باريس

يتألم الشاعر لذكرى سقوط باريس في الحرب العالمية الثانية، ويتحسر لسرعة استسلامها. ثم يذكر إنقاذ الحلفاء والفرنسيين الأحرار لها من أيدي الألمان عام ١٩٤٤م، فضمن هذه القصيدة مشاعره وخوالج نفسه.

عُرْسٌ أقيمَ على الدمِ المسفوكِ
أأُرَدِّدُ الألحانَ أم أبكيكِ؟
باريسُ حيَّرْتِ القريضَ، فمرَّةً
يشدو، وحينًا والِهًا يَرْثيك١
نَهكَتْكِ داهيةُ الْخُطوبِ فلم تَدعْ
للفَوْزِ غيرَ حُشاشةِ المنهوك٢
إنْ كان ما تَعْنِي الحياةُ تنفُّسًا
«فالعيشُ خَيْرٌ في ظِلالِ النوك»٣
لَهفي عليكِ! ولهفَ شعري! ما الذي
لاقيتِ من جَبَريَّةٍ وفُتوك؟٤
ما بين ظُلْمٍ كالمنونِ مُحجَّبٍ
عاتٍ، وظلمٍ كاسمه مهتوك٥
ألقيتِ نفسَكِ للطُّغاةِ غنيمةً
ومضَى القضاءُ فعزَّ مَنْ يُنْجيكِ
جُرْحُ الهزيمةِ لا تَجِفُّ دِماؤُه
وتجِفُّ داميةُ القنا المشكوك٦
ناديْتِ لا «بيتانُ» في تِسعينهِ
مُصْغٍ، ولا «لا فالُ» بين ذَويك٧
ولقيتِ من عَسْفِ العدوِّ وكيدِه
دونَ الذي لاقيتِ من أهليكِ!٨
وَلَّى الْحُماةُ فما أجابوا دعوةً
لمّا دعاهم للردَى داعيك٩
تركوك للموتِ الزُّؤام وأدبروا
يا ليتَهم للموتِ ما تركوك!١٠
ومضَوْا حيَارَى ذاهلين، فما رأوا
كَفَّيْكِ ضارِعةً، ولا سمِعوك١١
قَذَفوا السلاحَ فصَبّه أعداؤُهم
غُلًّا، فكاد حديدُه يُرْديك١٢
ونُعِيتِ للدنيا فشبَّتْ لوعةٌ
أصلَى القلوبَ بحرِّها ناعيكِ١٣

•••

وَيلَ الشبابِ من النُّعومةِ إنَّها
أعراضُ سُمٍّ للشعوبِ وشيك١٤
ما أتعسَ الزمنَ الجديدَ بِفِتْيةٍ
قتلوه في التصفيفِ والتدليك!١٥
قَلْبٌ كقُرْطِ الغانياتِ مُفَزَّعٌ
وإرادةٌ من حَيْرةٍ وشُكوك١٦
عاشوا صعاليكَ الحياةِ وليتَهم
فازوا بصِدقِ عزيمةِ الصُّعْلوك!
أبقتْ ليالي الأُنسِ من أخلاقِهم
فزعَ النعامةِ وازدهاءَ الديك١٧

•••

باريسُ هالَتْكِ الدماءُ غزيرةً
فسَقَطْتِ بين نِصالِ جزَّاريك!١٨
خِفْتِ القذائِفَ أن تهدَّ معالمًا
فتهدَّم التاريخُ في أيديك!
ما كان أحْرَى لو دُكِكْتِ إلى الثرَى
وتركتِ ذِكْرًا ليس بالمدكوكِ!١٩
ما بُرجُ «ايفلَ» حين يسلَمُ مانِعٌ
هَمْسًا يطِنُّ غدًا بأذْنِ بنيك٢٠
لو طال صبْركِ في المكارهِ ساعةً
لرأيتِ أنّ الموتَ قد يُنجيك
إنّ الذي خلَق الكرامةَ صانها
بالسيفِ يمحو رأيَ كُلِّ أفيك٢١
بين المهانةِ والمَعَزَّةِ خُطوةٌ
فإذا ضلِلْتِ فقَلَّ مَنْ يَهديك٢٢
شتانَ بين فتًى يموتُ مجالِدًا
وفتًى يموتُ بجُرْعةِ «الفينيك»!٢٣
شتَّى أساليبُ الحياةِ، ولا أرَى
للمجدِ غيرَ طريقهِ المسلوك٢٤
سِرُّ البطولةِ في الشدائدِ جُرْأَةٌ
سيَّانِ: تفري الخطبَ أم يَفريك٢٥
قد كنتِ في «السبعين» أكرَم موقفًا
والغانياتُ بشَعرِها تفديكِ٢٦

•••

باريسُ قد ضُرِبَ الثباتُ بلندُنٍ
مَثَلًا إلى أمثالِه يدعوك
عبَستْ لهم «دنكركُ» فاقتحموا الردَى
ومشَوْا بوجهٍ للمنونِ ضحوك٢٧
واستقبلوا نُوَبَ الزمانِ ضراغمًا
لما تخلّف عاهِلُ «البلجيك»٢٨
جعلوا الهزائِمَ سُلّمًا، فتسلّقوا
للنصرِ فوقَ جماجمٍ وترِيك٢٩
أصْلَتْهُمُ الهيجَاءُ نارَ جحيمها
فتخلَّصوا كالعَسْجدِ المسبوكِ٣٠
لو أنَّهم وهَنوا لزالتْ رِيحُهم
وقضَوْا عبيدَ الذُلِّ والتفكيك٣١
ولمَا رمى «شَرْ بُرْجَ» منهم جَحْفَلٌ
في مأزِقٍ كفمِ الليوثِ ضَنيك٣٢
ولما رأت «روما» طلائِعَ نجدةٍ
تشري المحامدَ بالدمِ المسفوكِ٣٣
ولما مضَى «روميلُ» يلعَقُ جُرْحَه
ويجرُّ ذيلَ العاثرِ المفلوك٣٤
ولما جرت في البحرِ تخطِرُ سُفْنُهم
من آخِر «الهادي» إلى «البلطيك»٣٥

•••

باريسُ — والذكرىَ جحيمٌ — فانظُري
نحوَ السماء لعلَّها تُنسيك!٣٦
وتَذكَّري ماضيكِ فهو مَجادةٌ
قد كان أستاذَ الوَرى ماضيك٣٧
يا أُم «هوجو» كلُّ شِعْرٍ يَرْتَجي
لو كان يُلْقَى وَحْيَه من فيك٣٨
أشعلتِ مِصباحَ الفُنون فأشرقت
بضيائه الأيامُ بعد خُلوك٣٩
فيكِ الثقافةُ بالمجانةِ تلتقي
ماذا أقولُ وكُلُّ شيءٍ فيك؟٤٠
يا كعبةَ الدنيا، ويا نادي الهوَى
الآنَ كيفَ الحالُ في ناديكِ؟٤١
أتُرَى البلابِلُ لا تزالُ صَوادحًا
أم راعها الغِربانُ في واديكِ؟٤٢
والغانياتُ؟ أفُزِّعتْ أسرابُها
وتَفَرّق السُّمارُ عن شاديك؟٤٣
طَلَعتْ عليكِ مع الصباح فوارسٌ
ومشَى الغريمُ لحقِّه المتروك٤٤
طاحوا بقيدِك في الهواء، وكم لها
مِنَنٌ على المأسورِ والمملوك؟٤٥
وجنودُكِ الأحرارُ تستبقُ الْخُطا
لِتَردَّ صفعتَها إلى غازيك٤٦
فتفرَّق الأعداءُ عَنْكِ بَدَائدًا
والطعنُ فوقَ قفاهُمُ المصكوك٤٧
سُبحانَ من لا حُكْم إلّا حُكمهُ
يُمْضِي إرادتَه بغير شريك
عُودي إلى ظِلِّ السلامِ وأشْرِقي
كالشمسِ تعلو الأفْقَ بعد دُلوكِ٤٨
واستقبلي الدنيا جديدًا واعلمي
أنَّ الأسَى والحزنَ لا يُجديك
قَدَرُ الإلهِ إذا كرِهْتِ لقاءَه
فلعَلَّ في عُقْباه ما يُرضيك٤٩

هوامش

(١) القريض: الشعر. والهًا: مستجيرًا حزينًا جزعًا.
(٢) نهكتك: أتعبتك. داهية الخطوب: الأمور الشديدة. حشاشة: حشوة البطن، بقية الروح. المنهوك: المكدود، التعب.
(٣) النوك: الحمقى.
(٤) جبرية: التجبر والكبرياء. وفتوك: القتل غيلة.
(٥) كالمنون: كالموت. محجب: مستور. عات: متكبر مجاوز للحد. مهتوك: مقطوع، مفضوح.
(٦) دامية: الشجة تدمى ولا تسيل. القنا: الرماح. المشكوك: الداخل في الجسم.
(٧) بيتان ولا فال: قائدان فرنسيان لجيوش الحلفاء (إنجلترا وفرنسا وأمريكا) في الحرب العالمية الثانية ضد دولتي المحور (ألمانيا وإيطاليا).
(٨) عسف: ظلم. دون: أقل.
(٩) الحماة: الذين يدافعون عن حماك. للردى: للموت.
(١٠) الزؤام: الكريه. أدبروا: فروا.
(١١) ضارعة: متوسلة. مبتهلة داعية.
(١٢) غلًّا: حقدًا وكراهية. يرديك: يغتالك ويهلكك.
(١٣) نعيت: جاء خبر موتك (هزيمتك). شبت: توقدت. أصلي: أحرق. بحرها: بحرارتها. ناعيك: الذي جاء بخبر سقوطك وهزيمتك.
(١٤) وشيك: سريع الحدوث.
(١٥) قتلوه: قضوا عليه والمقصود أضاعوا وقتهم. التصفيف: تنظيم الشعر. التدليك: دلك الجسم بالطيب.
(١٦) قرط: ما تتحلى به النساء ويوضع في شحمة الأذن. مفزع: خائف.
(١٧) ازدهاء: افتخار.
(١٨) هالتك: أفزعتك. نصال: جمع نصل وهو حد السكين.
(١٩) أحرى: أجدى. دككت: سويت بالأرض.
(٢٠) برج إيفل: هو برج عظيم وأحد معالم باريس. يطن: يسمع (والطنين صوت الذباب).
(٢١) أفيك: كاذب فاسد الرأي.
(٢٢) ضللت: بعدت عن الرشاد.
(٢٣) مجالدًا: مجاهدًا ومقاومًا. جرعة: كمية صغيرة. الفينيك: سائل مطهر مبيد. ويموت بجرعة الفينيك يقصد يموت منتحرًا.
(٢٤) شتى: كثيرة. أساليب: طرق. المسلوك: السائر فيه.
(٢٥) سيان: يستوي. تفري: تقطع وتمحو. الخطب: الشدة.
(٢٦) السبعين: حرب السبعين الشهيرة.
(٢٧) دانكرك: مدينة ساحلية بفرنسا تجاه إنجلترا اشتهرت بمعركة انسحاب جيوش الحلفاء (إنجلترا وفرنسا) من فرنسا إلى إنجلترا في الحرب العالمية الثانية.
(٢٨) نوب: مصائب. ضراغمًا: أسودًا. عاهل البلجيك: ملك بلجيكا.
(٢٩) تريك: جمع تريكة وهي خوذة لوقاية الرأس في الحرب.
(٣٠) أصلتهم: أصابتهم. الهيجاء: الحرب. العسجد: الذهب. المسبوك: المذاب.
(٣١) وهنوا: ضعفوا. زالت ريحهم: هزموا. قضوا: حكم عليهم. التفكيك: التفرق.
(٣٢) شربرج: قائد في الحرب العالمية الثانية. الليوث: الأسود. ضنيك: ضيق.
(٣٣) تشري: تشتري. المحامد: الخصال الحميدة.
(٣٤) روميل: قائد ألماني شهير هزم في معركة العلمين الحاسمة في الحرب العالمية الثانية. يلعق: يلحس. العاثر: الساقط المهزوم. المفلوك: البائس المسكين.
(٣٥) تخطر: تسير متبخترة. الهادي: المحيط الهادي. البلطيك: بحر البلطيك.
(٣٦) جحيم: نار عظيمة.
(٣٧) مجادة: مجد وشرف. الورى: الخلق.
(٣٨) هوجو: فيكتور هوجو شاعر فرنسي عظيم وصاحب قصة البؤساء الشهيرة. يرتجي: يأمل فيه. يلقى وحيه: يستقبل ويأخذ إلهامه. من فيك: من فمك.
(٣٩) أشعلت: أنرت. حلوك: ظلام.
(٤٠) المجانة: اللهو.
(٤١) يا كعبة الدنيا: يا مقصد كل العالم.
(٤٢) صوادحًا: مغردات بصوت جميل. الغربان: طيور سوداء صوتها مزعج وشكلها مقبض.
(٤٣) أسرابها: جماعات. السمار: المتحدثون ليلًا للتسلية.
(٤٤) الغريم: المقصود جيوش الحلفاء التي هاجمت أوروبا بعد هزيمتها في دنكرك وحاربت الألمان وهزمتهم، وخلصت فرنسا ودول أوروبا الغربية من الاحتلال.
(٤٥) منن: أيادي بيضاء.
(٤٦) جنودك الأحرار: يقصد جيشها الحر الذي كونه الجنرال ديجول لمحاربة الألمان. غازيك: محتلك وهم الألمان.
(٤٧) المصكوك: المضروب.
(٤٨) دلوك: زوال وغروب.
(٤٩) عقباه: آخرته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤