الصلح بين القبائل

حينما زار الشاعر بغداد في سنة ١٩٣٩م، مع صديقه حمد الباسل باشا. وُفِّقَا لعقد الصلح بين قبائل شمر والعبيد، بعد أن استمر العداء بينهما زمنًا طويلًا. وقد أقيمت بهذه المناسبة حفلة بدار السفارة المصرية أنشد الشاعر فيها هذه القصيدة.

أجابتْ نداءَ الحقِّ سُمْرُ العواسلِ
وعادتْ إلى الأغماد بيضُ المناصل١
وقرَّت قلوبٌ جازعاتٌ خوافِقٌ
وخالَطَ دمعُ البشرِ دمعَ الثواكل٢
وطافت على الشرِّ المناجِزِ حكمةٌ
أطاحتْ بما قد حاكه من حبائل٣
وأطفأ نيرانَ العداوةِ وابلٌ
من الْحِلم، حَيَّا صَوبَه كلُّ وابل٤
وصفَّق بالبشرى الفُراتُ ودِجْلةٌ
على نغماتِ الساجعاتِ الهوادل٥
وحطَّمتِ السلْمُ الحُسامَ فلَم تَدَعْ
به بَعد طولِ الفتكِ غيرَ الحمائل٦
فليت زُهيْرًا بيننا بعدما خَبَتْ
لظَى الحربِ وانجابت غيومُ القساطِل٧

•••

هو السيفُ أطغى ما خضعتم لحكمه
إذا ما انتضاه الحقدُ في كفِّ جاهل٨
يُقطِّعُ أوشاجًا علينا عزيزةً
ويبتُرُ جبّارًا كريمَ الوصائل٩
يسيلُ دمُ القُرْبَى عليه مطهَّرًا
أعزَّ وأزكَى من نجيع الأصائل١٠
أخي، أنت دِرْعي إنْ ألمت مُلِمَّةٌ
وإن فدحتْني عابساتُ النوازل١١
أخي، أنت من نفسي، دماؤك من دمي
«فإن كنتُ مأكولًا فكنْ خيرَ آكل»
أأرمي أخي؟ يا ويلَ ما صنعتْ يدي!
فيا لتها كانتْ بغيرِ أنامل!
إذا مسَّني خطْبٌ فأولُ راكبٍ
يخوضُ لِيَ الْجُلَّى، وأسرعُ نازل١٢
أكلتُ دمًا إنْ لم أزُدْ عن حياضِهِ
كريمًا، وأدفَعْ عنه كيدَ الغوائلِ١٣
أضاحكهُ والقلبُ ما عبِثتْ به
لِئَامُ المساعي، أو سمومُ الدخائل١٤
وأبسطُ كفّي نحوه غيرَ جافلٍ
ويبسُط نحوي كفَّه غيرَ جافل١٥
إذا البيدُ لم تُنْبِت نباتًا فحسْبُها
فقد أنبتتْ فينا كريمَ الشمائلِ١٦
وقد علَّمتنا أنْ يكونَ إخاؤنا
كشامخِ رَضْوَى ركنُه غيرُ زائل١٧
ألسْنا الكرامَ الغُرَّ من آلِ يَعْرُبٍ
لَدَى الرَّوْعِ، أو عندَ التفافِ المحافل؟١٨
حَمَيْنا بِحمدِ اللهِ أنسابَ قومِنا
وصُنَّا على الأيامِ مجدَ الأوائل
وما خُلِقَتْ إلا لعزمٍ نفوسُنا
كأنَّا خُلِقْنا من غُبار الجحافل١٩
إذا افترقت أهواءُ قومٍ تشتَّتوا
ولم يرجِعوا إلا بعارِ التخاذلِ
عزيز على الأوطانِ أنَّ شجاعةً
تُمزِّقُها الشَّحْناءُ في غيرِ طائل
حمانا كتابُ اللهِ من بعدِ فُرْقَةٍ
فكنَّا لدين اللهِ خيرَ المعاقل
وصالتْ بنا من قُوَّةِ البأسِ وَحْدةٌ
على الكونِ، لم تتركْ مَصالًا لصائل
فَثُلَّتْ عُروشٌ، واستطارتْ أسِرَّةٌ
من الذُّعر في أعوادِها والزلازل

•••

جَمَعْنا على الحُبِّ القلوبَ فأشرقتْ
كمَا أشرقت بالغيث زُهْرُ الخمائل
وعِفْنَا ورودَ الماء أكدَر آسنًا
وحنّتْ حنايانا لعذب المناهل٢٠
وعادت إلى الحسنَى «العَبيدُ» و«شَمُّرٌ»
وسار بشيرُ السلمِ بين القبائل٢١
وأصْغوا إلى الرأيِ السديدِ وأنصتوا
لنصحِ نصيرٍ للعُروبةِ «باسلِ»٢٢
إلى «حَمَدٍ» ترنو المعالي مُدِلَّةً
وتُلْقي بأسباب النُّهى والفضائل
عرفناه وِرْدًا للندى غَيرَ ناضبٍ
لراجٍ، وعزمًا للعلا غيرَ ناكل٢٣
وقد دفن القومُ التُّراث وأقبلوا
إلى الحقِّ يمحو ضوؤُه كلَّ باطل٢٤
وسلُّوا لإعلاء العِراق عزائمًا
أسدَّ وأمضَى من سِنان الذوابل٢٥
يُفدُّون بالأرواحِ والأهلِ «فَيْصلًا»
مناطَ المُنى من كل راجٍ وآمل٢٦

هوامش

(١) نداء الحق: يراد هنا السلام. سمر العواسل: الرماح. الأغماد: جمع غمد وهو الجراب الذي يوضع فيه السيف. بيض المناصل: السيوف.
(٢) قرت: هدأت وسكنت. جازعات خوافق: خائفات مضطربات. الثواكل: النساء اللاتي فقدن أبناءهن.
(٣) المناجز: المقاتل. حاكه: صنعه.
(٤) وابل: المطر الشديد.
(٥) الفرات ودجلة: نهران بالعراق. الساجعات الهوادل: الحمام.
(٦) الحسام: السيف. الحمائل: علاقة السيف.
(٧) زهيرًا: هو زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي العظيم وأحد أصحاب المعلقات في الجاهلية واشتهر بحبه للسلام وكراهيته للحرب، له معلقة مشهورة مطلعها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
بحومانة الدراج فالمتثلم
دعا فيها للسلام ونفَّر من الحرب وويلاتها إذ قال:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
القساطل: جمع قسطل وهو غبار الحرب.
(٨) أطغى: جاوز الحد.
(٩) أوشاجًا: جمع وشج وهو صلة القرابة.
(١٠) نجيع: الدم من الجوف. الأصائل: الأصيل.
(١١) الدرع: ما يقي الإنسان أثناء الحرب. ألمت ملمة: نزلت نازلة. فدحتني: أصابتني بمصاب كبير. عابسات النوازل: شدة الكوارث.
(١٢) الجلَّى: حلبة القتال ويقصد المخاطر والأهوال.
(١٣) أكلت دمًا: دعاء على نفسه. أزد: أدافع. حياضه: أراضيه. كيد: مكر. الغوائل: الذين يقفون له بالمرصاد لإهلاكه.
(١٤) الدخائل: الدخلاء المفسدون.
(١٥) غير جافل: غير خائف.
(١٦) البيد: الصحراء.
(١٧) رضوى: جبل رضوى الشهير بالحجاز.
(١٨) آل يعرب: يقصد العرب نسبة إلى يعرب بن قحطان وهو أبو العرب. الروع: الفزع والهول.
(١٩) غبار الجحافل: غبار الجيوش الكبيرة.
(٢٠) عفنا: كرهنا، تجنبنا. أكدر آسنًا: متغير اللون والطعم والرائحة. عذب المناهل: الماء العذب. وفي البيت طباق.
(٢١) العبيد وشمر: القبيلتان المتحاربتان بالعراق.
(٢٢) أصاخوا: استمعوا. باسل: هو حمد الباسل باشا وكان هو والشاعر أعضاء الوفد الذي أسهم في إصلاح ذات البين بين القبيلتين المتحاربتين.
(٢٣) وردا: موردا. الندى: الكرم. غير ناضب: غير منقطع، وافر. ناكل: راجع عن.
(٢٤) التراث: الأحقاد التي أدت بهم إلى الحرب.
(٢٥) سلوا: أخرجوا. سل السيف: أخرجه من غمده استعدادًا للقتال. الذوابل: الرماح.
(٢٦) فيصلًا: الملك فيصل الثاني ملك العراق حينئذ. راج: مرتجي، مؤمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤