افتتاحُ الإذاعة

ألقيت بدار الإذاعة يوم الاحتفال بافتتاحها في ٣١ من مايو سنة ١٩٣٤م.

يا ساريَ الشِّعْرِ يَطْوِي الْجَوَّ في آنِ
وَيَمْلَأُ الأُفْقَ تَغْريدًا بألْحاني
يَخْتالُ في بُرْدَةِ الفُصْحَى وتُسْعِدُهُ
بَدَائِعُ الْحُسْنِ من آياتِ عَدْنان١
سِرْ أيُّها الشِّعرُ واركبْ كلَّ ناجِيَةٍ
من الرِّياحِ فقد أَلْقَتْ بأرْسَان٢
سِرْ بالرِّياضِ وخُذْ مِنْها نَضارَتها
ونَاغ ما شِئْتَ مِنْ وَرْدٍ وريْحَان
الكَوْنُ أُذْنٌ لِمَا تُلْقِيه وَاعِيةٌ
فَامْلَأ مَدَاهُ بصَوْتٍ مِنْكَ رَنَّان
وَبَلِّغِ الأرْضَ أنَّا في حِمَى مَلِكٍ
صَوْبُ الْحَيَا ونَدى كَفَّيْهِ سِيَّان٣
وَإِنْ تَزُرْ كَعْبَةَ الآمالِ مُشْرِقَةً
مِنْ (عابِدينَ) فطُفْ مِنها بأَرْكان٤
وقفْ وأَطْرِقْ خُشُوعًا أنتَ في قُدْسٍ
ضافِي المَهَابةِ عالي الشَّأْوِ وَالشَّانِ٥
قَصْرٌ بنَاهُ بُناةُ المَجْدِ مِن هِمَمٍ
فَلَمْ يُطَاوِلْ عُلاهُ أَيُّ بُنْيان
فأَيْنَ كِسْرَى وَمَا أَعْلَى مَشَارِفَهُ
في بُهْرَة المُلْكِ مِنْ صَرْحٍ وإيوان٦
أساسُهُ عَزَمات جَلَّ خالِقُهَا
لا ما يَرَى الناسُ من صَخْرٍ وصَوَّان
يُطِلّ مِنْهُ عَلَى آمالنا مَلِكٌ
يُزْهَى به الشعْبَ في سِرّ وإعْلان
في وَجْهِهِ قَسَمَات قَدْ دَلَلْنَ عَلَى
ما ضَمَّهُ القَلْبُ مِنْ نُبْلٍ وإيمان٧

•••

يا ابْنَ الأُلَى بَعَثُوا مِصْرًا لِنَهْضتِها
وَأَيْقَظوا من بنيها كُلَّ وَسْنان٨
وأَرْسَلُوها إلَى العَلْياء فانْطَلَقَتْ
تَعْدُو إلى الْمَجْدِ في جِدٍّ وإمْعانِ٩
كأنَّها تَبْتغي في الشَّمْسِ حاجَتَها
أو أنَّها أودِعَتْ سِرًّا لكَيْوَان١٠
آثارُهُمْ في ضِفافِ النِّيلِ ماثِلةٌ
أبْقَى عَلى الدَّهْر منْ رَضْوَى وثَهلان١١
كأنَّها وهْيَ في الوَادِي قد انْتَثَرَتْ
عِقْدٌ تَنَاثَرَ عَنْ دُرٍّ وَعِقْيان١٢
جاءُوا بما عَزَّ في الآذانِ مَسْمَعُهُ
عَنِ المُلوكِ ولم تُبْصِرْهُ عَينان
في باحَةِ السِّلْمِ كانُوا رَحْمةً وهدًى
وفي الكَرِيهةِ كانوا أُسْدَ خَفّان١٣
قد حاوَلُوا الصَّعْبَ حَتَّى ذَلَّ شَامِسُهُ
وَمالَ بالرَّأْسِ عَنْ يُسْرٍ وَإمْكانِ١٤

•••

غَفْرًا (فُؤَادُ) أَبا (الفارُوقِ) إن عَجَزَتْ
عَنْ عَدّ آلائِك الغرَّاء أوْزاني١٥
حاوَلْتُ تَصْوِيرَها جهْدِي فما اتَّسَعَتْ
لِبَعْضِ ذلكَ ألْواحي وألْوانِي
والبحرُ تُبْصِرُ جُزْءًا حَوْلَ ساحِلِهِ
ولَيْسَ في دَرْكِهِ طَوْقٌ لإنسان
في كُلِّ يَوْمٍ لكُمْ فِي مِصْر عارِفَةٌ
في طَيِّها مِنْ نَدَاكُمْ ألْفُ بُرْهان١٦
نَشَرْتَ فيها رُبُوعَ العِلْمِ زَاهِرةً
جَلَالَةُ المُلْكِ في عِلْمٍ وعِرْفان١٧
غَرَسْتَهُ دَوْحَةً غَنَّاءَ وَارِفَةً
قَريبَةَ المُتَمَنَّى ذاَتَ أَفْنان
وساسَنا منكَ رأْيٌ زانَهُ خُلُقٌ
قد صاغَهُ اللهُ من رِفْقٍ وإحْسان
الدِّين زاهٍ وَوَجْهُ الْمُلْكِ مُؤْتَلِقٌ
كالرَّوْضِ جادَ ثَراهُ صَوْب هَتَّانِ١٨
رَدَدتَ لِلُّغَةِ الفُصْحَى بَشَاشَتَها
مِن بَعْدِ أَنْ هَجَرتها مُنْذُ أَزْمان
قد ذَكَّرَتْها أيادِيكَ التي عَظُمَتْ
مَنازِلَ العِزِّ في دَاراتِ قَحْطان١٩
أَوْلَيْتَها (مَجْمَعًا) طَابَتْ مَشارِعُهُ
وَبَلَّ منهُ صَداهُ كُلُّ صَدْيان٢٠
أعادَ في مِصْرَ عَهْدًا للرَّشِيدِ مضَى
أيامَ أشْرَقَتِ الدُّنْيا (بِبَغْدان)٢١
سَعَتْ لِساحَتِكَ الدُّنْيا ويَمَّمَها
جَهابِذُ القَوْمِ مِنْ قَاصٍ ومِنْ داني٢٢

•••

هَذِي الإذاعةُ يا مولايَ قد نَطَقَتْ
بما بَذَلْتَ بإفْصاحٍ وتِبْيان
مِنْ قَبْلها سارَ سَيْر الشمسِ ذكْرُكمُ
يَطْوِي الْجِواءَ بأقْطارٍ وبُلْدانِ٢٣
أنشَأْتها جَنةً غَنَّتْ بَلَابِلُها
وغَرَّدَتْ بين أوراقٍ وأَغْصان
فيها الثَّقافاتُ ألوانٌ مُنَوَّعَة
تُزْجَى إلى الشَّعبِ من آنٍ إلى آن٢٤
قد أَصْبَحَتْ مَنْهلًا يَسْعَى لِطالِبِهِ
فاعجبْ إلى مَنْهلٍ يَسْعَى لِظَمْآن٢٥
عِشْ لِلْبلادِ (أبا الفارُوق) نُورَ هُدًى
وأَعْلِ رايَتَها في كُلِّ مَيْدان
وعاشَ فاروقُ للدنْيا يُجَمِّلُها
وَيَزْدَهِي بُمحَيَّاُه الْجديدان٢٦
لما دَعوْهُ أَمِيرًا للصعِيد سَمَا
بِهِ الصَّعِيد وأضْحى جِدَّ جَذْلان
لا زالَ زِينَةَ عَهْدٍ طابَ مَوْرِدُهُ
مُجَمَّلٍ بِجَلَالِ الْمُلْكِ مُزْدَان

هوامش

(١) البردة: الثوب. الفصحى: اللغة العربية، عدنان: من أجداد العرب الذين تنتهي إليهم العربية ويعرفون بالفصاحة.
(٢) الناجية: الناقة السريعة تنجو بمن ركبها. شبه بها الرياح في حملها الأخبار حافظة لها أمينة عليها. الأرسان: جمع رسن (بالتحريك) وهو الزمام. وإلقاء الرياح بالأرسان كناية عن لينها وسهولة قيادها.
(٣) الحيا: المطر. صوبه: انصبابه ونزوله. ندى كفيه: عطاؤهما وبذلهما.
(٤) الكعبة: البيت الحرام بمكة وإليه يتجه المسلمون حجًّا وصلاة. عابدين: قصر الملك في القاهرة.
(٥) الشأو: الغاية والمدى. الشان (بالتسهيل): الشأن (بالهمزة).
(٦) كسرى (بكسر الكاف وفتحها): لقب لملك الفرس. ويريد بمشارفه: ما بني من قصور عالية. البهرة من كل شيء: وسطه. الصرح: القصر وكل بناء عال. الإيوان: الصفة العظيمة، وكانت تتخذ لجلوس الملك (الصفة: بناء ذو ثلاثة حوائط).
(٧) القسمات: جمع قسمة (بكسر السين وفتحها) وهي ما تنطق به أسارير الوجه وملامحه من حسن وجمال.
(٨) الوسنان: النائم الغافل.
(٩) الإمعان في السير: الإسراع.
(١٠) كيوان: اسم زحل (بالفارسية).
(١١) ضفاف النيل: شواطئه ويريد مصر. رضوى وثهلان: جبلان بالحجاز.
(١٢) العقيان: الذهب الخالص.
(١٣) الباحة: الساحة. الكريهة: الحرب وشدتها. خفان (كحسان): مأسدة قرب الكوفة يضرب المثل بآسادها في البطش والقوة.
(١٤) الشامس: الفرس الجموح. مال بالرأس: أي خضع.
(١٥) الآلاء: النعم. الغراء: الحسنة المشهورة. أوزاني: أي قصائدي.
(١٦) العارفة: العطية والمعروف. الندى: الكرم.
(١٧) ربوع العلم: دوره.
(١٨) الهتان: المطر فوق الهطل. صوبه: انصبابه.
(١٩) الدارات جمع دارة. وهي المحل يجمع البناء والعرصة. وتطلق أيضًا على القبيلة وكلاهما مراد هنا. قحطان: هو ابن عابر، وهو جد عرب اليمن. وفيهم كان للعربية مجدها الأول.
(٢٠) يريد بالمجمع: مجمع اللغة العربية الذي أنشأه الملك فؤاد الأول سنة ١٩٣٣م. المشارع: موارد الشاربة. الواحد: مشرع ومشرعة (بفتح الراء). وبل صداه: أروى ظمأه وشفى غلته. الصديان: العطشان.
(٢١) الرشيد: هو هارون الرشيد الخليفة العباسي الذي بلغت بغداد في عهده غايتها في الحضارة والعلوم. بغدان: اسم لبغداد.
(٢٢) يمم: قصد. جهابذ لقوم: نقادهم العارفون بتمييز الجد من الرديء.
(٢٣) الجواء: جمع جو.
(٢٤) تزجي: تساق وتخمل.
(٢٥) المنهل: المورد ينهل منه الظامئون.
(٢٦) المحيا: الوجه. الجديدان: الليل والنهار. ولا يفردان فلا يقال للواحد منهما جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤