مقدمة

أين الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فإن الحوادث الكبرى في هذا العالم موقظات للعقول، مثيرات للآراء، منتجات تغيرًا وتطورًا في النفوس البشرية.

ومن أهمها الحوادث السماوية، كالمُذَنَّبَات اللاتي تقترب من الأرض، فتُحدث في هلعًا، وفي العقول جزعًا، فيضطرب النوع البشري الإنساني، ويغدون ويروحون، في المراسم والمناهج، ويموج بعضهم في بعض، وتختلف أقاويلهم، وتعدد مذاهبهم، وتكثر أوهامهم.

ففي سنة ١٣٢٨ هجرية وهي سنة ١٩١٠ ميلادية، في شهر مايو، في العشرة الثانية منهُ، أنذر علماء الفلك الناس في أنحاء الكرة الأرضية، باقتراب المُذَنَّب المسمى بمُذَنَّب هالي، ليلة الثامن عشر منهُ، وأنذروا الناس بدهياء داهمة، وقالوا: إن ذَنَبَهُ طويل، ولعله يلامس الأرض فتحرق ويخلو وجهها من ساكنيه، وتحشر إلى العالم الآخر، فأخذت الأمم تُؤَوِّلها بحسب ما يتاح لها، فمن أهل أوروبا من باع ثروتهُ ليتمتع بها أيامًا قبل انقضاء حياتهِ، وفوات الفرص للذاتهِ، ومنهم من عمد إلى قتل أحبائه من الزوج والأولاد قبل أن تقع الواقعة، التي ليس لوقعتها في عقله كاذبة، وكأنه يقول ما قالت الزَّبَّاء: «بيدي لا بيد عمرو.» ومن أهل الشرق من أخذ يقتل أعداءه قربى إلى الله وزلفى عنده، حتى تقدم في دفتر حسناته قبل هلاكه بالمذنَّب، ومنهم ومنهم.

ومن العجب إنا نسمع ذلك الاختباط عن الخاصة، كما نسمعهُ عن العامة، وعن العقلاء كما نسمعهُ من الجهلاء، أما أنا فكنت مغرمًا أن أراه في أنحاء القبة الزرقاء، فرصدته ليلة السابع عشر من شهر مايو قبيل الفجر إذ أخلفهُ عمود من النور الضعيف الممتد من الشرق إلى الغرب الجنوبي المستطيل نحو ٥٠ درجة فلكية، فكرت في أمره وأخذت أجيل النظر في هذه العوالم العجيبة، أن هذا المُذَنَّب الكبير أحد مُذَنَّبات هائلة كثيرة العدد تعد بالملايين، تطوف حول الشمس كما تطوف السيارات المعروفة، وهذا المُذَنَّب يدور في دائرتهِ ٧٥ سنة وهو في الثانية الواحدة يجري نحو ٥٠ كيلو مترًا، مسرع لا يمل، ولا يفتر، ولا يقف لحظة، فهو في الخمس والسبعين سنة سائر على هذا النمط، وتعجبتُ من هذا الكوكب ثم اعتبرت بضوئهِ المستطيل خلفهُ، وقد أرانا ضوءه وأطال ذَنَبَهُ، ولم يعبأ بأقوال الفلكيين، ولا نظر الناظرين، ولا تَخَرُّص المتخرصين، إنهُ ألقى شعاعهُ في السماء، وخالف سنة الكواكب بذَنَبِهِ، واتبع طريقهُ، ليفتح للناس باب الفكر، هكذا علماء الأمم والحكماء والأنبياء يوقظون الناس من غفلاتهم بما يلقون عليهم من الحكم البديعة التي لم يألفوها، والآيات العجيبة التي جهلوها، فيجمعون بين الإيضاح والإغراب، والشجاعة والإعراب، والإقدام والآداب، إن في هذا الكوكب مُعْتَبَرًا للمذكرين، ويا ليت شعري ماذا حال الأمم إذا رجع كَرَّة أخرى بعد ٧٥ سنة، وكيف يكون حال الممالك والدول، وهل يتغير وجه الأرض وتزول المظالم والقسوة والوحشية من هذا الإنسان، أم تزداد المظالم وتكثر المغارم، أخذت أجول في عالم الفكر وأسيح في بحار الخيال، وتأملت في تلك العوالم العجيبة المنظمة السير البديعة النظام، إن هذا المُذَنَّب يقطع فلكه الذي هو عبارة عن قطع ناقص، ويجري بسرعة مدهشة وسير منتظم لا يخطئ في سيره ولا يتوانى في جريه، وكم في كواكب السماء من سريع الجري حسن النظام باهر الضوء عجيب الإتقان مثله.

لا يزال علماء الفلك كل يوم يتبينون مُذَنَّبًا جديدًا يرصدونهُ بالمراصد، ويثبتونهُ في الدفاتر، وهي كلها منظمة السير، دائرة أبدًا أمدًا حتى يفنى هذا النظام العام، ومثلها في النظام السيارات المعلومة وكثير منها غير معلوم، وهكذا الكواكب الثابتة التي تعد بالملايين كل في فلك يسبحون بنظام وإتقان، هذا المُذَنَّب من قبل ظهرت حركاته منظمة، ودوراتهُ مرتبة عرفها التاريخ، وقد شاهده الناس عام ١٢ قبل المسيح عليهِ السلام، ثم في يناير سنة ٦٦ بعده، ومارس سنة ١٤١، ومارس سنة ٢١٨، ومارس سنة، ٢٩٥ ومارس سنة ٣٧٣، ويوليو سنة ٤٥١، ويوليو سنة ٥٣٠، ويوليو سنة ٦٠٨، وأكتوبر سنة ٦٨٤/الموافق ربيع الأول سنة ٦٥ هجرية، ويوليو سنة ٧٦٠/ربيع الأول سنة ١٤٣ﻫ، ويوليو سنة ٨٣٧/رجب سنة ٢٢٢ﻫ، ويونيو سنة ٩١٢/ذو القعدة سنة ٢٩٤ﻫ، وسبتمبر سنة ٩٨٩/جمادى الثانية سنة ٣٨٩ﻫ، ومايو سنة ١٠٦٦/رجب سنة ٤٥٨ﻫ، وسبتمبر سنة ١١٥٢/جمادى الثانية سنة ٥٤٧ﻫ، وسبتمبر سنة ١٢٢٣ رمضان سنة ٦٢٠ﻫ وديسمبر سنة ١٣٠١/ربيع ثان سنة ٧٠١ﻫ، ونوفمبر سنة ١٣٧٨/شعبان سنة ٧٨٠ﻫ، ويونيو سنة ١٤٥٦/رجب سنة ٨٦٠ﻫ، وأغسطس سنة ١٥٣١/المحرم سنة ٩٣٨ﻫ، وأكتوبر سنة ١٦٠٧/رجب سنة ١٠١٦ﻫ وسبتمبر سنة ١٦٨٣/رمضان سنة ١٠٩٣ﻫ، ومارس سنة ١٧٥٩/رجب سنة ١١٧٢ﻫ، ونوفمبر سنة ١٨٣٥/رجب سنة ١٢٥١ﻫ ثم في مايو سنة ١٩١٠/جمادى الأولى سنة ١٣٢٨ﻫ. فهذه ٢٥ دورة في ٢٠ جيلًا، فهو يدور في كل ثلاثة أرباع القرن دورة واحدة، فتأمَّل وتعجَّب، لهذا المُذَنَّب عجائب في ظهوره ولطائف في مروره، كم رصده الراصدون وحسب له الفلكيون، وأحجم عن الحرب وأقلع المحاربون، وكم شجع ظهوره قومًا وكم ذعر منهُ أقوام، ألا ترى قصة المعتصم وحربه عمورية وأقوال الفلكيين وكيف غلب وانتصر ومدحهُ أبو تمام بالقصيدة التي أولها:

السيف أصدق أنباء من الكتب
في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعب
بِيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهنَّ جلاء الشك والرِّيَب

وفيها يقول:

وخوفوا الناس من دهياء داهمة
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذَنَبِ

فهو مُذَنَّب هالي؛ لأن ذلك في سنة ٢٢٢ في شهر رجب الموافق يونيو سنة ٨٣٧، ولقد ذُكر رجب في القصيدة؛ يقول:

… … … … … …
ما كان من صفر الأصفار أو رجب

هكذا سماه الفلكيون سنة ١٠٦٦ بمُذَنَّب الفتح إذ غلب غليوم الفاتح دوق نورمانديا في أيام ظهوره على البلاد الإنجليزية، فأنت تراه منظم الحركات، بديع الخطرات، لا يخطئ في تقديره، ولا يبطئ في مسيره، إلَّا لعوارض وطوارئ نادرة، دعاني ذلك إلى النظر في أمره، والتفكر في سيره، والبحث في عجائبه، وغرائبه، فراقبتهُ مع الناظرين، ورصدتهُ مع الراصدين، ورأيتهُ كَرَّتين، كَرَّة في الشرق قبل الفجر، وبعده، وآونة بعد الغروب، وقد سار في طريقه، وجرى في شوطه، واستبق يعدو في هذه العوالم الشاسعة، والفيافي القاصية، والدنيا الواسعة، إنهُ لن يعود إلَّا ونحن تحت أطباق الثرى، جسدًا هامدًا، وصعيدًا جُرُزًا، حرصت أن أراه، لئلا أُحْرَم من عِبْرَتِهِ، والحكمة فرصة سانحة، فإذا ما غفل عنها المرء باء بالحسرة، وعاش كئيبًا لها وهو مع النادمين، وها هو غاب عن الأبصار، وفارق الديار، وسار يعدو في ذلك العالم الواسع العظيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤