وفاء صديق

بعث الشاعر بهذه القصيدة إلى صديقه الدكتور علي توفيق شوشة وكيل وزارة الصحة اعترافًا بفضله في استئصال الأوبئة بمصر سنة ١٩٤٧م.

نَظَمْتُ لآلىءَ الفِردوْسِ عِقدا
ومن ذهب الأصيلِ وشيْتُ بُرْدا١
وسار مع النسيم نسيمُ شعري
فكان أرقَّ أذيالًا وأندَى٢
غلائلُه ترِفُّ بكلِّ أرضٍ
فتنشرُ حوله مسكًا ونَدَّا٣
تلقَّاه الخمائلُ ضاحكاتٍ
تهزّ معاطفًا وتمُدّ خَدَّا٤
ويرقُمُ في الغديرِ سطورَ وَحْيٍ
وعاها الطيرُ حين شدا فأشْدى٥
وكم همست بِمسمعه غصونٌ
فردَّد همسَها وَلَهًا ووجدا٦
إذا ما الشعرُ كان شعاعَ نورٍ
أعار الشمسَ إشراقًا وخُلْدا
يشيبُ فيستردَّ صِباهُ غضَّا
وما أحلى الشبابَ المستَردَّا٧
طوَى الدنيا فليس الوعرُ وعرًا
لوثبته، وليس النجدُ نجدا٨
إذا كفُّ الزمانِ رمت رماها
وإن جدّت به الأحداثُ جدَّا٩
وإن بسمت له الدنيا سمِعنا
نشيدًا يملأ الأطيارَ حِقدا
تمنَّتْ أنْ يَكونَ لها صداهُ
فصعرَ خدَّه ونأَى وصدَّا١٠
وأين لمثلها وترٌ مُرِنٌّ
من الإلهامِ إحكامًا وشَدَّا؟١١
يغرِّدُ للخلودِ بكل أُفْقٍ
وما عرفت له الآفاقُ حدَّا
لمستُ جَناحَه رفقًا فوافَى
وأغريتُ الوِدادَ به فودّا١٢
له حبُّ القلوبِ فليس يطوَى
وماءُ المقلتين فليس يصدى١٣
أداعبُه فيصدَحُ عبقريًّا
فتمتدّ الرقابُ إليه مدَّا
ضننتُ به فلم يهتِف بعمروٍ
ولم تستهوِه بَسَماتُ سُعدَى١٤
وصُنتُ لهاتَه عن كل لغوٍ
له خدّ الفتى العربيّ يندَى١٥
تلثّم بالإباءِ فعاش حرًّا
ولو عرف الرياءَ لمات عبدًا
يهزّ حميَّةَ الفتيان نصلًا
ويحشُدُ رابضَ العزمات جُندا
ويُشعِلُ في القلوبِ وميضَ نارٍ
كنيرانِ «الكليمِ» هُدًى ورشدا١٦
ويشدو بالمروءة إن تراءت
وبالصنع الجميل إذا تبدّى
تلفَّت حوله فرأى (عليًّا)
ولم يبصر له في الطبِّ نِدَّا
حوى هِمَمَ الرجال فكان جَمْعا
وأفرد بالنبوغ فكان فَرْدا
عزيمته ترد الغِمدَ سيفا
وحكمتهُ تردُّ السيفَ غمدا
يُحَبُّ دَماثةً ويُهاب خوفًا
كغَمْرِ السيلِ خيف وطاب وِرْدا١٧
وفاءٌ لو تَقَسَّم في الليالي
لما نقضت لراجيهِن عهدا
وعلمٌ يملأ الآفاقَ نورًا
وذِكْرٌ يملأ الأيامَ حمدا
وصولةُ حازمٍ ما حاد يوْمًا
عن القصد السويِّ ولا استبدا
وفكرٌ يلمَحُ الأقدارَ حتى
يكادَ يردُّها للغيْبِ رَدَّا
ووجهٌ مشرقُ القَسمَاتِ سَمْحٌ
يَفيضُ بشاشةً ويلوحُ سعدا
رآه الصبحُ منه فزاد حُسنًا
وغار البدرُ منه فزاد سُهدا
دنا كالشمس حين دنت شعاعًا
وحلّق مثلَها في الأفق بُعدا
فلم نعرف له في الفضلِ قبْلًا
ولم نعرف له في النُّبْل بَعْدا
فتى مصرٍ وهل تلقى بمصرٍ
فتًى أمضى وأورى منه زَنْدا؟١٨
تدارك مصرَ (والميكروبُ) يطغَى
وينفثُ سُمَّه ويؤُدُّ أدَّا١٩
طوىَ آجالَ أهليها هَباءً
وبدَّد نسلَها فتكًا ووأدًا٢٠
فشدّ عليه مقدامًا جريئًا
كما هيّجتَ يوم الرَّوْع أسدا
تحدّاه وصال ولو سواه
أراد لما استطاع ولا تحدّى
فطهّر أرضها وحمى حِماها
وصان شبابَها وهدى وأهدَى
تطيرُ بها البعوضةُ وهي تدري
بأنّ وراءَها للموْتِ حَشْدا
ويمشي القَمْل (والدي دي) رَصيدٌ
يُصوِّبُ خلفه السهمَ الأسدَّا٢١
وما طَنُّ الذبابِ سوى نُواحٍ
وقد حصدته أيدي العلم حصدا
إذا الحشراتُ في مصرٍ تصدّت
مُناجِزةً، فأنت لها تصدَّى
أننسى (الجامبيا) والموتُ فيها
يزمجرُ، والقلوبُ تذوب كَمْدا؟٢٢
وكاد اليأسُ يُوهِنُ كلَّ عزمٍ
ومصرُ تصارعُ الخصمَ الألدَّا٢٣
فخضتَ غِمَارها صَمدًا همامًا
ورُعت بها جيوش الموت جَلْدا٢٤
وأنْقَذتَ الكِنانة مِنْ فناءٍ
وكنتَ لقومك الركنَ الأشدَّا
نُحيِّي المرء إن نجَّى حياةً
فكيف إذا نجا الوطنُ المفدَّى؟
فعش للطبِّ والفُصحى إمامًا
وكن لكليهما عَضُدًا وزَندا٢٥
مدحتُك كي أُشيدَ بمجد مصرٍ
وأرسُمَ للشبابِ النهجَ قَصْدا٢٦
وليس ينالُ شَأْوَك وصفُ شعري
ولو أفنيتُ عمر الشعر كدَّا٢٧
ومن أحصَى مآثرك الغوالي
فقد أحصى نجومَ الليل عدَّا

هوامش

(١) لآلئ الفردوس: درر من الجنة. ذهب الأصيل: المقصود لون الذهب في حمرته مثل لون الشمس في السماء فيما بين العصر والمغرب. وشيت: نسجت. بردًا: كساء تلبسه العرب.
(٢) أرق أذيالًا: أحسن أطرافًا. أندى: أسخى.
(٣) غلائله: الأثواب الشفافة. ترف: تتحرك. ندًّا: الطيب.
(٤) معاطفًا: جوانبًا.
(٥) يرقم: يكتب. وعاها: حفظها. أشدى: أجاد الشدو.
(٦) ولهًا: شدة الوجد. وجدا: الحب والهيام.
(٧) غضّا: طريًّا.
(٨) الوعر: جبل ويقال للشيء الصعب. النجد: ما ارتفع من الأرض.
(٩) جدت به الأحداث: عظمت به الأمور. جدا: عظم واجتهد.
(١٠) صعر خده: اسكتبر واستعظم. نأى: بعد. صدا: أعرض.
(١١) وتر: هو وتر العود. مرن: له صوت رنان.
(١٢) وافى: أعطى. ودا: أحب.
(١٣) حب القلوب: سويداؤه وثمرته. يطوي: يجوع. المقلتين: العينين؛ لأن المقلة هي شحمة العين التي تجمع البياض والسواد. يصدى: يعطش.
(١٤) عمرو وسعدى: أسماء عربية. يقصد أنه ضن بشعره أن ينزلق إلى قصص الغرام وحديث الغزل.
(١٥) لهاته: اللهاة هي الزائدة اللحمية في سقف الحلق والمقصود حديثه وقوله وشعره. يندى: يبتل. المقصود من العرق خجلًا.
(١٦) الكليم: سيدنا موسى — عليه السلام — لأنه هو الرسول الذي تكلم الله معه.
(١٧) كغمر السيل: كماء السيل الكثير. خيف: خيف منه. وردًا: منهلًا للماء.
(١٨) أورى: يقال: أورى زنده أي: زاد وقوي. زندا: طرف الذراع حتى الكف.
(١٩) يؤد: يقطع ويميت.
(٢٠) طوى آجال: قضى على أعمار الناس. وأدا: دفن الحي.
(٢١) الدي دي: هي مادة اﻟ (د. د. ت) التي تقتل الحشرات برشها في الأماكن الموبوءة.
(٢٢) الجامبيا: يقصد بعوض الجامبيا وقد اجتاحت جنوب مصر حينئذٍ في وباء شديد إذ تنقل مرض الملاريا الخبيثة، كمدًا: حزنًا مكتومًا.
(٢٣) الألدا: شديد الخصومة.
(٢٤) صمدا: سيدًا همامًا صامدًا. رعت: أخفت. جلدًا: صلبًا قويًّا.
(٢٥) عضدًا: الساعد. زندا: هو موصل طرف الذراع من الكتف والمقصود عونًا قويًّا للطب وللغة العربية.
(٢٦) النهج: الطريق.
(٢٧) شأوك: مكانتك. كدَّا: تعبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤