مصيف رشيد

أنشد الشاعر هذه القصيدة في احتفال كبير أقيم ببلد الشاعر «رشيد» بمناسبة افتتاح مصيفها سنة ١٩٣٩م.

أرشيدُ لا جُرْحٌ ولا إيلامُ
عاد الزمانُ وصحّتِ الأحلامُ!١
وتمثَّلتْ فيكِ الحياةُ فتِيّةً
من بعدِ ما عبثتْ بكِ الأيام٢
يا زينةً بيْنَ الثغورِ وفتنةً
سحرَ الممالكَ ثغرُكِ البسّام٣
يا وردةً بين الرمالِ نضيرةً
تُزْهَى بها الأغصانُ والأكمام٤
يا درَّةَ البحرِ التي بوميضها
ضَحِكَ الصباحُ، وأشرق الإظلام٥
يا دَوْحةً نَبت القريضُ بأرضِها
فأصولُها وفروعُها إلهام٦
يا روضة فتن العيونَ جمالُها
وتحدّثت بأريجها الأنسامُ٧
يا همسةَ الأملِ الوسيمِ رُواؤه
لو كان للأملِ الوسيم كلام!٨
يا صحوةَ المجدِ القديمِ تحدَّثي
طال الزمانُ بنا ونحن نيام!
يا طلعةً للحسن شاع ضياؤها
وانجاب عنها البحرُ وهو لِثامُ٩

•••

أرشيدُ يا بلدي ويا ملهَى الصبا
بيني وبين مَدى الصبا أعوام!١٠
أيام لي في كلِّ سَرْحٍ نَغْمَةٌ
وبكلِّ ركنٍ وقفةٌ ولِمام١١
أيام لا أمسِي يجُرُّ وراءه
أسفًا، ولا يومي عليّ جَهام١٢
ألهو كما تلهو الطيورُ، حديثها
شدْوٌ، وَرَفُّ جَناحِها أنغام١٣
متنقِّلاتٍ بين أزهارِ الرُّبا
الجوُّ مَتْنٌ، والنسيمُ زِمامُ١٤
ومطالبي لم تَعْدُ مدَّةَ ساعدي
بُعْدًا، فما استعصى عليّ مرام
لهوُ الطفولة خيرَ أيامِ الفتَى
إنْ الحياةَ وَكدحَها أوهام!

•••

أرشيدُ، فيكِ لبانتي وصَبابتي
والصِّهْرُ والأخوالُ والأعمام١٥
لمستْ حُنوَّ الحبِّ فيكِ تَمائِمي
ورأيتُ فيكِ الدهرَ وهو غلام١٦
ونشأتُ في ظلِّ النخيل يَهُزُّني
شوقٌ إلى أفيائِها وغرام١٧
أرختْ شعورًا للنسيمِ كأنما
أظلالُها تحت الغَمامِ غمام١٨
تهفو ويمنعها الحياءُ فتنثني
كالغيدِ رَوَّعَ سِرْبَها اللُّوام١٩
إنا كبِرْنا يا نخيلُ وحبُّنا
بين الجوانحِ شُعْلةٌ وضِرامُ٢٠
كم طوَّقَتْ منكِ القُدود سواعدي
ولكم شفاني من جَنَاكِ طعام٢١
ولكم هززتِ فتاك حين حملتِه
كالأمِّ تُلْهي الطفلَ حين ينام
إن يُقْصِني عنكِ الزمانُ وأهْلهُ
فالْحُبُّ عهدٌ بيننا وذِمام٢٢
مِيسي كأيامِ الطفولةِ وارْفُلي
فالجوُّ صَفْوٌ، والنعيمُ جِمام٢٣
غنَّى لك القلمُ الذي أرهفتِه
أرأيتِ كيف تغرِّدُ الأقلام؟
هذا وليدُك جاء يُنشد شِعرَه
ما كلُّ ما تحوي الخيوطُ نِظام٢٤
أصغى له الوادي، وغنّتْ باسمه
بغدادُ، واهتزَّت إليهِ الشام٢٥
إن قال مال له الوجودُ برأسِه
ورنَت له الأسماعُ والأفهامُ٢٦
ملك العَصِيّ من القريضِ بسحره
طَوْعًا، فما استعصى عليه خِطام٢٧

•••

أرشيدُ، هل في أن يبوحَ أخو الهوى
حَرَجٌ، وهل في أن يَحِنَّ ملام؟٢٨
يا مَرْتَع الآرامِ رَنَّحها الصِّبا
كيف المراتعُ فيكِ والآرامِ؟٢٩
من كلِّ لفَّاء المعاطِف طَفْلةٍ
جِيدٌ كما يهوَى الهوَى وقَوام٣٠
سترت ملاحتَها المُلاءةُ مثلما
ستر الغمامُ البدرَ وهو تمامُ٣١
يدنو الجمالُ بها فيحجبها التُّقَى
«كَظباءِ مكةَ صيدُهنّ حَرام»
فإذا نظرتَ فخُذْ لنفسِك حِذْرها
إنّ العيونَ — كما علمتَ — سهام

•••

أرشيدُ، مجدُكِ في القديمِ صحيفةٌ
بيضاءُ، لا لَبسٌ ولا إبهَامُ٣٢
ملأتْ مآذِنكِ السماءُ شوامخًا
بين السحابِ كأنَّها أعلام
كم شاهدتْ قومًا زهتْ أيامُهم
حينًا، وجاءت بعدَهم أقوام
سبحانَ من لا مجدَ إلّا مجدُه
نَفْنَى وَيبقَى الواحدُ العلَّام٣٣
خذْ من زمانِكَ ما استطعْت فما لما
أخذتْ يداكَ من الزمان دوام٣٤
وارضَ الحياةَ نعيمَها أو بؤسَها
نُعْمى الحياةِ وبؤسُها أقسام٣٥

•••

أرشيدَ، لم نسمعْ لصدرِك أَنَّةً
للنَّازلاتِ الدُّهْمِ وهي جِسام٣٦
أجملتِ صبرًا للحوادثِ فانثنت
إنّ الكرامَ على الخطوبِ كِرام٣٧
اليومَ جدَّدْتِ الشبابَ فأَقْدِمي
معنى الشبابِ العزمُ والإقدامُ
سعت الوفود إلى مصيفِك سُبَّقًا
يتلو الزحامَ إلى سناه زحام٣٨
النيلُ والبحرُ الْخِضَمُّ يحوطُه
والباسقاتُ على الطريق قيام٣٩
والتوتُ والصَّفْصافُ يهتفُ طيرُه
فتردِّدُ الكُثْبانُ والآكامُ٤٠
والزهرُ في جِيدِ الرياضِ قلائدٌ
والنهرُ في خَصْرِ الرياضِ حِزام٤١
والموجُ كالخيلِ الجوامحِ أُطْلِقت
وانحلّ عنها مِقْوَدٌ ولجام٤٢
تجري السفائنُ فوقَه وكأنّها
والريحُ تدفع بالشراعِ، حمام٤٣
ومناظرٌ يَعْيا القريضُ بوصفِها
ويضِلُّ في ألوانها الرّسام٤٤
والناسُ بين ممازحٍ ومداعبٍ
والأنسُ حتمٌ والسرورُ لِزَامُ
من شاء في ظلِّ السعادةِ ضَجْعَةً
فهنا تُشَادُ صُرُوحُها وتُقام٤٥
أو رام نِسْيَانَ الهموم فها هنا
تُنْسَى الهمومُ، وتذهَبُ الآلام٤٦

هوامش

(١) إيلام: ألم. صحت: تحققت.
(٢) تمثلت: تشبهت. فتية: شابة. عبثت: لعبت.
(٣) الثغور: المواني على البحر.
(٤) تزهى: تفتخر.
(٥) درة: جوهرة ثمينة. وميضها: نورها ولمعانها.
(٦) دوحة: الحديقة ذات الشجر العظيم. القريض: الشعر. إلهام: وحي من الله.
(٧) أريجها: رائحتها الطيبة. الأنسام: الهواء الطيب.
(٨) الوسيم: الجميل. رواؤه: بهاؤه.
(٩) انجلب: انكشف. لثام: ستر ونقاب.
(١٠) مدى: غاية.
(١١) سرح: فناء الدار. نغمة: لحن وكلام منغم. لمام: اجتماع.
(١٢) جهام: السحاب لا مطر فيه والمراد باليوم الجهام: اليوم لا خير فيه ولا سرور.
(١٣) رف جناحها: تحريك جناحها يشبه الألحان الجميلة.
(١٤) متن: مطية. زمام: مقود.
(١٥) لبانتي: حاجتي. صبابتي: رقة شوقي وحرارته.
(١٦) تمائمي: تعاويذي.
(١٧) أفياؤها: ظلها.
(١٨) شعورًا: يقصد سعفها الذي يشبه الشعر مسدل من رأس النخلة. أظلالها: ظلها. الغمام: سحاب.
(١٩) روع: أخاف. سربها: جماعتها. اللوام: اللائمون.
(٢٠) الجوانح: الأضلاع. ضرام: نار.
(٢١) طوقت: أحاطت. جناك: حصادك.
(٢٢) يقصني: يبعدني. ذمام: حرمة، توثيق.
(٢٣) ميسي: تبختري. ارفلي: انعمي. جمام: كثير.
(٢٤) نظام: نظم الشعر.
(٢٥) الوادي: وادي النيل أي: مصر والسودان.
(٢٦) رنت: نظرت.
(٢٧) العصي: الشارد من الألفاظ. القريض: الشعر. خطام: زمام.
(٢٨) أخو الهوى: المحب لك يقصد نفسه.
(٢٩) مرتع: موضع اللهو واللعب. الآرام: الظباء. رنحها: ميلها.
(٣٠) لفَّاء: لابسة. المعاطف: جمع معطف وهو ما يلبس فوق الملابس. طفلة: رخصة ناعمة.
(٣١) سترت: أخفت.
(٣٢) لبس: شك. إبهام: غموض.
(٣٣) العلام: كثير العلم منذ الأزل وعلم الله — سبحانه وتعالى — صفة أزلية.
(٣٤) دوام: بقاء.
(٣٥) ارض: اقنع. أقسام: حظوظ مقدرة.
(٣٦) أنة: أنين وألم. النازلات: الكوارث. الدهم: السود المظلمة. جسام: كبيرة وشديدة.
(٣٧) أجملت: أحسنت، تصبرت. انثنت: ذهبت وطويت.
(٣٨) سناه: نوره.
(٣٩) الخضم: ذو الأمواج المرتفعة الكبيرة. الباسقات: العاليات يقصد النخل العالي.
(٤٠) التوت والصفصاف: أنواع من الشجر الكبير العالي. الآكام: التلال المرتفعة.
(٤١) خصر: الوسط.
(٤٢) الجوامح: الشاردة. مقود: الذي تقاد به الدبة. لجام: ما يوضع في فم الفرس لقيادته.
(٤٣) السفائن: السفن.
(٤٤) يعيا: يعجز. يضل: يتوه.
(٤٥) تشاد: تبنى. صروحها: مبانيها العالية.
(٤٦) رام: ابتغى وأراد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤