إسماعيل العظيم

نشرت هذه القصيدة عندما احتفلت مصر في عام ١٩٤٥م بمرور خمسين سنة على وفاة الخديو إسماعيل.

حُسامٌ له مجدُ الخُلُودِ قِرابُ
يحوِّم شعري حوله فيهابُ
وطَودٌ من العِزِّ الأشمِّ عَنَتْ له
وُجوهٌ، ودانتْ بالوَلاءِ رِقاب١
وسرٌّ سماويٌّ ثَوى في ضرِيحه
له من جَنَاحَيْ جَبْرَئيلَ قِباب٢
وقبرٌ كمحرابِ الصلاةِ مُطهَّرٌ
عليه نعيمٌ وارفٌ وثواب
وكَنْزٌ به من جَنَّةِ الْخُلْدِ دُرَّةٌ
تردُّ ثمينَ الدُّرُّ وهي سِخاب٣
وزَهْرٌ من الآمالِ رفَّ بروضةٍ
بها الأرضُ مسكٌ، والنسيمُ مَلاب٤
إذا جاوزَتْهَا للرَّبابِ غمامةٌ
سقاها من الحبِّ النَّدِيِّ رَبابُ٥
قلوبُ بني مصرٍ خوافقُ حولَها
لها كلَّ حينٍ جَيْئةٌ وذَهاب
إذا غاب شخصُ الَعْبَقريِّ برَمْسِه
فليس لفضلِ العبقريِّ غياب!٦
وإن حَجَبتْ بِيض الأيادي مَنِيَّةٌ
فليس على آثارهنّ حِجابُ!٧
وكم من فتًى جاز الحياةَ وذكرُه
له كلَّ يومٍ زَوْرَةٌ وإياب٨
وما مات مَنْ رَدَّ الحياةَ لأمَّةٍ
وأحيا بها الآمالَ وهي يَباب٩
إذا المرءُ لم يُخْلِدْه فضلُ جهادِه
«فكلُّ الذي فوق التُّرابِ تُراب»
وهل مثل إسماعيلَ في الناسِ عاهلٌ
له فوق أحْداثِ الزمانِ وِثاب؟١٠
طموحٌ له في ذِرْوَةِ الدهرِ مأرَبٌ
وفوق مَناطِ الفَرقَدَيْنِ طِلابُ١١
إذا صحَّ عزمُ المرء فالبحرُ ضَحْضَحٌ
وإنْ خار فالنُّضْحُ اليسيرُ عُباب
وليست شِباكُ العزِّ إلَّا عزيمةً
وما المجدُ إلا صولةٌ وغِلاب!
تَمُدُّ الليالي للجريءِ زمامَها
وتعنو له الأيامَ وهي صِعاب١٢
وما كلُّ مَنْ أرخَى العِنانينِ فارسٌ
ولا كلُّ داعٍ للنهوضِ مُجاب!١٣
إذا ما عَددْنا مأثُراتِ يمينه
على مصرَ لم ينفدْ لهنّ حساب١٤
دعاها فسارتْ خلفَهُ تُسْرعُ الْخطَا
وهِمَّتُها للمُعْضِلات رِكاب
فما الشوكُ في أقدامِها حين صممتْ
بشوكٍ، ولا صُمُّ الهضاب هِضاب١٥
إذا وَهَنَتْ أذكى لَظَى رَغَباتِها
همامٌ له عند النجومِ رِغابُ١٦
وإن أظلمت طُرقُ المعالي أنارها
من الرأيِ منه والذكاء شِهاب١٧
رأتْ مصر فيه عاهلًا عزَّ نِدُّه
ومن أيْن للبدرِ المنيرِ صحابُ؟
حباها أبو الأشبال جُرْأَةَ ضَيْغَمٍ
له ظُفرٌ يفرِي الخطوبَ وناب١٨
وأزْلفها ملءَ النواظِرِ جَنَّةً
تميد بها الأغصانُ وهي رِطاب١٩
وألبسها من نهضةِ الغربِ حُلَّةً
وكم زانتِ الغيد الملاحَ ثياب!
ففي كل حَيٍّ للعلوم منابرٌ
وفي كلِّ ركنٍ للفنونِ رِحاب!
وأين رميتَ الطَّرْفَ تلقَى معالِمًا
سوامقُها فوقَ السحابِ سحاب٢٠
عجائبُ صُنْعٍ يصغُرُ الدهرُ دونَها
وكلُّ فعالِ الخالدين عُجابُ!٢١
وجُهْدٌ من الفولاذِ ما كَلَّ زَنْدُه
وصادقُ عزمٍ ليس فيه كِذاب٢٢
وللجُهدِ في الدنيا نصابٌ وطاقةٌ
وليس لجُهدِ العبقريِّ نِصاب!٢٣

•••

أبا مصرَ، هل تُصغي وللشعرِ دَمعَةٌ
بها الحبُّ صَفْوٌ، والوفاءُ مُذاب؟
أتذكُرُ يومًا بالقناةِ وقد سعتْ
شُعوبٌ، وسالتْ بالملوكِ شِعاب؟٢٤
وأنت تؤُمُّ الْحشْد جذلانَ هانئًا
ونجمُك لم يحجبْ سَناه ضباب٢٥
ومصر بمحييها تتيهُ وتنثني
كما لعبتْ بالعاشقين كَعَاب٢٦
موائدُ لو مرَّتْ بأوهامِ حاتمٍ
رأى أنّ مدحَ المادحين سِبَاب٢٧
وموْكِبُ عِزٍّ ما رأى النيلُ مثلَه
ولا خَطَّه في السابقين كِتابُ
تمنَّت نجومُ الأفْق رَوْعَةَ زَهوِه
وسال لشمسٍ أبصرتْهُ لُعَاب٢٨

•••

تفيأتَ ظلَّ الله خمسين حجةً
وجنَّاتُه للعاملين مَثاب٢٩
وأدرك مصرًا من بنيك صَوارمٌ
مواضٍ إذا اشتد الزمانُ صِلَاب٣٠
كرامٌ إذا نُودُوا أجابوا، وإن هُمُ
رَموْا جبهةَ الرأي البعيدِ أصابوا
وهل كفؤادٍ في البريَّةِ مالكٌ؟
وهل كلُبَابِ المجد فيه لُبَاب؟٣١
لهُ عزمةٌ وثَّابةٌ عَلَويَّةٌ
تردُّ صُرُوفَ الدهرِ وهي حرَاب٣٢
إذا ما امترى في المعجزاتِ مكابرٌ
فسيرتُه للممترين جواب٣٣
ومَن مثلُ فاروقٍ وللعرشِ عزَّةٌ
وللمُلْكِ والمَجدِ الأثيلِ مَهَابُ؟٣٤
مضاءٌ وإقدامُ وجودٌ وصولَةٌ
وآمالُ حُرٍّ طامحٍ وشباب٣٥
سعَى لرسولِ الله يحدوه شوقُه
وللشوقِ والحبِّ الصميمِ جِذاب٣٦
يناجيه فَيَّاض المدامِع خاشعًا
صَموتًا، وصَمْتُ الخاشعين خطاب
رأى فيه رَضْوَى مثلَه في ثباتِه
وحيَّاه من رَحب البقيعِ جَنَاب٣٧
حصيفٌ له في موقف الحقِّ صَوْلةٌ
ورأيٌ إذا غُمَّ الصوابُ صوابُ٣٨
يجمِّع شملَ العُرْبِ في ظلِّ وَحدَةٍ
كما جَمَع الأُسْدَ الضراغمَ غاب٣٩
إذا ابتسموا فالباتراتُ بواسمٌ
وإن غضبوا فالباتراتُ غِضاب٤٠
وفي كلِّ يومٍ مِنَّةٌ بعد مِنَّةٍ
إذا ما انقضى بابٌ تفتَّح بابُ٤١
وكلُّ أيادي غيرِه حُلْمُ حالمٍ
وكل نوالٍ من سواه سَراب٤٢
عتبنا على الدنيا فمذ أشرقتْ به
تقضَّى خِصامٌ بيننا وعِتاب٤٣
وصُغنا له من كل ما تُبدعُ النُّهَى
روائعَ، لم يُبذَلْ لهنَّ نِقَاب٤٤
فلا زال موفورَ الجلالِ مُسدَّدًا
يُجيبُ إذا تدعو العُلا وَيُجاب!٤٥

هوامش

(١) طود: جبل.
(٢) ثوى: أقام. قباب: أبنية ذات قباب.
(٣) سخاب: عقد من خرز صنع من الطين.
(٤) رف: برق وتلألأ. مسك: رائحته ذكية. ملاب: عطر أو نبات الزعفران.
(٥) جاوزتها: تركتها. للرباب: السحاب الأبيض والأسود. غمامة: سحابة. النديّ: المبلل. رباب: السحاب الممتلئ بالماء.
(٦) رمسه: قبره.
(٧) بيض الأيادي: العطايا والمنن والإحسان.
(٨) جاز الحياة: ترك ومات. زورة: زيارة. إياب: عودة.
(٩) يباب: قفر، خراب.
(١٠) عاهل: ملك. وثاب: ثبات في المكان.
(١١) ذروة: أعالي الشيء. مأرب: غاية. مناط: مجمع الشيء. الفرقدين: نجمان قريبان من القطب. طلاب: أعطاه ما طلبه.
(١٢) زمامها: قيادتها. تعنو له: تخضع له.
(١٣) أرخى العنانين: أرسل مقود الفرس.
(١٤) مأثرات: مآثره.
(١٥) صم: الصخرة الصماء الصلبة. هضاب: المرتفع من الأرض.
(١٦) وهنت: ضعفت. أزكى: أوقد. لظى: النار. رغاب: أمر مرغوب.
(١٧) شهاب: شعلة من نار ساطعة.
(١٨) ضيغم: أسد. ظفر: مخلب. يفري: يقطع.
(١٩) أزلفها: قدمها وأظهرها. تميد: تتحرك. رطاب: طرية خضراء.
(٢٠) سوامقها: معالمها العالية المرتفعة.
(٢١) فعال: الفعل الحسن.
(٢٢) كل: تعب. زنده: موصل طرف الذراع إلى الكف.
(٢٣) نصاب: قدر محدود.
(٢٤) سالت: تدفقت. شعاب: طرق.
(٢٥) تؤم: تقود. جذلان: فرحًا.
(٢٦) كعاب: الفتاة التي برز نهداها في أول شبابها.
(٢٧) حاتم: حاتم الطائي ويضرب به المثل في الكرم. سباب: شتيمة.
(٢٨) لعاب: لعاب الشمس: خيوط شعاعية تنحدر من السماء وقت الظهيرة.
(٢٩) مثاب: موضع.
(٣٠) صوارم: السيوف القواطع. مواضٍ: حادة. صلاب: صلبة قوية.
(٣١) لباب: خالص.
(٣٢) علوية: نسبة إلى محمد علي باشا رأس الأسرة العلوية. صروف الدهر: أحداثه.
(٣٣) امترى: شك فيه.
(٣٤) الأثيل: العظيم. مهاب: جلال ومخافة.
(٣٥) صولة: وثوب وشجاعة. طامح: مرتفع نظره إلى العلا.
(٣٦) يحدوه: يدفعه. جذاب: انجذاب.
(٣٧) رضوى: جبل رضوى الشهير بالحجاز. رحب: متسع. البقيع: مكان في مكة المكرمة يدفن فيه المسلمون منذ أوائل الإسلام. جناب: فناء.
(٣٨) حصيف: ذو رأي سديد. صولة: جولة. غم: التبس وخفي.
(٣٩) الضراغم: العظام. غاب: الأجمة كثيرة الأشجار.
(٤٠) الباترات: القاطعات.
(٤١) منة: إحسان. انقضى: انتهى، أغلق.
(٤٢) سراب: ما يرى كأنه ماء.
(٤٣) تقضى: انتهى.
(٤٤) النهى: العقول.
(٤٥) مسددًا: سديد الخطى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤