كلمة للمؤلف

وذكر ما دار بينه وبين علماء أوروبا من المراسلات بشأن الكتاب

هذا كتاب كتبتُهُ للناس، خاطبتُ بهِ حكماء الخافقين، وعلماء المشرقين، وفلاسفة المغربين، تبصرةً وذكرى للعادلين، من كل نبيهٍ ونبيل، وعالم جليل، وملك عظيم، ووزير خطير، ونائب عن أمتهِ كبير، ذكرى للأمم، وعبرة للدول، وسعادة للناشئين من البنين، عسى أن يعدل الناس عن ظلمهم، ولا يتبعوا خطوات غيهم، ويسيروا على الصراط المستقيم.

إني ضممتُ جوهرة الإنسان، إلى فِلْذَة الحيوان في النظام، وقرنتُ نظام الكواكب الدرِّي، بما رآه بسمرك وسلبري، وسوَّيت ما بين نواميس الأحجار في سقوطها، وقوانين الكواكب في هبوطها، وبين نظام الأمم الأرضية، وأحوالها السياسية.

ولست أدعي النهاية في تحقيقهِ، والإجادة في تنميقهِ، فما أكثر العوائق من الأعمال الدراسية، وما أبعدها عن هذه المرامي النائية، والمطالب السامية.

وما هذا الكتاب إلَّا خطرات خاطرات، ولمحات سانحات، وبوارق لامعات، في ليالي الحوادث المُدْلَهِمَّات.

وهو وإن كان قطرة من بحر السلام العام، فسوف تتبعها المُزْنُ الممطرات، ولسوف يقوم بهذا الأمر علماء محققون من رجال الشرق والغرب، ولَيُعَلَمَنَّ نبؤه بعد حين.

الدنيا بحر ملح أجاج، متلاطم الأمواج، يغشاه موج الحياة المدلهمَّة، من فوقهِ المظالم المُطْلَخِمَّة، من فوقه سحائب الحروب الشيطانية البشرية، بحيث إذا أخرج المرء فيها يده لم يكد يراها، وضلَّ في موجهِ العظيم، هذا مثل حال الإنسان، الضائع في ثنايا الزمان.

لذلك ألَّفتُ هذا الكتاب؛ ليبحث العقلاء عنهُ في ذلك العباب، وأسميتهُ «أين الإنسان».

وأعطيتُه باليمين للحكماء، ممن تحت السماء، وباليسار للسُّوَّاسِ العظماء، على سطح الغبراء.

ولما كانت الأشكال أولى بأشكالها، والفضائل أقرب إلى أهلها، والعيون أعلق بأهدابها، وكان كتابي موجهًا لطائفتين من العالمين، ومهدًى إلى نوعين من العقلاء العاملين، رجل عليم، وسائس عظيم، بدأت بإرساله إلى مؤتمر الأجناس العام؛ لأنهُ جمع بين الحُسنيين ونال المنقبتين، لولا علو المنار ما عم نوره المسافرين، ولولا ضوءه ما هدى السفائن في ظلمات الغياهب ولا الضالين.

إن لتأليف الكتاب أسبابًا يطول شرحها، وقد أرجأتها لتُذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ولما تمَّ ترتيبهُ وانتظم عقده، أيقنت أن أفئدةً تهوي إليهِ إذا سمعتْهُ، وعقولًا تصبو إليهِ إذا قرأتْهُ، من عقلاء الأمم جمعاء، ولعمرك لقد كنت أرجو انتشاره، وأودُّ إظهاره، ولكن ما كنت أدري كيف السبيل، حتى قرأتُ في الجريدة خبرًا عن مؤتمر الأجناس العام الذي سيقوم بالبلاد الإنجليزية، وقد شرح أمره المستر ستيد صاحب مجلة المجلات فقال ما ملخصهُ:

إن الأمم الشرقية والغربية أسودها وأبيضها وأحمرها، ستصطدم اصطدامًا حين ترتقي إلى غاياتها، وتنتهي إلى نهاياتها، وسيكون يوم عصيب مشئوم أمام العالمين، وهذا المؤتمر أول خطوة في تعارف الأمم والأجناس وسائر الملل والنحل، وفيهِ ٢٥ رئيسًا من رؤساء المجالس البرلمانية في خمسين بلدًا من بلدان الدنيا، ومعظم أعضاء مجلس التحكيم في لاهاي، و١٢ من حكام المستعمرات، و٨ من رؤساء النظار في البلاد التابعة لإنجلترا، ومائة وثلاثون أستاذًا من أساتذة القانون الدولي، ومندوبو الصحافة وغيرهم، إلخ.

فلما وقفتُ على ذلك عجبت كل العجب من توافق ما بسطتْهُ الجريدة لفصول الكتاب، ولما قرأت أن الأستاذ مرغليوت هو الذي يتلقى ما يرد له من مكاتبات المصريين وكنت أعرفهُ من قبل، أرسلت له نبذة من الكتاب، وفَذْلَكَتَهُ الدالة على ما فيهِ بخطاب، وذكرت أني أخاطبهُ كما أخاطب حكماء الأمم وملوكها تحت أعلام الحكمة التي نشرت على العالمين، وشملت الناس أجمعين، وطلبت أن ينظر هو ومن معهُ من رجال اللجنة في أمر كتابي، فإن استحقَّ العرض على المؤتمر أسرعت إلى إخواني المصريين فترجموه بالإنجليزية فجاءني منهُ خطابان أولهما بنصه:

حضرة الجليل القدر طنطاوي جوهري

سيدي، بعد التحيات، فقد ورد كتابكم المؤرخ في اﻟ ٢٥ من تشرين الأول مع ترجمة إنجليزية وبُقْجَة تحتوي على أوراق فيها جزء من مصنفكم الجديد المعنون «أين الإنسان» الذي تُؤْثِرون عرضه على مؤتمر الأجناس العام المقصود اجتماعهُ في الصيف الآتي، واللجنة المدبرة لأمور المؤتمر سينعقد إن شاء الله مجلسها في منتصف الجاري.

فحينئذٍ سأعرض على أصحابي مشروعكم الدال على علوِّ همتكم حتى إذا انحل المجلس أخبرتكم بالنتيجة، والسلام.

المخلص
د. مو. مرغليوت
في اﻟ ٦ من تشرين الثاني سنة ١٩١٠
وجاء خطاب آخر بتاريخ الخامس من كانون الأول وهو ديسمبر سنة ١٩١٠:

حضرة الفاضل طنطاوي جوهري أدام الله بقاءه

بعد التحيات، فقد عرض مضمون كتابكم الكريم على لجنة مؤتمر الأجناس العام، فليس عندهم ما يمنع، وأما أن تتكلفوا ترجمة مؤلفكم النفيس إلى لغة أجنبية فالغالب على رأينا أن ذلك يذهب برونقهِ؛ فإن انتقال الكتاب من لغة إلى لغة هو كانتقال النفس من بدن إلى بدن، لا يُؤْمَن استيحاشها منهُ، والسلام.

د. مرغليوت

فأرسلت الكتاب منسوخًا بخط اليد في السابع عشر من شهر مارس سنة ١٩١١ وطلبتُ منهُ ترجمة الكتاب إذا شاء.

ولقد كنت كاتبت الأستاذ أغناطيوس غويدي بإيطاليا وحضرة العالم الشهير الدكتور محمود بك لبيب محرم بألمانيا، فجاء من الثاني خطاب بتاريخ ٢ يناير سنة ١٩١١ يحضُّ على الإسراع في طبع الكتاب باللغة العربية إذ قال: أُلِحُّ عليك في النصح بطبع الكتاب أولًا في مصر، وأظن أن طبعه لا يستدعي صعوبة أو عوائق، ثم قال:

وإني بعون الله مستعد لترجمة الكتاب إلى الألمانية، فأرسل لي منهُ صورة لكي أزاول ترجمتها من الآن؛ حتى أتمكن من نشرها عقب طبع الأصل العربي مباشرة أو في زمن قريب منهُ.

المخلص
محمود لبيب
وأما الأستاذ العلامة أغناطيوس غويدي فكتب لي ما نصه:

من أغناطيوس غويدي برومية الكبرى إلى المعلم العلامة طنطاوي جوهري بالقاهرة

يا سيدي الأستاذ الأكرم، أما بعد تقديم التبجيل والتحية، فقد وصلتني رسالتك الكريمة وفهرس كتابك الجديد وفصل منهُ شرفتني بإرساله إليَّ، وقد أضمرت في نفسي أن أحير الجواب بلا تأجيل، بيد أنه عاقتني عوائق وبطأت بي أشغال لا تحصى، وأرجو من فضلك أن تقبل عذري وتُغضي عن تأخيري جفنك، وقد تعجبت من علمك ومن تعرضك لمسائل ينزعج غيرك من معضلات غوامضها، ولعل كتابك الجديد يطبع الآن، وإن أرسلتَ إليَّ نسخة منهُ نبَّهتُ عليهِ في بعض جرائد بلدنا، وأخبرتُ عن موضوعهِ وفصوله ومذهب مؤلفه، فيكون ذلك زيادة للتعارف بين البلدين، والمأمول منكم معاشر علماء مصر أن تساعدونا في إنشاء المدرسة الإيطالية في القاهرة المحروسة بما يضاهي صدق مودتكم لنا.

هذا وقد خبَّرَتْنِي الست دي لبَدف أن حليلتك المحترمة عوجلتْ إلى رحمة ربها، وأحزنني ذلك وأمضَّنِي جدًّا، «هي الدنيا يا حبيبي»، وعليها يصحُ قول الشاعر لا على النساء:

فما تدوم على حال تكون بها

غير أنك فيلسوف العرب وكِنْدِيُّ عصرنا، ولا بد أن يَستصوب مِثْلُك بيت الشاعر:

ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ

ولا تَسَلِّي كالرضى بحكم الله؛ إذ إليه مرجعنا، وإلى رحمتهِ تعالى مآبُنا، ونعم المرجع وحبَّذا المآب، والسلام.

وهذا ملخص مقاصد الكتاب

في بيان استخراج السلام العام في الأمم من النواميس الطبيعية، والنظامات الفلكية، والفِطَر الإنسانية، وبنيان السياسة على أساس الطبيعة، وأن مدنية اليوم حيوانية، ودعوة الناس للإنسانية الحقيقية، وبيان أن الإنسان لم يفهم إنسانيتهُ، ولم يستخرج قوَّتهُ، وخطاب موجه لفلاسفة الأمم، ونوابها وملوكها، ودعوة الأولين لبحث هذا الموضوع، والآخرين للتعاون على العمل. وهو عبارة عن رواية ومحاورة بيني وبين روح من الأرواح القاطنة بِمُذَنَّبِ هالي لما اقترب من الأرض وسأل عن السلام العام، وعن أخلاق نوع الإنسان، وهو عشرون فصلًا.
  • الفصل الأول: مقدمة الكتاب في أحوال مُذَنَّب هالي وعجائبه وسيره ودورتهِ واقترابهِ من الأرض، وفي سكان السماوات وهل الكواكب العظيمة الكثيرة تبقى بلا سكان.
  • الفصل الثاني: سؤال عن حال الإنسان وقول كَنْت الألماني: «الإنسان لم يتعلم العلم عن أعلى منهُ ولو تعلم لكان أرقى.»
  • الفصل الثالث: أخلاق الإنسان وكيف كانت طبقاته العليا في رذائلها كطبقاته السفلى في جهلها ودناءتها.
  • الفصل الرابع: فضائل الإنسان وعلومهُ ومعارفهُ.
  • الفصل الخامس: استعداد الإنسان للعلوم والأخلاق وَأَنَّهُ كالهواء وكالمادة في ترقيهما حالًا بعد حال إلى أبعد غاية وأعظم شرف.
  • الفصل السادس: في أنواع الحكومات والفلاسفة وكيف كانت حكومات الناس أسدية سبعيَّة خالية من كمال الأدب العقلي إلَّا قليلًا.
  • الفصل السابع: لم نقرأ من العالم إلَّا سطرين، سطرًا من المادة وسطرًا من العقل.
  • الفصل الثامن: أين الحكمة في المادة والعقل؟
  • الفصل التاسع: الفلسفة العتيقة والفلسفة الجديدة، وكيف كان توزيع العقول على أفراد الإنسان والمنافع على الأرض، وكيف جهلها الإنسان.
  • الفصل العاشر: المنطق والأخلاق والسياسة، وفيهِ الحقيقة المرة في مقارنة السياسة بالقضاء والتعليم.
  • الفصل الحادي عشر: في حِكم وعجائب تبلغ خمس عشرة حكمة.
  • الفصل الثاني عشر: الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون وفيهِ وقفة لمشاهدة الجمال البهيج، والعدل والنظام في السماوات، ومقارنة ظلم هذا الإنسان بالعدل في عالم السماوات، وكيف عدل في نظام السماوات وظلم عالمنا، وفيهِ أيضًا ذكر أربعة آلاف أمة متحدة في ذلك الكوكب.
  • الفصل الثالث عشر: في مذكرات وهي سبع عشرة مذكرة، وفيهِ شرح حال الأمم عند نظر حجر من جبل الرصاص.
  • الفصل الرابع عشر: في الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية.
  • الفصل الخامس عشر: في الوحدات الإنسانية من اللغة والدين والوطن والجنس والمعاهدات والمصاهرات والملك الجامع والأب الأكبر والاجتماع في اللون وغير ذلك.
  • الفصل السادس عشر: مسألة الأقوى والأضعف وأننا نفعل فعل الحيوان.
  • الفصل السابع عشر: على أي قاعدة تُبنى سياسة الأمم؟
  • الفصل الثامن عشر: في درس تعليم الأطفال الحب العام، ويتبعهُ ضرب مَثلين؛ الأول تمثيل الإنسان وسائر أصناف الحيوان في الرسم بحال بناديل الساعة وأوسطها يمثل الحيوان ويمثل غيره الإنسان، الثاني تمثيل الإنسان في حاله اليوم بالماء في النهر وفي مستقبله بالماء في مرتفع مشرف على الأرض.
  • الفصل التاسع عشر: مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية، وفيه بيان ما وصلت له الأمم من المساعدة العامة القليلة وشرح الحكمة المقدسة والحكمة العالية والحكمة الذهبية والحكمة الزاهرة والحكمة الجميلة والحقيقة المحزنة ومقارنة الإنسان بحشرة أبي دقيق.
  • الفصل المتمم عشرين: في الخطبة التي خطبها السيد جامون العالم الكوكبي، وأمرني أن أبلغها للناس في الأرض شرقًا وغربًا؛ ليريهم كيف السبيل للوحدة العامة في سائر الأمم والممالك والدول. وقد جمعت الخطبة مجمل الكتاب وشرحت السياسة ومناسبتها لانتظام أمر الذكور والإناث في العدد على سطح الأرض. انتهى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤