محمد رسول الله

ألقى الشاعر هذه القصيدة احتفاءً بالمولد النبوي الشريف سنة ١٣٦٢ﻫ/١٩٤٣م.

تحِيَّةُ ناءٍ من شَذَى المسكِ أطيبُ
ومن قَطَراتِ المزْنِ أصفَى وأعذبُ١
وتبريحُ أشواقٍ إذا ما تَنَفَّسَتْ
يكادُ لها فحمُ الدجَى يتلهَّبُ٢
وقلبٌ يضيقُ الصدرُ عن نَبَضَاتِه
فيخفِقُ غيظًا بالجَناحِ ويَضْرِبُ
تلفَّتَ في الأضلاعِ حَيْرانَ يائسًا
وأنَّ كما أنَّ السجينُ المُعذَّبُ
تعاوِدُه الذِّكْرَى فَتنْكَأُ جُرحَه
ويا ربَّ جُرْحٍ حارَ فيه المُطبِّبُ!٣
ويخدَعُه طَيْفُ الخيالِ إذا سرَى
فيبعَثُ آمالَ الشجيِّ ويذهَبُ
ومن أبصر الأيام خلف قناعِهَا
رأى الدَّهر يلهو، والأمانيَّ تكذبُ
عجائبُ أحداثٍ تليها عجائبٌ
وصَبْرِي على تلك العجائب أَعْجَب
ولولا حياةُ الوَهْمِ أودَى بأهله
زمانٌ بأشواكِ الحقائِق مُخْصِب٤
تَبَسَّمَ إذا ما الدَّهرُ قطّبَ وجهه
وصَفِّقْ له في دورِه حينَ يلْعَب٥
يموتُ الفتَى من قَبْلِ أنْ يعرِفَ الفَتى
من الأمرِ ما يأتي وما يتجنَّب
وسِيَّان ما يدريه والشَّعْرُ فاحم
أثيتٌ، وما يَدْريه والشَّعْرُ أشْيَبُ٦
وقالوا: حياةُ المرء درسُ فقهقهتْ
صُروفُ الليالي والقَضاءُ المُغيّب٧
إذا ما جهِلتَ النفسَ وهي قريبةٌ
فأيُّ المعاني بعد نفسِكَ أقْرَب

•••

حنَانًا لقلبي كيف طاحتْ به المُنَى
وعَزَّ على الأيامِ ما يتَطلَّبُ؟٨
يغازِلُه في مطرَحِ النسْرِ مأرَبُ
ويختِلُه في مسبَحِ الحوت مأرَبُ٩
يكادُ إذا مرَّ الحِجازُ بذكْرِه
وجِيرتُهُ من صدرِه يتوثّبُ
بلادٌ بها الرحمنُ ألقى ضياءه
على لابَتَيها والعوالِمُ غَيهَبُ١٠
تكادُ إذا مرَّتْ بها الشمسُ غُدْوةً
حياءً بأهدابِ السحابِ تنقَّبُ١١
يجلِّلُها قُدْسٌ من الله سابغٌ
وينفَحُهَا نَشْرٌ من الْخُلد طيِّبُ١٢
إذا نَسَبَ الناسُ البلادَ رأيتَها
إلى جَنَّة الفردوس تُعْزَى وتُنْسَبُ١٣
وإن نَضَبَتْ أنهارُها فَبحَسْبِهَا
من الدِّين نهر للهُدَى ليس ينضُبُ١٤
إذا ما جرَى في الأرض فالجدب مُخْصبٌ
وإنْ هو جافَى الأرضَ فالخِصْبُ مجدبُ
يفيضُ على الأقطارِ يُمنًا ورحمةً
ويزأرُ في أُذْنِ العُتَاةِ ويصْخَب
تفجَّرَ من نَبْع النُّبُوَّة ماؤُه
له الحقُّ وِرْدٌ والسماحةُ مَشْرب
ووحَّد بين الناس، لا البُعد مُبْعدٌ
عن الساحةِ الكبرى، ولا القُرْب مُقْربُ
فليس لدَى الإسلامِ شرقٌ ومَشْرقٌ
وليس لدى الإسلامِ غَرْبٌ ومَغْربُ
همُ الناس إخوانٌ سواء على الهدى
بطيءُ المساعي والشريفُ المهيَّب١٥
فما حَطّ من قَدْرِ الفَزَاريّ فاقَةٌ
ولا زاد في قدْرِ ابن أيهم مَنْصِب١٦
يجمِّعُهُم قلبٌ على الحقِّ واحدُ
وإن فُرِّقَتْ أوطانُهم وتَشَعَّبُوا١٧
إذا صاح في «جَيْحُونَ» يومًا مُؤَذِّنٌ
أجاب على «التاميز» داعٍ مُثَوَّبُ١٨
وإن ذَرَفَتْ من جَفْن دِجْلَةَ دمْعَةٌ
رأيتَ دموعَ النيلِ حَيْرَى تَصَبَّبُ١٩
وإن مسَّ جُرْحٌ من فِلَسْطين إصْبعًا
شكا حاجِرٌ منه وأنَّ المحَصَّبُ٢٠

•••

بنفسي وليدًا في أباطح مكةٍ
تتيه به الدنيا ويشرُفُ يَعْرُبُ٢١
أطلَّ عليها مثلما تبسِمُ المنَى
ويسطَعُ في الليل الخُدَاريِّ كوكَب٢٢
وكان لها رمزَ الحياة فأشرقتْ
كما هز أفنان الخمائل صَيِّبُ٢٣
وكم مدَّتِ الأعناقَ ترقُبُ لمحةً
فطال عليها صبرُها والترقُّبُ
توالت بها الأيامُ، تذهَب أحْقُبٌ
وتأتي على اليأس المبرح أَحْقُبُ٢٤
إلى أنْ بدا نورُ الإله فأقلبتْ
عوالمها تشدو بطه وتَطْرَبُ
وليدٌ له عُلْيَا معدّ ذُؤابةٌ
جلالةُ أنسابٍ، ومجدٌ مؤَشَّب٢٥
حوته كما اعتاد الأعاريبُ جَفْنَةٌ
وقد ضاق عن آماله القيح سَبْسَب٢٦
يحيِّيه من طيَف الملائِك مَوْكِبٌ
ويرعاه من طَيْفِ النبيينَ مَوْكب
فهل علم الرومانُ أنَّ مهادَه
قِرابٌ به ماضي الغرارِ مُشَطّب٢٧
وأنّ به نفسًا يُحطّمُ دونها
منيعُ الصياصي، والحديد المذرَّب؟٢٨
وأن به من صَوْلةِ الله جَحْفَلًا
يَثُلُّ عرُوشَ القاسطينَ ويَسْلُب؟٢٩
له الكونُ مَيْدانٌ إذا سلَّ سيفَه
وقال لِفُرْسانِ الملائِكةِ: اركبُوا٣٠
يطيرُ عِداهُ منه ذُعْرًا وخَشْيةً
وإنْ مَلَأُوا الأرضَ الفضاء وأجُلبُوا
ومَنْ لم يُؤَدِّبْهُ البيانُ وهَدْيُه
فإنَّ الحسامَ العَضْبَ نِعمَ المُؤدِّبُ٣١
فقد أنزلَ اللهُ الحديدَ وبأسَه
لمن سَدّ أُذنَيْهِ الهوى والتعصّبُ
وفي صَدْعَةِ الإيوانِ إنذارُ أمةٍ
بأنَّ من الأشياء ما ليس يُشْعَبُ٣٢

•••

محمد أنقذتَ الخلائقَ بعدما
تنكَّبَتِ الدّنيا بهم وتنكَّبوا
وأطلقْتَ عقْلًا كان بالأمس مُصْفَدًا
فدان له سرُّ الوجودِ المحجَّبُ٣٣
وأرسلتها من صَيْحةٍ نبويَّةٍ
يَمُور لها قَلْبُ الحيالِ ويُرْعَبُ٣٤
إذا كان صوتُ اللهِ في صيحةِ الفَتى
فأيُّ عبادِ اللهِ يَخشَى وَيرهَبُ؟
وبلَّغْتَ آياتٍ، روائعُ لفظِها
من الصبحِ أهدَى أو من النجم أثْقَبُ٣٥
كأنّ، وما تُغْنِي كأنّ؟ فَخلِّها
فإنّ من التشبيه ما يتصعَّبُ
وماذا يقولُ الشِّعْرُ في آيِ رحمةٍ
لها الله يُمْلِي والملائِكُ تكْتُبُ؟
خطبتَ لنا يومَ الوَداعِ مُشَرِّعًا
وهل لكَ نِدٌّ في الورى حين تَخْطب؟
فكشَّفْتَ أسرارَ السياسةِ مُوجِزًا
وجئتَ بما يَعْيَا به اليومَ مُسهبُ٣٦
وأمليتَ دُسْتُورًا شَقِينا بتَرْكِه
فَثُرنا على الأيامِ نشكو ونعتبُ

•••

إليكَ رسولَ اللهِ طار بنا الهوَى
وحُلوُ الأماني والرجاءُ المحبَّبُ
أفِضْها علينا نَفحةً هاشميةً
تَلُمُّ شتَاتَ المسلمينَ وترأبُ٣٧
وترجعُ فيهم مثلَ سعدٍ وخالدٍ
وترفَعُ من راياتهم حين تُنصَبُ٣٨
سنصحو فقد ملَّ الطريحُ وِسَادَه
وفي نُورِك القدسيِّ نسعى وندأبُ٣٩
عليكَ سلامُ اللهِ ما حَنَّ واجدٌ
وفاخرتِ الدّنيا بقبركَ يَثْرِبُ٤٠

هوامش

(١) ناء: بعيد. شذى المسك: رائحة المسك الذكية الفواحة. المزن: السحاب الممتلئ بالماء.
(٢) تبريح أشواق: توهج أشواق. فحم الدجى: المقصود سواد ظلمة الليل. يتلهب: يتقد ويشتعل.
(٣) تنكأ جرحه: تهيج وتثير جرحه قبل أن يبرأ. المطبب: الطبيب المداوي.
(٤) مخصب: كثير الخير.
(٥) قطب وجهه: عبس وتجهَّم.
(٦) أثيت: قوي النمو كثير.
(٧) المغيب: ما غاب عنك وهو المستقبل.
(٨) حنانًا: رحمة. طاحت: ذهبت. عز: قل وندر.
(٩) يغازله: يلاطفه. مطرح النسر: أعالي الجبال. يختله: يخدعه. مسبح الحوت: البحار الكبيرة. الذكر: التذكر.
(١٠) لابتيها: اللابة الأرض ذات الحجارة السود وبالمدينة المنورة لابتان تكتنفها. غيهب: في علم الغيب.
(١١) أهداب السحاب: أطراف السحاب. تنقب: تهرب.
(١٢) نشر: رائحة طيبة.
(١٣) تعزى: تنتمي وتنتسب.
(١٤) ينضب: يجف.
(١٥) بطيء المساعي: الرجل ذو الطموح المحدود. المهيب: الذي يهابه الناس.
(١٦) الفزاري: أعرابي من بني فزارة داس على فضل إزار جبلة بن الأيهم، وهو من عظماء الروم وكان قد دخل في الإسلام فلطم ابن الأبهم الفزاري فشكاه إلى سيدنا عمر بن الخطاب، فحكم له بأن يقتص من جبلة.
(١٧) تشعبوا: تفرقوا.
(١٨) جيحون: نهر جيحان ببلاد التركستان في الشرق. التاميز: نهر بإنجلترا في الغرب. داع: يدعو الناس. مثوب: والتثويب يكون في أذان الفجر خاصة، وهو قول المؤذن: «الصلاة خير من النوم» والمقصود الاستجابة للصلاة في جميع أنحاء العالم.
(١٩) دجلة: نهر دجلة في العراق. تصبب: تنسكب.
(٢٠) حاجر: نزل للحاج بالبادية. المحصب: موضع رمي الحجارة بمنى.
(٢١) بنفسي: أفديه بروحي. وليدا: سيدنا محمد . أباطح: مسيل واسع فيه حصى. يعرب: أبو العرب.
(٢٢) الخداريّ: المظلم.
(٢٣) صيب: السحاب ذو الصوت أي: الممتلئ بالماء.
(٢٤) أحقب: سنون.
(٢٥) عليا: الرفعة. معد: قبيلة عربية ذات سيادة. ذؤابة: ذؤابة الشيء أعلاه. المؤشب: الشجر المتلاصق والمراد بالمجد المؤشب يجمع من كثير من أعمال الفضل والنبل.
(٢٦) الأعاريب: سكان البادية. جفنة: وعاء أو قصعة يوضع بها الطفل الرضيع. سبسب: المفازة أو الأرض المستوية البعيدة الواسعة.
(٢٧) قراب: جراب السيف. الغرار: حد السيف. المشطب: السيف في حده خطوط مجوفة.
(٢٨) الصياصي: جمع صيصية: الحصن. الحديد المذرب: الحديد الحاد.
(٢٩) صولة: قوة. يثل: يذهب ملكه أو عزه. القاسطين: الظالمين. يسلب: يختلس.
(٣٠) سل: أخرجه من غمده.
(٣١) الحسام العضب: السيف الطاعن.
(٣٢) صدعة الإيوان: شق إيوان كسرى وهدمه وكسره. يشعب: يصلح.
(٣٣) مصفدًا: مقيدًا. دان: خضع. المحجب: المستور في علم الغيب.
(٣٤) يمور: يتحرك ويذهب.
(٣٥) أثقب: مضيء.
(٣٦) مسهب: كثير الكلام.
(٣٧) شتات: تفرق. ترأب: تصلح.
(٣٨) سعد وخالد: هما بطلا الإسلام سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد.
(٣٩) ندأب: نجد ونتعب.
(٤٠) واجد: حبيب. يثرب: المدينة المنورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤