دَمْعَةٌ عَلى صَديق

في اليوم الأول من شهر مارس سنة ١٩٣٦م انتقل إلى جوار ربه المرحوم الأستاذ «أبو الفتح الفقي» وكيل دار العلوم، ورئيس جماعة دار العلوم، فكان لنعيه وقع على القلوب أليم، وفقدت مصر بفقده عالمًا من أفاضل علمائها، ورجلًا من خيرة رجالها.

وكان — رحمه الله — صديقًا حميمًا للشاعر، فبكاه ورثاه بهذه القصيدة التي ألقيت في الحفلة التي أقامتها لتأبينه جماعة دار العلوم بدار الأوبر في مساء الاثنين ٢٠ من أبريل سنة ١٩٣٦م.

مَلكَ المُصَابُ عليهِ كُلَّ جِهاتِه
إنْ كانَ مِن صَبْرٍ لَدَيْكَ فهاتِهِ!
أسْوانُ تَعْرِفُهُ إذا اخْتَلَطَ الدُّجَى
بالنَّبْرَةِ السَّوْدَاء في أنَّاتِه١
يَبْكِي وَيَنْظُرُ في السَّماء مُصَعِّدًا
ما يَبْتَغِي الْحَيْرَانُ مِنْ نَظَرَاتِه؟٢
خَفَقَانُ نَجْمِ الْأُفْقِ مِن خَفَقَانِه
وَهَجِيرُ قَيْظِ البِيدِ مِنْ زَفَرَاتِه!
وبُكاءُ كلِّ غَمَامَةٍ هَتَّانَةٍ
مِنْ بَعْضِ ما يُبْدِيهِ مِنْ عَبَرَاتِهِ
وَنُوَاحُ ذاتِ الطَّوْقِ في أعْوادِها
ما تُرْسِلُ الْأَقْلَامُ مِن نَفَثَاتِه
يرْثِي فيحتبِسُ البكاءُ بصَوْتِه
أينَ الرَّخِيمُ الْعَذْبُ مِنْ أصْوَاتِه؟
في صَدْرِه قَلِقُ الْجَوَانِحِ مُوجَعٌ
مَلَّتْ نُجُومُ اللَّيلِ من دَقَّاتِه
كَالطَّيْرِ في قَفَصِ الْحَدِيدِ مُوَثَّقًا
قد أَوْهَن الأَسْلَاكَ من خَفَقَاتِه
يَبْكِي ويَضْرِبُ بِالْجَنَاحِ مُجرَّحًا
يا وَيْلَ، ما فَعلتْ يَمينُ رُمَاتِه!

•••

نُوَبٌ كلَيْلاتِ المَحاق تَتابعتْ
مُتَشابهاتٍ، هذه مِنْ هاتِه٣
وبناتُ دَهْرٍ قد زَحَمنَ مَنَاكِبي
وَيْلَاهُ! لَوْ أَسْطِيُع وَأدَ بَنَاتِه!٤
أوْدَى (أبو الفتحِ) الْمُرجَّى واختَفَى
عَلَمٌ طَواه الدهرُ في طَيَّاتِه٥
وانحازَ للرَّكْبِ الذي من آدمٍ
ما زَال يُزْعجنَا رَنِينُ حُدَاتِه٦
سارتْ به الأحْبابُ تَسْتَبِقُ الْخُطَا
والْقَلْبُ مَكْظومٌ عَلَى حَسَرَاتِه
فوقفتُ أَنْظُر في الفلَاةِ فلم أجِدْ
إلَّا جلالًا في فسِيح فَلاتِه!٧

•••

يَا جَامِعًا شَملَ الشُّيوخ بحَزْمِهِ
مَنْ ذَا يَلُمُّ اليومَ مِن أشْتَاتِه؟
يَمْشِي الرَّعيلُ نواكسًا أبصارُهُ
من بعدِ ما عَبِثَ الرَّدَى بِحُماتِه٨
ألْوَى بِعَزْمَتِهِ وَهَدّ شِماسَه
قَدَرٌ أطاحَ القَرْمَ عَن صَهَوَاتِه٩
حَيْرَانُ يَعثُرُ بالأعِنَّةِ مثلَما
يتَعَثَّرُ التَّمْتَامُ في تاءاتهِ
يَطْفُو نَشِيجُ اليَأْسِ من لَهَوَاتِه
وَتَئِزُّ نَارُ الشَّوْقِ فِي لَبَّاتِهِ١٠
سارتْ به الفُرْسانُ تخْبِطُ في الدُّجَى
والرَّكْبُ قد زاغَتْ عُيونُ هُداتِه
يَبْكُون للطَّرْفِ المُخَلَّى سَرْجُه
والفارِسِ المُنْبَتِّ عن غايَاتِه١١
يَبْكُون للدِّرْعِ المطَرَّحِ حَطَّمَتْ
أيدِي الزَّمانِ العُسْرُ من حَلَقاتِه١٢
يَبكُون أطولَهم يدًا، وأبَرَّهم
كفًّا، وَأَسْبَقَهم إلى قَصَباتِه١٣

•••

خُلُقٌ كما يَصْفُو النُّضارُ وطَلْعةٌ
أَزْهَى من ابنِ الليلِ في هالاتِه
مَنْ صارَ في الْخَمْسِينَ فَخرَ بِلادِه
قد كان في العِشْرينَ فَخْرَ لِدَاتِهِ
والدَّهْرُ لا يُنْشِي الرِّجالَ صَوارِمًا
إلّا إذا نَضِجُوا على جَمَراتِه
صانَ الكَرامةَ أَن تُمَسَّ، وَإنَّما
إذلالُ نَفْسِ المَرْء من زَلَّاتِه
مُنِعَ الرَّقيقُ ولا تزالُ عِصابةٌ
تهْفُو إلى أَغْلالِهِ وسِمَاتِه!
قد كان كالفَلَكِ الدَّءُوبِ نَشاطُه
لَا يسْتريحُ الدَّهرَ من دَوْرَاتِه
فإذا تراءَى ساكنًا فَلِأَنَّه
في أسرَع الأَحْوَالِ من حَرَكَاتِه!
الْحَقُّ والإيمانُ مِلْء فُؤَادِه
وَبَلَاغةُ الأَعْرابِ مِلء لَهاتِه
فإذا تخطَّرَ للجِدَالِ مُصَاوِلًا
فاحْذَرْ فَتى الفِتْيانِ في صَوْلاتِه!
السيلُ في دَفَعاتِه، والسيفُ في
عَزَمَاتِه، والمَوتُ في وَثَباتِهِ
لبس القَوِيُّ بنَابِه وبظفْرِهِ
مِثْلَ القَوِيِّ برَأيِه وثَبَاتِه
والْحُجَّةُ البَيْضاءُ أَفْضَلُ مَقطَعًا
من نَصْلِ كُلِّ مُهنَّدٍ وشَبَاتِه١٤

•••

ماذا أصابَ الليثُ عن غَدَواتِهِ
صُبْحًا، وماذَا نَالَ من رَوْحاتِه؟
سَمَحتْ له الدُّنيا بماء سَرَابِها
فابتاعَه منها بماءِ حَياتِه
إنَّ الأمانِيَّ الْحِسَانَ جَمِيلةٌ
لو حققَ الإنْسانُ أمْنِيّاتِه!
فلرُبّ رَوْضٍ للنَّواظِر مُعْجِبٍ
كمنَتْ سُمومُ الصِّلِّ في زَهَراتِه!١٥
قد كان لي أملٌ سَقَيْتُ فُروعَه
بدَمِي وغَذَّيتُ المُنَى بعَذَاتِه١٦
أَحْنُو عليه من الهَجيرِ يَمَسُّه
ومن النَّسِيم يَهُزُّ من أسَلاتِه١٧
وأَذُودُ عنْهُ الطيْر إن حامتْ على
زَهْرٍ يُضِيءُ الأفقَ في عَذَباته١٨
الليلُ يَنْفحُه بذَائبِ طَلِّه
والصُّبحُ يَمْنَحُه شُعَاعَ إيَاتِه١٩
حتى إذا قَوِيتْ لِدَانُ غُصونِه
واستَحْصَد المَرْجُوُّ من ثمَراتِه٢٠
وأَخَذْتُ أَسْتَجْلِي السَّنَا من نَوْرِه
وأشمُّ ريِحَ الْخُلْدِ من نَفَحاتِه٢١
وأُفاخِرُ الزُّرَّاعَ أنَّ غِرَاسَهم
لم يَزْكُ مِثلَ زَكائهِ ونَباتِه٢٢
عصفت به هُوجٌ فخر مُعَفَّرًا
وجَنَى عَلَيْه الْحَيْنُ قَبْل جَناتِه٢٣
وَوَقَفْتُ أَنظُرُ للحُطَامِ مُحَطَّمًا
مُتَفَتِّتَ الأفْلاذِ مثلَ فُتاتِه٢٤
أَهْوِنْ بدُنْيا مَا لحيّ عِنْدها
وَعْدٌ يُنجَّزُ غَيْرَ وَعْدِ وَفاتِه!
سَلْ كُلَّ مَنْ كَتَب الكَتائب غَازِيًا
هل رَدَّ عنه الْجَيْشُ سَهْم مماتِهِ؟
إنَّ ابنَ داودٍ علَى سُلْطانِه
قد خَرَّ مُنْفَرِدًا على مِنْساتِهِ٢٥
وهو الذي مَلَك المُلوك ببَأسِه
وأخاف جِنَّ الأرضِ من سَطَواتِهِ
كلُّ ابنِ أنثى في الْحَياةِ إلى مدًى
والمرءُ في الدُّنيا إلى مِيقاتِهِ

•••

أأخِي! دعوتُ فلم تُجِبْ، ولرُبَّما
قد كنتَ أسبقَ ناهضٍ لدُعاتِهِ
قد كان عَهْدُك في بَشاشةِ أُنْسِهِ
عَهْدَ الشَّبابِ مَضَى إلى طيَّاتِهِ٢٦
كان الزمانُ يُظِلُّنا برَبِيعِه
فتركتني للقُرِّ من مَشْتَاتِهِ٢٧
أبكِي الشَّبابَ وزَهْوَهُ وصِحابَه
والمُشْرِقَ الوَضَّاحَ من بَسَماتِهِ
كُنَّا كَفَرْعَيْ بانةٍ فَتفَرَّقا
والدَّهْرُ لا يَبْقَى على حَالَاتِه!٢٨
والعُمْرُ أضْيَقُ أن يُمَدَّ لسالِكٍ
إن أوْسَع الْخُطُواتِ في سَاحاتِه
أَصْفَيْتني مَحْضَ الوِدادِ وطَالما
خَلَط المُماذِقُ مِلْحَه بفُرَاتِه٢٩
ورَفَعْتَ من شِعْري، وكنتَ تُحِبُّه
وتُحِسُّ سِرَّ الفَنِّ في أبْياتِه
فاسمَعْه من باكٍ أَطَاع شُجونَه
فَطَغَتْ زَواخِرُها عَلَى مَرْثَاتِه٣٠
نَظَم الدُّمُوعَ فكُنَّ بَحْرًا كامِلًا
وأقام بالزَّفَراتِ تفْعيلاتِه٣١
أَنْشِدْه حَسّانًا إذا لاقَيْتَهُ
في جَنةِ الفِرْدَوْسِ بين رُواتِه٣٢
وافخرْ بقَوْمِكَ أنْ أعادُوا لِلْورَى
عهدَ البَيانِ ومُجْتلى آياتِهِ٣٣
وانعَمْ برضْوانِ الإله وظِلِّه
واسعَدْ بعَيْشِ الْخُلْدِ في جَنَّاتِهِ٣٤
إن الذي خَلَقَ البُكاءَ أغاثَه
باللُّطفِ والإحْسانِ من رَحَماتِهِ

هوامش

(١) الأسوان: الحزين. الدجى: الظلام. النبرة: الصوت. ويريد بالنبرة السوداء: صوته الحزين.
(٢) مصعدًا، أي: متردد النظرات لا يكاد يستقر بصره في بقعة.
(٣) النوب: المصائب تنوب بها الأيام وتصيب. المحاق (بالتثليث): آخر الشهر. وقيل: ثلاث ليال من آخره. أي: إنها نوب مدلهمة حالكة الليالي المحاق كلها سود.
(٤) بنات الدهر: حادثاته وشدائده. زحمن مناكبي: أي أثقلتني لكثرتهن حتى عييت بحملهن. وأد البنت: دفنها في القبر وهي حية، فعلت العرب ذلك مخافة العار والحاجة.
(٥) أودى: مات.
(٦) انحاز: مال. الحداة: الذين يرفعون الصوت بالغناء يستحثون بذلك الإبل على المسير.
(٧) الفلاة: القفر. ويريد بها حيث قبور الموتى.
(٨) الرعيل: القطعة من الجياد شبه به جماعة دار العلوم. نواكسو الأبصار: مطأطئو الرءوس، أبصارهم إلى الأرض.
(٩) ألوى بعزمته: أتى عليها وأوهنها. شماسه: أي عزته وتأبيه وامتناعه. القرم: السيد العظيم، الصهوات: جمع صهوة (بالفتح) وهي مقعد الفارس من الفرس.
(١٠) تئز: تصوت. اللبات: جمع لبة وهي المنحر.
(١١) الطرف: الفرس الكريم. والكلام على المجاز. المخلى سرجه: أي الذي أصبح مكانه من سرجه خاليًا. المنبت: الذي حيل بينه وبين إدراك غايته.
(١٢) الدرع: ثوب ينسج من زرد الحديد يلبس في الحرب وقاية من سلاح العدو (يؤنث ويذكر). المطرح: الملقى. العسر: الشديدة.
(١٣) يكنى بطول اليد: عن السبق إلى الفضل. أبرهم كفًّا: أي أكثرهم جودًا وعطاء. وأسبقهم إلى قصباته، أي: إنه كان أولهم في ذلك. القصبات في الأصل: ما كان ينصب في حلبة السباق، فمن سبق اقتلعها وأخذها ليعلم أنه السابق من غير نزاع.
(١٤) المهند: السيف المطبوع من حديد الهند وهو من أجود السيوف. نصل المهند وشباته: حديدته بحدها.
(١٥) كمنت: توارت واستخفت. الصل: الحية التي لا ينفع مع سمها علاج.
(١٦) العذاة: الأرض الطيبة البعيدة الوخم. ويريد بها منبته الطيب. وهذا البيت والأبيات الثمانية بعده في غرض خاص بالشاعر.
(١٧) الهجير: شدة الحر. الأسلات: الفروع الدقيقة.
(١٨) أذود: أمنع وأطرد. حامت: حلقت ودارت. العذبات: الأغصان.
(١٩) ينفحه: يهب عليه بليلًا. الطل: الندى. الإياة: النور. أي: إن أسباب الحياة والرغد كانت موفورة.
(٢٠) لدان الغصون: اللينة الطرية. الواحد، لدن. استحصدت الثمرات: قاربت النضج وحان لها أن تحصد.
(٢١) أستجلى: أنظر وأتبين. النور: الأزهار، الواحدة، نوره. سناه: تألقه وإشراقه. نفحاته: ما يفوح وينتشر من رائحة العطرة. أشم ريح الخلد: أي ريح الجنة.
(٢٢) يزكو: ينمو.
(٢٣) الهوج: الرياح العاصفة غير المستوية في هبوبها. يريد عصف الموت. المعفر: الذي اختلط بالتراب. الحين: الهلاك. الجناة: ما يجنى.
(٢٤) الحطام: ما تحطم وتكسر. يريد رفاته. محطمًا، أي: مهدود القوى حزنًا. الأفلاذ: جمع فلذة (بالكسرة) وهي القطعة من الكبد. يصف في هذا البيت والأبيات الثمانية قبله فقيده الذي أودى من بعد ما اكتمل وقوي، مشبهًا إياه بالنبت في أدواره المختلفة، ثم يذكر ما كان يبذله في سبيله حتى إذا ما استحصد عدا عليه الموت فاختطفه من بين يديه، أحوج ما يكون إليه، وتركه محطم الأوصال مفتت الكبد حزنًا.
(٢٥) ابن داود: هو سليمان بن داود — عليهم السلام — وقد آتاه الله ملكًا وسلطانًا واسعًا، وسخر له الريح والجن وعلمه منطق الطير. وقد ورد في القرآن الكريم تعدد نعم الله عليه. المنسأة (بالكسرة): العصا. يشير إلى ما يروى أنه — عليه السلام — مات متكئًا على عصاه، وبقي كذلك لا يعرف موته، حتى نخرت عصاه فلم تقو على حمله فخر على الأرض، فعلم أنه ميت.
(٢٦) الطيات: جمع طية، وهي الجهة والمقصد.
(٢٧) ربيع الزمان: أيامه النضرة الطيبة. يريد به أيام الشباب. القر: البرد. المشتاة: زمن الشتاء. ويريد بقر الشتاء أيام الكبر.
(٢٨) البانة: واحدة البان، وهو شجر سبط القوام لينه، ورقه كورق الصفصاف.
(٢٩) محض الوداد: خالصه. أصفاه محض الوداد: صدقه الإخاء والمحبة. المماذق: الكاره الذي لا إخلاص عنده. الفرات: العذب.
(٣٠) الشجون: الهموم والأحزان، الواحد: شجن (بالتحريك). طغت: فاضت وجاوزت الحد. زواخرها: أي كثيرها وعميمها تشبيهًا لها بالبحر الزاخر الكثير الماء. مرثاته، أي: ما أعده لك من شعر يرثيك به.
(٣١) نظم الدموع: ضمها وألفها. بحرًا كاملًا: أي ممتلئًا. ويريد به أحد بحور الشعر المسمى بالكامل، وفي هذا اللفظ تورية ظاهرة؛ لأن القصيدة من هذا البحر. الزفرات: الأنفاس الحارة من الحزن. التفعيلات: الأجزاء التي يتألف منها الشعر.
(٣٢) يريد بحسان: حسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله .
(٣٣) بقومك: أي بأبناء دار العلوم. مجتلى آياته: أي آياته الناطقة البينة المرئية.
(٣٤) رضوان الإله: رضاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤