نغمة من موسيقى الكتاب

لعلك أيها الذكي المطلع على كتابي هذا، يشوقك أن تقف على أسباب تأليفه، فأحدثك عنها لتعجب من هذا الوجود، ولترى أن للإنسان في ظلمات الحياة الدنيا مناهج وسبلًا تستبين ببصيص شعاع يأتلق من أنجم الهدى، الطالعات في ثنايا الظلمات.

كنت أجد في نفسي دائمًا معاني متشابهة، وآراء متقاربة، تدور في دائرة، وتسير في اتجاه مرسوم، لا تحول ولا تزول، مهما عاقت العوائق، وحالت الحوائل، وهي هذه الآيات من الكتاب العزيز: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ، لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

وطالما اختلج بقلبي، وسبق لذهني، فحكم عقلي، أن مسألة الذكور والإناث، وتقارب تساويهما في الوجود، وتنظيم أعدادهما على سطح الكرة الأرضية، أجل دليل، وأقوى حجة، وأسطع برهان، وأحكم قول، على أن هناك غرائز لو كشف الناس عنها الحجاب، وأبرزوها للعيان، لصلح حال البشر، كما تراه في الكتاب.

•••

بدأت أولًا في تحقيق الميزان والقسط والنظام والعدل في العالم المشاهد، وعولت في الأكثر على المحسوسات، ولم أشأ أن أقرأ الحكمة إلَّا بالقياس على المشاهدات، ولا أدرسها إلَّا مع النظر في المخلوقات.

النظام في كمية المادة وتركيبها وحركتها

رأيت أن الهواء أكثر من الماء، والماء أعم من الغذاء، والغذاء أكثر من الدواء، فعجبت لهذا العالم، كلما اشتدت الحاجة لشيء كثر وجوده، وتقل الأشياء، كلما قل طلابها، أو لم تجب أسبابها، وأكثر الناس عن ذلك غافلون.

ثم نظرت فيها من حيث تركيبها، ونسب أجزائها، فألفيت عجبًا عجابًا، ألفيت الأجزاء موضوعة بحساب، مُرَتَّبة بدقة ونظام، في كل تركيب كيماوي، أفلا تتعجب معي من وزن ذرات الأكسوجين والأودروجين في الماء، وإن الأول أثقل من الثاني أضعافًا، والثاني أكبر منهُ حجمًا، على نسب لو اختلت وزنًا أو حجمًا، لفسد الماء، وانفصل الزائد، وطار مع الهواء.

ألا تتعجب من الماء كيف يكون مركبًا من مادتين خفيفتين لا تراهما العيون، إحداهما حارة محيية، والأخرى باردة مميتة؟

ألا تتعجب معي من هذا الوجود المنظم، وكيف كانت سائر النباتات مركبة من عناصر بنسب محفوظة ثابتة كما أوضحته عن علماء الزراعة في كتاب نظام العالم والأمم؟

أوَليس مما يسحر العقول، ويخلب الألباب، أنك ترى مثل القمح والقطن مركبين من عناصر فوق العشرة، متحدة في الأكثر، مختلفة نسبها، بحيث إن ما نلبسه هو عين ما نأكله من حيث العناصر؟ واختلاف المقادير في التركيب، أوجب اختلاف الملبس والمأكل والرقاقة والحزام.

اقرأ الكيمياء ثم فكر وتعجب من هذا الوجود العجيب، المنظم البديع، وإياك أن تقرأ بلا إمعان وتفكير فإن ذلك شأن الغافلين.

العالم العلوي

فلما أن تبين لي نظام هذا الوجود كمًّا وكيفًا، رجعت بصري، وحولت اتجاه فكري إلى حركات الأجسام العلوية، فرأيت عجبًا عجابًا، رأيت الكواكب لا تخطئ في سيرها، ولا تغلط في جريها، كما أوضحه الفلكيون، ونظمته في رسائلي المسطورة المنشورة.

تبين لي الحق، وأيقنت بقلبي معنى قوله تعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُوم وقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ.

النبات والحيوان والإنسان

عند ذلك طفقت أفكر في نظام هذا الإنسان على سطح الكرة الأرضية، وما امتاز به عن الحيوان، وهل هو سائر على سنن العدل؟ أم زائغ عن الجادة؟ حائد عن الصراط المستقيم؟

الإنسان ابن هذا الوجود، وهو مركب منهُ، تظله السماء، وتقله الغبراء. الوجود في نظام عجيب، والإنسان في شقاق بعيد.

رأيت أن لا بد من النظر في أمر المواليد الثلاثة، النبات والحيوان والإنسان، فرأيت الإنسان يشارك النبات في الغذاء والتناسل، ويشارك الحيوان في ذلك، وفي الحركات الاختيارية، والحواس والإدراك والغرائز.

رأيت أنه كلما كان الحيوان أدنى كالبعوض والجراد والذباب لم يقم بتربية ولده، وكلما كان أكثر إدراكًا، وأرقى غريزة، وأكمل شأنًا، أوتي العطف على بنيه كالبقر والفيلة والأسود والقردة.

فعلمت أن تربية الولد والعطف على الذرية، ليس خاصًّا بالإنسان، فاتخاذ الأزواج عم الحيوان والنبات، وتربية الولد واضح في أعلى الحيوان. فقلت: لعل الإنسان ارتقى بجمعيته، وفضل بمدنيته، فألفيت كلاب البحر والغربان، والزنابير والنحل، والنمل لها جمهوريات منظمة، ومدنيات عجيبة. وأدهشني أن هذا الإنسان كان ظلومًا جهولًا، لا أدري كيف غفل حكماؤه، وتغاضى علماؤه، ذلك أن الزنابير مثلًا في أي بقعة من بقاع الأرض لها جمعية منظمة، فيها رؤساؤها، ولم يحتجْ يومًا ما نمل أواسط آسيا مثلًا إلى رؤساء من نمل الصين، كما لم يحتج ذكران الأولين إلى إناث من الآخرين، أوَليس من العجيب أن يكون الإنسان أقدر على الكذب والبهتان من كل حيوان! إن الإنسان ظلوم جهول.

ولقد تبين لي أن كل مخلوق من جماد ونام يترك ميراثًا للعالم نافعًا، فالنخل والشوك يخلفان لنا متاعًا، وهكذا دود القز والنحل والنمر، تورثنا حريرها وعسلها وجلدها وهي لا تقصد ولا تريد، فأيقنت أن الفضيلة في نية الأعمال مع الأعمال، وألا فارق ما بين دود القز والنمر وبين الذي ترك مالًا وثروة. وأي فارق بين الدود الذي ورثنا الحرير، وبين الجاهل الذي أُرغم على ترك الثروة بالموت، وهو لم يخطر بباله يومًا منفعة الإنسان؟ كلاهما أورثنا مالًا ومنفعة وكلاهما لا يريد.

وكما أن الفرق بين الحصان والبعوض في الشمائل والفضائل، إن الأول يربي أولاده ويشفق عليها، والآخر قصر عن هذه الفضيلة، فهكذا يجب أن يمتاز الإنسان عن الحيوان الجمهوري النظامي، كالغراب والزنبور والنمل والنحل وكلاب البحر، بأن يعطف الجميع على الجميع، فأما أن تنفع أمة أمة، أو فردًا فردًا، بلا قصد ولا عمد، كما هي حال هذا الإنسان، فذلك عام في النبات والحيوان.

فوجب أن نبحث هذا الإنسان هل هو قابل أن يتميز في جمعيته عن الحيوان ويرتقي في مستقبل أمره أم سيحل عليهِ العذاب والخزي أمد الدهر؟

حينئذٍ توجهت إلى مبدع الكائنات، وباري النسمات، وقلت: يالله، العالم كله عجيب منظم، فما لي أرى الإنسان في شقاق بعيد؟ وقلت: لعل رؤساء الإنسان أقدر على ضبطه، وأحزم في سياسته، فوجدت أن رؤساء الأمم في أكثر أوقاتهم واجمون، ووجدت الأمم تكافئهم بالمال والجاه، كما يعاملون الصبي في المكتب يرفعونه إلى الأعلى ويكافئونه بالأدنى، يقولون: اقرأ ولك الحلوى، فيرى أن الحلوى من مواد الغذاء، مكافأة على ترقية العقل. ولئن جاز ذلك في الضحك على عقل الصبي، فلن ترضى به أنفس الأمراء، وإن كانوا لا يعلمون، إن الجزاء الأوفى في الدنيا من جنس العمل.

فإذا عطفوا على الرعايا، وأحكموا نظام الممالك، فلن يسعدهم تلقاء ذلك إلَّا حب الرعايا وإخلاصهم كما كان ذلك لأمثال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولذلك كان الملوك قديمًا يحتالون على الشعراء ليمدحوهم ليكون كتزين العجوز الشوهاء بالحلي والحلل، وكالتباهي بالزهر المجني من شجرة المقطوع من غصنه، يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، هؤلاء يسرهم برق المدح الكاذب ويسوءهم أن يسمعوا من الرعايا السخط والحقد في ظلمات الظلم المبين. وقارنت هؤلاء الرؤساء بما ينقل عن أمراء النمل فألفيتها موضع المحبة والإجلال، وإن النملات حين تتم عملها تنظر بعين الحب والإخلاص والمودة إلى الملكة كأنها تيمن بوجهها الكريم، فعلمت إذ ذاك أني لم أعثر على مزية الإنسان الاجتماعية التي ارتقى بها عن الجمعيات الحيوانية.

النبات كامل باهٍ زاهر جميل الزهرات، باهر الثمرات، الحيوان تام النظام ألهمه الله ما يحتاجه، حتى إن العنكبوت والنمل والنحل والزنابير عالمات بقوانين نسجها وهندستها، وبناء منازلها، ونظام حياتها، وجني عسلها وتربية أولادها بلا مدرسة ولا تعليم ولا تدريب. قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

فتبين لي من هنا شيئان، عدم ارتقاء الإنسان عن الحيوان في نظام جمعيته، وحاجته للتربية والتعليم، وفهمت أنه كان ظلومًا جهولًا.

لكن من وجه آخر أؤمن بفضل الإنسان على الحيوان، وأعلم أن العالم كله ذو نظام، ولم أجد سدًّا لخلله، ولا رافعًا لشأنه سوى العقل الذي به يكمل ما ينقصه بفطرته، وينظم حكوماته، وأخذت أبحث في هذا الإنسان، هل هو منظم الغرائز كهذا العالم؟ هل ملكاته وقواه الكامنة فيه لو استخرجت ينتظم عقدها ويتم بها أمره؟

نظرت أولًا في عدد الذكور والإناث، فألفيتها منظمة في الإنسان كالحيوان والنبات، ثم تأملت الصفات فألفيت الأذكياء وأصحاب الأصوات الجميلة مثلًا أقل من غيرهم، وتفرست في التلاميذ الذين أعلمهم، فرأيتهم يختلفون في أميالهم، وكما أن لونهم واحد وهو الأبيض غالبًا أو غيره لم يشبه أحدهم الآخر فيه، فهكذا العقل واحد ولم يتشابهوا فيه، فالألوان والقوى البدنية والعقلية مختلفات بالأسباب، وقام بنفسي أن الأمم يعوزها التعليم. ولم أرَ تعليم الناس قائمًا بحاجاتهم؛ لأنهُ سائر على نهج حائد عن الصراط السوي، ولم أرَ في المدنية الحاضرة ما أبتغيه، فإن المتوحشين والمتمدينين لا يزالون يسلكون سبل النمور والصقور والسباع.

ولقد قرأنا ما سطره المستر إدوارد كاربنتر عن أحوال المتوحشين القاطنين حول بحيرة نياسا بالسودان إذ عاشرهم من سنة ١٨٧٦ إلى سنة ١٨٧٨. قال: إنهم أقوى أجسامًا وأصح أبدانًا من المتمدينين، ولكنهم أكثر منهم فتكًا بأعدائهم.

وقال: إن المتوحشين الإفريقيين يفوقوننا كثيرًا لدرجة لا تجيز المقارنة بيننا وبينهم؛ لأن أحدنا يرى نفسه فيما بينهم طفلًا صغيرًا. ا.ﻫ.

فالمدنية أضعفت الأجسام، كما خرقت سياج الأدب، وعكست وضع الإنسانية. لقد أخبرني ضابط قطن السودان في هذه الأيام أن إحدى القبائل يعيش أبناؤها، وبناتها في الصبى والبلوغ، والكهولة والشيب، وهم عري مجردون، ولا تسمع باسم الخنا في حياتهم، ولا تخطر الخيانة ببال أحدهم، وإنهم جميعًا أعِفَّاء صادقون، ولكن المدنية اتخذت اللباس شرك الدعارة، وعكست القضية، وعدت المكر والكذب كياسة، والظلم سياسة.

ولقد قرأت في التاريخ، ما تدهش له العقول، فتراهم يقولون: إن قيصر الروم غزا الأمم ودوخ الممالك شرقًا وغربًا، فلما أن رجع إلى قومه، وقرَّ بوطنه، اتخذوه معبودهم، وأحبوه حبًّا جمًّا، وهكذا أكثر الأمم، إلَّا من رحم ربك، فإنهم لا يحبون إلَّا الظالمين، كما يفرح الطفل بسرقة أبيه، وخيانة أخيه؛ لأنه يأكل مما يسرقان، ويلقف ما يأتفكان.

فعجبت لهذا الإنسان، كيف تنزَّل بشهوته، وارتقى بعقله، إنهُ جمع بين الضدين وعاش بالنقيضين، ثم رجعت إلى نظام ذكوره وإناثه، وفكرت في أمره، وكنت إذ ذاك قد شرعت في عمل كتاب عام في الفلسفة، وكتبت بعض المقالات، فأبت نفسي إلَّا السير في تحقيق هذه الفكرة والجنوح لهذا المبدأ، فكاشفت صديقًا كنت به آنَسُ، وقلت: أيها الأخ، يُخَيَّل لي أن الدول قاصرة السعي، قصيرة الخطى، فلو أنها كشفت عن غرائزها، وأبرزت للوجود عواطفها، وسعت في إنماء عقولها، لصلح الوجود، وزال الخوف الموجود، فتعادُل الذكران والإناث دليل على تعادل غرائز الإنسان، فقلَّ شعراؤهم، وكثر عمالهم، وندَر حكماؤهم، هذه جبلَّاتهم أفلا يتذكرون.

فقال: هذا قول جميل هلا وضعته في مقال ونشرته لأمم المشارق والمغارب، فاستكبرت القول، ولم أشأ أن أُقْدِم بلا رَوِيَّة، ولا أعزم بلا تدبير، فإن ذلك فعل الجاهلين، وحررت مقالة وألقيتها في الخزانة. فلما كانت أواسط السنة العاشرة، بعد التسعمائة والألف في شهر إبريل، رجعت لتحرير المقالات في الفلسفة والطبيعيات، فلما أن عثرت مصادفة على مقالة للعلامة «كنت» الألماني وجدته يقول: «الإنسان جهول، لم ينظم حكوماته، ولم يقم بتربية أبنائه.» فعجبت كيف وافق رأيي، وناسب مشربي، فعاودني الفكر في الموضوع، ولم أشأ أن أحيد عن فكرتي، ولا أن أزيد حيرتي؛ لأني خفت الحسرات من الفوات.

فلعمرك لقد طفقت أكتب، والقلب متقد الباطن، مملوء بالحمية، مبتهج بالعمل، ولولا الأدب، وألا يقبل عذري لقلت: وما فعلته عن أمري.

لقيني إذ ذاك من له بي علاقة العلم. فقال: لمن هذا تصنع؟ وماذا ينفع؟ إن بلادنا عنهُ لاهية، إن لها في أموالها وأحوالها لشغلًا شاغلًا. فقلت: إني أشعر أن العالم الإنساني له خطرات إلى العلاء وخطوات إلى الأمام.

وكان ما سطرته في الكتاب فاقرأه هناك. وإن غرائز الإنسان وطبائعه قابلة للارتقاء وما منعها إلَّا فساد التربية والتعليم، والزيغ عن الجادة، والميل عن الصراط المستقيم.

تمثيل آراء الإنسان بالبحر الملح وبالنبات

ولقد تبين لي أن معارف الإنسان وعلومهم كالنبات على سطح الأرض، وكالذي حواه البحر الملح.

إن النفس أخت المادة وشقيقتها كأنهما مشتقتان من أصل واحد، وربما نشأت إحداهما عن الأخرى، فلذلك تشابهت نتائجهما، ألا ترى أن الأرض تحمل الشجر المثمر والنبات النافع، فيها النخيل وثمره والعنب وزبيبه، والقمح المغذي، والصبر المداوي، والتين فاكهة، والكلأ مرعى، والقطن والتيل والكتان ملبسًا، وفيها الحنظل المر، والسَّعْدان ذو الشوك، والحشائش السامة، والنباتات المخدرة.

وإن النفوس البشرية، زرعت فيها بذور الفضائل والرذائل، فالعلوم المشيرة للصناعات كنبات القمح في الأرض، والخلقية للتداوي كالصبر، وذلك كعلم الأخلاق، وترى الأشعار الكلامية كالفاكهة، والنكات المضحكة كالمراعي؛ فإنها تسر القوة البهيمية، وعلوم الدفاع كالملابس. ومن الناس من يسخر غيره على خدمته لمصلحته، ومنهم من يرى الفضل في كف الأذى.

ومن وجه آخر، أرى الناس يقرءون قضايا الاجتماع معكوسة متناقضة، فتراهم يقولون: نعطف على الإنسان، وهم هم، الذين يجهرون بامتداح القواد القاتلين كنابليون، ويشرفون الكذوب من رجال السياسة، فحار فكري في هذا الإنسان، ورأيت أن مثله في مسائله العلمية كمثل رجال قصدوا البحر الملح، فأما أحدهم فإنه اغترف من الماء غرفة فشربها، وأما الآخر فخلصها بالتقطير كما يفعل السحاب، وأما الآخر فاصطاد الأسماك، وغيرهم استخرج الجواهر بأصدافها والمرجان من منابته، والبحر واحد، وكل منهم يؤيد عمله بحجة وبرهان.

ثم رأيت أن كل طائفة مغترة بما لديها قانعة بما وصلت له، وترى أمم الصين والهند التي قضت تعاليمهم بالانكماش، زلزلوا في أماكنهم، وغزتهم أمم أخرى، فاستفزتهم، والسبب تنافي التعليمين، وتناقض المذهبين، وتباعُد الرأيين بُعْد المشرقين. فقلت: أوَليس بين هذه المذاهب حق واضح! فتبينت أن أكثر الآراء تجمع ما بين الجيد والخبيث، والرديء والطيب، والكمال والنقص، وإن الحق مخبوء فيها كامن في النفوس، فرأيت أن أبحث عنهُ في الأنفس والآفاق، وأن أبينه للناس على سطح الكرة، ولم يكن لي أن أخاطب دولة واحدة أو أمة واحدة كما فعل بيدبا الفيلسوف الهندي أيام الملك دبشليم ببلاد بنجاب بالهند قبل ثلاثة وعشرين قرنًا، فذلك زمان كانت الأمم فيه منفصمة العرى، بعيدة المواصلة، ووعرة المسالك، طويلة الشقة، فأما الآن فقد استدار الزمان، وتغيرت الأحوال، واتصلت الأمم، وتداخلت الأخلاق، واجتمعت الجماعات، ومدت الأسلاك، وأصبح الناس كأسرة واحدة، وأصبح الخبر يطوي البيد طيًّا في ثانية من الزمان، ولو أن أمة من الأمم عكفت على الفضيلة، وكان غيرها متشبثًا بالرذيلة، متعلقًا بأذيال النقيصة فما جزاؤها إلَّا الوبال إذ تتحد جاراتها على اهتضامها واقتسامها، فلا محيص لها من مقابلة الشر بالشر، كما يكافأ الإحسان بالإحسان.

فلم يكن لي بد من التصريح برأيي والجهر بعقيدتي للناس قاطبة. فقديمًا كان الناس لا يعلمون شجرة القطن إلَّا قليلًا. ولم يعم الكرة الأرضية إلَّا في قرون متأخرة، وكان الإنسان عاكفًا على صوف الحيوان وجلد الدواب، فزرع كثيرًا من الأرض بهذه الشجرة المباركة الطيبة «القطن»، فألبسته ووقته وهج الحر وقارص البرد وزينته. هكذا الآراء منها ما ظل قرونًا في زوايا النسيان، ثم يفطن له أناس فيبذر في بسائط النفوس فيكسوها جمالًا وبهاء، بعد أن كانت عارية من لباسه عاطلة من حليه. وكما يزرع الناس في البسيطة ما جهلوه أحقابًا فيغنيهم ويكسوهم فهكذا يزرعون في بسائط النفوس ما غادروه فيها أحقابًا ودهورًا، وأغفلوه فينشطون ويرتقون، ولكم خمدت جذوة فكرة بعد اتقادها، واتقدت جمرة بعد خمودها كما يستنبت الناس نباتًا بعد أن جهلوه، ويذرون آخر بعد ما ألفوه. إن بين النفس والمادة لشبهًا، إنهما أختان، ألا إن العلوم كالنبات، والنفوس الإنسانية كالمواد العنصرية والكرة الأرضية، ألا إن هذا الكون لعجيب.

جهرت بهذا الرأي لتبرأ ذمتي أمام الله عز وجل. خفت أن يدفن معي، ويدخل مضجعي، وقد علمت أن التجار لا يزورون مكانًا إلَّا أعلنوا فيه عن سلعتهم، ولا زقاقًا إلَّا ألصقوا بجدرانه أخبارهم. فقلت: ما أحق الآراء النافعة بالنشر بين الناس، وما أولاها بالتعميم؛ لأن التجار إنما يعطون منافع الأجسام، وأما ذوو الآراء فيعطون الناس منافع العقول، وما به يرشدون ويصلحون، فأحببت من المصلحين المرشدين وقادة الأمم في الأرض أن يعنوا بتعميم الفضيلة والمحبة العامة بين الأفراد والشعوب شرقًا وغربًا كما تراه مفصلًا في الكتاب.

ولقد أيقنت أن ما دونته في كتابي سيكون عقيدة عامة بعد حين وسيتلقاه عقلاء العالم بالقبول، ويخيل لي أن العالم الإنساني سيكون أنعم بالًا وأحسن حالًا وأرفع شأنًا، وأعز مكانًا، وأشرف نفسًا، ولتعلمُنَّ نبأه بعد حين.

اعلم أن مثل الرحمة الإنسانية العامة كمثل الماء الذي سلك ينابيع في الأرض فخالط أجزاءها، وداخل أحشاءها، وتخلل باطنها، وجرى في مجاريها، وسرى في كرتها، وخزن في جبالها، فتارة تفجر أحجاره أنهارًا، وآونة تشقق فتخرج ماء، وطورًا يحفر الناس الأرض فيستنبطون ماءها ويستخرجون معينها. فهذا مثل الرحمة الإنسانية الكامنة في القلوب البشرية وما غشاها إلَّا المطامع والشهوات، وطين الرذائل وحمآت الجهالات السائرة.

ومثل آخر أن ما كمن من الرحمة في الإنسان أشبه بالكهرباء والنار، وما العلم الذي ظهر والمحبة التي جمعت الناس إلَّا كأضواء المصابيح المتقدة بالنار والكهرباء.

هذه صفحة قرأتها من الرحمة العامة في هذا الإنسان وكيف غشي وجهها بعذاب واقع، ضربت لك الأمثال بحال هذا الإنسان وآرائه، وضرْب الأمثال مُشعر بالإجمال.

فهل لك أن تطلع على صحيفة من علمه، ورسالة من عنده، ونور أشرق على عقله، وآيات نزلت على قلبه، ورحمة أحاطت به، وإلهام تنزل عليهِ، فاسمعوا وعُوا.

منظر علماء الطبيعة

رسم علماء الطبيعة صورة من هذا الإنسان، ووصلوه بالحيوان والنبات، وكونوا منهما سلسلة ذهبية منظمة، ظهر جمالها في مقالات العلماء الإسلاميين كما في الفوز الأصغر لابن مسكويه وإخوان الصفا إذ أبانوا كيف ترقى النبات من أدنى أنواعه، وتعالى في تدرجه، وارتقى إلى درجة عظيمة، تلاصق أرقى الحيوان، وأخذ هذا يتدرج حتى انتهى إلى الإنسان، وهو عالم واسع عظيم، وهاك نص ما قيل في إخوان الصفا: واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصلة بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان متصلة بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول مرتبة النبات متصل بآخر مرتبة المعدن، وأول مرتبة المعدن متصل بالتراب والماء كما بينا قبل، فأدوَنُ الحيوان وأنقَصُه هو الذي ليس له إلَّا حاسة واحدة فقط وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة، تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها، من جوف تلك الأنبوبة، وتنبسط يمنة ويسرة، تطلب مادة يغتذي بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة، حذرًا من مؤذ لجسمها، ومفسد لهيكلها. وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلَّا الحس واللمس فقط، وهكذا أكثر الديدان التي تتكون في الطين وفي قعر البحار وأعماق الأنهار، ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية من مقتضاها أن لا تعطي الحيوان عضوًا لا يحتاج إليه في جلب المنفعة ودفع المضرة؛ لأنه لو أعطاه ما لا يحتاج إليه لكان وبالًا عليها في حفظها وبقائها. فهذا النوع حيواني نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائمًا، وهو من أجل أنه يتحرك جسمه حركة اختيارية حيوان، ومن أجل أنه ليست له إلَّا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية، وتلك الحاسة أيضًا قد يشارك بها النبات، وذلك أن النبات له حس اللمس فقط، والدليل على ذلك إرساله بعروقه نحو المواضع الندِية وامتناعه من إرساله نحو الصخور واليابس أيضًا، فإنه متى اتفق منبته في مضيقٍ مالَ وعدَل عنهُ طالبًا للفسحة والسعة، فإن كان فوقه سقف يمنعه عن الذهاب علوًّا وكان له ثقب من ناحية مالَ إلى نحو تلك الناحية، حتى إذا طال طلع من هناك فهذه الأفعال تدل على أن له حسًّا وتمييزًا بقدر الحاجة. وأما حس الألم فليس للنبات؛ وذلك أنه لم يَلِقْ بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألمًا ولم تجعل له حيلة الدفع كما جعلت للحيوان؛ وذلك أن الحيوان لما جعلت له أن يحس بالألم جعلت له أيضًا حيلة، إما بالفرار والذهاب والهرب، وإما بالتحذر، وإما بالممانعة، فقد بان بما وصفنا كيفية مرتبة الحيوان مما يلي النبات، فنريد أن نبين كيفية مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان فنقول:

إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية ليست من وجه واحد لكن من عدة وجوه؛ وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدنًا للفضل وينبوعًا للمناقب لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان ولكن عدة أنواع؛ فمنها ما قارب رتبة الإنسانية لصورة جسده مثل القرد، ومنها ما قارب الأخلاق الإنسانية كالفرس في كثير من أخلاقه، ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهَزَار من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومنها النحل اللطيف الصنائع إلى ما شاكل هذه الأجناس، وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الإنسان ويأنس به إلَّا ولنفسه قرب من النفس الإنسانية. أما القرد فلقرب شكل جسمه من شكل جسد الإنسان، صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك مشاهد منهُ متعارف بين الناس، وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أنه صار مركبًا للملوك؛ وذلك أنه ربما بلغ من أدبه أنه لا يبول ويروث ما دام بحضرة الملك أو حاملًا له، وله أيضًا مع ذلك ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجِراح كما يكون الرجال الشجعان كما وصف الشاعر فقال:

وإذا شكا مُهري إليَّ جراحه
عند اختلاف الطعن قلتُ له اقدما
فلما رآني لست أقبل عذره
عضَّ الشكيم على اللجام وحمحما

وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكائه، ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل الرجل العاقل المأمور المنهيُّ. فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان؛ لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية، وأما باقي أنواع الحيوانات فهي فيما بين هاتين المرتبتين.

هذا ما رسمه علماء الإسلام في نظام هذا العالم، هذه هي الصورة الواضحة الجلية التي رسمها مبدع هذا الكون ومنظم الوجود، هذه الصورة تريك أن الإنسان رشيد وعليه حفظ خلافته وصيانة رتبته والاحتفاظ بدرجته، وَأَنَّهُ هو الوكيل في الأرض على نفسه وعلى الحيوان والنبات. الإنسان خليفة، وأي خليفة! أُفٍّ للإنسان وماذا صنع! انقسم مرشدوه إلى قسمين وانفصلوا حزبين: راحمين وظالمين، أما الراحمون فهم قسمان: أنبياء وحكماء، والآخرون مضلون.

الرحمة

من الرحمة ما نصح به بوذا أو جوطامي ابن ملك الهند من سنة ٦٠٠ قبل الميلاد إلى سنة ٥٤٣، وتبعه نحو ثلث النوع الإنساني في الهند والصين. بماذا أوصى؟ أوصى بالشفقة والمحبة والرحمة والعطف على اليتامى والمساكين وابن السبيل والإخاء والمساواة بين عموم البشر، وأوصى بالحيوان كالإنسان وشدد وحذر من إيذائه.

أوصى بالعفة والشجاعة، والصبر والوقار، والأدب والابتسام، وحب العلم في الإنسان. فكأنه شعر بأن كل حيوان على سطح الكرة الأرضية تحت رعايتنا، ولنا عليهِ الولاية، ونحن أوصياء الله عليهِ، فلنرحمه ولنعطف عليهِ، فالله ما خلق هذا باطلًا، فمن آذى حيوانًا، أو لم يقم بحق الإنسانية، فهو كفور جهول.

وترى في أصول الدين النصراني من الرحمة والشفقة، وحب النوع الإنساني ما لا مزيد عليهِ، ولكن الإنسان ظلوم جاحد للحقائق غادر لا يصغي لنصح الناصحين. ومن آيات الرحمة الظاهرة ما أقرته الشريعة الإسلامية من حرمة البيت الحرام وتحريم صيد الحرم، وقتل المحتمي بِهِ، فكأنها إشارة خفية للناس أن يرحموا الإنسان ويعمموا السلام، ولا يؤذوا الحيوان، هذه إشارات تشير لهم أن ارحموا تُرحموا، واعلموا أن الحيوان له إدراك وشعور يتألم كما تتألمون ويشعر كما تشعرون، فإياكم أن تؤذوه.

وهل أتاك نبأ الحكيم سولون من اليونان إذ قال لقومه: ألا تعقلون! أتؤثرون حكم المستبد على العادلين، هلا استبدلتم النادي الشوري بأحكام الظالمين! فتولوا عنهُ مدبرين، واتبعوا الطاغي كما كانوا يعتادون، فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد نصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين، وعلمتكم الفضيلة ونظام الاجتماع وحكم الجمهور العادل بالنائبين المخلصين فكذبتم وارتبتم وخضعتم للمفكرين، ثم ألقى سلاحه عند باب الندوة وقال: إنكم قوم تجهلون، ثم هاجر من اليونان وقال: والله لا يجمعني والظلم مكان؛ لئلَّا يقول طلاب العلم أن سولون يرضى بما يعمل الظالمون. فلما أن جاء ليديا قال له ملكهم العظيم: ماذا ترى من العظمة في ملكنا الفخيم؟ ألم ترَ إلى ما أوتينا من زينة وجمال وحبذ باهرين، وهلَّا راقك هذا القصر وأثاثه، والسرر البهية، والأكواب الموضوعة، والنمارق المصفوفة، والزرابي المبثوثة؟ فقال: إن كل ذلك إلَّا متاع الغافلين وزينة الجاهلين وعظمة المغفلين، ألا إنما سعادة الرجل أن يعدل في العالمين ويقسط في حكمه بين المتقاضين، كملك كان في اليونان أقاموا له التماثيل بعد وفاته وحزنت جميع الناس على مماته وقالوا: إنهُ لرزء عظيم.

وأضرب لك مثلًا ولدين أكرما أمهما الصالحة، وجرَّا عربتها إلى مصلى العابدين، فدعت لهما، فلما ماتا رضي الناس عنهما أجمعون، فكانا صالحين في حياتهما قدوة بعد موتهما.

فاستكبر ملك ليديا فأخذه أعداؤه أخذ القاهرين وكادوا يحرقونه، فتداركه الله بلطفه وأخره إلى حين.

ولأذكر لكم سقراط إذ نبذ الرذيلة وعشق الفضيلة، وقال: يا قوم، إياكم والظلم؛ فإنه ظلمات، وكونوا صالحين إلى الممات، إنما الحياة الدنيا متاع. فكذب الطاغون الثلاثون، وأجمعوا أمرهم بينهم أن يقتلوه، فشاع ذكره في الآفاق، وعم علمه العباد والبلاد، وانتشر تلاميذه وشاع تعليمه في الآخرين، ولقد قفَّى على آثاره بعد موته بمائة سنة أبيقورس اليوناني الذي كان في القرن الرابع قبل الميلاد، ولد سنة ٣٤٢، وأوصى قومه بالمحبة وقال: إن المحبة العامة كنز ثمين، فالحب عندي مبدأ السعادات، وإن الحياة لشقاء، ولا يكشف غمها إلَّا الأحباب المخلصون.

وهاك العالم الإفرنجي دلامتري في القرن الثامن عشر، المولود سنة ١٧٠٩، إذ قال: لا تتبعوا خطوات الشهوات، واعلموا أن الذين يتبعون الشهوات مرضى، فداووهم بعلم الأخلاق، واضربوا لهم الأمثال لعلهم يعقلون.

ثم قام من بعدهم البارون هلباخ من الألمانيين، إذ ولد سنة ١٧٢٣ وألف كتاب نظام الطبيعة سنة ١٧٧١، وقد كان للفقراء من المحسنين، كثير الحب للعلماء، غزير العلم، عالي الهمة، نظر إلى الإنسان نظر الرجل إلى الصبيان وقال: يا أهل أوروبا، إن شقاء الإنسان لجهله بما طبع عليهِ من الجمال وما في هذا الكون من المخلوقات، فحرروا عقولكم من الأوهام وخلصوا أنفسكم من ظلمات الجهالات، وابحثوا عن عقولكم الشريفة وقواكم العالية، إن الإنسان لفي ضلال مبين. سيعيش الناس على الأرض أشقياء ما داموا يجهلون نفوسهم. إن الإنسان جهول كذوب، وضل عقله وغوى، واتبع الهوى، وصنع المدافع المهلكة والأسلحة القاتلة، وعلمه الجهال أن هذا سعادة الإنسان، ألا إنكم لفي عذاب مهين.

ولقد أجاد في القسم السياسي من كتابه، وكان من أسباب الثورة الفرنسية الكبرى، وقال فيه: يا أيها الناس، إنما المعاصي الظاهرة، والحروب القائمة، والشرور العامة في هذا الإنسان، ليست من طبيعته ولا من أصل جبلته، وإنما أركسهم في سِجِّين تلك الشرور الحكومات الظالمة وبعض الديانات المنحرفة وأمثلة الشر المنصوبة أمام أعينهم.

إن أكثر الحكومات ترفع الكبير إذا ظلم، وتعفو عنهُ إذا اقترف الموبقات، ولا ترحم الصغير إذا ارتكب أصغر الذنوب، فلا قانون يجمع الغني والفقير والعظيم والحقير.

جهل الناس أمر القضاء، فخصوا به الضعفاء وعفوا عن الأقوياء، وتناقضوا في قضاياه، يحللون ما يحرمون، ويحرمون ما يحللون، فهم يقتلون الصعلوك إذا جنى، ويعظمون السري الظالم إذا ما فعل فعل ذلك الصعلوك. قُتل الإنسان إنهُ لظلوم جهول. وما الفضيلة إلَّا هبة في الهواء وسهم عندكم طائش وهباء منثور، وما معلم الفضيلة لهؤلاء إلَّا كنافخٍ في غير ضَرَمٍ ومُستسمِن ذا وَرَم، أو كمن يفضض البعرات ويجصص قبور الأموات، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من التربية السيئة وقدوة الشر.

ألا وإن رجال الفضيلة يتخطفهم هذا المجتمع الفاسد من عن أيمانهم وعن شمائلهم، فهم كجذوة نار في جو بارد. إن جذوة النار في البرد لا محالة ذاهبة خامدة، فماذا يفعل المصلحون، ولقد تقتل الحكومات من عملوا عملًا سيئًا لعقيدة فاسدة أيدتها تلك الحكومات بحماية أولئك الحاكمين، إن الإنسان لظلوم كفار. هذا هو نبأ هلباخ ولقد مات سنة ١٧٨٩ في باريس، ولقد كان ممن عاصره العالم هلفتيوس. كان أبواه ألمانيين وولد بباريس. قال: إياك واضطراب الفؤاد، وإن أردت السعادة فلتكن نفسك مطمئنة؛ فالاضطراب شقاء، والطمأنينة نهاية السعادة.

وما عدا ذلك من تعاليمه في الأخلاق فإن فيها شططًا يأباه نظام الكون وفطرة الإنسان.

أولئك العلماء ممن ذكرنا وممن لم نذكر حضوا أممهم على الفضيلة وإسعاد الناس، فمنهم المقصر ومنهم السابق، ومن عجيب أنهم في المادة والروح والعالم الأعلى مختلفون.

واتفقت كلمتهم واتحد رأيهم على تقبيح الرذيلة وتقديس الفضيلة، ولكن أكثر الناس غافلون. هذا ذكر بعض الرحماء من الأمم الغربية، وأكثر الناس عن البحث والفقه معرضون.

وهناك طوائف بشرية وشرذمة من العلماء قلبوا صحيفة الإنسان والحيوان وقرءوها معكوسة، وشوشوا وضعها واستحبوا ضد ما قام عليهِ البرهان من الرحمة العامة، وقالوا: إننا قرأنا ما ذهب إليه الفلاسفة العظماء والحكماء الكبراء، لقد قرأنا مذهب داروين إذ جاء بما لم يأت به الأولون، ونظم الإنسان والحيوان في نظام الاشتقاق، وقد غفل عن ذلك السابقون، ألا إنهم هم الكاذبون، إن هذا المذهب كان من قبل ذلك معروفًا كما قدمناه عن إخوان الصفا، ولقد أوقعهم هذا الوهم في هوة الرذائل، وأخذوا يسلكون في البحث سبيل الجاهلين، وقالوا ضد ما قال الأولون، وهم كانوا أغزر منهم علمًا وأوسع مادة وأرقى أدبًا. قالوا: إن هكلسلي أوضح أن لا فارق بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان كما بين الحيوانات العليا والدنيا، بل المسافة في آخرهما أوسع مما في أولهما.

فظن أولئك الجهال أن هذا يجيز لهم اهتضام حقوق الأمم الضعيفة معتبرين أنهم أدنى منهم مقامًا فزادوا في غلوائهم وضلوا في طغيانهم وجهلوا المنطق وظنوا أنهم بتخمينهم «أن الفرق بين رجلين أحدهما من الطبقة العليا والآخر من الطبقة السفلى من نوع الإنسان أوسع مما بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان»، قد عثروا على كنز من الحكمة ثمين إذ يجعلون الإنسان الجاهل في عداد الحيوان، وتقول الأمة العالمة للجاهلة وإن كانت أكثر منها استعدادًا وأصح أجسامًا: إنكم بالنسبة لنا خادمون، وعبيد مسخرون. ولقد عتوا عتوًّا كبيرًا، وظلموا الحكمة باستنتاج قبيح إذ رأوا أن كثيرًا من القرود الشبيهة بالإنسان يكون أكثر وقوفها منتصبة، وإبهام أرجل بعض المتوحشين أشبه بأرجل بعض الشمبانزي والغوريلا من القرود.

أليس من المدهش أن صحيفة المواليد الثلاثة تعرض على بوذا فيرى الحيوان يشعر بما يشعر به الإنسان فيرحم الطائفتين ويسعد الحيين. ونفس هذه الصورة تتجلى لبعض رجال العصر الحاضر فينسون عقولهم وأنفسهم ويقولون: ما لنا وللرحمات! إنما المفضل في العالم هم الأكثرون مدافع المنظمون جنودًا، ومن عداهم من الإنسان فإنما هم من الحيوان، فلنتخذهم خدمًا وحشمًا. ألا ساء مثل الجاهلين. يا أيها الناس ادرسوا العلم كما بيناه، اقرءوا هذا العالم، افهموا هذا الوجود. هذه القضية في الإنسان غريبة كاذبة، فإن جمال الصنع وإتقان الوضع في اتصال الإنسان بالحيوان نظاميًّا أقوى حجة وأجل برهان على وجوب العطف العام على الناس والحيوان، أفلا تعقلون! ما لكم لا تفكرون! هل غلبت على عقولكم شهوات بطونكم ونزعات شياطينكم فأزلتكم للذنوب؟ يا أيها الناس، إنكم جميعًا إخوان، إن الفلسفة التي تدعون أن داروين اخترعها ثابتة في كتب العرب معلومة عند الأمم الغابرة في القرون الخالية. لا تجعلوا العدل تبع القوة، فالعدل عام في الوجود.

وهب أن الرحمة خاصة بالأقوياء، فماذا أباح لكم أن تمنعوا ضعفاء الأمم من التعليم، وهل آنستم في الحيوان الذي احتقرتموه طيرًا يمنع أخاه تعليم الطيران؟ فما أجهل الإنسان! وإذا كنتم تربون أبناءكم على المبادئ الشريفة، فهلا اعتبرتم الأمم الجاهلة أطفالًا تلقنونهم العلم.

وما هو حد الوطن؟ أهو ذلك الخط الفاصل بين بلادكم وما جاورها، ولو حل فيها أعداؤكم وسكن فيها خصومكم واستظل بها قوم من أمم لكم مبغضين؟ أم الوطن وأهله الذين عاشوا معكم أيام حياتكم؟

فإن كانت الأولى فلقد حددتم تحديد الواهمين، وجعلتم إحسانكم خاصًّا بدائرة أرض لا يتعداه، كأنها صنم تعبدونه أو كلب تطعمونه، وهل تخدمون بهذا إلَّا المصادفة العمياء، فلو هلكت أبناؤكم وحل محلها قوم آخرون فإن خدمتكم بالرغم عنكم راجعة لنوع الإنسان لا لأمة خاصة؛ فإن من يتجنسون بجنسكم ويسكنون أرضكم من أمم آخرين غير معروفين.

ولَكَمْ هضمتم حقوق أمة حبًّا في أمتكم، ولقد والله ظلمتم للإحسان واغتصبتم للإرضاء، فرحمتم قومًا وعذبتم آخرين، فما أكثر أوهام الإنسان!

وإن زعمتم أن من عاشوا معكم في الوطن هم الذين تعنونهم بخدمتكم وقصرتم عليهم رحمتكم، فإن لم تغتصبوا حقوق الأمم الضعيفة فقد أحسنتم، وإن ظلمتم الأمم وهضمتم الحقوق إرضاء لأبناء بلادكم فأنتم مجردون عن الفضيلة الإنسانية. ومثلكم كمثل السارق الذي يطعم من كسبه الفقراء، ومن يقتل امرأً ليجعله طعامًا للآكلين، ومن لكم بأن تقصروا بلادكم على ساكنيها؟ فقد يتبدل السكان بالسكان، ويملأ المكان بقوم غرباء، إن الناس يخدمون أهواءهم ويتبعون جهالاتهم.

أطفال الإنسانية وما أدراك ما أطفال الإنسانية

أطفال الإنسانية هم الأمم التي ضلَّ سعيها في الحكمة والفلسفة، نظروا نظام النبات والحيوان والإنسان واتصال هذه السلسلة البديعة فعجزوا عن فهمها وضلوا فيما يعملون.

يقول الأنبياء: عمموا الرحمة على الإنسان والحيوان؛ لأنها تحس وتفهم، ولا تكونوا جبارين فيقولون: إن ما كان أصلح للوجود هو الأولى بالبقاء، فخلطوا نظامًا بنظام، ألا إنما الأضعف في حمى الأقوى، فلمَ ترحمون الأبناء؟

إن في النفس لرحمة وشفقة، في النفوس رحمة الأبناء ورحمة الناس ورحمة الحيوان، القلوب مهبط الرحمة، القلوب مشرق أنوارها، فمن ذا الذي أفتى الإنسان بالتفريق بين الرحمات.

صورة الوجود المنظومة المعلومة الشاملة للحيوان والإنسان دلت قومًا على جمال نظامها وآخرين على وجوب الرحمة بأهلها، فترحم الإنسان والحيوان، وارتكس قوم في حمأة الرذيلة فقالوا: لا رحمة إلَّا للأبناء. ومنهم فريق يلوون ألسنتهم بالعلم فيقولون: نرحم فريقًا ونعذب آخرين. وآخرون منهم أنعموا على الحيوان وعذبوا الإنسان، فخلطوا في فهمهم وضلوا في منطقهم. قُتل الإنسان ما أكفره! الأمم اليوم أشبه بامرأة زانية ذبحت ولدها ووأدت فلذة كبدها إرضاء لشهوتها واتباعًا لخطوات غيها.

هذا فعل الأمم الآن، يقدمون عقول الأمم وأموالها قربانًا لمطامعهم، فما أشبههم بالعذراء الفاجرة الماكرة التي وأدت ولدها، وتراهم يقولون اعتذارًا: لا قيمة للعواطف، كما تقول تلك الماكرة الغادرة.

الأمم على سطح الكرة الأرضية كالدود على ساق الشجرة، وأوراقها كالنبات، وأزهارها كالحيوان، وأثمارها كالإنسان، وكل أعلى مما قبله وأقل مما بعده. وترى الدودات يتساءلن ويقلن لفراشة طائفة حول الزهرات: ماذا تقولين عن حال هذه الشجرة؟ فتلقنها بما تفهمه فيصير قولًا مقبولًا.

الناس غارقون إما في غمرة الجهل أو في بحر حيرة العلم، كبرت على عقولهم نظامات العالم، فتلقفوا كلمات الخارصين تلقف الجهال كلمات الدجال الذي يدعي فتح الكنوز بالأحلام والأوهام.

أكثر الناس واهمون في قضايا الإنسانية، خاضعون لمن علت كلمته ولو كان مخدوعًا.

هذا مجمل ما دار بخَلَدي، وكان الباعث القوي على تأليف الكتاب، حتى كان ما كان من ظهور مُذَنَّب هالي وما دار بيني وبين تلك الأرواح الطاهرة عليها التحية والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤