من شاعرٍ إلى شاعِر

حينما توافد أدباء الأقطار العربية لتكريم المرحوم أحمد شوقي بك في سنة ١٩٢٧م، وتوليته إمارة الشعر حيّا الشاعر صديقه بهذه القصيدة:

وَقَفْتَ تُجدِّد آثارَها
وتُنْشِرُ للعُرْب أشْعَارَها١
وترْجِعُ بَغْدادَ بعد الفَنَاء
تُحدِّثُ للنَّاسِ أَخْبارَها٢
وتبْعَثُ حَسَّان من رَمْسِه
وتُحيِي عُكاظَ وسُمَّارها٣
بشِعْرٍ له نَبَراتٌ تهُزُّ
نِياطَ القُلوبِ وأوْتَارها٤
أطاعَتْ قوافِيه بَعْد الشِّماسِ
جَرِيءَ القرِيحةِ جَبَّارَها٥
ونَظْمٍ له نَفَحَاتُ الرِّياضِ
إذَا نَقَّط الطُّلُّ أزهارَها٦
فمِن حِكمةٍ عَلَّمتْها السّنُونَ
جِوارَ النُّفوسِ وإسْرَارَها
لها صَفْحَةُ الْكَوْن مَنْشورةٌ
يُتَرْجم بالشِّعر أَشْطارَها٧

•••

وتشْبِيبِ لاهٍ لَعُوبِ الشَّبابِ
يُناجي السماءَ وأقْمارَها٨
تراه وَظِلُّ الصِّبَا وارفٌ
جَموحَ العَرِيكةِ مَوَّارَها٩
يُغْني كَما صَدَحت أيْكةٌ
وقد نَبَّهَ الصبحُ أطْيارها١٠
ويَبْكِي فَيُبْكي رُسومَ الديارِ
، حَنَانًا عَليه، وآثارها١١
ويَنْسَبُ حتى يَلينَ الهَوَى
وتقْضي الصّبَابةُ أوْطارها١٢
وتنْسَى الكواعبُ آيَ الحِجابِ
وتَبْكي العَجائزُ أعمارَها١٣

•••

وتصْويرِ طَبٍّ صنَاع اليَدَيْن
حَبَتْه الطَّبيعةُ أسرارها١٤
كأنَّ (رُفائيلَ) في كَفِّهِ
يُعيدُ الفُنونَ وأَعْصارها١٥
يُريك إذا خَطَّ في طِرْسِه
حياةَ القُرون وأدْوَارها١٦
ويَرْسُم (أندَلُسًا) باليَرَاعِ
فتلمِسُ كفُّك أَسْوارها١٧
وإن وَصَف الحربَ خِلْتَ الْحِرابَ
تَسُدُّ من الأرض أقطارها
فتُمْسِكُ جَنْبك ذُعرًا تخافُ
قَناها وتَرْهَبُ بتَّارها
أشَوْقِي وأنت طَبيبُ النُّفوسِ
وَضَعْت عن النفس آصارَها١٨

•••

نَصَرْتَ الفَضيلةَ، مِن بَعْدِ أنْ
طَوَاها الزمانُ، وأنْصَارَها
وجِئْتَ لمِصْرَ كعيسى المسِيح
تُفَتِّحُ للنّور أَبْصَارَها١٩
بِآيٍ تُفَصِّلَها مُحْكَمَاتٍ
كأنَّ مِنَ الوَحْيِ أَفْكارَها
ترُدُّ الشبِيبَةَ للصالحاتِ
وتَرْجِعُ للدِّين هَتَّارها٢٠
جَزَيْتُ بِشِعْرِك شعرًا وهل
تُجازِي الخمائلُ أمطارَها؟٢١
فكنتَ شَريفَ قَوافي البَيانِ
وكنتُ بِفَضْلك مِهْيارَها٢٢
فَغرِّد كما شِئْتَ لا فُضَّ فُوكَ
وعِش بَطَلَ الضَّادِ مِغْوارها

هوامش

(١) آثارها: أي آثار اللغة العربية، تنشر: تبعث بعد الموت.
(٢) بغداد: عاصمة العراق وهي تقع على نهر دجلة أنشأها أبو جعفر المنصور، وجعلها مقر ملكه. وكانت مهد الحضارة العربية وأزهى مدن العالم في العصر العباسي لغةً وعلمًا.
(٣) حسان: هو ابن ثابت الأنصاري الخزرجي الصحابي، شاعر النبي أدرك الجاهلية والإسلام، وتوفي سنة ٤٠ﻫ. الرمس: القبر. عكاظ (يؤنث ويذكر، فالتأنيث لغة الحجاز والتذكير لغة تميم): سوق للعرب بين نخلة والطائف كانت تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يومًا، وقيل: شهرًا، تجتمع فيها قبائل العرب فيتناشدون ويتفاخرون. السمار: المتسامرون.
(٤) نبراته: رنين إنشاده وجرس توقيعه. نياط القلب: عرق غليظ نيط به القلب، أي: علق، إلى الوتين.
(٥) القوافي: جمع قافية بمعنى القصيدة. الشماس: التأبي والامتناع. قريحة الشاعر: ملكته التي يقتدر بها على نظم الشعر.
(٦) نفحات الرياض: ما ينتشر عنها ويفوح من رائحة عطرة. الطل: المطر الضعيف أو الندى.
(٧) منشورة: مبسوطة غير مطوية.
(٨) التشبيب: وصف الشاعر محاسن المرأة وتعديد مناحي الجمال فيها. لعوب الشباب: مرح به مدل. المناجاة: المسارة.
(٩) الوارف: الواسع الممتد. وجعله للصبا ظلًّا وارفًا، كناية عن اكتمال قوته؛ لأن الشجرة إذا تم نموها امتدت فروعها واتسع ظلها. جموح العريكة: أي له نفس قوية وطبيعة غالبة. الجموح: من صفات الخيل، وهو الذي يركب رأسه لا يثنيه شيء. الموار: فعال من المور. وهو مبالغة في الثورة والاضطراب.
(١٠) الصدح: رفع الصوت بالغناء. الأيكة: الحديقة ذات الأشجار الكثيرة الملتفة.
(١١) رسوم الديار: آثارها التي تبقى على الأرض دالة عليها.
(١٢) النسيب: التشبيب بالمرأة في الشعر وذكر محاسنها. الصبابة: حرارة الشوق والهوى. الأوطار: جمع وطر (بالتحريك) وهو كالحاجة.
(١٣) الكواعب: جمع كاعب، وهي الجارية نهد ثديها.
(١٤) الطب (بالفتح): الماهر في عمله. صناع اليدين: يحذق الصنعة بهما. حبته: منحته وخلعت عليه.
(١٥) رفائيل: مصور إيطالي مبدع ولد في ٦ أبريل سنة ١٤٨٣م، وتوفي في ٦ أبريل ١٥٢٠م. الأعصار: الأزمنة، الواحد، عَصر (بالفتح).
(١٦) الطرس: الصحيفة يكتب فيها.
(١٧) اليراع: القلم.
(١٨) الآصار: جمع إصر، وهو ما تئن تحته النفس من أثقال وأعباء.
(١٩) يشير إلى معجزة عيسى — عليه السلام — في إبراء الأكمه.
(٢٠) يريد بالهتار: الذي غلبه الشيطان على عقله فمرق من الدين واستخف بتعاليمه.
(٢١) الخمائل: المواضع الكثيرة الشجر، الواحدة خميلة.
(٢٢) مهيار: هو الأديب الشاعر أبو الحسن مهيار بن مرزويه الفارسي الديلمي، المعروف بجودة الصياغة وقوة الشعر، وقد كانت وفاته ليلة الأحد لخمس خلون من شهر جمادى الآخرة سنة ٤٢٨ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤