنه سلبٌ وسطو، وما يراه شعبٌ على أنه فسق، يراه شعبٌ آخَر على أنه صُحبة جيدة أو عبادة دينية، بل يمكن أيضًا أن يُمتدَح القتل والانتحار في ظل ظروف معينة، وفي بعض البلدان. وحْدها طريقةُ التفسير العقلاني للتجارب الحسية هي التي نَجَتْ من الانتقاد، ولكن لم يتحدَّث لوك إلا قليلًا عن رؤيته لآلية عملها، لكنه يؤكِّد بقوة على أن الدروس الرئيسية التي تطرحها تتعلَّق بقدرة الله ومشيئته (مقالات حول القانون الطبيعي)، كما يشير بوضوح إلى سبب اعتقاده بأن هذه الطريقة وحدها يمكن أن تقوم بدور حجر الأساس لقانون الطبيعة؛ فالقانون المتسق مع الآليات الواضحة للفهم البشري، الذي يراعي جيدًا الخصائص الفعلية للعالم الطبيعي، هو وحده الذي بمقدوره أن يمنح سلطةً عقلانيةً للبشر باعتبارهم مخلوقات طبيعية. وبما أنَّ معتقدات الإنسان موجودة بالفعل، فإنها — كما يصرُّ لوك مرارًا وتكررًا — تأتي للإنسان في المقام الأول عن طريق كلام غيره من البشر (مقالات حول القانون الطبيعي). يشوب كلامَ الآخرين فسادُ الخطيئة البشرية، وفقط عندما تعتمد معتقدات الإنسان على فهمه والعِبرات المستمدَّة من تجاربه الخاصة، حينها فقط يكون لديه مبرر منطقي للوثوق في الآخرين.

مقال في الفهم البشري

في «مقال في الفهم البشري» نفسه، وعلى نحو أكثر تحديدًا في أطروحتَيه «آراءٌ في التربية» و«آراءٌ في أصول الفهم»، حاول لوك أن يوضح كيف أنه بمقدور الإنسان أن يستعمل عقله كي يعرف ما هو بحاجة إلى معرفته، وأن يؤمن فقط بما ينبغي أن يؤمن به. ولأن البشر يتمتعون بإرادة حرَّة، فلا بد أن يفكروا ويُصدِروا الأحكام بأنفسهم، ولا بد أن يكون العقل هو الفَيْصَل والمرشد النهائي في كل شيء. وحيثما لا يُوجه العقل آراءَ الإنسان وتكوينه، فإن آراءَه لا تعدو أن تكون «نتائج وليدة الصدفة والمجازفة، عن عقل هائم في كل المغامرات، دون اختيار ودون توجيه.» وعلى الرغم من أن للتفكير مُتَعه الخاصة، «فإن كل عمل من أعمال التفكير هو بحث وتمحيص ويتطلب الكدَّ والمثابرة» (مقال في الفهم البشري). ولأنه من السهل جدًّا أن يُخطئ الإنسان في الأحكام التي يصدرها، ونظرًا لشيوع الضَّلَال والجهل بين البشر عن الحق والمعرفة، فإن كل البشر لديهم سبب وجيه «لقضاء أيام غربتنا على الأرض في كدٍّ وجزع» بحثًا عن الحق. ما يحاول لوك تقديمه في «مقال في الفهم البشري» هو مساعدة عملية في هذا البحث، وهو يفعل ذلك بطريقتين مختلفتين للغاية؛ أولهما: أنه يحاول توضيحَ آلية العمل الناجحة للفهم البشري؛ مدى أهليته للمعرفة والتصديق العقلاني، وما يمكن أن يعرفه البشر وما لا يمكن أن يعرفوه. وثانيهما: أنه يشرح الأسباب التي تؤدِّي بوجه عام إلى إخفاق الفهم البشري عمليًّا. تمثِّل هاتان الفكرتان أهميةً جوهرية لدى لوك، فإذا كان البشر لا يستطيعون مبدئيًّا معرفةَ ما هم بحاجة إلى معرفته، فإن أزمتهم تلك سوف تضع حكمة الخالق أو قدرته موضع شك، لكن إذا كان لا يَسَعُهم التصرُّف إلا حسبما فعلوا، فلن يكونوا مسيَّرين فحسب؛ ومن ثمَّ غيْر مسئولين عن أفعالهم الظاهرة، وإنما سيكون الله نفسه هو أصل كلِّ ما مَقَتَه لوك في البشر أشدَّ المقت.

تظهر تلك الفكرتان بوضوح في المسوَّدة الأولية لكتابه «مقال في الفهم البشري» (مسوَّدة (أ) من مقال لوك في الفهم البشري). ويعير النص المنشور من النسخة الأولى انتباهًا أشمل بكثير للفكرة الأولى، بَيْدَ أن التوازن بينهما يعود جزئيًّا في حياة لوك من خلال سلسلة من التعديلات في الطبعتين الثانية (١٦٩٤) والرابعة (١٧٠٠)، وتحديدًا من خلال عدوله المهم عن رأيه بشأن طبيعة الإرادة الحرَّة، ومن خلال الفصلين الجديدين اللذين يدور حديثهما حول الحماس وترابط الأفكار. (كان لهذا الفصل الأخير أهمية هائلة في تاريخ علم النفس، الذي صار علمًا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكذلك في تطوُّر الأخلاق النفعية.) لكن حتى بعد إدخال هذه التعديلات، احتفظ «مقال في الفهم البشري» — إلى حدٍّ كبير — بشكلِ وأسلوبِ أولى طبعاته المنشورة؛ ومن هذا المنطلق، فإن الصورة التي يقدِّمها للاعتقاد والمعرفة لدى البشر هي صورة متفائلة في مُجملها، ولا يُعزَى تفاؤلها إلى كونها تقدِّم وعودًا مُبالَغًا فيها حول إمكانية تغيير الطبيعة البشرية من خلال التخطيط السياسي، ولا يُعزَى أيضًا إلى كونها تغالي في حدود المعرفة البشرية أو تقلِّل من شأن الصعوبات التي يواجهها الإنسانُ في تنظيم أفكاره ومعتقداته بطريقة عقلانية، وإنما لأنها تدرس آليات عمل العقل البشري بهذه المفردات البسيطة والرصينة والمتواضعة؛ ومن ثَمَّ فالتفاؤل فيها مسألةُ أسلوبٍ ونبرةٍ أكثر منه مسألة محتوًى، لكن حتى بوصفه نبرة، فقد تبيَّنَ أنها نبرة مراوِغة للغاية.

تنطوي هذه الصورة في المقام الأول على تأكيدٍ ملحوظٍ حول نطاق التماثل المحتمَل في الفِكر البشري.

إنني أميلُ إلى الاعتقاد بأن الأفراد عندما يُقْدِمون على فحص مفرداتهم، فإنهم يجدون أنَّ كل أفكارهم البسيطة متوافقة عمومًا، على الرغم من أنهم في أحاديثهم ربما يحيِّر بعضهم بعضًا بإطلاق أسماءٍ مختلفة عليها. وأعتقد أن الأفراد الذين يجرِّدون أفكارهم، ويدرسون الأفكار التي تجول في عقولهم جيدًا، يستحيل أن يختلفوا كثيرًا في تفكيرهم (مقال في الفهم البشري، ومراسلات جون لوك).

fig12
شكل ٣-١: الطبعة الأولى من «مقال في الفهم البشري»، أول عمل فكري لِلوك ينشره رسميًّا للجمهور.

إذا استخدم البشر فقط عقولهم وحواسهم — «مداخل» المعرفة — بعناية وصدق، فسيجدون أنفسهم «مجبرين» على معرفة ما ينبغي عليهم معرفته والاعتقاد فيه؛ ومن ثَمَّ سيكونون مُجبَرين على الاتفاق مع إخوانهم الذين يحقِّقون استفادةً على القدر نفسه من الرصانة والإخلاص من مَلكاتهم. ومن العناصر المهمة لتحقيق هذا التوافق وتعزيزه الإقرارُ بقيود الفهم البشري وحدوده، وهو ما يطلِق عليه لوك نفسُه «ضحالة» الفهم البشري. وكما في غير ذلك من المواضع، يكمن في مركز تفكيره نوعٌ من التوازن الدقيق بين الشك والإيمان.

من الصعب ألَّا نلحظ أهمية الإيمان لدى لوك عند سرده الأمورَ التي تدخل في نطاق معرفة الإنسان بالفعل، أو عند استعراضه للأسباب الوجيهة التي يعيش الإنسان حياته من أجلها. وأهم عنصر على الإطلاق في المعرفة الممكنة لدى الإنسان هو وجود الله: «إنَّ معرفتنا بوجود الله تفوق في يقينها معرفتنا بوجود أي شيء آخَر فيما عدانا» (مقال في الفهم البشري). وما يضفي على هذه المعرفة أهميةً بالغة آثارُها المباشِرة والطاغية على الكيفية التي ينبغي أن يعيش بها الإنسان؛ فقدرة الإنسان على معرفة أي شيء ليست في حد ذاتها بالشيء الذي ينبثق من العَدْم في تاريخ العالم؛ لذا كان ثمة «زمن كانت فيه المعرفة منعدمة، ثم بدأت في الظهور»، وبالأحرى كانت المعرفة عطيةً مباشِرة من الله العليم الخالد. ويتمثل الأساس الفعلي للأخلاق في «مشيئة وشريعة الله الذي يرى الإنسان في الخفاء، وفي يده الثواب والعقاب والسلطة الكافية لمحاسبة الآثمين الطُّغاة» (مقال في الفهم البشري).

طبيعة المعتقدات الأخلاقية

يرى لوك أن الأخلاق علمٌ يمكن إثباته، شأنه شأن الرياضيات، حسبما أكَّد في «مقال في الفهم البشري»، وقد سبَّب له هذا الأمر كثيرًا من العناء فيما بعدُ؛ حيث ظلَّ الجميع — أصدقاءَ وأعداءً — يسألونه بإصرار عمَّا أنجزه في سبيل هذا الإثبات. وكان ثمة العديد من الأسباب التي تدعوه للوثوق في فكرته؛ فالأفكار الأخلاقية من اختراع العقل البشري، وليست نسخًا من عناصر الطبيعة المختلفة، ولهذا التناقض آثارٌ جوهرية على طبيعة الأفكار الأخلاقية، وعلى إمكانية إثباتها والتحقُّق من صحتها، إنْ كانت صحيحةً من الأساس. يمثِّل هذا الرأي الركيزةَ الأساسية في الفِكر الفلسفي الحديث الذي يفترض وجود فجوة هائلة بين الحقائق المتعلِّقة بالعالم (التي ربما يمكن معرفتها)، والقِيَم الإنسانية (التي يمكن ببساطةٍ قبولها أو رفضها). وكان الفَصْل بين الحقيقة والقيمة هو نتاج مفهوم لوك عن المعرفة البشرية وهَدْم معتقداته بشأن القيم الإنسانية. ولأن الأفكار الأخلاقية كانت من اختراع العقل البشري، ولأنها تُصاغ في صورة كلمات هي أيضًا من اختراع العقل البشري، ففي مقدور الإنسان — إذا هو فقط كلَّفَ نفسه عناءَ ذلك — أن يفهمها فهمًا كاملًا بنفسه، ويناقشها مع آخرين بطريقةٍ تضمن لهم فهمًا كاملًا ومساويًا لفهم هذا الإنسان عنها.

أهم من ذلك أن اختراعات العقل البشري في مجال الأخلاق ليست اعتباطية؛ لأن جميع البشر — بحسب رأي لوك — في مقدورهم أن يتوصَّلوا إلى معرفة مؤكَّدة بالأدلة بوجود إله قادر يفرض قانونًا يضبط أفعال الإنسان ويعاقب أولئك الذين ينتهكونه، ذلك لو أنهم فقط كلَّفوا أنفسهم عناءَ التفكير في هذه المسألة. ابتكرت المجتمعات البشرية على مدى تاريخها مجموعة كبيرة من المفاهيم الأخلاقية وتبَنَّتْ قيمًا أخلاقية متنوعة للغاية، كما أنها نجحت إلى حدِّ ما في تطبيق هذه القيم، من خلال الإلزام المباشر، ومن خلال الضغوط غير المباشرة لعاملي الاستحسان أو الاستنكار المتبادل، فيما يُعرَف باسم «قانون السُّمعَة». ليس الوعي الأخلاقي بالأمر المتأصِّل في البشر بالفطرة؛ وفي الواقع، فإنه يتخذ أشكالًا شتى في البلدان المختلفة، لكن من وجهة نظر لوك، ثمة شكل واحد ينبغي أن يتخذه دائمًا أينما كان؛ وهو: الشكل المُبيَّن في الوحي المسيحي الذي يقتضيه قانون الطبيعة؛ ذلك القانون الذي يستطيع الإنسان فهمه على نحو شامل ودقيق بنفس قدر فهمه للحقائق الرياضية. وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لوك تخلَّى عن وجهة النظر هذه أبدًا، لكن ما تخلَّى عنه بوضوح حقًّا، بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة لبناء نهج إثباتي من هذا النوع، هو الأمل في أن تمثِّل هذه المحاولات أية فرصة للتأثير في السلوكِ الذي يختار معظمُ الأفراد انتهاجَه، والطريقةِ التي يسلكونها فعليًّا.

من منطلق ما نعرفه عن تأليف «مقال في الفهم البشري»، يبدو جليًّا أن التخلي عن هذا النهج كان يمثِّل تغييرًا رئيسيًّا في الرأي الفِكري. وفي الحقيقة، ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن هذا التخلِّي قد عكس عزوفَ لوك عن أحد أكبر طموحَيْن لديه أثناء كتابة هذا العمل، بل تبدَّد أيضًا الأمل والغرض الأَوَّلَان اللذان دفعاه في الأساس إلى كتابته منذ البداية (مقال في الفهم البشري). لكن، على الرغم من الاستهجان الذي لاقته نتيجةٌ كهذه، فإنها لم تكن بالاستنتاج المفاجئ الذي يمكن أن نستخلصه من الحُجج والنقاشات المطروحة في المقال ككل؛ فكلٌّ من المعرفة والاعتقاد العقلاني — بحسب تفسير لوك — إلزاميان في النهاية. وفي ضوء العلاقة المُدرَكة بوضوح بين الأفكار، أو الدليل المباشر للحواس، أو التوازن الجلي بين الاحتمالات، لا يَسَع المرء إلا أن يعرف أو يشعر أو يحكم كما تُملي عليه تلك الأمور، ولَكان علم الأخلاق البرهاني سيتألف من تسلسل من العلاقات القائمة بين الأفكار التي إذا مُحِّصت بعناية وحكمة، فلا يَسَع المرء إلا أن يراها كما هي؛ ومن ثَمَّ لا يستطيع إنكارها. وبالمثل، فإن المرء لا يسعه في النهاية إلا أن يفعل ما هو أنسب له ولرغباته، وإنْ كان يستطيع قطعًا — بل كثيرًا أيضًا ما ينبغي عليه — أن يتحقَّق من دوافعه، ويُلزِم نفسه بالتفكير مليًّا وعن وعي فيما إذا كان الأمر الذي يشعر أنه منجذبًا إلى فعله فورًا سيكون بالفعل التصرُّفَ الأفضل من وجهات النظر كافة. (المهم تحديدًا أن يفعل الإنسان هذا، بما أنَّ النِّعم الغائبة لا تسترعي الانتباه بنفس إلحاح المتاعب الحاضرة؛ ومن ثَمَّ تكون أقل تأثيرًا في رغبات الإنسان (مقال في الفهم البشري).) فآلية الفهم البشري في حد ذاته وفي معظم النواحي الأكثر أهميةً — «تلك النواحي التي تخص سلوكنا» — تسير كما ينبغي، لكن لا يمكن لتلك الآلية أن تسير على هذا النحو إلا في حال استخدم الإنسان هذا الفهم بهمَّة وعناية وحكمة. وإساءةُ استخدام العقل البشري في المعرفة العملية للطبيعة، لا تكون على الأرجح متعمَّدةً؛ لذا من المتوقَّع أن الاهتمام الجيد بالوسائل التي ينتهجها العقل وتؤدِّي إلى نجاحه في أداء عمله سيساعد الإنسان مستقبلًا في استخدام عقله على نحو أكثر فاعليةً، وذلك من خلال البحث العلمي والعملي في ماهية العالم الطبيعي، وفي السعي وراء نِعَم الحياة وخيراتها؛ لكن عندما يتعلَّق الأمرُ بتحديد الإنسان للأسلوب الذي يعيش به، فإن كل البشر لديهم دوافع قوية ومُلِحَّة لعدم الاكتراث كثيرًا بهذا الموضوع، والتعامل معه على نحوٍ أكثر مراوغةً، وهم لا يملكون تلك الدوافع فحسب، لكن معظم الأفراد — حسبما كان لوك يحاول جاهدًا أن يؤكِّد — كانوا في الحقيقة ينصاعون وراءها، ولا يُبدون إلا قدرًا ضئيلًا للغاية من المقاومة. وبدلًا من أن يَحْيوا حياتهم في ضوء الوعيد الإلهي بالألم المطلق والأبدي، فإن كثيرين حتى في البلدان المتحضرة يَحْيون كما لو كانوا ملحدين؛ فجميع البشر «عرضة للخطأ، ومعظمهم واقعٌ — لأسباب عديدة سواءٌ أكان بدافع العاطفة أم الرغبة — تحت غواية الخطيئة» (مقال في الفهم البشري). ومن ثَمَّ، فإن المطلب الأكثر إلحاحًا لتحسين السلوك الأخلاقي لدى الفرد ليس وجود قدر أكبر من الوضوح الفِكري، وإنما وجود قدر أكبر من المؤازرة التصوُّرية الفعَّالة في مقاومة الغواية (ومن هنا جاء قرار لوك في غضون بضع سنوات من نشر «مقال في الفهم البشري» للمرة الأولى بإكمال هذا العمل بعمل آخَر هو «معقولية المسيحية»، الذي يستعرض لوك فيه ما اعتبر أنه نسخة من العقيدة المسيحية على قدرٍ بارزٍ من الوضوح والبساطة والتوجيه).

إنَّ هذا التحوُّل في الاهتمام، الذي أعقبتْه — حسبما حدث بالفعل — إعادةُ الصياغة الدقيقة للغاية لرسائل القديس بولس (التي خصَّها لوك بجهد بالغ حتى مماته)، يكشف الكثير من الأمور. وهو يؤكد على اعتماد لوك الوثيق على مفهومه عن الحياة الصالحة للإنسان، على افتراض وجود إله يرى الإنسان في الخفاء، ويراقب سلوكه، ويعاقبه بعد الموت على مخالفة ناموسه. وثمة إضافتان من أهم الإضافات وأروعها إلى «مقال في الفهم البشري» — وهما: المعالجةُ المُعدَّلة لمفهوم الإرادة الحرَّة، والفصلُ الجديد تمامًا عن موضوع الهوية — تتمركزان حول مسألة كيف يمكن للعقاب الإلهي أن يكون منطقيًّا وعادلًا. لم يكن لوك مستعِدًّا في أي مرحلة من حياته لأن يتأمَّلَ تفضيلًا إيمانيًّا واعيًا على استنتاجات العقل، وحتى بعد كتابة «معقولية المسيحية»، ظلَّ واثقًا من إمكانية إثبات وجود إله من النوع المطلوب، وأنه يمكن — بل ينبغي أيضًا — اعتبار ذلك استنتاجًا عقلانيًّا (مراسلات جون لوك). ومن السهل أن نرى السبب الذي جعل هذا الحُكم غايةً في الأهمية، إذا تأمَّلنا تداعيات بعض الأفكار الرئيسية الأخرى للمقال في غياب هذا الحُكم.

إن الإنسان بطبيعته يفتقر إلى الهدوء والثبات عند الشدائد.

قلَّمَا نشعر بالارتياح، وقلَّما نكون متحرِّرين بالدرجة الكافية من إغواء رغباتنا الفطرية أو المكتسبة، لكن التعاقب المستمر لحالات عدم الارتياح بسبب هذا المخزون المتراكم بفِعل الاحتياجات الفطرية أو العادات المكتسبة، يجعل الإرادة تنجرف وراءه، وبمجرد أن يصدر فعلٌ ما — نشرع فيه بعزيمة تلك الإرادة — تظهر حالة جديدة من عدم الارتياح كفيلة بأن تجعلنا ننساق وراء رغباتنا واحتياجاتنا من جديد (مقال في الفهم البشري).

الإنسان في العالم «محاطٌ بعوامل شتى لعدم الارتياح» و«مشتَّت برغبات مختلفة»، ويحرِّك رغباتِه الألمُ واللذةُ، الخيرُ والشرُّ، وذلك من خلال تداخلها مع مفهومه عن السعادة؛ فكل البشر يسعون دومًا وراء السعادة ويرغبون في كل ما يرون أنه جزءٌ منها، وليس هذا بالأمر الاختياري. لا يستطيع الإنسان أن يختار عدمَ السعي وراء السعادة، لكن هذا لا يقلِّل بأية حال من مسئوليته عن اختيار أفعاله. الله نفسه «في احتياج إلى السعادة»، ومضمون حرية الإنسان أنه ينبغي أن تكون لديه السلطة والمسئولية ليحكم بنفسه على ما هو جيد حقًّا (مقال في الفهم البشري). وكما يختلف مذاق الطعام من شخص لآخَر — فبعضهم يحب الإستاكوزا، والبعض الآخَر يكرهها — كذلك تختلف أذواقهم في هذه المفاهيم الأوسع نطاقًا والأكثر تنوُّعًا بشأن اللذة التي تعتمد على العقل؛ فالبعض يقدِّر الثروة، والبعض الآخَر يقدِّر المتع الجسدية؛ والبعض يقدِّر الفضيلة، والبعض الآخَر يقدِّر التأمُّل، ولمَّا كانت اللذة مسألة ذوق، فمِن العبث إنكار أن سعادة الإنسان في هذا العالم ستتخذ أشكالًا مختلفة للغاية.

لو أن الإنسان فقط يكون لديه أمل في هذه الحياة؛ لو أنه فقط يستطيع أن يستمتع بحياته! فليس من الغريب أو غير المعقول أن يسعى الإنسان وراء سعادته من خلال تحاشي كل الأمور التي تسوءُه، والسعي وراء كل ما يُبهِجه … لأنه إذا كانت لا توجد فرصة للحصول على هذه اللذة بعد الموت، فقطعًا سيصح الاستنتاج التالي: «دعونا نأكل ونشرب، دعونا نستمتع بما نجد فيه لذتنا؛ لأننا غدًا سنكون في عِداد الأموات» … ربما تختلف اختيارات الأشخاص، لكنهم جميعًا يتفقون على اختيار الصواب، على افتراض أنهم يُشْبهون بالأحرى شرذمةً من الحشرات الهزيلة، التي بعضها نحلٌ يجد لذته في الأزهار ورحيقها، والبعض الآخَر خنافس تجد لذتها في أنواع أخرى من الطعام، والتي بعد أن استمتعت طوال فترة حياتها، ينبغي الآن أن تنتهي حياتها وتموت، ولن يكون لها وجودٌ مرةً أخرى للأبد (مقال في الفهم البشري).

يحاول لوك بين الحين والآخَر أن يشير إلى أنه حتى في هذه الحياة ثوابُ الفضيلة يفوق ثوابَ الرذيلة (مقال في الفهم البشري)، غير أن الأهمية الرئيسية لحكمه تتعارض بوضوح مع هذا الرأي (أعمال جون لوك، المجلد الثالث). إذا كانت السعادة تعتمد على ذوق الفرد وحده، والذوق نفسه فوق الانتقاد، فلا يمكن كبح شهوات الإنسان إلا بوسائل الوعيد المعلومة لديه؛ النفسية والأخلاقية والبدنية. وحتى في هذا العالم، سيكون كبح شهوات الإنسان أمرًا لا غنَى عنه إذا أردنا للمجتمع أن يظل قائمًا. «تكمن مبادئ الأفعال حقًّا في شهوات الأفراد، لكنها أبعد ما تكون عن المبادئ الأخلاقية المتأصِّلة في الإنسان بالفطرة، التي إذا تُرِكت دون كبح جماحها، فسوف تؤدِّي بالإنسان إلى ما هو عكس كل الأخلاق» (مقال في الفهم البشري). ولو أن طبيعة الإنسان أجبرته على أن يرى أزماته الأخلاقية كما رآها لوك — «لذة تغوي، وإله قادر تُرَى يده مرفوعة، وعلى أهبة الاستعداد للبطش» — لكان معظم البشر قطعًا سيغيِّرون اختياراتهم المعتادة، لكن إذا بدأ عقل الإنسان يتشكَّكُ ويرفض حقيقةَ هذا الوعيد، فسوف يتضح أن اختياراته المعتادة قد جرى التفكير فيها مليًّا، حتى إنه يمكن مضاهاتها على نحو إيجابي باختيارات لوك نفسه. والحُكم الرئيسي لِلوك أن الإنسان يستحق العقاب على ارتكابه فعلًا شريرًا؛ لأن هذا الفعل يبرهن أن الإنسان «أفسد ذوقَه وقدرتَه على التمييز» (٢٧١)، ويعتمد هذا الحُكم في ترابطه، وكذلك في قوة حُجته، على كونه مقياسًا سليمًا لسلوك الإنسان لا صلةَ له بما يروق للإنسان وما ينجذب إليه.

طبيعة المعرفة

لا يُولِي الجزء الأكبر من «مقال في الفهم البشري» اهتمامًا مباشِرًا بالمسائل الأخلاقية، لكن حتى في أجزاء الكتاب التي يستعرض لوك فيها نظريتَه حول الكيفية التي يمكن للإنسان بها معرفة الطبيعة، كثيرًا ما يلعب مفهومُ لوك عن العلاقات بين الله والبشر دورًا مهمًّا، وهو لا يلعب هذا الدور من خلال عرض استنتاجات نظرية لوك الطموحة والشديدة المنهجية، وليس أيضًا من خلال التشكُّك في أية نظرية من هذا النوع، لكن بالأحرى من خلال وضعها في إطار تصوُّري متجانس؛ ففي بعض النواحي، يرى لوك أن نطاق المعرفة البشرية شديد التقيُّد والمحدودية، لكنه في حدود هذا النطاق، لا يساوره أدنى شك على الإطلاق في حقيقة كونها معرفة. ومع أنه ينكر صراحةً أن المعرفة تدخل التاريخَ مع الجنس البشري، فإنه ينظر إلى المعرفة على أنها شيء ربما نكون على يقين تام من أن الإنسان مؤهَّل له بالفطرة، ولعلَّ الله — بل الملائكة والمخلوقات الأخرى أيضًا — لديه معرفة مباشِرة وأوسع نطاقًا بكثير مما لدى الإنسان (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة). ربما جانَبَ الصوابَ كلُّ البشر في كثير من معتقداتهم (مع أنه كان في الواقع يرتاب فيما إذا كانت المعتقدات التي يعتنقونها بالفعل، كثيرًا ما تكون على القدر نفسه من اللامنطقية الذي عليه الكثير من معتقداتهم المزعومة (مقال في الفهم البشري).) لكنَّ أي إنسان لديه من سرعة التفكير والبديهة ما يؤهِّله لإنعام النظر في هذه المسألة، ربما يكون على ثقة ودراية تامة بأنه مؤهَّل للمعرفة.

تغطي نظرية لوك العديدَ من المسائل الفلسفية الكبرى: علاقة أفكار الإنسان وخبراته بأهدافه، وكيفية اكتساب الكلمات لمعانيها والاحتفاظ بها، وآلية الإدراك الحسي لدى الإنسان، وآلية المعرفة والفهم البشري، وحسبما أوضَحَ لوك، لم يكن مقصودًا أن تصير نظريتُه نظريةً علمية؛ والنظريةُ العلمية هي نظرية تدور — على سبيل المثال — حول الكيفيةِ التي يمكن بها للأشياء المادية التي يراها الإنسان أن يكون لها دورٌ في تعديل آرائه (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة)، أو الأسبابِ الدقيقة التي تجعل أجزاءً من الطبيعة تؤثِّر في أجزاءٍ أخرى على النحو الذي نشاهده بالفعل. كان لوك شديد التشكُّك فيما إذا كانت القدرات الفطرية للإنسان تؤهِّله للفهم على نحو عميق ودقيق، وأحيانًا كان ينساق وراء هذا الشك على نحو بالغ، حسبما اتضح بعد ذلك. لكن على عكس هذه القيود المؤكَّدة دينيًّا، كان لوك يعتقد بشدةٍ أن الإنسان يمكنه أن يفهم بوضوح كيف يميِّز بين ما في وسعه أن يأمل معرفته، وما ليس كذلك؛ ولكن الأهم أنه كان على يقين أيضًا من أن الإنسان إذا طبَّقَ هذا الفهم فعليًّا في استخدام عقله في الحياة الواقعية، ففي مقدوره أن يكون واثقًا ليس فقط من معرفة الكثير من المعلومات المفيدة عمليًّا، وتوسيع نطاق فهمه العلمي للطبيعة، وإنما سيكون واثقًا أيضًا من السلوك الذي عليه أن يسلكه بوصفه مخلوقًا يتمتع بقدرة على التمييز الأخلاقي، تجعله يفرِّق بين الخير والشر. وبدلًا من أن يُطلِق الإنسان أفكارَه «في محيط الوجود الشاسع»، فالأفضل هو أن يُنصَح الإنسان بالتفكير جديًّا في قدرات فهمه، وبتوجيه أفكاره وأفعاله وفقًا لتلك القدرات (مقال في الفهم البشري).

يقدِّم «مقال في الفهم البشري» نفسُه تعهُّدًا ﺑ «التفكير في مَلَكات التمييز عند الإنسان، فيما تُستغَل في التمييز بين الأشياء التي يتعيَّن على الإنسان التعامُل معها.» ومن خلال «هذا النهج التاريخي الواضح»، يطمح المقال إلى تقديم «تفسير للطرق التي يتوصَّل بها الفهمُ البشري إلى تلك المفاهيم التي لدينا عن الأشياء.» يهاجم لوك في الجزء الأول من هذا العملِ مبدأَ الأفكار الفطرية المتأصِّلة، وهي الأفكار التي يُولَد بها الإنسان؛ فقد كان لوك يرفض بالفعل الرأيَ القائل بأن الإنسان يُولَد ولديه أفكار أخلاقية ودينية متأصِّلة، كما رأينا في كتابه «مقالات حول قانون الطبيعة». وبالنظر إلى تنوُّع القِيَم الأخلاقية والمعتقدات الدينية في المجتمعات المختلفة التي كان على دراية بها، فإنه لم تكن لديه أدنى صعوبة في إثبات حماقة هذا الرأي. تسبَّبَ التهكُّم الذي تناوَلَ به لوك هذا الموضوعَ في إهانة شديدة بين رجال الدين الأنجليكانيين في ذلك الوقت، وكان سببًا رئيسيًّا لذيوع صيت لوك بوصفه مروِّجًا للآراء المخالفة للدين، وأهم من ذلك في المقال ككلٍّ أن لوك رفض الرأيَ القائل بأن قدرة الإنسان على فهم الطبيعة، إنما تعتمد أيضًا على المعرفة المتأصِّلة بعددٍ من مسلَّمات العقل مثل «ما سيكون سيكون» (مقال في الفهم البشري)، وكان ديكارت من معتنقي هذا الرأي على سبيل المثال. وبما أن معظم البشر (وفي الواقع كل الأطفال الصغار) ليسوا على دراية بأيٍّ من تلك المُسلَّمات، فمن الحُمْق إذن أن ننعتهم بمعرفة تلك المسلَّمات. إنَّ الإنسان يتوصَّل إلى فهم حقيقة تلك المسلَّمات بتجربة أمور معينة، ولمَّا كان الإنسان يعتمد حقًّا في هذا الفهم على إعمال قدراته العقلية، نفى هذا على الإطلاق فكرةَ أن معرفة تلك المسلَّمات متأصِّلة في الإنسان.

تستعرض الأجزاء الثلاثة المتبقية من «مقال في الفهم البشري» نظريةَ لوك الحاسمة حول السبيل الذي يسلكه الإنسان للمعرفة، وسبيله إلى تكوين معتقداتٍ يرى أنَّ من العقلاني الإيمانَ بها. يتناول أول هذه الأجزاء تفسيرَ لوك لطبيعة الأفكار بوصفها الموضوعات المباشِرة الوحيدة للفِكر البشري؛ ومن ثَمَّ الموضوعات الوحيدة التي يكون لدى الإنسان معرفة «متعمِّقة» بها (ما كان يقصده لوك ببساطة بكلمة «فكرة» هو «أي موضوع — أيًّا ما كان — يستحوذ على فهم الإنسان وتفكيره»)؛ ويدور ثاني تلك الأجزاء حول طبيعة الكلمات، واللغة بوجه عام؛ بينما يلخِّص الجزءُ الثالث نتائجَ الجزأين الأَوَّلَين في نقاشٍ جريءٍ حول طبيعة المعرفة البشرية. المعرفة نفسها هي نوع من الإدراك؛ إدراك «ترابط أيٍّ من أفكارنا وتوافقها، أو اختلافها وتعارضها»؛ فما يدركه الإنسان — بل حتى ما يفكِّر فيه — مباشَرةً، يكون دائمًا عبارة عن أفكار بعينها موجودة في ذهنه. وأيُّ استنتاجات عامة حقيقية يتوصَّل إليها الإنسان لا تصح إلا بقدرِ ما تتفق معها علاقاتٌ أخرى بعينها في الطبيعة، أو في فِكر أناس آخَرين. والأفكار نفسها تكون جميعها إما بسيطة وإما معقَّدة؛ فإذا كانت بسيطة، فإنها تكون مستمَدَّة مباشَرةً من الحواس، بوصفها مداخل المعرفة؛ أما إذا كانت معقَّدة، فإنها تتشكَّل من خلال الجمع العقلي الطَّوْعي للأفكار البسيطة. تنشأ كل المعرفة البشرية وتُستمَد في نهاية المطاف من التجربة، إما من خلال ملاحظة الأشياء المحسوسة في العالم، أو عن طريق إعمال الإنسان لعقله وتمحيصه للأفكار التي تجول فيه. يستطيع الإنسان أن يفكر ويعرف ويحكم بنفسه، ولا بد أن يفعل ذلك بما أنه لا يستطيع في نهاية المطاف أن يضع ثقته في آخَرين ليتولوا هذا الأمر عنه. عقول الأطفال عند الميلاد تشبه الورقة البيضاء، ومع أنهم في البداية يتأثَّرون بوضوحٍ بالتأثير الفطري تمامًا لأفكارٍ بعينها من خلال الحواس، فإنهم سرعان ما يُشوَّهون أيضًا بتعاليم الكبار الخرافية وغير المنطقية في أغلب الأحوال، وحالما تتشوَّه عقولهم على هذا النحو، حيث يفوق العُرْف في قوته قوةَ الطبيعة، فلا سبيلَ إلى إصلاح هذا التشوُّه إلا عن طريق الجهد المتواصِل الذي يستحثه الحبُّ المتأصِّل لدى الإنسان لمعرفة الحقيقة.

والكلمات التي يعبِّر بها الإنسان عن أفكاره هي إحدى الطرق الرئيسية التي يتعرَّض من خلالها لهذا التشويه. وحسبما يقرُّ لوك نفسه، وَرَدَ النقاش المنهجي لمسألة اللغة كفكرة متأخرة في الجزء الثالث، لكن لم يساوره أدنى شك فيما يمثِّله هذا النقاشُ من أهميةٍ عمليةٍ؛ إذ إن «الجزء الأكبر من الأسئلة والمسائل الخلافية التي تحيِّر البشريةَ معلَّق بالاستخدام المبهم والملتبس للكلمات»، وبما أن معظم الأفراد يصوغون أفكارهم في أغلب الأحيان في شكل كلمات، وبما أن الحقائق العامة غالبًا ما يُعبَّر عنها بالكلمات، فمن الممكن أن يؤدِّي الالتباسُ أو الغموضُ غير اللازم في استخدام تلك الكلمات إلى حدوث ضرر هائل. ولأن الكلمات «تقحم نفسها بقوة بين المفاهيم التي لدينا وبين الحقيقة»، فإن غموضها والْتباسها يمكن أن «أن يلقي غشاوةً أمام أعيننا»، وهذا التأثير يكون مأسويًّا بوجه خاص في القانون واللاهوت والنقاش الأخلاقي (مقال في الفهم البشري).

إنَّ هذا الإصرار على أهمية الوضوح اللفظي، والتأكيد الذي يضعه لوك على الدور المهيمن للحواس في تزويد الإنسان بمعرفة الطبيعة، ومفهومه عن عقل الرضيع بوصفه ورقةً بيضاءَ تُكتَب فيها الخبرات؛ ربما يكون على الأرجح أكثر الموضوعات التي تناوَلَها لوك في «مقال في الفهم البشري» تفاؤلًا. لا يزال الموضوعان الأَوَّلَان يَلقيان بعض الاستحسان في الفلسفة الحديثة؛ وكان لهذه الموضوعات الثلاثة دور مهم في بَلْوَرَة صورة لوك بوصفه مَنْ قدَّمَ الأساسَ الفلسفي لروح التفاؤل التي سادت عصر التنوير. وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ تأكيده على قوة العُرْف، وعلى العمليات المنمَّقة والخادعة التي يصوغ بها الأفرادُ معتقداتِهم ويعدِّلونها ويحمونها، وطبيعة الرغبات الدنيوية التي لا عظةَ فيها ولا عبرة لدى معظم الأفراد، يوحي على نحو قاطِعٍ باستنتاجات أكثر تشاؤمًا؛ وبالطبع لا يشجِّع هذا التأكيدُ مطلقًا على آمال عصر التنوير الأكثر تطرُّفًا المتعلِّقة بإصلاح الطبيعة البشرية ككلٍّ من خلال السيطرة السياسية على البيئة التي ينشأ فيها الأفراد. ويمثِّل هذا الأمر أهميةً خاصةً؛ نظرًا للعلاقات الوثيقة التي ارتآها لوك نفسه بين الأسباب التي تدعو الأفراد إلى الثقة في حواسهم من جانب، وقوة رغباتهم الدنيوية من جانب آخر. وكان الملاذ الأخير أمام لوك أنه رفض الشكوك الارتيابية حول ما إذا كانت حواسنا تمدُّنا حقًّا بأي معرفة على الإطلاق، واستند في ذلك إلى سببين مختلفين للغاية. ويمكن استعراض مفهومه حول كيفية قيام الحواس بهذا الدور بإيجاز، لكن لا بد أولًا من شرح الأسباب التي جعلته يرفض مذهب الشك.

أحد هذه الأسباب — الذي هو انعكاسٌ لتأثير ديكارت الجزئي — بسيطٌ وديني ومن المُستبَعد أن يستهوي الجمهور العلماني؛ أَلَا وهو أن الخالِق بفضل صنيعه ما كان لِيَهَبَ الإنسانَ حواسَّ تضلِّله بطريقةٍ مُمنهَجةٍ («مقال في الفهم البشري»، «استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله»، الطبعة السابعة). أما السبب الثاني، فإنه أكثر تعقيدًا للغاية ولا يقتضي التديُّن على الإطلاق؛ فالأدلة التي تأتينا من كلِّ حاسة لا تؤكِّد حقيقتها وثبوتها عبر الزمن فحسب، وإنما تؤكِّد أيضًا حقيقةَ الحواس الأخرى وثبوتها، والثقة في الحواس أمرٌ لا غنَى عنه للحياة العملية، ويرتبط ارتباطًا مباشِرًا بمثيرات اللذة والألم القوية للغاية — «المحاور التي ترتكز عليها عواطفنا» (مقال في الفهم البشري) — حتى إن لوك لا يستطيع أن يصدِّق أن أي إنسان يمكن أن يرتاب عن جدٍّ في صحة التجربة الحسية، فضلًا عن أن يحيا كما لو كان قد افترض أنها وهمية. وأيًّا كانت قوة الحُجج التي تدعم الشك الارتيابي، فلا يمكن له إلا أن يكون شكًّا عديمَ الأهمية؛ لأن الحواس تلعب دورًا محوريًّا في طريقة تكيُّف الإنسان مع الطبيعة وسيطرته عليها. ونظرًا للمفهوم الواضح الذي اعتنقه لوك فيما يتعلَّق بمقتضيات الفضيلة (رسالة في التسامح) وإغراءات الرذيلة، ونظرًا لأن الإيمان بالله أمرٌ بالغ الضرورة لتعزيز هذا المفهوم، لم يستخلص لوك نفسه أيةَ نتائج قوية من هذه العلاقة القائمة بين الحواس والرغبات؛ فمن وجهة نظره، التي تتفق مع وجهة نظر نيتشه الذي جاء بعده بقرنين تقريبًا، لو انتفى وجود الله، فإن الإنسان «ما كان ليكون لديه قانون سوى إرادته، ولا غاية سوى نفسه، ولَصار إلهَ نفسِه، ولَأصبح إرضاءُ رغبته هو المقياسَ والغايةَ الوحيدةَ لكل أفعاله» (الفِكر السياسي لجون لوك)؛ ومن ثَمَّ كان سيصبح الاختيار الأساسي المتاح للإنسان هو أن يختار نوعَ المخلوق الذي يريد أن يكونه. لكن من وجهة نظر أولئك الذين كانت مخيلاتهم أقل تقيُّدًا بالفضيلة والعفة ومتطلباتهما القمعية (أمثال جيرمي بنثام)، كانت هذه العلاقات المتعددة بين الحواس والرغبات توحي بنمطِ حياةٍ أكثر راحةً وأكثر تعلُّقًا بالنواحي الدنيوية. لم يكن لوك نفسه نفعيًّا إلا في نظر مَنْ أتوا بعده، لكن من السهل أن نرى كيف تمكَّنَ الفلاسفةُ وأصحابُ الرأي الأقل تديُّنًا من أن يؤسِّسوا مذهبًا نفعيًّا دنيويًّا خالصًا على مفهومه عن الفهم البشري. وأيًّا كان رأي لوك الفلسفي عن كيف يتسنَّى أن يكون لدى الأفراد الذين فقدوا إيمانهم بالله سببٌ وجيهٌ للحياة، فمن السهل أيضًا أن نرى كيف كان لوك في ظل هذه الظروف سيتوقع منهم عمليًّا أن يختاروا الحياة. وبالنظر إلى تاريخ الاعتقاد الديني في أوروبا الغربية منذ وفاته، من الصعب أن نتصوَّر أن تاريخ الاعتقاد والحِسِّ الأخلاقي المقابل قد أتى إليه بمحض المصادفة.

أنواع المعرفة

يعبِّر لوك في «رسالة إلى القارئ»، التي يستهل بها «مقال في الفهم البشري»، عن التطلُّع إلى خدمة روَّاد العلوم الطبيعية ومؤسِّسيها في القرن السابع عشر — بويل وهويجنز ونيوتن — بوصفه مجرد مساعِد بسيط «يزيل بعضًا من المعوقات التي تعترض طريق المعرفة» (مقال في الفهم البشري). ويمكن إزالة تلك المعوقات بطريقتين رئيسيتين؛ إحداهما سلبية والأخرى إيجابية. فيما يختص بفهم الطبيعة، لا بد من كبح القوى الإبداعية للعقل على نحو صارم، والوثوق في أقل شهادة تصوُّرية للحواس؛ فلا يمكن للإنسان أن يأمل في فهم آليات الطبيعة بذلك الوضوح الذي يَفهم به علم الجبر على سبيل المثال، لكن بفهم الإنسان لآلية عقله عند اكتساب المعرفة، من خلال الملاحظةِ المتأنية للطبيعة والتعبيرِ الدقيق عن نتائج هذه الملاحظات، في مقدوره أن يأمل في توسيع نطاق فهمه على نحو هائل. يميل عقل الإنسان بطبيعته إلى المعرفة، وأحد الأسباب التي تجعل الشك الشمولي ضربًا من الحُمق أن التباين الذي يستدعيه بين الحقيقة والوهم يعتمد على القدرة على التمييز التي ينكرها؛ «لا يمكننا القيام بأي فعل إلا عن طريق مَلَكاتنا وقدراتنا، كما لا يمكننا أن نتحدَّث عن المعرفة نفسها إلا بمساعدة تلك المَلَكات المُؤهَّلة لفهم ماهية المعرفة نفسها» (مقال في الفهم البشري).

يتمتع الإنسان بثلاثة أنواع رئيسية من المعرفة: المعرفة الحَدْسية، والمعرفة البرهانية، والمعرفة الحسية (وضع الذاكرة في المعرفة غير واضح بعض الشيء). المعرفة الحَدْسية هي أكثر أنواع المعرفة التي نحن على يقين بوجودها؛ لأنها أقلها من حيث إمكانية تجنُّبها؛ فمعرفة الله معرفة حَدْسية، فهو يرى كل شيء في ساعته وتوِّه؛ ومن ثَمَّ لا حاجةَ له إلى العقل («استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله»، الطبعة السابعة). إن الحقيقة الأساسية التي يعرفها الإنسان حدسيًّا هي حقيقة وجوده؛ فلا يمكن أن يشك الإنسان في ذلك. ولا شك أن الدليل السليم يعتمد على المعرفة بقدرِ ما يعتمد على الحَدْس، لكن بما أنه ينطوي حتمًا على علاقات بين عدة أفكار مختلفة، فإنه «مؤلِم، وغير مؤكَّد، ومحدود» («استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله»، الطبعة السابعة) بالمقارنة مع الحَدْس؛ ويمكن أن يكون الإنسان — وغالبًا ما يكون — مخطئًا في افتراض أنه توصَّلَ إلى هذا الدليل. أما المعرفة الرياضية فهي معرفة برهانية، لكن أهم حقيقة يمكن للإنسان أن يعرفها على نحو برهاني هي وجود الله. وأخيرًا المعرفة الحسية، وتنشأ من خلال التأثير الذي تمارسه العناصر الموجودة في العالم على حواس الإنسان (مقال في الفهم البشري)، ولا نعرف بالضبط كيف تنشأ تلك المعرفة («استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله»، الطبعة السابعة)، لكن الجهل بمنشئها لا يجعلنا أقل يقينًا بها (مقال في الفهم البشري)؛ فعندما نرى ورقةً بيضاء أثناء الكتابة عليها، لا يمكننا الارتياب في اللون الذي نراه أو الوجود الحقيقي للورقة، تمامًا مثلما لا يمكننا الارتياب في فعل الكتابة نفسه أو حركة اليد القائمة بفعل الكتابة؛ «إنه أقصى يقين تسمح به طبيعتنا البشرية — فيما يتعلَّق بوجود أي شيء — بعد يقيننا بوجودنا نحن وبوجود الله.» وتستحق المعرفة الحسية عن جدارة أن تُوصَف بكونها معرفة؛ فنطاقها يتسع «بالقدر الذي تُستخدَم به شهادة حواسنا الحاضِرة في إدراك موضوعات معينة، تؤثِّر فيها بعد ذلك، وليس لأبعد من هذا»، مع الاستثناء الأساسي بأن ذاكرتنا — عندما تكون دقيقة — تمنحنا معرفةً بالوجود السالف لبعض الموضوعات التي أكَّدتها لنا حواسُّنا من قبلُ (مقال في الفهم البشري).

الذاكرة مكمِّل مهم للمعرفة البرهانية وكذلك للمعرفة الحسية، ومن دونها لم تكن لتُعرَف أية حقائق عامة في مجال الرياضيات، ولم نكن لنتمكَّن من الوصول حتى إلى المعرفة «المعتادة» لصحة أي براهين كنَّا قد أكملناها في الماضي، ما لم نكن نعرف في الحاضر كيف نكرِّرها؛ ولم يكن ليُقال عن نيوتن — على سبيل المثال — إنه كان على درايةٍ بما برهَنَه في كتابه «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية»، إلا عندما صاغ سلسلة الاستدلالات العقلية الكاملة الخاصة به «بمنظور واقعي» (مقال في الفهم البشري).

fig13
شكل ٣-٢: لوك بوصفه عدوًّا لدودًا لما بعد الحداثة: القناعة بأن الحقيقة هي عكس الزيف، وأنه يمكن العثور عليها، وأنها تستحق أن يُسعَى في طلبها.

تعرَّض هذا المفهوم الخاص بالمعرفة للنقد من زوايا عدَّة، وربما كان من الممكن أن يقبل نفرٌ قليل من الفلاسفة المُحدثين الدليلَ العملي الذي أقامه لوك على وجود الله، لكن الهجوم الأهم والأوسع انتشارًا على الإطلاق سُدِّد إلى تحليله للمعرفة الحسية؛ فقد شكَّكت مجموعةٌ متعاقبة من النقَّاد البارعين ذوي الآراء المتباينة للغاية — بدءًا من بيركلي وتوماس ريد وكانط، ووصولًا إلى وقتنا الحالي — في توافُق المكونَين الرئيسيَّين لوجهة نظره تلك؛ وهما: أنَّ الحواس تتيح للإنسان معرفة العالم الخارجي، وأنَّ كل أنواع المعرفة تتضمَّن إدراكًا عقليًّا للأفكار. في الواقع، مذهب لوك هو مذهب معقَّد ودقيق، وكثير من الاعتراضات التي وُجِّهَت إليه باءَتْ قطعًا بالفشل؛ فقد كان يرى بالفعل أن تلك الأفكار البسيطة عن العناصر الطبيعية تتطابق إلى حدٍّ كبير مع الشكل الذي عليه تلك العناصر الطبيعية بالفعل؛ أي إنها تمنح الإنسان معرفةً بخصائصها وصِفاتها، وبذلك تختلف تلك الأفكار اختلافًا جذريًّا عن المفاهيم الأخلاقية — على سبيل المثال — التي لا تتضمَّن محاولةً لمطابقتها مع «نموذج أصلي» موجود خارج عقل الإنسان. ومما لا شك فيه أيضًا أنه كان يعتنق نظريةً سببيةً في جوهرها حول الإدراك الحسي، مفادها أنَّ الحواس تتيح لنا معرفةَ الطبيعة عن طريق خصائص الأشياء المسبِّبة للأفكار في عقولنا. كما يتصوَّر بوضوحٍ الآليات السببية التي هي موضع خلاف شديد للغاية فيما يتعلَّق بالمفهوم العلمي للمادة والحركة في القرن السابع عشر (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة): من الواضح أن «الحركة تُستنزَف في إنتاج تلك الأفكار، ومن المفترض أن الحركة بهذا التعديل الذي يطرأ عليها هي السبب في تولُّد تلك الأفكار لدينا.» بَيْدَ أنه لم يفترض لبرهة واحدة أن الإنسان في عصره كان لديه أيُّ فهمٍ واضح بشأن الآلية الفعلية لهذه السببية، وشكَّكَ بوضوح في أن تكون الحواسُّ حادةً وواضحةً بالدرجة التي تُهيِّئ الإنسانَ لفهمها، حتى ولو على نحو مبدئي. لكن، على الرغم من أن نظريته بذلك كانت أكثر تفصيلًا وتشكُّكًا مما عُرِف عنها أحيانًا، فإنه كان يشوبها الكثير من نقاط الضعف المهمة، ومن المنطقي التأكيد على أن المعرفة الكاملة تنطوي على فعل عقلي وجانبٍ ما من الوعي. ولا يزال من الآراء المنطقية، فيما يتعلَّق بالعالم الخارجي على الأقل، أنه «بما أنَّ الموضوعات، التي يتأملها العقل، لا يكون أيٌّ منها — إلى جانب العقل نفسه — حاضِرًا جاهزًا للفهم، فمن الضروري أن موضوعًا آخَر — كعلامةٍ دالة على الموضوع الذي يتأمله العقل أو تمثيلٍ له — يكون حاضِرًا جاهزًا للفهم؛ وتلك هي الأفكار» (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة). ومع ذلك، فإن الرأي القائل بأن قدرة الإنسان على المعرفة يمكن تفسيرها في مُجملها تفسيرًا وافيًا بأنها اكتساب أفكار بسيطة يدركها الإنسان عن طريق الحواس، أو يحصل عليها من خلال التأمُّل؛ يظل غير مقنع.

على الرغم من ذلك، استطاع لوك — على هذا الأساس — أن يقدِّم تحليلًا رائعًا للفلسفة الطبيعية: «معرفة الأشياء كما هي في كينوناتها السليمة، وقوانينها، وخواصها، وعملياتها» (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة). أقرَّ لوك في هذا الرأي بمظاهر التضليل والخداع المحتمَلة للحواس والذاكرة، دون الاستسلام للشك الشمولي؛ فقد ميَّزَ جيدًا — إنْ لم يكن بوضوح شديد دائمًا — بين تلك الخواص «الأولية» للطبيعة (مثل الشكل) التي توجد في أجسامٍ بمعزل تام عن مشاهديها من البشر أو غيرهم، وبين الخواص «الثانوية» (مثل اللون) التي تعتمد جزئيًّا على القدرات الإدراكية لدى القائم بالمشاهدة؛ فالإنسان يدرك المكعب المُصْمَت على هذا النحو لأن تلك هي الحالة التي هو عليها ببساطة، سواء تفقَّدَه الإنسان أم لم يتفقده، لكنه يدرك اللون الأحمر للوردة؛ لأنه عندما يراها في ضوء النهار تؤدِّي خواصها الفيزيائية إلى أن يدركها بهذا اللون؛ ومن ثَمَّ فجميع الأفكار البسيطة تتسبَّب فيها «خواص» العناصر بوسائل لا نفهمها، وغالبًا لا نستطيع أن نفهمها، لكن على عكس الخواص الثانوية، لا تعتمد الخواص الأولية على العلاقة بين البشر والعناصر الخارجية. ومن الطبيعي أن يفكِّر الإنسان في كلا نوعَيِ الخواص على أنهما موجودان ببساطة في العناصر الخارجية، لكن لا يكون هذا الاعتقاد الطبيعي صحيحًا تمامًا إلا في حالة الخواص الأولية.

تقتصر معرفة الطبيعة على الأفكار الحسية البسيطة، التي يدركها الإنسان في الحاضر أو يستدعيها إلى ذهنه من خلال الذاكرة. لكنْ لا ريب أن اعتقاد الإنسان عن الطبيعة يمتد لما هو أبعد من ذلك بكثير؛ فهو يعتمد في الأساس على أحكام الاحتمالية، بناءً على مقارَنات مفصلة بين الأفكار البسيطة وتوليفات منها؛ ومن ثمَّ، فهو ليس شكلًا من أشكال معرفة الطبيعة، وإنما شكلٌ من التخمين المدروس جيدًا عن الطبيعة. وعلى مدى معظم القضايا الأكثر أهميةً في حياة الإنسان، لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقًّا ما يفعله حيال تلك القضايا أو ماهيتها، كلُّ ما بوسع الإنسان فعله هو إبداء رأيه في هذه القضايا على نحوٍ متعقِّل قدرَ المستطاع، وهو أمرٌ لا بد له قطعًا من فعله. وإصرار الإنسان على طلب المعرفة في المسائل التطبيقية التي تستحيل معرفتها يكون له أثر هدَّام في النفس؛ فهذا من شأنه أن يعوق الإنسان عن اتخاذ أي إجراء على الإطلاق ويعطل حياته. لا يمكن معرفة حقائق عامة عن الطبيعة؛ ومن ثَمَّ لا يوجد ما يُسمَّى بعلم الطبيعة بالمعنى الصارم للكلمة؛ فالإنسان محقٌّ تمامًا في أن يرى أنه يعرف أنَّ أفكاره الحسية والتأملية البسيطة تتطابق مع الواقع والحالة التي عليها العالم والحالة التي عليها الإنسان نفسه، لكن عندما يحاول أن يفهم نفسَه والطبيعةَ من حوله، فإن الأفكار المعقَّدَة التي يصوغها في عقله من هذه الأفكار المادية البسيطة لا يمكن التيقُّن مِن تطابقها مع الواقع؛ وما يضطر الإنسان إلى فعله، بدلًا من ذلك، هو أن يحكم على ما إذا كان الواقع يتطابق مع أفكاره المعقدة أم لا. وإذا أصدر الإنسان حكمه هذا بإنعامٍ وتعقُّل، فسوف يخدم ذلك كلَّ الأغراض التطبيقية كما ينبغي؛ فما يطلبه الله من الإنسان يستحيل ألَّا يكون الإنسان على معرفة به، لكن التعامُل بفاعلية مع الطبيعة لا يتطلب معرفة، وإنما يتطلَّب فقط تخمينًا بارعًا.

لكي يكون لدى الإنسان علم حقيقي عن الطبيعة الخارجية، يجب أن تكون لديه معرفة حسية بالحقائق العامة المتعلِّقة بآليات تلك الطبيعة، وسيتعيَّن عليه أن يكون قادرًا بالمعنى الحرفي للكلمة على أن يرى الأسباب التي تتمخَّض عنها كلُّ النتائج الطبيعية وكيفية تمخُّضها عنها. يتصف الله نفسه بكل تأكيد بهذه القدرة على الرؤية المباشِرة، بل من الممكن أن تكون الملائكة أيضًا — ولو بدرجة أقل — قادرةً على إدراك بعض آليات الطبيعة مباشَرةً. لكنَّ البشر — نظرًا لمحدودية حواسهم — لا بد أن يعتمدوا إلى حدٍّ كبير في فهمهم للطبيعة على التحكُّم في مفاهيمهم وتصنيفاتهم على أساسٍ من الوعي الذاتي؛ فإذا كانوا لا يستطيعون أن يتوصَّلوا إلى معرفة حقائق عامة عن الطبيعة، فلديهم كلُّ الدوافع العملية لأن يحاولوا تكوينَ معتقداتٍ عامة سليمة عن آلياتها. ولكي يزيدوا من احتمالات النجاح في هذه المجازفة، لا بد أن يولوا اهتمامًا خاصًّا بالوسائل التي يصوغون بها أفكارهم المعقدة، ويوظِّفون بها الكلمات التي يستخدمونها في تسمية هذه الأفكار؛ فالأفكار البسيطة هي علامات طبيعية على خواص العناصر الطبيعية، والكلمات هي علامات بشرية على الأفكار الموجودة في العقل. الأفكار البسيطة لا إرادية، في حين أن الكلمات إرادية تمامًا، ونظرًا لأن الأفكار المعقَّدة كانت تقع في مكانٍ وسطٍ بينهما، فمن الممكن إخضاعها للتنظيم المدروس والمُتعمَّد من جانب العقل، لكنها تعتمد اعتمادًا كليًّا على شهادة الحواس فيما يتعلَّق بعناصرها المادية. ولكي يضمن الإنسان أقصى قدرٍ من التحكُّم في توجيه مفاهيمه وآليات فهمه، يلزمه قدر فائق من الوعي الذاتي على المستويين العقلي واللفظي. ويُعتبَر البحث العلمي المنهجي والخطاب الفلسفي هما الوسيلة العامة والعملية للتعبير عن أحد أشكال الرعاية والمسئولية العقلية التي يتوجَّب على جميع البشر أن يتحمَّلوها في حدود فرصهم الاجتماعية.

إنَّ البحث العلمي — حسبما يرى لوك — لا يؤدي إلى المعرفة؛ ومن ثمَّ يرى لوك أنه لا يستحق أن يُنعَت بكونه علمًا، لكنه قطعًا يتيح للإنسان تحسين فهمه للطبيعة؛ فقد أحرز البحث العلمي مؤخرًا تقدُّمًا هائلًا في أعمال معاصريه المُوقَّرين أمثال بويل ونيوتن وغيرهما من أعضاء الجمعية الملكية، الذين كانوا بمنزلة علامات مضيئة ورائدة في مجالاتهم. ومن غير الواضح إلى أي مدًى كان لوك نفسه يتوقَّع أن يسهم هذا البحث المتخصِّص والمنهجي والنظري بدرجة كبيرة في العالم الطبيعي، في حد ذاته، في زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة أو تعزيز استمتاعه بالحياة في هذا العالم. (في مجال الطب، كان لوك يتمنَّى بالطبع أن يعود البحثُ العلمي على الأفراد ببعض المنافع الدنيوية المباشِرة، لكن من الواضح أنه لم يكن يتوقَّع تحوُّلًا في قدرة الإنسان على السيطرة على الأمراض أو تخفيف الآلام.) ومع ذلك، أيًّا كانت الإسهاماتُ المميزة للبحث العلمي، كان لوك يرى بوضوح أن البحث العلمي امتدادًا طبيعيًّا للجهود الفعَّالة والعملية لفهم الطبيعة والتحكُّم فيها، التي ميَّزت الأمم «الراقية» عن الأمم «الوضيعة»، وجعلت الحياة في الأمم «الراقية» أكثر إمتاعًا بكثير منها في الأمم «الوضيعة» بحسب رأيه (استعراض رأي بي مالبرانش في رؤية كل الأشياء في أعمال الله، الطبعة السابعة).

لعلَّ أروع ملمح من ملامح هذا الفهم عن العلوم الطبيعية هو تفسيرها لحدود المعرفة الطبيعية لدى الإنسان، ومن الواضح أن لوك أساءَ حقًّا تقديرَ هذه الحدود في بعض النواحي، عندما رأى بين التصنيف البشري وآليات الطبيعة فجوةً أكثر اتساعًا من تلك التي برَّرَها التاريخُ اللاحق للكيمياء أو حتى لعلم الأحياء. لكن يظل تقدير لوك جيدًا فيما يبدو للتوازن بين الثقة في القوة التفسيرية للنموذج الميكانيكي، والقناعة بأن الإنسان لا يمكنه أن يعرف آليات الطبيعة معرفةً مباشِرةً. لدى فلاسفة العلوم الطبيعية المُحدثين علومٌ مختلفة تمامًا ليفكروا فيها، وبعضها له نتائج عملية مُذهِلة، وهم يشاركون لوك عددًا من الافتراضات، أو حتى الاهتمامات، وعلى خلاف لوك لا يعتقدون أيضًا أن المعرفة نوع من الرؤية، ولا يقارنون حدودَ معرفة الإنسان عن الطبيعة برؤية الله العليم التي يُفترَض أنها رؤيةٌ كاملة؛ لكنهم على الرغم من كل اختلافاتهم، يضعون في الأغلب هذه الثقةَ — بقدرِ ما يستطيعون حشده في المقام الأول — في التصرُّفات المباشِرة للحواس، وفي القوة التفسيرية للنماذج، كما أنهم ينكرون قدرةَ البشر على أن يعرفوا بالضبط السببَ وراء آلية الطبيعة وعملها على هذا النحو؛ وعليه، فإن العلوم الطبيعية ليست شكلًا من أشكال المعرفة (كما أشار لوك)، إنما هي بالأحرى شكلٌ من أشكال المعتقدات المعقَّدة والمضلِّلة على نحو غريب؛ فهي مسألة تقدير (أو تخمين) وليست رؤيةً مباشِرةً.

لم يساور لوك الشكُّ في أنَّ شيئًا ما يدفع الطبيعةَ إلى أن تعمل على ذلك النحو الذي تعمل عليه بكل تفاصيله؛ فالعناصر لها خواص، والإنسان يعرف بوجود هذه العناصر لأن خواصها تؤثِّر في حواسه بطرق معينة، لكن — على خلاف أرسطو — كان لوك يشكُّ فيما إذا كانت الطبيعة نفسها مقسَّمة إلى أنواع متباينة من العناصر التي توجد حدودٌ واضحة بينها، وكان واثقًا من أن البشر لا يستطيعون معرفةَ كيفية تقسيمها بالضبط، كما كان على يقين تام بأن البشر لا يمكنهم معرفتها من خلال المعرفة الدقيقة لآلية تقسيمها. لكنْ، أيًّا كانت آلية تقسيم الطبيعة نفسها — سواء أكانت تشكِّل تسلسلًا غير واضح، أم تتألف من العديد من أنواع العناصر المتباينة تمامًا — فإنها تجعل الإنسان يراها بالكيفية التي يراها عليها، ويمكن أن يرى اللهُ بوضوحٍ كيفيةَ فعلها لهذا وسببه. لكن كل ما بوسع الإنسان أن يفعله هو جمع أفكاره البسيطة بعنايةٍ ودقةٍ، واستخدام العلامات اللفظية التي تشير إلى هذه الأفكار المُجمَّعة بالقدر نفسه من العناية والدقة. وما يمكن أن يعرفه الإنسان عن الطبيعة (بعيدًا عن الأفكار الحسية والتأملية البسيطة) هو الكيفية التي يدرك بها الإنسانُ نفسُه هذه الطبيعةَ ويفهمها، فهو لا يستطيع أن يعرف بصفة عامة ما يفكِّر فيه أو يتحدَّث عنه، ولا يمكنه — فيما خلا لحظة بعينها — أن يعرف كُنهَها بحقٍّ.

لكنَّ الأمر يختلف كثيرًا في حال الأفكار التي تشكِّل الفعل، ولا سيَّما الأفكار الأخلاقية؛ ففي هذه الحالة، لا توجد فجوة بين ما يفكِّر فيه الإنسان وما عليه الحال بالفعل. من السهل أن يحتار المرءُ بشأن القضايا الأخلاقية، بما أنه لا يوجد ببساطة معيارٌ خارجي ملموس، توفِّره الحواسُّ، يتعيَّن على الإنسان مطابقته ومقارَنة أفكاره وفقًا له؛ بَيْدَ أن الأفكار الأخلاقية التي يفكر فيها الإنسان بسهولة هي الحقائق التي يحاول التفكير فيها. ونظرًا لأنه لا توجد فجوة — وفقًا لهذا المفهوم — بين ما يُطلِق عليه لوك «الجوهر الاسمي» و«الجوهر الفعلي» للأفكار، يمكن فهم الأفكار المرتبطة بالأخلاق بوضوح تفتقر إليه بالضرورة الأفكارُ المتعلِّقة بالطبيعة؛ ولهذا السبب افترض لوك أن الأخلاق يمكن الاستدلال عليها، وظلَّ يفترض ذلك حتى بعد مرور وقت طويل على توقُّفه عن محاولة الاستدلال عليها بنفسه.

وربما ما جعل المفاهيم الأخلاقية غايةً في الوضوح (وجعل سوء الفهم الأخلاقي أمرًا واردًا للغاية من الناحية العملية)، هو غياب عالَم معين لتلك المفاهيم لمضاهاتها به والاحتكام إليه؛ بَيْدَ أنه من غير المستغرب أن هذا الغياب نفسه قد جعلها موضعَ شكٍّ بطريقة أخرى؛ فكل البشر — كما رأينا — لديهم مبادئ داخلية قوية للسلوك تحثُّهم على التصرُّف بطريقةٍ مخالفةٍ تمامًا للمعتقدات الأخلاقية التي كان يعتنقها لوك. إن ما أتاح إقامة المجتمعات البشرية هو أن الأفراد يكبحون هذه الدوافعَ، بفِعل الضغط الذي يمارسه عليهم المجتمعُ في المقابل الذي يتمثَّل في الاستحسان والاستنكار من جانب، والتهديدات النافِذة للعقوبة القانونية من جانب آخَر. ويمثِّل كلا العامَلين عائقًا عمليًّا أمام سعي الإنسان وراء اللذة، ولا يمكن لهذين العاملين في حد ذاتهما أن يكونَا سببًا يستحثُّ الإنسانَ على التصرُّف على نحوٍ أخلاقي، أو على اختيار التصرُّف على نحوٍ أخلاقي حينما يكون واثقًا من تفادي تلك التهديدات؛ ومن هنا تأتي الأهميةُ الحتمية لمفهوم لوك عن الأخلاق، المتمثِّل في ضرورة وجود تهديدٍ لا يمكن لأحدٍ أن يأمل على نحوٍ عقلاني أن يتحاشاه؛ أَلَا وهو عقاب الله «الذي يرى الإنسان في الخفاء». عرض لوك هذا الارتباط بوضوح شديد في مسوَّدة غير مكتمِلة بعنوان «حول الأخلاق بوجه عام»، التي ربما كان المقصود بها أن تكون الفصلَ الأخير من «مقال في الفهم البشري» (مقالات حول قانون الطبيعة). وفي مواجهة هذا الارتباط، يتضح في «مقال في الفهم البشري» ككلِّ عيب صارخ؛ فالحُجج التي أقامها لوك على وجود الله لا تسهم مطلقًا في ترسيخ حقيقة وجود «إله» معنيٍّ بمعاقبة البشر أو خلاصهم، ولا يمكن تبرير المفهوم المسيحي الواضح لوجود الله، الذي قامت عليه قناعات لوك الأخلاقية، إلا باللجوء إلى فكرة الوحي الإلهي. (من حُسن الحظ أن قانون الطبيعة الإلهي ومشيئة الله المعلنة كانَا متطابقين لا محالةَ، وقدَّمَا «المَحك الحقيقي والمعيار الوحيد للنزاهة الأخلاقية» (مقال في الفهم البشري).)

الإيمان

بناءً على ذلك، اتجه لوك بحزمٍ في عمله الرئيسي الأخير نحو الوحي الإلهي، وحسبما يتضح من عنوان العمل، فإن السبب في ذلك يرجع جزئيًّا إلى رغبته في نشر «معقولية المسيحية كما قُدِّمت في الكتاب المقدس». (إنَّ العقل هو الذي يجب أن يحكم ما إذا كانت رسالةٌ بعينها هي وحيًا من الله أم لا، وهو الذي يجب أن يفسِّر بدقةٍ ما تعنيه تلك الرسالة.) لكنْ ثمة شيء أكثر إلحاحًا دفعه إلى ذلك؛ لأن الوسيلة الوحيدة التي تجعله يحتفظ بثقته في أن الواجبات الأخلاقية للإنسان سوف «تُعلَن للبشر كافة» على نحو فعَّال، هي الوحي المسيحي. ولم يبرهن أحد قطُّ على صحة قانون الطبيعة بمداه الكامل (معقولية المسيحية كما قُدِّمت في الكتاب المقدس)، وبحلول عام ١٦٩٤ كان لوك قد فقَدَ الأملَ في إثبات صحته بنفسه (مراسلات جون لوك)؛ لكنَّ الله أظهَرَ للبشر كافةً الطريقةَ التي تمنَّى لهم أن يعيشوا وفقًا لها، وذلك عن طريق قانون الإيمان الذي نشره إليهم من خلال المسيح المُنتظر. لقد ساهمت العلاقة الوثيقة بين نبوءات العهد القديم عن المسيح المُنتظَر وبين أحداث حياة المسيح، بالإضافة إلى المعجزات التي صنعها، في إعطاء الحواريين معرفةً مُوحًى بها بأنه كان «المسيح المُنتظَر». ونشر المسيح نفسه قانونَ الإيمان؛ حيث دعا البشرَ إلى الإذعان له ووعَدَهم بالخلاص في المقابل («معقولية المسيحية كما قُدِّمت في الكتاب المقدس»، «أعمال جون لوك»).

بعد مرور ما يقرب من سبعة عشر قرنًا، لا يمكن أن يتوقَّع الإنسانُ ممارسةَ هذا النهج نفسه من الإجبار المباشِر لتصديق أن الحواريين استمتعوا بحياتهم، بما أن الوحي الإلهي التقليدي يعتمد على الاستدلال التاريخي وليس على التجربة المباشِرة (مقال في الفهم البشري). لكن إذا فكَّرَ الإنسان في الأدلة وفتح قلبه، فإنه لن يُحرَم من الإيمان. والإيمان بأن يسوع هو المسيح المنتظر، بالإضافة إلى بذل جهد حقيقي للإذعان لناموسه، كافيان لخلاصه؛ فالإيمان ضربٌ من الثقة، وهو أمرٌ لا يناقِض العقلَ ولكنه يفوقه؛ فهو يتطلَّب مجهودًا (وهذا ما يمكن أن يجعل الخيانة إثمًا)، لكنه يتيح حقًّا لكل إنسان الفرصةَ كي يحيا حياةً صالحة.

وهذا ليس نتيجة مُلهمة لرحلة بحث فلسفية استمرت على مدى ثلاثة عقود ونصف، وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لوك نفسه قد أعارها الحماسَ الكافي، وغالبًا ما كان ليُسرَّ بتأييده لها منذ البداية؛ علاوةً على ذلك، فقد كان لهذه النتيجة عددٌ من الآثار المُفجِعة؛ فقد كانت تعني على سبيل المثال أنه ليس بمقدور الإنسان — وفقًا لمعيار لوك، ونظرًا لحدود قدراته الطبيعية — أن يعرف كيف يعيش، كما أنه ليس لديه الفرصة ليعرف ذلك. ولعلَّ الدينونة والإيمان كافيان للخلاص، لكن ما يقدمانه لا يُعدُّ شكلًا من أشكال المعرفة؛ علاوةً على ذلك، كان من الصعب — وفقًا لهذا الرأي — المواءمة بين مصير كل هؤلاء البشر، الذين لم يكونوا محظوظين بالدرجة الكافية لأن يستقبلوا بُشرى الوحي المسيحي السارة، وبين مفهوم لوك عن منزلة الإنسان في الطبيعة وفهمه لقدرة الله وإحسانه.

fig14
شكل ٣-٣: الرجوع إلى الإيمان، بأن يسوع هو المسيح المنتظر. ليست هذه بالطبع قناعةً جديدةً بالنسبة إلى لوك، وإنما قفزةٌ جديدةٌ تمامًا على قناعته.

لكن مع أن هذه النتيجة كانت محبطةً حتمًّا لِلوك نفسه، فإنها تُلقِي الضوءَ بالفعل على عددٍ من القيود المهمة على مخيَّلته؛ فالدينونة والإيمان معًا يمكن أن يمنحَا الإنسانَ السببَ الكافي كي يعيش بالطريقة التي افترض لوك أنه يتعيَّن على الإنسان العيش وفقًا لها. وفي الحالة الأخيرة، كانت ضرورةُ وجودِ سببٍ كافٍ لدى الإنسان للعيش بهذه الطريقة أهمَّ، من وجهة نظره، من ضرورة أن تكون لديه القدرةُ على معرفة كيفية العيش؛ وعليه يتضح عمليًّا أن المعرفة الحقيقية بالأخلاق أمرٌ بعيد المنال عن الإنسان بقدرِ ما هو بعيدٌ عنه علم الطبيعة الحقيقي. وما يحلُّ محل المعرفة الحقيقية في حياة الإنسان الواقعية، كما تصوَّرَها لوك، هو مزيج من الدينونة والثقة في الإحسان الإلهي. وكان تصوُّره عن قدرات الإنسان على معرفة الطبيعة — باعتبارها قدرات فطرية متواضعة — عكس تصوُّره عن قدرة الله على معرفة الطبيعة. وإزاء هذه القدرات الفطرية المتواضعة، يبدو الشكُّ الارتيابي مصطنعًا وسخيفًا؛ لأنه على عكس هذه القدرات، لا يمكنه أن يلعب دورًا في تلبية المطالب العملية للحياة اليومية، وبطريقةٍ ما (وهنا انشغال لوك العميق بفلسفة ديكارت منَحَه شيئًا من البصيرة الحقيقية) تأتي قوة الشك في المقام الأول من تناقضٍ ضمنيٍّ بين قدرات الإنسان الأكثر تواضعًا، على نحو ملموس، على فهم الطبيعة، وبين نوع من الفهم — الواضح والمميَّز والنهائي والأكيد — الذي ربما ينسبه الإنسان حقًّا إلى الله، لكن لا يمكنه قطعًا الوصول إليه بنفسه. بعبارة أخرى، ينبثق الشك — من وجهة نظر لوك — عن دعوة متعجرفة بأن الإنسان ينبغي أن يكون قادرًا على فهم الطبيعة بنفس الوضوح الذي يفهم به الله.

مع تذبذب الثقة في وجود الله، ستبدو حتمًا كلٌّ من المعرفة الفطرية والأخلاق مختلفتين للغاية عن الطريقة التي رآهما بها لوك؛ ومن الأكيد أن رسم ملامح الشك وحدوده في عالم لا يؤمن بوجود الله كان أصعب بكثيرٍ (وهذا ما ثبت بالفعل).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤