ميلَادُ الفَارُوق

تهنئة الملك فاروق الأول بعيد مولده، وقد قيلت هذه القصيدة في الحادي عشر من فبراير سنة ١٩٣٧م.

بَهَر الوُجُودَ بلؤلؤيِّ ضِيَائهِ
نَجْمٌ تألَّق في بَدِيع سَمائِه
لَبِسَ المَسَاءُ به غِلَالةَ مُسْفِرٍ
حَتَّى كأَنَ الصُّبْحَ مِنْ أَسْمائه١
وتَطَامَنَتْ زُهْرُ الكَواكِبِ هَيْبةً
لِلْمُشْرِقِ الوَضَّاحِ في عَلْيائه٢
هَيْهَاتَ! أَيْنَ ضِياؤُها مِنْ ضَوْئِه
وسَنَاؤُها مِنْ بَعْدِ أوْجِ سَنَائه؟٣
عَجَبًا! يَزِيد ظُهورهُ بِعُلُوِّهِ
والنَّجْمُ يُعْرَفُ إنْ عَلَا بخَفَائه
ما جَالَ في الآفَاقِ أَصْدقُ جَوْهرًا
مِنْه وأَصْفَى مِنْ نَقيّ صَفائِه٤
يَلْقَاكَ نُورُ الْحَقِّ في لَمَحَاتِه
ويَفِيضُ مَاءُ البِشْرِ مِنْ لَأْلَائِه٥
أيْنَ النُّجُومُ جَلَالُها ورُوَاؤُهَا
مِنْ عَبْقَرِيِّ جَلالِه ورُوَائه؟٦

•••

نَجْمٌ أَطَلَّ عَلَى الْوُجُودِ فكَبَّرَتْ
زُمَرُ الوُجُودِ وهَلَّلَتْ لِلِقَائه٧
وَرَنَتْ لَه الآمَالُ ظَمْأَى حُوَّمًا
مَعْقُودةً أَبْصارُها برَجَائه٨
والنِّيلُ سَارَ يَجُرّ مِنْ أَذْيالِهِ
تِيهًا ويَمَرَحُ في مَدَى خُيَلَائه
يَخْتَالُ ما بَيْن الرِّياضِ وكُلُّها
مِنْ نَسْجِ كَفَّيْه ومِنْ إيحَائه
ويُفَتَّحُ الأَزْهارَ في أكْمامِها
ويُنَبِّه القُمْرِيَّ مِنْ إغْفَائه٩
يُصْغِي إلَيْه يَهُزُّ أَعْطَافَ الدُّجَى
ويُجَدِّدُ الآمَالَ سِحْرُ غِنَائِه١٠
(إسْحَاقُ) لم يُوهَبْ عُذوبةَ صَوْتِه
و(عِنانُ) لم تُمَنْح جَمَالَ أَدَائه١١
أيْن الصِّنَاعَةُ والفُنُونُ وما حَوَتْ
في جَنْب صُنْع اللهِ في أَحْيَائه؟
النِّيلُ بالفَارُوقِ أَعْذَبُ مَوْرِدًا
ماءُ الْحَياةِ ثُمَالَةٌ مِنْ مَائه١٢
علَّمتَه صِدْقَ الوَفَاء فأَصْبَحتْ
تَتَحدَّث الدُّنْيا بصِدْق وَفَائه١٣
ومَنَحْتَه خُلُقَ الْعَطَاء فَغَرَّدتْ
صَدَّاحَةُ الوَادِي بفَضْلِ عَطَائه
لمَّا عَلَوتَ مَطَاهُ صَفَّقَ مَوجه
بِشْرًا وأَسْكَتَ وجْدَه برُغَائه١٤
يَبْدو السَّفينُ به كما تَبْدو المُنَى
لليَائِس الْحَيرَان في ظَلْمائِه
أو كَالْحَيَاة تَدِبُّ في جِسْمِ امْرِئٍ
أفْنتْ شِكَايتُه فُنونَ إسَائه١٥
أَوْ كَالصَّبَاح لِمُدْلِج خَبَطَ الدُّجَى
فَطَوَاهُ وادِي التِّيه في أَحْشَائه١٦
أوْ كَالغمَام رأَتْه أزْهَارُ الرُّبَا
مِنْ بَعْدِما احْتَرقَتْ لطُولِ جَفَائه١٧
أوْ كابْتِسَامِ السَّعْدِ بَعْدَ قُطُوبِه
أَوْ كانْقِيَادِ الدَّهْرِ بَعْدَ إبَائه١٨
يَجْرِي السَّفِينُ وفَوْقَه المَلِكُ الَّذِي
صَفِرتْ يدُ الأيَّامِ مِنْ نُظَرائه١٩
الدِّين والأخلَاقُ مِلءُ جَنَانِه
وجَلالَةُ الأمْلَاك مِلءُ رِدَائه٢٠
يَهْتَزُّ في بُرْدِ الشَّبَابِ كَأَنَّه
سَيْفٌ يُدِلّ بِمائِه وَمَضَائِه٢١
وَالنِّيلُ يَجْتَازُ المُروجَ مُبشِّرًا
فُترددُ الأَطْيَارُ مِنْ أصْدائه
وخَمَائِلُ الوَادِي تَمُدُّ غُصُونَها
وتَوَدُّ لَوْ فَازَتْ بلَمْحِ ضِيَائه
قَالُوا لَهَا: جَاءَ الْغَمَامُ فأَقْبَلَتْ
تَسْتَقْبِل الآمالَ في أَنْدَائه٢٢
والزَّهْرُ يَخْتَرِقُ الكِمَامَ لنَظْرةٍ
فَيرُدُّه للكِمْ فَرْطُ حَيَائه٢٣
قَدْ كَانَ يُزْهَى في الرِّيَاضِ بِحُسْنِه
فَرأَى بَهاءً فَوْقَ حُسْن بَهَائه
ورَأَى نُضَارًا مِنْ شَبَابٍ يَنْحَني
أَزْهَى الغُصُونِ نَضَارةً بإزَائه
سَعِدَ (الصَّعِيدُ) وأهْلُه بزِيَارَةٍ
بَلَّتْ غَلِيلَ الشَّوْقِ في أرْجَائِه
سَالَتْ إلَيْكَ به المَدَائنُ والقُرَى
والبَدْرُ يُغْرِي العَيْنَ باسْتِجْلَائِهِ٢٤
سَدُّوا الشِّعَابَ وأقْبَلَتْ أَرْسَالُهم
كالزَّاخِرِ الهَدَّار في ضَوْضَائه٢٥
ما بَيْنَ حامِل قَلْبِه بيَمِينِه
ومُثَوِّبٍ هَزَّ الرُّبَا بدُعَائه٢٦
فانظُر إلى الوَادي الفَسِيح فَهَلْ تَرَى
إلَّا قُلوبًا في فَسِيح فَضَائه؟
كُلٌّ دَعَاهُ الشَّوْق فانْتَهَبَ الْخُطَا
في نَظْرَةٍ تَشْفِيه مِنْ بُرْحَائه٢٧
وَطَلَعْتَ كالْأَملِ الوَسِيمِ يَحُفُّه
نُورُ المَهابةِ في جَلالِ جَلائه
كالبَدْرِ في إشْرَاقِه، والرَّوْضِ في
إزْهارِه، والغَيْثِ في إسْدَائه
في مَوْكِبٍ بهَرَ الزَّمَانَ فحَيَّرتْ
عَيْنَاهُ بينَ جَمَالِهِ وَسَرَائه٢٨
عَجَزَ المُؤّرِّخُ أَنْ يَرَى أشْبَاهَه
فيمَا طَوَاه الدَّهْرُ مِنْ أَنْبائِهِ
ما نالَه (المَنْصُورُ) في (بَغْدَادِه)
يَوْمًا ولَا الأَمْلَاكُ مِنْ خُلَفَائه٢٩
و(النِّيلُ) لم يَشْهَدْ جَلَالَةَ حَفْلِه
في عَهْدِ (خَفْرَعِهِ) ولا (مِينَائه)٣٠

•••

أَرَأَيْت آثارَ الملُوكِ وما بَنَوْا
مِمَّا يَضِيقُ الْجِنُّ عَنْ إنْشَائه؟
وُلِدُوا وشَمْسُ الأُفْقِ في رَيَعَانِها
والدَّهْرُ يَرْفُل في ثِيَابِ صِبَائه
دَرَسُوا كِتَابَ الكَوْنِ أوَّلِ طَبْعَةٍ
وَوَعَوْه مِنْ أَلفِ الوُجُودِ لِيَائه
وأَتَوْا مِنَ الإعْجازِ ما تَرَكَ النُّهَى
حَيْرَى فَلمْ تَمْلِكْ سِوَى إطْرَائه
ذَهَبُوا ولَمْ تَذْهَبْ صَحَائِفُ مَجْدِهِمْ
وطَواهُمُ المِقْدَارُ في أَطْوَائِهِ٣١
المَجْدُ في الدُّنْيَا سِجِلٌّ خَالِدٌ
تَتَعاقَبُ الْأَجْيالُ مِنْ قُرَّائه

•••

(فارُوقُ) أنْت مَناطُ آمَالِ الْحِمَى
وَسُلَالَةُ الأَمْجَادِ مِنْ نُصرَائه٣٢
أعْلَى أَبُوك بَنَاءَ (مْصَر) فَزَاحَمتْ
زُهْرَ الكَواكِبِ رَاسِياتُ بِنَائه٣٣
وَأرَى (فُؤَادًا) فيكَ في قَسَمَاتِه
ومَضَائِه وذَكَائِه وسَخَائِه٣٤
تَبْدُو أَيَادِي الغَيْث في زَهْرِ الرُّبَا
وَيَعِيشُ سِرُّ المرْءِ في أَبْنَائه
أَشْرِقْ عَلَى الْوَادِي فَأَنْتَ حَيَاتُه
وعِمَادُ نَهْضَتِه ومَجْدُ لِوَائه٣٥
أَحْيَيْتَ دِينَ الله في محرَابه
شُكْرًا عَلَى ما تَمَّ مِنْ نَعْمائه٣٦
وَوَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيْه وقْفَةَ خاشعٍ
يَرْجُو مَثُوبَتَه وحُسْنَ جَزَائِهِ
الدِّينُ طِبُّ النَّفْسِ منِ آلَامِها
وهِدَايَةُ الْحَيْرَانِ في بَيْدَائه
ما أَجْمَلَ التَّوْفيقَ في شَرْخِ الصبَا
والعُمْرُ فَيَّاضُ السنَى بفَتَائه!٣٧

•••

لله مَوْلِدُكَ السَّعِيدُ ويَوْمُه
وتَسَابُقُ الآمَال في أَجْوَائه
يَوْمٌ به بَسَطَ السُّرُورُ شُعَاعَه
وأَعَار ثَوْبَ صَباحِه لِمَسَائه
يَوْمٌ أَغَرُّ كَأنَّ صفْوَ سَمَائِه
صَفْوُ النَّعِيمِ بِظِلِّه ورَخَائه
يَوْمٌ سَرَتْ فيه البَشَائِر حُوَّمًا
تُفْضِي إلى الدُّنْيَا بِسِرِّ عَلَائه

•••

مَوْلَاي عَهْدُكَ في البِلاد مُؤَزَّرٌ
باليُمْنِ فَاهْنأْ في مَدِيدِ هَنَائه
قطفتْ به (مِصْرُ) جَنَى اسْتِقْلَالِهَا
وأظَلَّها المُمْتَدُّ مِنْ أفيائِهِ٣٨
وأطَاحَت القَيْدَ العَنيفَ وطَالَما
عاذَتْ بِرَبِّ النَّاس مِنْ إيذَائه٣٩
والشُّكْرُ في السَرَّاء يَعْظُمُ كُلَّما
ذَكَرَ الفَتَى ما مَرَّ مِنْ ضَرَّائه٤٠
مَولَاي، عِشْ للمُلْكِ نَجْمَ سُعُودِه
وارْفَعْ لِواءَ الْمَجْدِ في أَنْحَائه٤١
أنْتَ الذي تَحْيا المُنَى بحيَاتِه
وتسُودُ (مِصْرُ) وتَعْتَلِي ببَقَائه

هوامش

(١) الغلالة (بالكسر): شعار يلبس تحت الثوب. المسفر: المضيء المشرق.
(٢) تطامنت: ذلت وخضعت. زهر الكواكب: الكواكب المشرقة الوضاءة.
(٣) هيهات: اسم فعل ماض بمعنى بعد. السناء (بالمد): الرفعة. الأوج: العلو.
(٤) جوهر الشيء: مبناه ومتكونه.
(٥) اللمحات: جمع لمحة. وهي (هنا) بمعنى الضوء والنور. اللألاء: النور.
(٦) الرواء: حسن المنظر.
(٧) الزمر: جمع زمرة. وهي الفوج والجماعة.
(٨) رنت: أدامت النظر إليه. حومًا: عطاشًا.
(٩) الأكمام: جمع كم (بالكسر)، وهو وعاء الطلع وغطاء النور. القمري: ضرب من الحمام.
(١٠) الأعطاف: جمع عطف، وهو الجانب والناحية. الدجى: الظلام.
(١١) إسحاق: هو ابن إبراهيم الموصلي، وهو مغن عباسي معروف بجودة الغناء والضرب. عنان: جارية للناطفي مولدة من مولدات اليمامة، وبها نشأت وتأدبت، وكانت جميلة مليحة الأدب والشعر، سريعة البديهة، وكانت مغنية مشهورة بحسن أدائها. ماتت بخراسان في عهد الرشيد. الأداء: التوقيع.
(١٢) ثمالة من مائه: أي فضلة منه.
(١٣) الوفاء: إنجاز الوعد. وفاء النيل: زيادة مائه.
(١٤) المطا: المتن والظهر. رغاؤه: صوت أمواجه يشبهها برغاء البعير. يشير إلى رحلة (الفاروق) إلى الوجه القبلي سنة ١٩٣٧م في النيل، وهي السنة التي قال فيها الشاعر هذه القصيدة.
(١٥) الإساء: جمع آس. وهو الطبيب.
(١٦) المدلج: الذي يسير في أول الليل. وقد يستعمل لمن يسير في آخره. خبط الدجى: أي سار في ظلام الليل على غير هدى. التيه: ما يتيه فيه الإنسان ويضل.
(١٧) الربا: جمع ربوة، وهو المرتفع من الأرض.
(١٨) القطوب: العبوس والتجهم. إباؤه: امتناعه وشموسه.
(١٩) صفرت: خلت.
(٢٠) الجنان: القلب. الأملاك: الملوك، الواحد. ملك.
(٢١) برد الشباب: إهابه. والبرد (في الأصل): الثوب. يدل: من الدلال. وهو التيه والعجب. ماء السيف: بريقه ولمعانه. مضاؤه: حدته وسرعة قطعه.
(٢٢) الأنداء: جمع ندى. وهو المطر.
(٢٣) الكمام: جمع كم (بالكسر) وهو وعاء الطلع وغطاء النور.
(٢٤) يريد «بسيلان المدى والقرى»: كثرة من وفدوا وحضروا إلى لقائه منها. استجلاؤه: أي النظر إليه.
(٢٥) الشعاب: أي الطرق والمنافذ. الأرسال: الجماعات، الواحد: رسل (بالتحريك). الزاخر الهدار: البحر عالى الأمواج.
(٢٦) المثوب: الهاتف الداعي.
(٢٧) انتهب الخطا: أسرع عدوًا. البرحاء: ما يعانيه المشوق من شدة الشوق والوجد.
(٢٨) السراء: الشرف والرفعة.
(٢٩) المنصور: هو أعظم خلفاء العباسية والمؤسس الحقيقي لها، وفي عصره صارت بغداد أزهى مدن الدنيا، وانتشرت بها الحضارة وارتقت العلوم. وولد المنصور سنة ٩٥ﻫ، وولي الخلافة سنة ١٣٦ﻫ، وتوفي بمكة سنة ١٥٨ﻫ.
(٣٠) خفرع: هو أحد فراعنة مصر ومشيد هرم الجيزة الثاني. ويريد «بمينائه»: مينا، أول الجالسين على عرش مصر بعد توحيد كلمتها وضم مصر السفلى إلى العليا.
(٣١) المقدار: القدر (بالتحريك). أطواؤه: ثناياه.
(٣٢) مناط الآمال: حيث تتجه وتجتمع.
(٣٣) الراسيات: الثابتة المكينة.
(٣٤) القسمات: جمع قسمة وهي الحسن. المضاء: حدة العزم، والنفاذ في الأمور.
(٣٥) اللواء: العلم.
(٣٦) المحراب: مقام الإمام في المسجد.
(٣٧) شرخ الصبا: أوله وريعانه. الفتاء: الشباب.
(٣٨) جنى استقلالها: أي ثمرته. الأفياء: الظلال، الواحد: فيء.
(٣٩) أطاحت القيد: حطمته وألقت به. عاذت: استعاذت وامتنعت.
(٤٠) السراء: نعيم العيش. الضراء: ضده.
(٤١) نجم سعوده: أي طالع يمنه وسعادته. وللعرب نجوم سعد يتفاءل بها ويتيمن. وسعود النجوم عندهم عشرة، منها: سعد السعود. ويقال فيه: إذا طلع سعد السعود نضر العود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤