جُرْحٌ لَمْ يَندَمِل

أنشدت هذه القصيدة في حفلة تأبين المغفور له الشيخ عبد الوهاب النجار في دار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة عام ١٩٤٢م.

أقاموا بعضَ يومٍ فاستقلُّوا
فطار القلبُ يخفِقُ حيثُ حلُّوا١
مضت بهمُ النجائبُ مُصْعِداتٍ
تَمَلُّ بها الطريقُ ولا تَمَلُّ٢
زواملُ لم يُعوِّقُهُنّ ليلٌ
ولم يُثْقِلْ كواهلَهُنَ حِمْل٣
رآهَا آدمٌ، وَعَدَتْ بنُوحٍ
وولَّى بعدَها نَسْلٌ ونسل٤
يسايرهُنَّ أنَّى سِرْنَ بَيْنٌ
ويتبعهُنّ حيثُ ذهبنَ ثُكّل٥
هَوَتْ أمُّ الَّركائب؟ كيف سارت؟
وهل تدري الركائبُ من تُقِلّ؟٦
أسائلها — وقد شطّتْ — وقوفًا
وأيْنَ من الوقوفِ المُشْمَعِلُّ؟٧
طفِقْتُ أمدُّ نحوَ الركبِ طَرْفي
فَغَصَّ الطرفَ كُثْبانٌ ورمل٨
وقمتُ أُطِلُّ من شَرَفٍ عليهم
فخانتني الدمُوُع فما أُطلّ٩
وناديتُ الحبيبَ فعاد صوتي
وفي نَبَراتِه هَلَعٌ وخَبْلُ١٠
أصاخ له من الصحْراء نَجْدٌ
فردّده من الصحراء سهل١١
إذا بدت الغزالةُ ثم غارت
علِمنا أن هذا العيشَ ظِلّ!١٢

•••

هي الدنيا، فليس لها ذِمامٌ
وليس لها على الأيام خِلّ١٣
إذا أعطت فقد أعطت قليلًا
ولا يبقَى القليلُ ولا الأقل!
تدورُ: فبيْنَ شيخٍ أسكتته
مَنيَّتهُ، وطفلٍ يَسْتهِلُّ
لها نَهَلٌ من الأممِ المواضي
ومما تَنْسُلُ الأيامُ عَلّ١٤
نعودُ إلى الترابِ كما بدأنا
فكُلُّ حياتِنا نَقْضٌ وغَزْل!١٥
رأيتُ لكلِّ مشكلةٍ حُلولًا
ومشكلةُ المنيَّةِ لا تُحلُّ!
إذا كان الفَناءُ إلى بقاءٍ
فأنجَعُ ما يُصِحُّك ما يُعِلّ!١٦

•••

بنفسي في الثرى غُصنًا رطيبًا
يرِفُّ من الشبابِ ويَخضَئل!١٧
تُضاحكُه لدى الإصباحِ شمسٌ
ويلثِمه لدى الإمساء طَلّ١٨
كأنّ حَفيفَه نَضْرًا وريقًا
بسمعي حَلْيُ غانية يصِلُّ١٩
يميلُ به النسيمُ كأنّ أُمًّا
يميلُ بصدرِها الخفَّاقِ طفلُ
إذا اشتبهت غُصُونُ الروضِ شكْلًا
فليس لقدِّه في الحسنِ شكلُ٢٠
ضَننْتُ به وجُدتُ له بنفسي
وإنّ الحبَّ تبذيرٌ وبُخل
وكنتُ أشمُّ ريحَ الخُلْدِ منه
وأهنأ في ذَراه وأستظِلّ٢١
وقلتُ: لَعلّه يبقَى ورائي
بدَوْحَتِه، فما نفعت «لَعلّ»
فَسَلْ عنه العواصفَ: أيُّ نَوْءٍ
أطاح به؟ وأيُّ ثَرَى يحُلّ؟٢٢
نأَى عنّي وخلّف لي فؤادًا
يذوبُ أسًى عليه ويضمحلُّ٢٣
يُبلُّ على التداوي كلُّ جُرْحٍ
وجُرْحُ القلبِ دامٍ لا يُبِلّ!٢٤

•••

أشرتم بالرثاء فهجتموني
وتعذيبُ الذبيحةِ لا يحِلُّ
فضلَّ الشعرُ في وادي الثُكالَى
وكان إذا تحفَّز لا يضِلّ٢٥
خذوا مني الرثاءَ دموعَ عينٍ
تَكِلُّ المعُصْرِاتُ ولا تكِلّ٢٦
وآلامَ الجريح، أطلّ نَبْلٌ
يزاحم جانبيْه وغار نَبل٢٧
وشعرًا يُلهبُ الأشجانَ جَزْلًا
كما أذكَى لهيبَ النارِ جَزْل٢٨
فليس له مع الأنّاتِ خَبْنٌ
وليس به مع الزفَرات خَبْلُ٢٩
له نَغَمٌ يعِزُّ عليه مِثْلٌ
على ماضٍ يَعِزُّ عليه مثلُ
لعل به لمن فُجعوا عزاءً
فإنّ جميعَنا في الحزنِ أهل
فقد يشفي بكاءٌ من بكاءٍ
كما يشفى أليمَ الْجُرْحِ نَصْلُ٣٠
بكى خيرُ البريةِ خيرَ طفلٍ
ودمعُ العينِ في الأحداثِ نُبل٣١

•••

مضى «النجارُ» والعلياء حِصْنٌ
عليه بعده بابٌ وقُفْل
به جمع الحجا للعلمِ شَمْلًا
فبُدِّد بعده للعلم شمل٣٢
له حججٌ يُسمِّيها كلامًا
وما هي غيرُ أسيافٍ تُسَلّ
إذا فاضت ينابعُه خطيبًا
علمتَ بأن ماءَ البحرِ ضَحْل
يذِلُّ له شَموسُ القوْلِ طوْعًا
ويستخذِي له المعنى المُدِلّ٣٣
بيانٌ مشرقُ اللمحاتِ زاهٍ
وقولٌ صادقُ النّبرَاتِ فَصْل٣٤
وآياتٌ ترى فيها «ابنَ بحرٍ»
يصولُ كما يشاءُ ويستدلُّ٣٥
يفُلُّ شَبا الخصومة كيف كانت
برأيٍ كالمهنّدِ لا يُفَلّ٣٦
فذاك الفضلُ، جلّ اللهُ ربّي!
فليس يُحَدُّ للرحمنِ فضل
رأيتكَ والردَى يدنو رويْدًا
إليكَ كما دنا للفتك صِلُّ٣٧
فوجهُك ذابلٌ، والصمتُ هَمْسٌ
ومشيُك واهنُ الْخُطَواتِ دَأْل٣٨
تجرُّ وراءكَ السبعين عامًا
وللسبعينَ أَرْزاءٌ وثِقْل٣٩
مشيتَ كأَنّ رِجْلًا في بساطي
تسيرُ بها، وفوق القبرِ رِجْل
أتيتَ تزورني فهُرِعْتُ أسعَى
إليكَ، ودمعُ عيني يستَهل٤٠
وكان عِناقُنا لمّا افترقنا
وَثَاقًا للمودّةِ لا يُحَلُّ
ذممتَ لِيَ المشيبَ وفيه حَزْمٌ
وأطريتَ الشبابَ وفيه جهل
وأين الْحَزْمُ ويْحَكَ يا ابنَ أُمِّي
إذا ما خانني جسمٌ وعقل؟
أتذكرُ إذ تَمَازَحْنَا لتنسَى
وقد أدركتَ أنَّ المزحَ خَتْل؟٤١
إذا أَمَلَ الفتَى فالهزلُ جِدّ
وإن يئِسَ الفتَى فالْجِدُّ هزل
فديتك! هل إلى الأخرَى بَريدٌ؟
وهل لتزاورِ الأرواحِ سُبْل؟٤٢
وهل يبقَى الفَتَى بعد المنايا
له بالأهلِ والإخوانِ شُغْل؟
وهل تصِلُ الدُّموعُ إلى حبيبٍ
ويعلَمُ حُرْقَةَ الأشجانِ نَجْل؟٤٣
وهل لي بينَ من أهوَى مكانٌ
إذا قوَّضْتُ رحلي أو مَحَلُّ؟٤٤
وهل في ساحةِ الجنّاتِ نهرٌ
يزول بمائهِ حِقْدٌ وغِلّ؟٤٥
وهل إن ساءل الأحياءُ قبرًا
يُجابُ لصيحةِ الأحياء سُؤْل؟
لقد جلّ المصابُ، وجلّ صبري
عليكَ، وأنت من صبري أَجَلّ!
فقم واخطب بحفلِك، كم تَغَنَّى
وهام بصوتِكَ الرنّانِ حَفْلُ!
وذكَرْنا اليقينَ فكم عقولٍ
تكادُ عليك من شَجَنٍ تَزِلّ
وقل: إنّ الفناءَ إلى خلودٍ
وإنَّ زخارفَ الأيامِ بُطْل٤٦
وإنّ الموتَ إطلاقٌ لروحٍ
معذَّبةٍ، وإنَّ العيشَ غُلّ٤٧
شبابُ المسلمين بكلِّ أرضٍ
عليكَ ثناؤهم فرضٌ ونَفْلُ٤٨
أخذتَ عليهِمُ للحقِّ عهدًا
فوَفَّوْا بالعهودِ وما أخلّوا
شبابٌ إن دعا القرآنُ شُمْسٌ
وإن تستصرِخ النّجدَاتُ بُسْل٤٩
بنو العرب الذين عَلَوْا وسادوا
سما فرعٌ لهم واعتزَّ أصل٥٠
فنم ملءَ الجفونِ «أبا صلاحٍ»
ففي الجناتِ للأبرارِ نُزْل٥١
يطوفُ بقبرِك الزاكي سلامٌ
وينضَحُه من الرَّحَماتِ وَبْل٥٢
وهاك رثاء محزونٍ مُقِلٍّ
وما أوْفَى إذَا بذلَ المُقِلّ!٥٣

هوامش

(١) أقاموا: نزلوا وحلو. استقلوا: مضوا وارتحلوا. حلوا: حيث نزلوا.
(٢) النجائب: الإبل السريعة والمقصود بها مواكب الموتى.
(٣) زوامل: الإبل الحاملة للطعام والمتاع. كواهلهن: عواتقهن وهو ما بين الكتفين. حمل: ثقل.
(٤) عدت: جاوزت.
(٥) بين: فراق. ثكل: فقدان.
(٦) هوت: سقطت. أم الركائب: التي تتقدم الركب. تقل: تحمل.
(٧) شطت: جاوزت الحد. المشمعل: النشيط، المسرع.
(٨) طفقت: جعلت. أمد: أنظر. طرفي: عيني. غص: امتلأ.
(٩) شرف: علو، مكان عال. أطل: أنظر.
(١٠) خبل: فساد.
(١١) أصاخ: استمع. نجد: ما ارتفع من الأرض. سهل: الأرض المنبسطة.
(١٢) الغزالة: الشمس. غارت: ولت وغربت. ظل: المقصود غير حقيقي.
(١٣) زمام: عهد، حرمة. خل: صديق.
(١٤) نهل: مورد. عل: توقع. وأصله لعل.
(١٥) غزل: غزل الخيط هو إبرامه. ونقض: ضد الغزل.
(١٦) أنجع: أصح. يصحك: يشفيك. ما يعل: ما يصيبك بالعلة.
(١٧) يرف: يرفرف. يخضئل: تكثر أغضانه وأوراقه. وفي هذا البيت وما بعده يصور الشاعر ذكريات له أليمة بعد وفاة نجله البكر في أول مراحل الشباب (عام ١٩٣٥).
(١٨) يلثمه: يقبله. طل: ندي.
(١٩) حفيفه: صوته. نضرًا: حسنًا يافعًا مخضرًّا. وريقًا: كثير الأوراق الخضراء الحسنة. حلي: ما تتحلى به المرأة. يصل: يصدر صوتًا عندما يحتك ببعضه.
(٢٠) قده: قوامه.
(٢١) ذراه: كنفه.
(٢٢) نوء: ريح شديدة. أطاح: قذف به بعيدًا.
(٢٣) نأى: بعد. يضمحل: يذهب ويضعف ويندثر.
(٢٤) يبل: يبرأ. دامٍ: ينزف دمًا.
(٢٥) الثكالى: الحزانى على فقدهن أبنائهن. تحفز: تهيأ.
(٢٦) تكل: تتعب. المعصرات: السحائب تعتصر بالمطر.
(٢٧) غار: اختفى ودخل. نبل: سهل.
(٢٨) جزلًا: رصينًا. أذكى: أشعل. جزل: الحطب اليابس.
(٢٩) خبن: سقوط أحد الأحرف، حذف الثاني الساكن في الشعر. خبل: حذف السين والفاء من مستفعلن في البسيط والرجز من بحور الشعر.
(٣٠) نصل: حد السيف أو السكين والمقصود مشرط الجراح.
(٣١) خير طفل: يريد به «إبراهيم» بن سيدنا محمد لما توفي قال: «إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.»
(٣٢) الحجا: العقل. شمل: ما اجتمع من أمره.
(٣٣) يذل: يخضع. شموس القول: الألفاظ الفصيحة المنيرة كالشمس. طوعًا: منقادة له. المدل: الذي يدل على المعنى.
(٣٤) فصل: قاطع.
(٣٥) ابن بحر: الجاحظ الكاتب العربي الشهير.
(٣٦) يفل: يكسر. شبا: حد الشيء. المهند: السيف. لا يفل: لا يكسر.
(٣٧) الردى: الموت. يدنو: يقترب. رويدًا: تمهلًا.
(٣٨) واهن الخطوات: ضعيف المشي. دأل: مشي الضعيف من مرض أو كبر.
(٣٩) أرزاء: مصائب. ثقل: ضد الخفَّة.
(٤٠) هرعت: أسرعت. يستهل: يبدأ في الهطول.
(٤١) ختل: خداع.
(٤٢) سبل: طرق.
(٤٣) الأشجان: الأحزان.
(٤٤) قوضت: كسرت وهدمت.
(٤٥) غل: غش وحقد.
(٤٦) بطل: كذب وباطل.
(٤٧) غُلّ: ضيق، مقيد.
(٤٨) فرض: فريضة واجبة. نفْلُ: تطوع.
(٤٩) تستصرخ: تستغيث. بسل: شجعان.
(٥٠) سما: علا وارتفع. أصل: حسب ونسب.
(٥١) نزل: مكان للإقامة الدائمة.
(٥٢) الزاكي: ذو الرائحة الطيبة. ينضحه: يرشه. وبل: مطر شديد.
(٥٣) مقل: يعد شعره قليلًا بالنسبة لما يستحق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤