ميلَادُ الأميرَة فِريال

أنشدت بدار الأوبرا في الحفلة التي أقامتها دار الإذاعة المصرية ابتهاجًا بمولد الأميرة فريال، أولى بنات الملك السابق فاروق في أول أيام عيد الفطر سنة ١٣٥٧ﻫ/١٩٣٧م.

بَيْنَ صَحْوِ المُنَى وحُلْمِ الخَيالِ
سَبَح الشعرُ في سماء الجمالِ
ومضَى سانحًا يهزُّ جَنَاحَيـ
ـهِ عَلَى شاطئ السِنِينَ الخوالي١
لمح الدهرَ وهو يحبو من المَهـ
ـدِ، عليه غَدائرٌ من ليالي٢
وأزاح التاريخُ عن عَيْنِهِ الحُجـ
ـبَ، فَمَرَّتْ تخُوض في الأجيال
ورأى الشمسَ طِفْلة تُرْسِلُ الأضـ
ـواءَ فوقَ الكُهوفِ والأدْغال
صَفَحاتٌ من الزمانِ توالَى
وهو يتلو سُطورَها بالتوالي
وتصاويرُ للحوادثِ تبدو
في شَتيتِ الألوانِ والأشكال٣
وإذا رَنَّةٌ، كما تضحَك الآ
مالُ، بعد النوى وطولِ المِطالِ٤
وقف الشعرُ شاخصًا حين مَسَّتـ
ـهُ بسحر من الفُنونِ حَلال٥
نَغَماتٌ لم يعهَدِ الروضُ مِثْلًا
لِصَدَاها بين الربا والظلال
ولُحونٌ لها مِثالٌ عجيبٌ
أو إذا شِئْتَ قُلْ بغيرِ مِثالِ٦
بَيْنَ عُودٍ كم هزَّ أعطافَ رَمْسِيـ
ـسَ، وحَيَّا مَواكِبَ الْأَقْيالِ٧
ودُفوفٍ عَزَفْنَ لابْنَةِ فِرْعَوْ
نَ، فماسَتْ بينَ الهوَى والدلالِ
ومَزاميرَ أُطْلِقَتْ من فَمِ السحـ
ـرِ، فمادَتْ لها رَواسِي الجِبالِ٨
وَرَنَتْ كُلُّ سَرْحَةٍ تَسْرِقُ السمـ
ـعَ، وتَعْطُو بغُصْنِها الميَّالِ٩
وأهازيجَ رَدَّدَتْها الأزاهيـ
ـرُ، وغَنَّى بها نسيمُ الشَّمال١٠
ذُهِلَ الشعْرُ، فاستفاق، فألفَى
موكِبًا حُفَّ بالسنا والجلال١١
ساطعاتُ الشمُوس فيه مَشَاعِيـ
ـلُ، وأَضْوَاؤهُ بناتُ الهِلال١٢
زَحَمَ الأرضَ بالجِيادِ، وغَشَّى
صَفْحَةَ الجَوِّ بالظُّبا والعَوالي١٣
وهَفَتْ رايةٌ على قِمَّةِ النجْمِ،
وَرَفَّتْ فوقَ السحابِ الثقال١٤
مَوْكِبٌ يجمعُ الشعوبَ، وتمشي
تحت أعلامِهِ العُصورُ الأوالي١٥
سار فيه المُلوكُ من كُلِّ جِيلٍ
في احتفاءٍ ضافي السنا واحتفالِ
ذاك مِينا، وذاك عَمْرٌو فَتَى العُرْ
بِ، وهذا المُعِزُّ جَمُّ النوال١٦
وَبَدا بينَهُمْ محمدٌ الأَكْبَر،
مُحْيِي البلادِ مُنْشِي الرجال١٧
صادعُ الجهل، هادمُ الظلمِ في مِصـ
ـرَ، مُبيدَ القُيودِ والأغلال١٨
خَلْفَهُ زِينةَ الخلائفِ إسْما
عيلُ، ذُخْرُ المُنَى أبو الأشبال١٩
وفؤادٌ مُجدِّدُ الجِيلِ والآ
مالِ، سِرُّ العلا والاستقلال٢٠
سأل الشعْرُ أينَ يقصِدُ هذا الرّ
رَكْبُ، بعد الطوافِ والتجْوال؟
فأجابَتْ مِنْ فوقهِ هاتفاتٌ
تملأُ الجوَّ، واضِحَاتُ المَقال
أَسْرِعُوا نحوَ عابدينَ مَقامِ الـ
ـمُلْكِ والنُّبْلِ والنجارِ العالي٢١
وَقَفَ الرَّكْبُ عِنْد سُدَّةِ فارو
قٍ، فكانَتْ نهايةَ الترْحالِ٢٢
ورأى الشعْرُ مَحْفِلًا لمُلوكِ الدّ
دَهْرِ ما مَرَّ مِثْلُهُ بِخْيال
جلسوا جاذلِينَ، بَيْنَ ابتهاجٍ
ضاحكٍ كالمُنى وبَيْنَ ابتهال٢٣
ثمَّ نادَى ذو أمْرِهِمْ: «نحن في يو
مٍ سعيدِ الغُدُوِّ والآصال»٢٤
«يَوْمُ يُمْنٍ لِمصْرَ، ليس له مِثـ
ـلٌ، ولا جَالَ للدهُورِ ببال»
«وُلِدَ المجدُ، فيه والشرَفُ السا
مي، ونُور الحِجا ونُبْلُ الخِلالِ»٢٥
«نَجَلَ السيِّدُ المُمَلَّكُ فيهِ
فَهَناءً بأكْرم الأنجال»٢٦
«قد سَعَيْنا لِسُوحِهِ فقضَيْنا
حاجةً في نفوسِنا للمعَالي»٢٧
بُهِرَ الشعْرُ فانْثَنَى يَلثِمُ الأرْ
ضَ، ويَدْعُو بالعِزِّ والإقبال
وشدا مِثْلَما شَدَتْ بِنْتُ أيْكٍ
بَيْنَ ظِلٍّ وكَوْثرٍ سَلْسالِ٢٨
نَعِمَتْ بالأليفِ، لا هو ناءٍ
إن دَعَتْهُ يوْمًا، ولا هُوَ سَالِي٢٩
لم ترَ النسْرَ في مَخَالِبِهِ الزرْ
قِ، ولا رُوِّضتْ بصَيْدِ حِبال٣٠
تحتَها الزهْرُ فاتِنُ اللونِ رَفَا
فٌ جَميمُ الندى دَمِيثُ الرمال٣١
صَدَحَتْ للدُّجَى، وللَّيْل حُسْنٌ
حينَ يَطْوِي الْوجودَ في سِرْبال٣٢
صَدَحَتْ للصباح يلمَعُ في الشرْ
قِ، طَهُورًا كَبَسْمَةِ الأطفالِ
إنَّ للطبْعِ والبَديهَةِ سِحْرًا
فوقَ طَوْقِ الجُهُودِ والإيغال٣٣

•••

غَرِّدِي كيفَ شِئْتِ يا سَرْحَةَ الوا
دِي، وهُزّي فضْلَ الغُصونِ الطوال٣٤
واجْمَعِي اليَوم كلَّ ذاتِ جَناحٍ
إنَّ يومَ الفاروق في الدهرِ غالي
أرسِلِي البُلْبُلَ الفَرِيدَ يُنَادِي
تَسْتَجِبْهُ الطُّيورُ في أرْسال٣٥
إنَّ يومَ المِيلادِ يَوْمٌ على الدهـ
ـرِ قليلُ الأندادِ والأمْثال٣٦
صَفَّقَ النيلُ فيه زَهْوًا وعُجْبًا
وجرَى في تَخطُّرٍ واختيال٣٧
ساحبًا ذَيْلَه يَمُرُّ على الزهـ
ـرِ، فَتَمْضِي الزهورُ في الأذيال٣٨
لا يُبالِي، فقد تَمَلَّكَهُ الـ
ـحُبُّ، وأوحَى إليهِ ألَّا يُبالي
وهو لولا عُذوبةُ الْحُبِّ ما فا
ضَ بعَذْبٍ من النَّمِيرِ زُلال٣٩
أنتَ مَوْلاهُ، أنت عَلَّمْتَهُ البَذْ
لَ، وبَذْلُ العبيدِ فَضْلُ الموالي
غَمَرَتْنا نُعْماك في كلِّ حالٍ
فحمدْنا نُعْمَاكَ في كلِّ حالٍ٤٠
أيُّها الراكبونَ في طَلَبِ الْغَيـ
ـثِ سِراعًا والغيثُ مِلْءُ الرِحالِ!
لا تَرِيموا، مكانكُمْ، لا ترِيموا
ساحةُ المُلْكِ مَوْرِدُ السُؤَال٤١

•••

يا لها فَرْقَدًا أطلَّ عَلَى الدُّنـ
ـيا، فأمستْ نجومُها كالذُّبالِ٤٢
سطعتْ بالسُّعودِ، تستقبلُ الكَوْ
نَ فتحظَى بأشرفِ استقبال
اسْتَهلَّتْ بالسِّلْمِ واليُمْن والعِيـ
ـدِ، فكانتْ بَرَاعَةَ استهلال٤٣
أُغْمِدَ السيْفُ بعد طُولِ جِدالٍ
وجدالُ السُّيوفِ شَرُّ جِدال
أنا في السِّلْمِ عَبْقَرِيُّ القَوافِي
ليس لي في الظُّبَا ولا في النِّصال
أنا شعري كالطَّيْرِ يُفْزِعُهُ الفَخُّ
ويرتاعُ من حَفيف النِّبال
لا تعيشُ الفُنونُ بينَ كِفاحٍ
راكبٍ رأسَهُ، وبَيْنَ نِضال
خِفْتُ إنْ أُشْعِلَتْ لَظَى الحَرْبِ أنْ
نشِدَ بَيْتًا جرَى معَ الأمثال٤٤
«لم أكُنْ مِنْ جُناتها (عَلِمَ اللَهُ)
وإنِّي بِحَرِّها اليومَ صالي»٤٥
فمَتى تَهْدَأُ القُلُوبُ إلى الْحُبِّ،
وتُهْدَى النفوسُ بعد ضَلال؟

•••

أشْرِقي عَابِدينُ، فالمُلْكُ زاهٍ
صاعِدُ الْجَدِّ، والزمانُ مُوالي٤٦
أنتِ أطلعتِ في سمائِكِ بَدْرًا
عَلَّمَ ابنَ السماء معنَى الكمال
دَوْحَةُ المجْدِ أَنْتِ، كَمْ من أصولٍ
راسياتٍ، ومن فُروعٍ هِدال٤٧
دَوْحَةٌ أَرضُهَا من الطِّيبِ والمِسـ
ـكِ، وأثمارُها سُمُوط اللآلي٤٨
كم أظلَّتْ مِصْرًا وحاطَتْ بَنِيها
من هَجيرِ الْخُطُوبِ والأهوال
أنتِ يا عابدينُ خَيْرُ بناءٍ
مَدَّ أفْياءَهُ على خَيْرِ آل٤٩
صَفَّقَتْ مِصْرُ حينما جَاءتِ البُشـ
ـرَى، فأهلًا بمولِدِ الآمال
كم بسطنا الأكُفَّ نَضْرَعُ لِلرَّحـ
ـمنِ، والليلُ مُسْبِلُ الأسْدال٥٠
وسبَقْنا دَقَّ البشائِر شَوْقًا
وبعثْنا السُّؤالَ إثْرَ السُّؤال
ووَدِدْنا لو استقرَّ التَّمَنِّي
واستراح الرَّجاءُ بعدَ كَلال٥١
وإذا أَنْعُمُ الإلَهِ تَوَالَى
بعميمِ الإحسانِ والإفضال٥٢
وإذا الفجرُ صادقٌ يَمْلأُ الشَّرْ
قَ، فَيَمْحُو غياهِبَ الأوْجالِ٥٣
وإذا المَهْدُ فيه دُرَّةُ مَجْدٍ
لِكَرِيمِ الْجُدودِ والأخوال٥٤
وإذا مِصْرُ أعْيُنًا وقُلوبًا
تَقْبِسُ النورَ من سَنا «فِرْيال»٥٥
فهنَاءً مَليكةَ النِّيل، كم حقـ
ـقَقْتِ للنيلِ من أمانٍ غَوالِي
وهَناءً مَليكَ مِصْرَ المُفَدَّى
نِلْتَ — فَاشْكُر الله — خَيْرَ مَنال
عِشْ، وعاشَتْ أمِيرَةُ المُلْكِ واسْلَمْ
للمعاليِ وصالِح الأعمال

هوامش

(١) السانح من الطير: ما ولاك ميامنة والعرب تتفاءل به. السنين الخوالي: الأعوام الماضية.
(٢) الغدائر: جمع غديرة. وهي الضفيرة.
(٣) شتيت الأشكال والألوان: أي مفرقها ومختلفها.
(٤) النوى: البعد. المطال: التسويف.
(٥) شخص بصره: رفعه.
(٦) اللحون: جمع لحن.
(٧) الأقيال: جمع قيل وهو دون الملك الأعلى.
(٨) مادت: اهتزت وحركت.
(٩) السرحة: الشجرة العظيمة، العطو: رفع الرأس.
(١٠) الأهازيج: جمع أهزوجة وهي الأغنية.
(١١) السنا: الضوء.
(١٢) بنات الهلال: النجوم.
(١٣) العوالي: جمع عالية وهي أعلى القناة. الظبا: جمع ظبة وهي حد السيف.
(١٤) هفت الراية: تحركت والراي جمع راية.
(١٥) الأوالي: الأوائل.
(١٦) يقول: كان مينا رسول الفراعنة في هذا الجمع الحاشد وكان مبعوث العرب عمرًا، وكان رسول الفاطميين الجواد الكريم المعز لدين الله.
(١٧) يقول: وظهر بين هؤلاء الملوك الصيد محمد علي رأس الأسرة العلوية.
(١٨) الصدع: الشق. الأغلال: جمع غل وهو القيد.
(١٩) الخلائف: جمع خليفة وهو السلطان الأعظم.
(٢٠) وسار في هذا الجمع أيضًا فؤاد والد فاروق.
(٢١) النجار: الأصل.
(٢٢) السدة: باب الدار أو فناؤها، ويريد بسدة فاروق قصر عابدين.
(٢٣) جاذلين: فرحين. ابتهال: إخلاص في الدعاء.
(٢٤) الغدو: جمع غدوة وهي أول النهار. الآصال: جمع أصيل وهو ما بعد العصر.
(٢٥) الحجا: العقل.
(٢٦) نجل: أنجب.
(٢٧) السوح: جمع ساحة وهي الفضاء بين دور الحي.
(٢٨) شدا: غنى وترنم. الأيك: الشجر الملتف. السلسال: الماء العذب.
(٢٩) السالي: المتخلص من لواعج الحب.
(٣٠) المخالب الزرق: الأظفار الحادة الجارحة. روعت: أخيفت.
(٣١) جميم الندى: كثيره. دميث الرمال: سهلها لينها. رفاف: متحرك.
(٣٢) الدجى: شدة الظلمة. سربال: قميص، رداء.
(٣٣) الإيغال: المبالغة والمغالاة.
(٣٤) سرحة: الشجر العظيم. فضل: بقية الشيء.
(٣٥) الأرسال: جمع رسل وهو الجماعة من كل شيء.
(٣٦) الأنداد: جمع ند وهو المثل كالنديد.
(٣٧) التخطر: التبختر. الاختيال: الزهو والعجب.
(٣٨) الذيل من الثوب: ما جر على الأرض.
(٣٩) ماء زلال: عذب بارد صاف.
(٤٠) غمره الماء: غطاه.
(٤١) لا تريموا: الزموا أماكنكم.
(٤٢) الذبال: جمع ذبالة وهي الفتيل. الفرقد: نجم يهتدى به.
(٤٣) يشير إلى أن مولد الأميرة كان في وقت استبشر الناس فيه بزوال نذر الحرب (التي كان يندلع لهيبها في سبتمبر سنة ١٩٣٨م؛ بسبب أزمة السوديت التي قامت بين ألمانيا وتشكوسلوفاكيا وانتهت باتفاق ميونيخ)، واستقبلوا فيه ليلة القدر وعيد الفطر فكان مولدها بشير خير وفاتحة عهد سعيد.
(٤٤) لظى الحرب: لهبها.
(٤٥) يخاف الشاعر إن دارت رحى الحرب واستعرت نيران القتال أن يصطلي بنارها ويجني مر ثمرها وهو لم يقدح زنادها ولم يضرم شررها ولم يكن من دعاتها ومثيريها، فيتمثل ببيت الحارث بن عباد (لم أكن من جناتها)، وقد أنشده في حرب البسوس لما أكره على خوض غمارها.
(٤٦) الموالي: المصافي.
(٤٧) الهدال: ما تهدل وتثنى من الأغصان. الدوحة: الشجرة العظيمة.
(٤٨) السموط: جمع سمط وهو الخيط ينظم فيه.
(٤٩) الأفياء: الظلال.
(٥٠) الأسدال: جمع سدل وهو الستر.
(٥١) الكلال: الإعياء والتعب.
(٥٢) توالي: تتابع.
(٥٣) غياهب: الظلمات. الأوجال: الخوف.
(٥٤) المهد: الموضع يهيأ ويعد للصبي.
(٥٥) تقبس النور: تأخذه وتستمده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤