مُقدمة المؤلف

بقلم  علي الجارم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة على جميع رسله وأنبيائه، وبعد فإني لا أريد أن أسهب في الكلام على معنى الشعر وخصائصه. ومبعث الروحانية فيه؛ ذلك لأن هذا المبحث طرقه الباحثون كثيرًا فأخفقوا. وأطالوا فيه فكانت إطالتهم أول دليل على العيِّ والحصر، ومن العيِّ إطالة الكلام، وتكرار تاء التمتام.

أرادوا أن يحدُّوا روحانيته بالألفاظ. فعجزت الألف، وضلت الباء، وكيف يحيط المحدود بغير المحدود؟ وكيف تكشف ظلمة المادة توهُّج النور؟

إن شرح آثار الإحساس الجسمي من أبعد الأمور تأتيًا، وأدخلها في باب الاستحالة. أرأيت لو أنك ذقت سكرًا أو ملحًا، ثم سألك سائلٌ متعنت أن تشرح له طعم السكر أو الملح، أكنت مستطيعًا؟ أرأيت لو شممت وردًا أو نرجسًا، ثم بدهك إنسان يفقد حاسة الشم أن تبين له في وضوح ودقة ذلك الأثر الذي شعرت به. أكنت قادرًا على أن تجد له اللفظ إن وجدت المعنى؟

فإذا كان هذا الشأن. وتلك الحال في إحساس الأجسام، فكيف في إحساس العقول؟ وإذا كانت الألفاظ عاجزة عن وصف أثر المادة الجامدة في الأجسام، فكيف تكون إذا همت بوصف أثر الروح النورانية في النفوس والأرواح؟

حاول عبد القاهر الجرجاني في كتابيه «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»، أن يشرح ما بهر نفسه من ضروب البلاغة في بعض ما ساق من الشواهد فأخفق وأخفق، وطالما نظرتُ مبتسمًا إليه وهو يكد ويكدح، ويعلو ويسفل، ويحاول الوصول إلى مواطن السحر فلا يستطيع، ويتلمس اللفظ لشرح ما يجول بنفسه فلا يوفق، والغيظ ينفخ أوداجه، والألم تسمعه في نبرات لفظه. يرسل الصيحة إثر الصيحة، كأنما يدعو إلى اصطياد ظبي نافر، أو إلى التوثب إلى أجنحة طائر، ثم هو بعد طول الصياح وشدة الإلحاح لم يعمل شيئًا، ولم يترك في كف القارئ شيئًا!

إنك تهتزُّ للبحتري، وتطرب له، ولكنك لا تستطيع أن تفض خاتم سحره، ولا أن تنقل إلى نفس غيرك صدى جرسه في نفسك حين يقول في الفتح بن خاقان:

ولما حَضَرنا ساحةَ الإذن أُخِّرت
رجالٌ عن الباب الذي أنا داخلُه
فأفضَيتُ من قربٍ إلى ذي مهابةٍ
أقابل بدر التمِّ حين أُقَابله
فسلمتُ فاعتَاقت جناني هيبةٌ
تُنازعني القولَ الذي أنا قائلُه

السحر في اختيار النظم، وفي إبداع التصوير، وفي وضع الكلمة في موضعها، وفي الجرس والنغم، ولكن أين السبيل إلى إبانة ذلك؟

قف أمام صورة بديعة لمصور ماهر، وكن ممن يفهمون سرَّ الفن، ومعنى الألوان وامتزاجها وتشاكلها، ثم اشرح لصديق آيات النبوغ فيها، فإن فعلت — ولن تفعل — فتجرأ على إفشاء سر البيان، وتصوير الخيال.

والناس يلهجون قديمًا بقول عروة بن أذينة:

إنَّ التي زعمت فُؤادَكَ ملَّها
خُلقت هواك كما خُلِقْتَ هوًى لهَا
بيضاءُ باكرها النَّعيم فصاغهَا
بلباقةٍ فأدقَّها وأجلَّها
منعت تحيَّتها فقُلت لصاحبي:
ما كان أكثرَها لنَا وأقَلَّها!
فدنا وقال: لعلها معذورةٌ
في بعض رِقْبتها فقُلتُ: لعلَّها

ويقولون: إن أبا السائب المخزومي نزل بعروة بن عبيد الله، فقال له: ألك حاجة؟ قال نعم، أبيات لعروة بن أذينة، بلغني أنك سمعته ينشدها، فأنشده الأبيات، فلما بلغ قوله:

فدنا وقال: لعلَّها معذورةٌ
في بعض رِقْبَتها فقلتُ: لعلَّها

طرب وقال: هذا والله الدائم الصبابة، الصادق العهد، لا الذي يقول:

إن كان أهلُكَ يمنَعُونك رغْبَةً
عنِّي، فأهلي بي أضنُّ وأرغبُ

لقد عدا هذا الأعرابي طوره! وإني لأرجو أن يُغفر لصاحب هذه الأبيات لحسن الظن بها، وطلب العذر لها، ثم عرض عروة الطعام فقال: لا والله، ما كنت لأخلط بهذه الأبيات طعامًا حتى الليل!

إن الأديب وحده هو الذي يفهم الشعور الذي ملك على المخزومي نواحي نفسه، واللذة الفنيَّة التي لم يرد أن يفسدها بطعام طول يومه.

ثم انظر إلى قول سعد بن ناشب وكان من مردة العرب، وشياطين الإنس، تجد فخامة وجزالة وبطولة لا يصورها إلا الشعر، ولا يدركها إلا ذوق الشاعر:

إذا همَّ ألقى بين عينَيهِ عزمَهُ
ونكَّب عن ذِكر العَوَاقب جانِبا
ولم يَستَشِرْ في رَأيه غَيْرَ نفسِهِ
ولم يَرض إلَّا قائِمَ السيف صاحِبا

ومن التصوير الرائع الذي يملك الجنان، ويعقل اللسان قول أبي نواس:

ركبٌ تساقَوا علَى الأَكْوَار بينهُم
كأس الكرَى فانتشَى المسقيُّ والسَّاقي
كأنَّ أرؤسهم والنومُ واضعُها
على المناكب لم تُخْلق بأعنَاق
سارُوا فلم يَقْطَعوا عقدًا لراحلةٍ
حتَّى أناخُو إليكُم بعد أَشواقِ
من كُلِّ جائلة الطَّرفين ناجيَةٍ
مشتاقةٍ حَمَلت أوصالَ مُشْتاق

قالوا: إن محمد بن زياد الأعرابي كان يطعن على أبي نواس، ويعيب شعره. ويضعفه ويستلينه، فجمعه مع رواة شعر أبي نواس مجلس، فأنشده أحدهم الأبيات السابقة، فقال: لمن هذه الأبيات؟ وكتبها، فقال: للذي تذمه وتعيب شعره أبي علي الحكمي، قال: اكتم عليَّ، فوالله لا أعود لذلك أبدًا.

وإذا أردت لهو أبي نواس وعبثه الذي يبعث في النفس إعجابًا يروغ من التصوير، ونشوةً تفر من الوصف والتعبير، فاستمع إليه حين يقول:

غنِّنَا بالطُّلول كيفَ بلينَا
واسْقِنَا نُعطك الثَّناء الثمينَا
من سُلاف كأنَّها كلُّ شيءٍ
يتمنَّى مخيَّر أن يكُونا
فإذا ما اجتلينَهَا فهباءٌ
يمنعُ الكفَّ ما يُبيحُ العُيُونَا
ثُم شُجَّت فاستضْحَكَت عن لآلٍ
لو تجمَّعن في يدٍ لاقتُنِينا
في كؤوس كأنَّهن نجومٌ
دائراتٌ، بُرُوجُها أَيدينا
طالعاتٌ مع السُّقاة علينَا
فإذَا ما غَرَبن يغرُبْن فِينَا

هذا فن يدركه الذوق، ولا يشرَّح تشريح الجثث.

ومن الأبيات التي يروعك جمالها، ويهتز وجدانك لتأثيرها، ويبهر نفسك تصويرها، قول الشريف الرضي:

ولقد مَرَرتُ عَلَى ديارِهِم
وطلُولُها بيد البلَى نَهْبُ
فتلفَّتَت عينِي فمُذ خفِيَت
عنِّي الطُّلُول تلفَّتَ القلْبُ

ولو أردنا أن نقول في لطف جمال الشعر وروحانيته، وعجز الألفاظ عن الإحاطة بسره، وإماطة اللثام عن مكنون سحره، لطال حبل الكلام، وحاد القلم عن الجادة، ولكنا نستطيع أن نقول في جملة قصيرة: إن جمال الشعر في نظمه وجرسه ورنينه، وفي انتفاء ألفاظه وتجانسها. وفي ترتيب هذه الألفاظ ترتيبًا يبرز المعنى في أروع صورة وأبدعها، وفي اختيار الأسلوب الذي يليق بالمعنى ويلبَق به. فمرة يكون إخبارًا، ومرة يكون استفهامًا، ومرة يكون استنكارًا، ومرة يكون نفيًا، ومرة يكون تعجبًا. كل ذلك يكون مع المحافظة على الأسلوب العربي الصميم.

ثم في المعاني وابتكارها أو توليدها من القديم في صورة جديدة رائعة. ثم في الخيال وحسن تصويره والتزام الذوق العربي فيه. ثم في إحكام القافية والتمهيد إليها، ثم في انتقاء البحر الذي يلائم موضوع القصيد، ثم في التنقل في القصيدة في فنون شتَّى من القول مع المحافظة على الوحدة الشعرية، ثم في روح الشاعر وخفة ظله، وانسياقه مع الطبع. وتعمده لمس مواطن الشعور.

ولا يكون جمال الشعر دائمًا بالمجاز والتشبيه وضروب التزويق اللفظي. وإنما جماله في استعداده للنفاذ إلى النفس، والوصول إلى القلب على أي صورة كان. وفي أي ثوب يكون، ولأمر ما كان لبعض الشعر الجاهلي منزلته التي لا تسامى. ومحله الذي لا ينازع. ولأمر ما هوى الشعر صريعًا يلهث حينما أثقله المتأخرون بنفائس الحلي وأنواع الحلل.

وقد يخلط من لا بصر له بالشعر بين تأثير الحال التي قيل فيها الشعر وتأثير الشعر نفسه، وكثيرًا ما نال الشاعر تصفيق الجماهير واستحسانهم؛ لأنه يتجه إلى عاطفة فيهم سريعة الالتهاب سهلة الإثارة، وكثيرًا ما يلجأ بعض الشعراء في موضوع بعيد عن عاطفة العامة إلى الاستطراد إلى ذكر ما يثير نفوسهم استجداءً لصيحات الاستحسان وطلب الإعادة.

هذا دجل أدبيٌّ نعوذ بالله منه، وهذا إفساد للفن ممن يريدون الالتصاق بالفن. شأن هؤلاء شأن صغار المصورين الذين يعمدون إلى دريهمات العامة بالإكثار من الألوان الزاهية البراقة، وإن ضاع الانسجام، وقتل الفن الرفيع قتلًا.

وربما كان الشعر أعصى الفنون على التعلم، وأبعدها من أن ينال بالدرس والتدريب، إنما هو شعاع يضعه الله في قلب من يشاء، وهبة يمنحها لمن يشاء، وحاسة معنوية يزيدها في خلق نفر من عباده يحسون بها ما لا يحسه كثير من الناس، فيترجمونه بيانًا ساحرًا، وقولًا مبينًا.

والشعر طريق معبدة بين عالم الأجسام وعالم الأرواح، ينقل إلى المادة الفانية نفحات الروح الخالدة، ويرسل إلى ظلمات الحياة نورًا قدسيًّا، يبدد غيوم الغموم، ويكشف السبيل للأمل الحائر.

فليس الشعر الوزن وحده، ولا القافية وحدها، ولا الكلمات التي تملأ فراغ التفاعيل، وإن عذبت ولطفت، وإنما الشعر ما وراء كل بيت من ضوء روحانيٍّ وجد له بين ألفاظه منفذًا، ومن سحر سماويٍّ زحزح البيت دونه طرف الستار.

وشأن الشعر شأن الفنون كلها، إما أن يكون فنًّا، وإما ألا يكون، وإما أن يكون شعرًا، وإما ألا يكون، فليس فيه كبقية منتجات العقول جيد ومتوسط ورديء. فهو إما أن يكون جيدًا، وإما ألا يكون شعرًا، نعم إن الجودة متفاوتة، ولكنها إذا نزلت إلى حد التوسط فقد الشعر مميزاته، وسلب مقوماته، وأصبح كلامًا، كما يجرد القائد المذنب من رتبه وألقابه فيصبح جنديًّا.

والكلام في الشعر يطول، وبحور الشعر فياحة النواحي، بعيدة الغور، ولكني أريد هنا أن أقدم للأدباء وجمهرة المثقفين مجموعة أشعاري، بعد أن أرجأت طويلًا نشرها، وأهملت كثيرًا في جمعها، وبعد أن ألحَّ علي كثير من أصدقائي في إبرازها لتنال حظها في سوق الأدب.

فإذا استطاعت هذه الأشعار أن تزيد في بناء العربية صفًّا، أو أن تضيف إلى آياتها البينات حرفًا. أو أن تذيع من مسكيّ معانيها شذًا طيبًا وعرفًا، فقد بلغت المنى، وحمدت السرى، ونلت التوفيق كله، وسكنت نفسي أن قدمت بين يدي عملًا أشعر أن فيه أداءً لحق لغتي وأمتي، وأن فيه غذاءً صالحًا للناشئة المصرية الكريمة التي بذلت حياتي، وأبذل ما بقي منها في تثقيفها، وإنهاضها إلى الأوج الذي تريد وأريد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤