السُّودان

أنشد الشاعر هذه القصيدة في جمع حافل بالخرطوم في زيارة للسودان الشقيق عام ١٩٤١م.

يا نَسْمَةً رنَّحتْ أعطافَ وادينا
قِفي نُحيِّيك، أو عوجي فحيِّينا!١
مرَّتْ مع الصبح نَشْوَى في تكسُّرها
كأنَّما سُقِيتْ من كفِّ ساقينا٢
أرختْ غدائرَها أخلاطَ نافِجةٍ
وأرسلتْ ذيلَها وردًا ونِسْرينا٣
كأنَّها روضةٌ في الأفقِ سابِحةٌ
تمجُّ أنفاسُ مَسْراها الرياحينا٤
هبَّتْ بنا من جنوبِ النيلِ ضاحكةً
فيها من الشوقِ والآمالِ ما فينا
إنَّا على العهدِ لا بُعدٌ يحوِّلنا
عن الودادِ، ولا الأيامُ تُنْسينا
أثرتِ يا نسمَة السودانِ لاعجةً
وهِجْتِ عُشَّ الهَوى لو كنتِ تدرينا٥
وسِرْت كالحلم في أجفان غانية
ونشوة الشوق في نجوى المحبينا
ويحي على خافقٍ في الصدر محتبِسٍ
يكاد يطفر شوْقًا حين تسرينا
مرّت به سنواتٌ ما بها أَرَجٌ
من المُنَى فتمنّى لو تمرِّينا!٦

•••

نبَّهتِ في مصرَ قُمْريًّا بِمُعشبةٍ
من الرياض كوجهِ البِكْر تلوينا٧
فراح في دَوْحِهِ، والعودُ في يده
يردِّد الصوتَ قُدْسيًّا فيُشْجينا
صوتٌ من الله تأليفًا وتهيئةً
ومن حفيفِ غصونِ الروْضِ تلحينا
يَطيرُ من فَنَنٍ ناءٍ إلى فَنَنٍ
ويبعَثُ الشدْوَ والنجوَى أفانينا
يا شاديَ الدَّوْحِ، هل وعدٌ يقربُنا
من الحبيبِ، فإنَّ البعدَ يُقْصينا؟
تشابهت نَزَعاتٌ من طبائعنا
لما التقتْ خَطَراتٌ من أمانينا٨
فجَاء شعري أنَّاتٍ مُنَغَّمةً
وجاء شعرُك غَمْرَ الدمع محزونا
شعرٌ صَدَحنا به طبعًا وموهِبَةً
وجاشَ بالصدرِ إلهامًا وتلقينا
والنَّفسُ إنْ لم تكنْ بالشعرِ شاعرةً
ظَنَّتْه كلَّ كلامٍ جاء موزونا
تعزّ يا طيرُ، فالأيامُ مقبلةٌ
ما أضيقَ العيشَ لو عزَّ المُعَزّونا!
خُذِ الحياةَ بإيمانٍ وفلسفةٍ
فربَ شرٍّ غدًا بالخيرِ مقرونا
فَكمْ وزنًا فما أجدتْ موازنةٌ
في صَفْحةِ الغيبِ ما يُعْيي الموازينا
الكون كوَّنه الرحمنُ من قِدَمٍ
فهل تريدُ له يا طيرُ تكوينا؟!
إن المُنَى لا تُواتي من يهيمُ بها
كالغيدِ ما هجَرتْ إلّا الملحّينا٩
تبكيِ وبينَ يديْكَ الزهرُ من عَجَبٍ
والأرضُ تبرًا ورَوْضاتُ الهَوى غِينا١٠
والماءُ يسبَحُ جذْلانَ الغَديرِ إلى
منابتِ العُشْبِ يُحييها فيُحيينا
والزهرُ ينظرُ مفتونًا إلى قَبَسٍ
يُطِلُّ بين ثنايا السُّحْبِ مفتونا
قد حزْتَ مُلْكَ سليمانٍ ودولَته
لكَ الرياحُ بما تختارُ يجرينا١١
ما أجملَ الكونَ لو صحَتْ بصائرُنا
وكيف نُبْصِرُ حُسْنَ الشيءِ باكينا؟
الله قد خلق الدنيا ليُسعدنا
ونحن نملؤُها حُزنًا وتأبينا

•••

إن جُزْتَ يومًا إلى السودانِ فارْع له
مودّةً كصفاء الدرِّ مكنونا١٢
عهدٌ له قد رَعَيْنَاهُ بأعيُنِنا
وعُرْوةٌ قد عقدناها بأيدينا
ظِلُّ العرُوبةِ والقرآنِ يجمَعُنَا
وسَلْسَلُ النيل يُرويهم ويُروينا
أشعّ في غَلَسِ الأيام حاضرُنا
وضاء في ظُلْمةِ التاريخِ ماضينا١٣
مجدٌ على الدهر، فاسألْ مَن تشاءُ به
عَمْرًا إذا شئتَ، أو إنْ شئتَ آمونا١٤

•••

تركتُ مِصْرَ وفي قلبي وقاطرتي
مراجلٌ بلهيبِ النار يَغْلينا١٥
سِرْنا معًا فُبخارُ النار يدفَعُها
إلى اللقاء، ونارُ الشوقِ تُزجينا١٦
تشقُّ جامحةً غُلْبَ الرياضِ بنا
كالبرقِ شقَّ السحاب الحُفَّلَ الجونا١٧
وللخمائِل في ثوب الدجَى حَذَرٌ
كأنَّها تتوقَّى عينَ رائينا
كأنهنَّ العَذارَى خِفْن عاذلةً
فما تعرَّضْنَ إلَّا حيثُ يمضينا
وللقُرَى بين أضْغاثِ الكَرَى شَبَحٌ
كالسرِّ بين جنايا الليلِ مدفونا
نستبعدُ القُرْبَ من شوقٍ ومن كَلَفٍ
ونستحث وإنْ كنَّا مُجدّينا
وكم سألْنا وفي الأفْواهِ جَابتُنا
وفي السؤالِ عَزاءٌ للمشوقينا١٨
وَكم وكم ملَّ حادينا لجاجتنا
وما علينا إذا ما ملَّ حادينا
حتَّى إذا ما بدتْ «أَسْوانُ» عن كَثبٍ
غنَّى بحمدِ السُّرى والليلِ سارينا١٩

•••

وما شجاني إلَّا صوتُ باخرةٍ
تستعجلُ الركبَ إيذانًا وتأذينا٢٠
لها ترانيمُ إنْ سارتْ مُهَمْهِمَةً
كالشعرِ يُتْبعُ بالتحريكِ تسكينا
يا حُسنَها جنَّةً في الماء سابحةً
تلقى النَّعيمَ بها والحورَ والعينا٢١
مرَّتْ تهادَى، فأمواجٌ تُعانقها
حينًا، وتلثِمُ من أذيالها حينا٢٢
والنَّخلُ قد غَيَّبتْ في اليمِّ أكثرَها
وأظهرتْ سَعَفًا أحْوَى وعُرْجونا٢٣
ما لابنةِ القَفْرِ والأمواه تسكُنُها؟
وهل يجاورُ ضَبُّ الحرَّة النونا؟٢٤
سِرْ أيُّها النيلُ في أمْنٍ وفي دَعَةٍ
وزادك الله إعزازًا وتمكينا
أنْتَ الكتابُ كتابُ الدهر، أسطرُهُ
وَعَتْ حوادثَ هذا الكون تدوينا
فكم مُلوكٍ على الشَّطيْنِ قد نزلوا
كانوا فراعينَ أو كانوا سلاطينا
فُنونُهم كنّ للأيام مُعْجِزةً
وحُكمهم كان للدنيا قوانينا
مرّوا كأشرطةِ «السّيما» وما تركوا
إلا حُطامًا من الذكرى يُؤَسِّينا
إنا قرأنا الليالي من عواقِبها
فصار ما يُضحكُ الأغْرارَ يُبكينا!٢٥

•••

ثم انتقلنا إلى الصحراء، تُوسِعُنا
بُعْدًا، ونُوسعُها صبرًا وتهوينا٢٦
كأنَّها أملُ المأفون أطلقهُ
فراح يخترق الأجواءَ مأفونا٢٧
والرملُ يزخَرُ في هَوْلٍ وفي سَعَةٍ
كالبحرِ يزخَرُ بالأمواجِ مشحونا
تُطلُّ من حَوْلها الكُثْبانُ ناعسةً
يمدُدْنَ طَرْفًا كليلًا ثم يُغْفينا
وكم سَرابٍ بعيدٍ راح يَخدَعُنا
فقلت: حتى هُنا نلقى المُرائينا!
أرضٌ من النوم والأحلام قد خُلِقتْ
فهل لها نبأٌ عند «ابن سيرينا»؟٢٨
كأنما بسط الرحمنُ رُقْعتَها
من قبل أن يخلُقَ الأمواهَ والطينا
تسلَّبَتْ من حُلِيِّ النَبْتِ آنفةً
وزُيِّنت بِجلالِ الله تزيينا٢٩
صمْتٌ وسحرٌ وإرهابٌ وبعدُ مدًى
ماذا تكونين؟ قولي، ما تكونينا؟
صحراءُ فيكِ خَبيئًا سرُّ عِزَّتِنا
فأفصحي عن مكانِ السرِّ واهدينا
إنّا بنو العُربِ يا صحراءُ كم نَحتت
من صخركِ الصلْدِ أخلاقًا أوالينا
عزّوا، وعزّت بهم أخلاقُ أمّتهِم
في الأرضِ، لمّا أعزّوا الْخلْقَ والدّينا
مِنَصّةُ الحكْم زانوها ملائكة
وجَذْوَة الحرب شبّوها شياطينا
كانوا رُعاةَ جمالٍ قبلَ نهضتِهم
وبعدها مَلأوا الآفاق تمدينا
إن كَبّرتْ بأقاصي الطين مِئْذَنةٌ
سمعتَ في الغرب تهليلَ المصلّينَا

•••

قف يا قِطارُ فقد أوهى تصبُّرَنا
طولُ السفارِ، وقد أكْدَتْ قوافينا
وقد بدتْ صفحةُ الْخُرْطوم مُشْرقةً
كما تجلَّى جلالُ النورِ في «سينا»
جئنا إليها، وفي أكبادنا ظمأٌ
يكاد يقتُلُنا لولا تلاقينا
جئنا إليها، فمن دارٍ إلى وطنٍ
ومن منازِل أهلينا لأهلينا
يا ساقيَ الحيِّ جدّدْ نَشْوَةً سلفتْ
وأنت «بالجِبَنَاتِ» الْحُمرِ تسقينا٣٠
واصدَحْ بنونيةٍ لما هتفتُ بها
تسرّق السمع «شوقي» و«ابنُ زيدونا»٣١
وأحْكِم اللحنَ يا ساقي وغنّ لنا
«إنَّا محّيوكِ يا سلمى فحيينا»٣٢

هوامش

(١) رنحت: أمالت. أعطاف: جوانب. وادينا: المقصود وادي النيل. عوجي: ميل أو ارجعي.
(٢) نشوى: فرحة متمايلة. تكسرها: تمايلها.
(٣) أخلاط: هو امتزاج الأشياء. نافجة: المسك. نسرين: نبات ذو رائحة ذكية.
(٤) تمج: تنشر.
(٥) لاعجة: شدة وألم في الصدر.
(٦) أرج: هو رائحة الطيب والمعنى أنها سنوات خالية من الأماني.
(٧) قمريًّا: نسبة إلى الطائر المعروف بالقمري والشاعر يقصد نفسه. معشبة: أرض كثيرة العشب.
(٨) نزعات: صفات. خطرات: خواطر.
(٩) الملحين: الملحفين الدائمي السؤال.
(١٠) غينا: جمع غيناء أي: خضراء طويلة الشجر.
(١١) حزت: ملكت. سليمان: سيدنا سليمان — عليه السلام — وفي البيت اقتباس من الآية الكريمة: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ.
(١٢) جزت: سرت إلى. أرع: احفظ.
(١٣) أشبع: أنار. غلس الأيام: ظلام الأيام.
(١٤) عمرًا: يريد عمرو بن العاص. آمونا: توت عنخ أمون من فراعين قدماء المصريين.
(١٥) مراجل: أوعية النار التي لا دخان لها.
(١٦) تزجينا: تدفعنا.
(١٧) جامحة: غالبة. غلب: جمع غلباء: الحديقة الكثيفة الشجر. الجونا: جمع جون: الأسود.
(١٨) جابتنا: إجابتنا.
(١٩) سارينا: هادينا.
(٢٠) إيذانًا: إعلامًا بسفرها. تأذينا: الدعوة.
(٢١) الحور: النساء الجميلات. العينا: خيار الشيء.
(٢٢) تهادى: تتمهل.
(٢٣) سعف: غصن النخلة. أحوى: هو الذي خالط خضرته سواد وصفرة. العرجون: هو ما يبقى يابسًا على النخلة بعد قطع الفروع.
(٢٤) الحرة: الأرض ذات حجارة سود. النون: الحوت.
(٢٥) عواقبها: آخرها. الأغرار: غير المجربين.
(٢٦) توسعنا: تزيدنا.
(٢٧) المأفون: ضعيف العقل. الأجواء: ما بين السماء والأرض.
(٢٨) ابن سيرينا: عالم من علماء المسلمين له كتاب في تفسير الأحلام.
(٢٩) تسلبت: خلت من.
(٣٠) سلفت: مضت. الجبنات: أوعية من الخفار يصنع السودانيون القهوة بها.
(٣١) نونية: يقصد هذه القصيدة وهي نونية. شوقي: هو الشاعر أحمد شوقي وله قصيدة نونية أيضًا أولها:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نأسى لواديك أم تأسى لوادينا
ويعارض بها الشاعر الأندلسي ابن زيدون في نونيته ومطلعها:
أضحى التنائي بديلًا عن تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
(٣٢) إنا محيوك يا سلمى فحيينا: مطلع نونية الشاعر عمرو بن سعد بن مالك وهو شاعر جاهلي، وكان يلقب بالمرقش الأكبر. وتكملة البيت: وإن سقيت كرام الحي فاسقينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤