الفصل الأول

في المقارنة بين نظام العالم ونظام الأمم

سنحت لي هذه السوانح، وفكرت في تلك العوالم المدهشة العجيبة، وأخذت أقارن ما بين نظام العالم الجميل، ونظام الأمم الضئيل، فرأيت بونًا بعيدًا، وبعدًا كبيرًا؛ ذلك متقن منظم، لا ظلم فيه، ولا خلاف ولا فتور، وهذا سياجهُ الظلم، وأُسُّهُ الخداع، وبنيانهُ المكر والنفاق، وطلاؤه الكذب، أرى حركات الكواكب في نظام عجيب، وحركات الأمم في ظلم وشقاق بعيد، فرفعت طرفي إلى السماء وقلت: يا الله، كواكبك منظمة باهرة، وها هو حسابها محكم، لا خلل فيه، ولا تقديم ولا تأخير، فالشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، بنظام، وكل كوكب ونجم وأرض وقمر ومُذَنَّب، كل في فلك يسبحون، بحساب دقيق، لا يعتوره الخلل، ولا يقفه الملل، فأما الأمم الإنسانية، والدول الأرضية، فإنهم عن الصراط لناكبون، وعن سبيل الحق حائدون، اللهم أنت مالك الممالك، ملكت القلوب، كما ملكت النجوم، وسيرت الأجسام الإنسانية، كما أدرت الكواكب الفلكية، فما بالنا نرى الفرق بين الحركتين، والبون شاسعًا بين النظامين، ويا ليت شعري، أفي تلك العوالم الشاسعة، والفيافي السحيقة الواسعة، في الأقطار السماوية، أحياء مثلنا ذوو نفوس عالية، وعقول سامية، وسياسات راقية، ونظامات باهية، وهل فيهم أمم وجماعات، وآباء وأمهات، وملوك وملكات، وحكمة وحكماء، ومستضعفون وعظماء، وهل عندهم الدهاء والنفاق، والمكر والخداع، أم هم أجلُّ مقامًا، وأصدق كلامًا وأحكم نظامًا وأعلى في العلم كعبًا، لا يخشون في الحق رهبًا، ولا يرجون رغبًا.

وإذا كنت أرى البحار الواسعة، والأقطار الشاسعة، والهواء الجوي، مسكونة بالحيوانات، معمورة بالمخلوقات، بحيث لم يخل منها الماء الملح الأجاج لملوحتهِ، ولا المر في أعماق البحار لمرارته، ولا السرجين لقذارته، بل الحياة لم تَذَرْ مكانًا ظاهرًا إلَّا ولجتهُ، ولا باطنًا إلَّا دخلتهُ، فهي في باطن البحار، وفوق الجبال، وداخل الصخور، وفي الظلمة والنور، فكيف مع هذا تخلو تلك العوالم الكبيرة من السكان، وهل خُلق جمالها عبثًا، أم أُحكم صنعها، وهُندس شكلها، وزُوِّق نقشها، وزُيِّن فرشها، وعرشها، باطلًا، وهل خُصَّت أرضنا بالعناية، وهي أقل الكواكب جسمًا، وأصغرها جرمًا، ذلك ما لا يقبله الوجدان، ولا يرضاه عقل الإنسان، وهل خُلق ذلك الجمال للعميان، وشع النور وتلألأ لمن لا ينظرون، كلا، إن في جمالها ونظامها، لدلالة على أحياء بها عالمين، وعقلاء لهيئتها فاهمين، ثم إن ذَنَبَ هذا الكوكب الجاري في السماء، يمثل حال الجبال والأرض والنجوم، إذا جاء أجلها، وحطمت أجزاؤها وقامت قيامة أهلها، فإنها تكون كالعهن (الصوف المندوف) المنفوش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤