إبراهيم بطل الشرق

بمناسبة مرور مائة عام على وفاة إبراهيم باشا، وإزاحة الستار عن لوحة نقشت على قاعدة تمثاله المقام بميدان الأوبرا بالقاهرة عام ١٩٤٨م.

طُموحٌ! وإلَّا ما صِراعُ الكتائبِ؟
وعَزْمٌ! وإلَّا فيمَ حَثُّ الركَائبِ؟١
إذا المجد لم يترك وراءَكَ صَيحةً
مُدَوِّيَةً، فالمجدُ أوهامُ كاذبِ
يخَوضُ الهمامُ العبقري بِعزمهِ
ظلامَ الفيافيِ في ظلامِ الغَياهبِ٢
وأرْوَعُ ما تهفو له العينُ رايةٌ
تُداعبها الأرواحُ في كَفِّ غَالبِ
وكم بَطلٍ في الأرضِ غابَ وذكرهُ
يُحلِّق في الآفاقِ ليسَ بغائبِ!
يُدوِّنُه الميلادُ بينَ لِداتِهِ
ويكتُبه التاريخُ بينَ الكواكبِ٣
وما مَاتَ من أبقى لمصر مجادةً
تُطاول أعنانَ السماءِ بغاربِ٤
حمَاهَا بعزمٍ لو رأَتْه قَواضبٌ
لأضحَى سناهُ حسرةً في القواضبِ٥
ومن مثل إبراهيم إن حمي الوغَى
وأمطرت الأرضُ السماءَ بحاصبِ٦
صَواعِقُ تلقى للحتُوفِ صَواعقًا
وسُحْبٌ عُجَاج تلتقي بسحائبِ٧
وزمزمةٌ تُنسي الرعودَ هزيمَها
وتثقب آذانَ النجومِ الثواقبِ٨
سلُوا عنه «عكا» إنَّها إن تكلَّمتْ
معَاقلُها حدثتكُمْ بالعجائبِ٩
رماهَا بجيشٍ لو رمَى مشرِقَ الضُّحى
لفر حسيرَ الطرفِ نَحو المغاربِ١٠
رماهَا فتى لا يعرف الشك رأيه
ويعرف بالإلهَام سرَّ العواقبِ١١
ممنعةٌ ما راضَها عزمُ قائدٍ
وعذراءُ لم تَظْفَرْ بها كَفُّ خَاطبِ١٢
أتاهَا «بنوبارتٌ» يُداوي ندوبَهُ
وآبَ يصُك الوجه صَكّ النوادِبِ١٣
أتاهَا يجُر الذَّيلَ في تيه واثقٍ
فعادَ يَجُر الذَّيلَ في خِزي خَائبِ١٤
رآهَا وفي العنقودِ والكرم ما اشْتهَى
وأيْنَ من العنقُودِ أيدِي الثعالبِ؟١٥
وكم وضَعت مِنْ إصْبعٍ فوقَ أنفها!
وكم غمزَتْ أسوارُهَا بالحواجبِ!
رأت فاتحَ الدنْيا يفرُّ جبانةً
ويُلْقِي على الأقدار نظرةَ عاتبِ١٦
ولكنَّ إبراهيم في الروْعِ كوكبٌ
إذا انقضَّ فالآطام لُعبة لاعبِ١٧

•••

ويوم «نصيبين» التي قامَ حولها
بنُو التركِ والألمانُ حُمْرَ المخَالبِ١٨
عَلاهَا فتى مصرٍ بضربةِ فيصلٍ
ولكنَّها للنصرِ ضربة لازبِ١٩
فريعَ لها البوسفورُ وارتَج عرشُه
وصاحت ذَئابُ الشرِّ من كلِّ جانبِ٢٠
أبى الغربُ أن تختَال للشرقِ رايةٌ
وأن يقفَ المسلوبُ في وجه سالبِ٢١
أيُدْعَى سليلُ الشرقِ للشرق غَاصِبًا
ومغتالُه في الغربِ ليسَ بغاصبِ؟٢٢
سياسةُ حِقْدٍ أيَن من نفثاتِهَا
لعاب الأفَاعِي أو سموم العقاربِ؟٢٣

•••

حنَانًا لإبراهيم لاقى كتائِبًا
من الكيدِ لم تَعْرِف نضَالَ الكتائبِ
غزُوه بجيشٍ بالدهاء مُحارِبٌ
ولكنَّه بالسيف غير محاربِ
فما ليَّنُوا منه قناةً صليبةً
ولا كدَّرُوا من صفو تلك المناقبِ٢٤

•••

عرفنا لحاميِ القبلتيْنِ جهادَهُ
وكَمْ هانَ مطلوبٌ لعزَّةِ طَالبِ٢٥
له العُرْبُ ألقت في إباءٍ زِمَامَها
وكانت سَرَابًا لا يُنالُ لشاربِ٢٦
فوحَّدهَا في دولةٍ عربيةٍ
تُزاحم في ركب العُلَا بالمناكبِ٢٧
يقولون: قِفْ بالجيش ماذَا تريدُه؟
وماذا تُرجِّي من وَرَاء السباسب؟٢٨
فقالَ: إلى أَنْ تنتهي «الضادُ» أنتهي
وحيث تسيرُ العُرْبُ تسري نجائبِي٢٩
لقد زُهيت مصر بباعثِ شعبِها
لكسب المعَالي واقتناءِ الرغائبِ٣٠
وكَمْ كتبَ التاريخُ لابن محمدٍ
خَوالِدَ، والتاريخُ أصدَقُ كاتبِ٣١
وكَمْ صانَ مصرًا من بنيه مملكٌ
بعيد منال العزمِ جَمَّ المطَالبِ٣٢
شمائلُ «فاروقٍ» وعزَّةُ ملكِه
تَزِيدُ جَلالًا في جلال المناسبِ٣٣

هوامش

(١) الكتائب: الجيوش. حث: حض. الركائب: الفرسان.
(٢) ظلام الفيافي: ظلمة الصحراء الموحشة. ظلام الغياهب: ظلمة الجهول.
(٣) يدونه: يسجله. لداته: نظائره.
(٤) مجادة: مجدًا تليدًا. أعنان السماء: آفاق السماء. بغارب: المقصود الطويل الشامخ.
(٥) قواضب: الأشجار الممتدة الأغصان. سناه: ضوءه.
(٦) حمي الوغى: اشتد القتال. بحاصب: الريح الشديدة تثير الحصباء.
(٧) صواعق: نار تسقط عليهم من السماء. الحتوف: الموت. عجاج: مليئة بالدخان والغبار.
(٨) وزمزمة: صوت الرعد. هزيمها: صوتها. الثواقب: المضيئة.
(٩) عكا: مدينة عكا وقد فتحها إبراهيم باشا. معاقلها: حصونها.
(١٠) حسير الطرف: كليل النظر ملهوفًا. المغارب: أي في جهة الغرب.
(١١) الشك: الريبة والظن. الإلهام: ما يلقى في الروح. سر العواقب: ما يؤول إليه آخر الشيء.
(١٢) ممنعة: ممنوعة الفتح على القواد قبله. ما راضها: استعصت على القواد.
(١٣) بونابرت: يقصد نابليون بونابرت حينما أراد فتحها فاستعصت عليه. ندوبه: أثر الجراح. آب: عاد. يصك الوجه: يلطم وجهه. النوادب: النساء الباكيات على الميت.
(١٤) تيه: تكبر. في خزي خائب: في ذل وهوان ولم ينل مطلبه.
(١٥) العنقود: واحد عناقيد العنب. الكرم: شجر العنب. يشير إلى قصة الثعلب والعنب الشهيرة.
(١٦) فاتح الدنيا: المقصود نابليون بونابرت. جبانة: خوفًا. عاتب: لائم.
(١٧) الروع: القتال. الآطام: السيل المرتفع الأمواج تتكسر بعضها على بعض.
(١٨) نصيبين: معركة انتصر فيها إبراهيم باشا. حمر المخالب: صبغت أيديهم باللون الأحمر وهو لون الدماء.
(١٩) علاها: استولى عليها. فتى مصر: إبراهيم باشا. بضربة فيصل: بضربة قوية مسددة في إتقان. لازب: ثابت.
(٢٠) ريع لها: خاف واهتز. البوسفور: كناية عن تركيا. ارتج عرشه: اهتز ملكه.
(٢١) أبى: رفض. الغرب: كناية عن دول أوروبا الغربية. المسلوب: المسروق. سالب: المختلس.
(٢٢) سليل الشرق: ابن الشرق والمقصود إبراهيم باشا. غاصبًا: آخذًا للشيء ظلمًا. مغتاله: قاتله خدعة.
(٢٣) نفثاتها: ما ينفثه الشخص من فيه.
(٢٤) لينوا: جعلوه لينًا. قناة صليبة: رمحًا شديدًا لا يلين. المناقب: الصفات الحسنة.
(٢٥) حامي القبلتين: لقب إبراهيم باشا والمقصود المسجد الحرام والمسجد الأقصى.
(٢٦) إباء: عزة. زمامها: قيادتها. سرابًا: ما يرى في منتصف النهار على أنه ماء في الصحراء وليس بماء.
(٢٧) المناكب: عظم العضد والكتف.
(٢٨) ترجي: تأمل. السباسب: الأرض المستوية أو المفازة.
(٢٩) «الضاد»: لغة الضاد أي: اللغة العربية. نجائبي: الركائب التي يركبها الجيش.
(٣٠) زهيت: افتخرت. الرغائب: الشيء المرغوب.
(٣١) «محمد»: محمد علي باشا. خوالد: الدائمة البقاء.
(٣٢) بعيد منال العزم: قوي العزيمة. جم: كثير.
(٣٣) شمائل: الصفات. فاروق: آخر ملوك مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤