الفصل الثالث عشر

في المذكرات

المذكرة الأولى

بينما أنا سائر يومًا بساحة عابدين بالقاهرة إذ لمحت شجرة نخل ذكر، فأخذت أُجِيل النظر في أحوال الذكران والنسوان، وتأملت تلك القضية في النبات والحيوان، وقلت: إن الناس فيما مضى لم يميزوا بين الذكر والأنثى إلَّا في الحيوان والإنسان، ولم يدركوا التفرقة بين الصنفين إلَّا في النخل خاصة، ولقد أصبحوا اليوم يعلمون الذكران والإناث في سائر أنواع النبات، فما من نبات إلَّا وقد جمع ما بين الذكور والإناث، تارة في نبات واحد كالذرة والقمح، وتارة في مكانين، كالنخل وهذا أمر مشهور معلوم.

أوَلَا ينبغي أن تكون هذه نفسها حل مشكلة العالم الإنساني في اجتماعه، ومبدأ نظامهِ في حياتهِ، إن تعداد الذكران من النوع يضارع تعداد الإناث في كل صقع وإقليم ودولة في الماضي والحال والاستقبال، أليس هذا عجيبًا؟ يا الله علمني، فهمني، أنا حائر، أريد الإصلاح العام في النوع الإنساني، لعل مسألة الذكور والإناث مبدأ حلها، يا الله أنت نظمت الكواكب التي شاهدتها بالبرهان الحسابي الفلكي الجبري أولًا، وبالحس والعيان كَرَّة أخرى، أوَلست أنت المنظم لنا، فلماذا يسود النظام هناك ولا يسود هنا؟ الحكمة واحدة والنظام شامل، ثم بدا لي أن هذه تحل المشكلة الإنسانية الاجتماعية بما يأتي.

إن تعداد الذكران والنسوان وتساويهما مبدأ النظام الاجتماعي، فما شاهدنا أمة من الأمم اقترض رجالها نساء أمة أخرى؛ لفقدهم ولادة الإناث. فهذا دليل على أن الحكمة السارية في العالم دخلت في دور السياسة والاجتماع ونظام المدن، الأمم يُعوزها الزراعة والتجارة والإمارة والجند والفلاسفة والموسيقيون، أفلم يخلق في كل أمة وقرية وقبيلة أناس هم أصلح لتلك الأعمال، وإن من شيء إلَّا له مقدار معلوم، وعدد محتوم وسبيل مرسوم، فترى أولي الألباب يقلُّون ويكثر الصالحون للصناعات اليدوية، ثم تأملت إلى الذين حسنت أصواتهم إذا هم نادرون، وكذلك الذين هم في جمالهم بارعون.

أذكر أني شاهدت شابًّا حسن الهيئة جميل البَزَّة، فتوسمت فيه عشق الفنون الجميلة والموسيقى، فِطرة في وجههِ توسمتها، ومنحة في سيماه أدركتها، فسألتهُ عن ذلك إذا هو بالموسيقى مشغول، وبالفنون الجميلة مغرم، ذو صوت جميل، ولعمرك ما كل الناس حسنت أصواتهم كهذا الشاب، ما أقل ذا الصوت الجميل، هكذا الأذكياء؛ لأن الأمم لا يعوزها إلَّا قليل من الأذكياء لتدبير شأنها، وتقويم أَوَدِها وتنظيم سياستها.

يختلف الناس في أصواتهم وألوانهم وميلهم، ويقل فيهم الأذكياء، إن للاختلاف لحكمة، لمَ لا تكون آراؤهم وعقولهم مصنوعة موضوعة بمقدار ما يحتاجون له من أعمال الحياة، بحيث لو رُبُّوا في معاهد تنمي عقولهم لاختار كل منهم ما هو أكثر استعدادًا له، ولانتظمت أمور الدول والممالك، ولمَ لا يكون أمر ميل العقل بنظام ثابت على مقدار الحاجة، كما كان ذلك في الذكور والإناث.

أليس من العجب أن ينتظم أمر الذكران والنسوان في العالم كله بلا غلط ولا نسيان، أفلا يكون هكذا جميع شئون الحياة والاجتماع والسياسة، إن في الناس القوي والضعيف، والذكي والبليد، هلا اكتشف العلماء ذلك، هلا نقَّبوا عنهُ، يا معشر بني آدم، يا معشر الناس، يا أمم الشرق، يا أمم الغرب، لو أن رجلًا جاءكم من قبل ثلاثمائة سنة وقال لكم: إن في كل نبات ذكرًا وأنثى لحكمتم عليهِ بالجهل والهذيان والوسواس، فلما أن عُلِم ذلك الناموس أصبح بديهيًّا مسلَّمًا، إن ذلك الناموس كان واضحًا في النخل، ولكن الناس ينكرون ما وراء علمهم، ويكذبون بما لم يحيطوا بعلمه وييأسون ولا يصدقون إلَّا بعد أن يحاربوا أولي الألباب.

أفلا يكون تساوي الذكور والإناث في نوع الإنسان مبدأ للنظام الاجتماعي، فإذا مهدنا السبيل وبحثنا جهد طاقتنا علمنا ذلك علم اليقين. ألا وإن هربرت الألماني ينكرها. ألا وإن العقل ينصرها. ألا وإنه قد تخبط ولم يتثبت فيما ادعاه وحالت دونه العقبات. أدرك الناسُ الذكرانَ والإناثَ في سائر النبات بعد وضوحهما في النخلات، أفلا يكون وضوح تساوي الذكران والنسوان داعيًا حثيثًا إلى البحث عن القوة الكامنة في النفوس لإصلاح الاجتماع، والإنسان يفهم طبع ما حوله، وهو عن طبعهِ من الغافلين، الإنسان حوى جواهر السعادة، وعناصر الرقي في جواهر دماغه، فهل يليق أن يهنأ الوجود بالنظام ويخلو منهُ الإنسان، إني جربت التلاميذ وخبرت الطلاب، فرأيتهم في استعدادهم مختلفين، وكثيرًا ما كنت أستدل بالملامح على الاستعداد والقوة والضعف في العقول، فليجدَّ العلماء في بحثهم والتحري عنهُ، فهذه أهم المسائل وأقرب الوسائل لسعادة الإنسان.

المذكرة الثانية

ورد في إحدى الجرائد أن امرأة أوقدت التنور فشبَّت النار فيما حولها فالتهمت قريتها بأكملها، إن جهل امرأة أودى بحياة قرية، واختلال نظام بيت خسارة على بيوت الباقين، يا أيها الناس اعقلوا، واعلموا أنه ما دامت أمة على سطح الكرة جاهلة أو مظلومة فإن شررها يستطير منها إلى ما عداها، ولا يسعد الإنسان على سطح الأرض اليوم إلَّا متضامنًا متحدًا.

لقد أخبرت بذلك صديقًا يحادثني وسميرًا يؤانسني، فتبسم ضاحكًا، وقال: يا سبحان الله ما أغرب رأيك! وما أعجب قولك! وهل قال بذلك أحد من العالمين؟! قال ذلك وهو يدخن. فقلت له: أشرب الدخان ضار أم نافع؟ فقال: بل ضار. فقلت: فلمَ تشربه؟ فقال: حكمت العادة، وغلب الطبع، وقضي عليَّ قضاء مبرمًا بالتدخين، فأين المفر من قضائه؟ وأين المهرب من إيذائه؟ فقلت: أتدري لم وقعت في هذه البلية، وشغلتك هذه القضية؟ ذلك أن في نوع الإنسان أممًا جاهلة قلدتها أمم في رذائلها، واتبعتها في سخافتها. فقال: كيف ذلك؟ فقلت: إن الإسبان إذ فتحوا أمريكا ألْفَوْهم يدخنون، فألحوا في منعهم، ولجُّوا في التدخين وأسروا النجوى بالذنوب، فقلدهم أحقر الطبقات من الإسبان، فتشبه بهم الأغنياء والأعيان، واتبع سبيلهم الأمراء والملوك، فطغى سيل العادة الجارف على أوروبا والشرق، واستطار شرر الدخان، وطغى وعم نوع الإنسان، فأصبحت به من المغلوبين.

كل ذلك لأن أمة جاهلة أَعْدَت العالم، وشرذمة ضعيفة ساقت الأَقْوَيْنَ الأكثرِين، وأصبحت عادة محكمة في سائر الأمم والممالك، فما أجهل الناس إذا قصرت كل أمة همَّها على نفسها، ولم تهتم بغيرها من العالمين!

وبمثل ما ذكرنا عن الدخان يجدر أن يقاس الشاي وقهوة البن، فما أشد فتكهن بالإنسان، وما أغراهن بضرر الإنسان، فعدوى التقليد في الجميع سريعة، وقوى الإنسان للجهل سامعة مطيعة، ألا فليتذكر أولو الألباب.

المذكرة الثالثة: غلبة الأمم لغيرها

كثر غلب الأمم لغيرها، فترسل القوية عساكرها لحراسة الضعيفة بعد غلبتها، والله لقد أخذني العجب كل مأخذ، فيا إخواني يا بني الإنسان، أما لكم عقول بها تفهمون، أو آذان بها تسمعون، ما لكم تجهلون الطبيعة، كيف تنتزعون قرن الكبش وتضعون مكانه قرن الثور، هل رأيتم ذلك في الطبيعة.

ما لكم أصبحتم تجهلون علم الحقائق، وتعكفون على هذه القضايا المشئومة، أيها الناس، أنتم تسنون سنة لأبنائكم ليكونوا عالة على الأمم المحكومة، ذلكم أول خراب دولكم، ودمار أممكم، وأكثركم في بلادهم مؤدبون، فإذا حلوا بساحة البلاد المقهورة طاش سهمهم وغلت مراجلهم وبطشوا بالضعفاء بطش الجبارين، ثم يتأصل ذلك في نفوسهم، ويتولد عنهُ أخلاق وعادات ترجع إلى بلادكم بالدمار والخسارة.

فإذا أحرقت نار المرأة الغافلة قرية بأكملها، وسرت عادة التدخين من متوحشي أمريكا إلى العالم المتمدين، ولم يصدها حصون الدين، ولا تهديد السياسة، ولا وعيد العقوبات في الدنيا بالعذاب، ولا في الآخرة بعذاب يوم الدين، فهلا قستم على ذلك أحوال أبنائكم المرسلين للأمم الأجنبية، إذ يسومونهم سوء العذاب جيلًا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، فيتكون فيهم خُلُقان توأمان وخلَّتان متعانقتان، وهما سوء ملكة الظلم والاتكال على الناس في جلب المِيرَة والطعام.

ألا إن الإنسان مسكين قصير النظر اليوم، وسوف يطول نظره إذا ساعده علماؤه وعلَّمه حكماؤه الصادقون.

ألا إن روحي يؤلمها آلام نوع الإنسان، ويحزنها ما حل به من الرجس والبهتان، وظلم الظالمين، وجهل الجاهلين، فهلا أحسستم بمثل ما نحسُّ، وهلا ساءكم ما ساءنا، ألا ساء مثلًا الجاهلون.

يا أيها الناس، إنك ارتكبتم خطأين، وصنعتم ذَنْبَين؛ منابذة الطبيعة وجهلها، وإحداث ملكات السوء في عقول العالمين، كيف تجترئون على سنة تمقتها العوالم الطبيعية، وكيف تأذنون لأنفسكم العلية أن تقول لأمة: لا تتعلمي ولا تتفكري، ولا يكنْ منك جيوش ولا قواد! ألا إن للغنم والمعز لقرونًا، وللزنابير والنحل لَحُمًى، فهل رأيتم طائفة من الزنابير اقتطعت حُمَى طائفة أخرى وقالت لها: نحن أولى بحراستك وأقرب للعمل لسعادتك وأدرى منك بالتفكير لك، كذب محض وجهل فاضح يمقتهُ العالمون، عارٌ وأي عار، عار عظيم، أين العقول؟! أين الأحلام؟! أين النفوس المتمدينة؟! العقل، الصدق، النظام، النظام.

أفلا يخجل الإنسان، أين العلوم؟! أين الحكم؟! ما تقولون يا معاشر الفلاسفة؟ ما حكمكم؟ ما رأيكم؟ خَطْب جسيم وجهل كبير وطامة كبرى، ألا ساء مثلًا الجاهلون الظالمون، ما أجهل الإنسان! ما أكثر فخره، وأقل علمه، وأشد ظلمه! فلينظر لنفسه، ألا بعدًا للقوم الظالمين.

المذكرة الرابعة: الحَمَام لا يتعصب للون

استيقظت مبكرًا فشاهدت الحَمَام يحلق في الجو غاديًا رائحًا، يطير تارة على محيط دائرة، وطورًا على خط مستقيم، ولا أشبِّه حركاته وجولاته إلَّا بالجولات العسكرية التي لا يحسنها الجندي إلَّا بعد أن يقطع شوطًا بعيدًا، وأمدًا مديدًا من حياته في المدارس الحربية، والتعاليم الجندية، وآنست الحمامات السود والحمر مزدوجات، وهن في اللعب متحدات، فلا أثر للتعصب اللوني عند الحمامات، وقد احتدم وطيس العصبية بين السود والبيض في البلاد الأمريكية.

فما أجهل الإنسان! يتعصب للألوان، وما أضله عن نفسه، وأبعده عن إدراك حقيقة جنسه!

المذكرة الخامسة: الفلك والمراصد والعدل

إن رجال الفلك في المراصد يرصدون الكواكب كوكبًا كوكبًا وهي تمر بين الشعرتين المتقاطعتين في آلة الرصد، فهم بذلك يعدلون ساعاتهم. إن لهم لساعات منظمة «كرونومتر»، ولكنها ليست في درجة نظام سير الكواكب، فتارة تتأخر وتارة تتقدم، ولكن للكواكب مواعيد معلومة، وأوقات مدونة، فإذا مرت بمراصدهم دونوا أوقات مرورها، ثم علموا ما بساعاتهم من التأخير والتقديم.

لمَ ذلك، ليضبطوا مواعيد الأعمال الإنسانية وسير القطار، وسفن البحار، وأعمال البخار، بحيث لا يخطئون في دقيقة ولا ثانية، وأمامهم في ذلك سير الكواكب المنظم.

أليس عجيبًا ذلك، أليس من المدهش أن سير الكواكب لا خلل فيه مقدار ثانية، ولا أقل منها، ثم جعلنا نظام أعمالنا مرتبًا عليها بحيث لو اختلت أوقاتنا كان الخلل في أعمالنا، أفلا ينظم أهل السياسة أعمالهم على وفاق نظام العالم، نظام النواميس الطبيعية، نظام العقول الإنسانية، ألا إن أرقى الناموس في الإنسانية أن يستخرج القوى الكامنة في عقول جميع نوع الإنسان، وكما أن نظام المسير في الأرض تابع لنظام الكواكب المرصودة فهكذا فليكن نظام العدل مقيسًا بنظام صفوة العقول، فلا ظلم ولا جشع.

ولقد قلت ذلك لأحد أصحابي فقال لي: عجبت لك، وفي أي زمن ارتقى سائر العالم؟! وهل في الناس استعداد لإصلاح شئونهم بحيث لا يظلمون ولا يظلمون؟! فقلت: إن عقل الإنسان ليسع النقص والكمال كما تسعهما المادة، إن كثيرًا من قواه العقلية والجسمية تذهب سُدًى، وهكذا سائر النباتات والحيوان قد تُخلق وتذهب بلا فائدة ظاهرة.

إن الإنسان غافل عن أكثر المنافع في نفسه والآفاق، وها هو يستخرج منافع العالم، دائمًا بالاكتشافات، وقد آن الأوان أن يستخرج مواهبه العقلية فيعيش بسلام.

المذكرة السادسة: الشرق والغرب

الإنسان مسكين كئيب، لا يرى إلَّا ما أمامه ولا يعرف العواقب، وها هم أهل الشرق الأقصى ظهروا وبهروا، وها هم أهل الغرب راقون، ولكن بعضهم يسيء الأمم القاطنة بينهما، ويزرعون في عقولهم مزارع العداوة والبغضاء، ويا ويحهم، لقد جهلوا أن سنة الترقي ستشملهم، ولن يصدها صادٌّ.

أوَلا يعلمون أن أبناءهم سيرثون الغل والحقد على أبنائهم الظالمين، ويكونون عونًا على من آذى آباءهم، ألا إنهم هم الحصن المنيع بين الشرق والغرب، فليس يسكنهُ إلَّا من شاد بناءه، وعلم أبناءه، وباعد ظلمه، وحبب إليه القلوب، فسيتلاقى الغربي مع الشرقي. والقول الفصل سيكون للأمم الآسيوية في الشرق الأدنى، فإنها ستكون مع المحسنين وستسيء للمسيئين، وأغلب السُّوَّاس لا يعلم إلَّا ظاهرًا من العلم وهم عن الحقائق معرضون.

المذكرة السابعة: الأخلاق في الأمم

لا يجدي نظام كليات العالم ولا مدارسه ما دام السُّوَّاس يقولون ما لا يفعلون، ويطلعون على ذلك شبانهم، ويقال لهم على سبيل الفخر والإعجاب: هذه سياسة، فتنقلب الحسنات سيئات، ويحور الأخيار أشرارًا، والفضلاء منافقين مخادعين، فإذا أجرم الغاصب والمزور قالا في أنفسهما: إنما نحن سُوَّاس كأشرافنا، فإذا سرقنا متاعًا فقد سرق أشرافنا، وإذا كذبنا فقد كذب أشرافنا، ونافق وخادع ساداتنا.

فالمدارس والكليات تبني والسُّوَّاس والقواد يهدمون البنيان، فيرفعون الرذيلة، ويشيدونها على أنقاض الفضيلة في أرض العصيان.

المذكرة الثامنة: لا يبقى إلَّا الأصلح للوجود

هذه القاعدة صادقة، وقد غلط أكثر علماء الأمم في تطبيقها على الحياة العامة، وخلطوا نظام العالم البشري بنظام الرقي.

إن هناك دائرتين؛ دائرة نظام الغذاء، ودائرة الارتقاء، فأما الأولى فإنك ترى الدود طعمة العصفور، والعصفور غذاء الباشق، والباشق طعام العُقاب، والعُقاب طعام الدود، وسائر هذه العوالم فريسة أصغر الحيوان، وهو الميكروب. فهذا نظام حق، له ناموس خاص، فأما الدائرة الثانية، فإن في هذه العوالم قوة شهوية، عاشت بها الأرانب والغزلان والطيور وسائر الحيوان والنبات، وفوقها قوة غضبية ظهرت بأجلى المظاهر في الآساد، وقوة عاقلة كان أتم ظهورها في الإنسان، وكل واحدة أرقى مما قبلها وأقل مما بعدها، فنحو الآساد تنال غذاءها من الغزلان، والإنسان ملَك الأسد والغزال بقوته العقلية، وحيلته الفكرية، ونفسه العلية.

فالعقل أرقى، وهو أصلح للوجود، وهو لا يزال ناقصًا، فإذا أكمل التعليم والتهذيب زالت عنهُ المفاسد والغل والحقد والحسد، وأصبحوا سعداء أجمعين، فإذا بقي الإنسان على حياته السبعية، وقلد الآساد في افتراسها، والثعالب في مكرها، وعلم القوي الضعيف علوم الجبن، ودروس الذلة فأمات غرائزهم، وأضعف قواهم، وهو في الوقت نفسه يعلم أبناء أمتهِ الاتكال على ما كسبتهُ الأمم الأخرى، بحيث يجعلون كل ما أوتوا من ذكاء، وما أعطوا من علم موجهًا إلى الأمم الضعيفة، ليحصدوا ما زرعوا، ويأكلوا ما جمعوا، ويفسدوا ما أصلحوا، ويجنوا ما غرسوا، إنهم بذلك تتأصل فيهم ملكة الظلم، وتستولي على عقولهم آفات الكسل، ويكون لهم ظاهر وباطن، فظاهرهم الصدق والإخلاص والفضيلة، وباطنهم النفاق والخداع وعدم المروءة.

لعمري إن الإنسان إذا دام على ذلك أصبح لا يصلح لعمارة هذه الكرة الأرضية، وذاق بعضه بأس بعض، وخلفه قوم آخرون؛ لأنه لا يليق لهذا النظام الدقيق العجيب في السماوات والأرض.

أوَليس من العار أن العالم الذي حولنا من الأرض والسماوات معظمه عالم صادق ونحن ظالمون جاهلون كاذبون!

عار عليكم أيها العلماء والفلاسفة، أيها الملوك والعظماء، أُفٍّ لكم، ما لكم أجهلتم أنفسكم، ما لكم كيف تحكمون، أفلا تذكرون، تقول الأمة وعلماؤها وسواسها: ما لنا ولمنافع الأمم الآخرين، نحن أشرف وأفضل منهم، ولا صلة بيننا وبينهم، إلَّا بالمادة، تبًّا لمن لا يعقلون، أما علموا أنه ما دامت أمة واحدة في الأرض جاهلة تسرب الجهل والغفلة إلى غيرها على مدى الأيام، أما علموا أنهم إذا أرادوا تقليل السلاح بعد أن ظلموا أمة ضعيفة فقويت تلك الأمة وصنعت الأسلحة النارية، ولم يكن بينهم وبينها صلات علمية ولا مودات أخلاقية، ولا يدرسون معهم دروس الحب العام فإنهم إذ ذاك حَرِيُّون أن يتقلدوا السلاح ويقدموا للكفاح، فيرجع الناس كما كانوا آسادًا وذؤبانًا وجهالًا فاسقين.

المذكرة التاسعة: إلى أين يا قرطاس

ازدحمت هذه الآراء بفكري، وتسابقت إلى قلمي، فرسمتها على القرطاس، إلى أين يا قرطاس؟ فأجابني إني سائر إلى الناس، إلى من يا قرطاس؟ فقال: إلى أحبابك، إلى إخوانك، إلى أصدقائك، إلى عشاقك، إلى الذين يعجبون برأيك من أفاضل الأمم وأخيار الممالك، إلى من يا قرطاس؟ إلى أمتي وحدها أم للأمم؟ فقال: الأمم كلها أمتك، والعقول الإنسانية والأرواح البشرية تشاركك في علمك.

إن قلبي لهذه الحكم مشوق، وهو لامتلاء أفئدة إخواني من سائر الأمم أشوق، أنا إنْ لم أبرز هذه الكلمات للناس فلا سعادة لي، ولئن أوجدت لسائر الناس فأنا بهم فرح، إذ هم المشاركون لي في فكري.

وكلما كثر المشاركون زاد فرحي، وبقلَّتهم يقلُّ، فعلى قدر انتشارها واتساعها تزداد سعادتي، وكلما رأيت أمثالي من الأمم ازداد فرحي، أليس سائر علماء الأمم يفرحون بأشكالهم وأشباههم في سائر الأقطار، وانظر إلى الطائر، هذه الطيور لا تدون أفكارها، ولا تكتب أخبارها، ولا تعرف تاريخ أمم الطيور قبلها، ولا ترسل بريدًا إلى ما عاش معها من جنسها على الأرض، ولا إلى أبنائها الآتين بعد فنائها، إنها لا يهمها إلَّا حياتها وتربية أولادها إلى حين، وهي مع ذلك تنظم جماعاتها عند الحاجة للنظام كالغربان وكلاب البحر وغيرها، فيا ويح الإنسان.

ما الذي جرى لك أيها الإنسان؟ أعرف أخبار الشرقي والغربي، وسعادتي في أن يشاركوني في فكري، وأقيس المستقبل بالماضي، وأن لي مع السالفين واللاحقين والمعاصرين من سائر الأمم والممالك علاقة عظيمة، فكيف يكون نظامنا أسوأ النظامات، وبيننا العداوات والبغضاء، نظام الغراب والزنبور والنحل وكلب البحر على مقدار حاجاتها، أفلا يكون نظامنا على مقدار حاجاتنا.

ألا إنا لسائر البشر لمحتاجون، إن قلبي وقلوبهم في مستوى واحد وأفق واحد، بيننا علاقة واتصال ومحبة ومودة، وأعلمهم ويعلمونني، وأحبهم ويحبونني. (قاعدة): وكلما زاد علم الإنسان ازداد حبه للناس، وكلما قلَّ العلم قل الحب، ولذلك ترى الحكماء أشد حبًّا للناس، والجهال والكذابون والسُّوَّاس أقل حبًّا، وأكثر طمعًا وجمعًا للمال، والرجل الجاهل أقرب للحيوان الأعجم يقل عطفه على النوع الإنساني بمقدار جهله بإخوانه من سائر البشر.

الأمم اليوم أقرب إلى الحيوان، فإذا عُلِّمَتْ ورُبِّيَتْ ترقَّت عن الحيوان إلى درجة الإنسان وصار الناس إخوانًا.

المذكرة العاشرة: البلاهة خير من الفطانة البتراء

قال الغزالي المتوفى في أوائل القرن السادس: البلاهة خير من الفطانة البتراء، يريد أن العامة والبُلداء يصدقون بالدين بلا حجة ولا برهان، فإذا تعلموا تعليمًا ناقصًا صاروا بين بين، لا هم عامة مقلدون، ولا علماء محققون، فيكون الجاهل راضيًا بربه قانعًا بعيشه، وذلك الناقص العلم يعيش في شك وألم وعذاب أليم.

أما نحن فنقول: الأمم المتمدينة فطانتهم بتراء، فإن أكابرهم وَسُوَّاسهم وعلماءهم يعلمون الحقائق ويدرسون، وأكثرهم جهال غافلون، فيغلب أهل الشَّرَه والطمع وجمع المال وحب الغلب على أولئك السُّوَّاس، فيأتمرون بأمرهم، ويصبحون ذوي وجهين وقلبين ولسانين؛ قلب عالم بالحقيقة عاطف على الإنسان، وقلب مطيع لأولئك الغافلين الطامعين الظالمين، فينقلب العلم جهلًا، وتكون الصناعات والعلوم أول معوان على الفتك والأذى، بحيث لو كانوا أقل علمًا لكانوا أقل ضررًا، وأمنع أذى وأبعد سوء.

ففطانة الأمم داعية لازدياد شَرَهِهم وحرصهم وخضوع الفضلاء منهم للظالمين الطاغين، وتكون فطانتهم الناقصة من دواعي شرههم وأذاهم ومكرهم، ومتى ارتقت الأمم وصارت فطانتها كاملة ذهبت الأحقاد والمطامع وعاش الناس سعداء آمنين.

المذكرة الحادية عشرة: التبجح بدعوى المعرفة مفسدة للأخلاق

قلنا: إن فطانة الناس بتراء، وهم يدَّعون أكاذيب كثيرة، ويفتخرون بأنهم يعلمون، ولكن أكثرهم يجهلون، يتبجح الرجل بقوله: نحن علماء، نعلم أن الشمس أكبر من الأرض مليون مرة ونحو ثلاثمائة ألف مرة، وهو لم يقرأها إلَّا في كراسة المعلم، وما يدري أحدهم كيف استخرج هذا الفلكيون، وعلى أي القواعد الهندسية بنيت، وما تشابه المثلثات الذي هو أساس هذه القاعدة، وما طريقة العمل، فيكون الرجل مقلدًا وهو يظن أنه أول العالمين.

إن لذلك أثرًا سيئًا في الأخلاق والعادات، بحيث يقف الرجل غير خَجِل ويقول: أخدم الإنسانية، وهو إنما يخدم نفسه فيسحر الناس بقوله، ويصدقونه، وكثيرًا ما يلفق الخبر السيئ فيصدق الناس، فتغلو الأسعار، ويرفع قوم ويخفض آخرون؛ ذلك لنقص الفطنة في مجموع الناس.

المذكرة الثانية عشرة: نواب الأمم

كثرت الرشا في انتخاب نواب الأمم، ولو أن طائفة المديرين المتقاعدين والمأمورين والمحامين والقضاة والأطباء والمهندسين والمزارعين وغيرها كل واحدة منها انتخبت عنها واحدًا منها أو أكثر لقلَّت الرشا في الانتخابات كما هو الناموس الطبيعي في جسم الإنسان، إذ يوصل كل عضو أخباره إلى الدماغ بلا حاجة إلى آخر، فتصل الأعصاب من الأعضاء إلى الدماغ من كل عضو أصالة، بذلك تسير الأمم على نظام أتقن وحكومات أعدل، والسلام.

المذكرة الثالثة عشرة: آن أن يعقل الناس المحبة

الأنبياء علموا الناس أن يتحابوا، ولم يكن في طاقة الأمم أن تفهم بالبرهان، وقد آن أن يفهم الناس بالحجة أن ضرر أمة أو فرد ضار بمجموع الإنسان، فليشمر العلماء عن ساعد الجد، وليعلموا الأمم، وليتعاونوا جميعًا على غرس فضيلة المحبة ببراهين كالتي ذكرناها، وحجج كالتي سطرناها، وليعلموا أنما الأمم للأمم حياة، ولا سعادة لأمة إلَّا بسعادة غيرها، وكلما كانت الأمم أكثر كانت السعادة لهم أوفر، وكلما قلَّت أعدادهم نقصت سعادتهم.

إذا كانوا في حياة إنسانية وجامعة عقلية يبلغون ما يريدون من المادة والمنافع الجسمانية والعلوم العقلية والأدبية.

المذكرة الرابعة عشرة: حُلَّ أزراري فأصابني الزكام

لا عذر للأمم على جهلها، ولا عذر للعالمة منها أن تبخل بالعلم على غيرها، لقد فُكَّ أزراري وأنا مستقبل الريح بلا قصد مني فأصبت بالزكام، لم يكن ذلك الزكام عن عمد، إنما كان عن نسيان.

هكذا الأمم الإنسانية إذا جهلت الفضيلة وغفلت عن الحكمة والعلوم ساءت حالها ووردت مناهل الشقاء بلا مشيئة منها، فلا غفران لذنوب الجهل بالنواميس الطبيعية، وقد يغتفر السهو والخطأ في الأعمال الإرادية والذنوب الاختيارية.

المذكرة الخامسة عشرة: الحجر والسياسة

ناولني فتى من الفتيان المتعلمين حجرًا أسمر اللون يشوبه حمرة آتيًا به من جبل الرصاص تتخلله قطع رصاصية معدنية طبيعية، فلما أن شاهدتها بدا لي أن في الحجر حل مشكل هذا العالم الإنساني، إن عليهِ سياسة هذا العالم قديمًا وحديثًا، وهي أقسام ثلاثة.
  • السياسة الأولى: سياسة العصور الحجرية، والأمم البربرية القديمة العهد، فلقد كان الحجر حل مشكل المعضلات، وفاصل الحكم بين الجماعات، إذا احتدم وطيس الجدال بين قبيلتين، أو غلا الدم في وجوه أعيان القريتين، حددوا أحجارهم كما تحد سكاكين الحديد، وتناضلوا بها واستعانوا بالعصي وما شاكلها، فمن كان أشد رميًا وأقوى ضربًا كان له فصل الخطاب وأضحى صاحب التاج والصولجان.
  • السياسة الثانية: سياسة الأمم الذين بعدهم في الأعصر الحديدية، وهم الذين عثروا على معادن الحديد فسبكوها، وتراموا بالنبال وتضاربوا بالسيوف، فقضى بينهم الحديد، وهم كآبائهم الأولين، فلما أن عثروا على الرصاص في ثنايا الصخور وتحت طباق الجبال صنعوها كرات وقذفوا بها أعداءهم، ولعل فرق ما بين الحجريين والرصاصيين أن الأولين حكموا ظاهر هذا الحجر الذي في يدي، والآخرون انتزعوا رصاصة فكانت أشد فتكًا وأسرع مرمى وأنفذ حكمًا، إن الأولين والآخرين في ضلال مبين، كلاهما في الضلال يعمهون.
  • السياسة الثالثة: سياسة العلم والحكمة، سياسة النظام، سياسة الله في نظامه، سياسة الأنبياء، ولعمرك ما حارب الأنبياء الأمم إلَّا ليصلوا للسلام، ولا أرهقوهم إلَّا ليغمدوا الحسام بالسلام العام، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

هذا الحجر ذو بريق ولمعان، أراه حسن الشكل يتلألأ نورًا وبهجة، إن فيه لحل المشكلة الإنسانية، ونظام الجمعية البشرية، ذلك لأن المعادن من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والقصدير وأمثالها وضعت في الأرض والجبال بمقدار.

ألا ترى الذهب كيف قل وجوده، والفضة كيف كانت أضعاف أضعافه، وإلى النحاس كيف كان أكثر منهما وأعم، وكذا الحديد والرصاص، إن في ذلك لعبرة، إن في قلة الرصاص ووفرة الذهب لحكمة، إن في ذلك لآيات للعاقلين، إنهُ تذكرة للناس ليعلموا أن العقول الإنسانية موزعة على أعمالهم توزيع المعادن على المنافع، فمن عطل عقلًا عن الارتقاء، أو وضع نفسًا في غير موضعها، كان كمن استعمل الذهب موضع الحديد، أو حبس أحدهما عن الناس، ألا فلتقم كل أمة وكل فرد بما خُلقوا له، وإلا عاشوا في أسوأ حال وبئس ما يصنعون.

المذكرة السادسة عشرة: إيضاح للتي قبلها

ركبت القطار فما أسرع أن سار، فرأيت الأمر فيه واضحًا جليًّا ولكن أكثر الناس لا يعلمون، رأيت الحجرات من خشب مصنوعات، رأيت عوارض من حديد منصوبات، رأيت قضبانًا على الأرض مسطوحات، ورأيت الركاب فيه معهم قليل من النقود الذهبية، وكثير من القطع الفضية، وهم عن الحكمة غافلون.

ذلك حل المشكلة الإنسانية ونظام الجمعية البشرية، ذلك أن الحاجة للحديد شديدة، وللخشب أشد، وللفضة قليلة، وللذهب أقل، فكان ترتيبها في الوجود موضوعًا حسب الحاجة الداعية إليها، أفلا ينظرون إلى الخشب كيف كثر، وإلى الحديد كيف كان بمقدار الحاجة موفرًا، ولم يكن للذهب من الحاجة الداعية ما للحديد.

الحديد جعل عوارض يمسك خشب الحجرات، والذهب يقضي بين المتبايعين في تنازع القيمة المبهمة في المبيعات، والفضة في صغريات الحاجات، الذهب سلطان وقاضٍ كلي، والفضة أمير وقاضٍ جزئي، فكان الأول أقل وجودًا والثاني أوفر وأكثر في الكرة الأرضية، وفي الطبقات الصخرية، ولو أن الناس استبدلوا الذهب بالحديد في الماسكات والعوارض في الحجرات القطرية، أو جعلوا الحجرات في القطار من الحديد بدل الخشب لاختلط الأمر ووقفت الحركات، وعطلت البنوك، وحطم القطار، ورجع الناس إلى الهمجية، وارتطموا في الأحوال الوحشية، فكيف يسير القطار إذا كانت العوارض الماسكة لأجزاء الحجرات من خشب والحجرات من حديد؟ أم كيف يتعامل الناس بالحديد ويفصلون قضاياهم بالنحاس، وقد كثر وجودهما فرخص ثمنهما؟

تجلى الحق ووضح ألَّا نظامَ إلَّا بوضع المعادن والأشجار في مواضعها، وأن استبدال أحدهما بالآخر ظلم وسوء إدارة وجهل بالنظام، ألا ساء مثلًا الجاهلون الظالمون.

هكذا تكون العقول البشرية، إنها نظمت تنظيمًا جميلًا بحيث نرى أن الأذكياء في سائر الأمم يقلون كما قل الذهب دون سائر المعادن، ونرى الصالحين للإدارة العامة يكثرون كالحديد، وأكثر الناس قادرون على الأعمال الجسمية والصناعات اليدوية كالخشب في حجرات القطار وفي شبابيك النوافذ وأبواب الدار.

وُزِّع الذهب وسائر المعادن على الجبال الأرضية، ولم تُخَصَّ أرضٌ دون أرض، وهكذا سائر المعادن غالبًا، فهكذا العقول البشرية لم تخص أمة دون أمة ولا طائفة دون طائفة.

إن العقول موزعة على النوع الإنساني بمقدار توزيع المعادن والأشجار على الأقطار، فلا حق لأمة أن تدعي أن جنسها أرقى الأجناس، ولا إن قومها أرقى العالمين؛ فذلك جهل فاضح وخور وجنون، كذب العالمون، ما أجهل الإنسان! يا ويحه، ما أجهله بالنظام! ما أضله عن السبيل! جَهِلَ فغوى، وكذب وطغى، فعذبه الله العذاب الأوفر، وأنزل عليهِ صواعق غضبه وسلط عليهِ نار الغضب، فأحرقت أفئدة الظالمين وسامتهم سوء العذاب بالعداوات والحرب والنضال، لبئس ما يصنعون.

وهنا نتائج أربع:
  • الأولى: أن الأشياء وضعت في الدنيا حسب الحاجة إليها كثرة وقلة، كالخشب والحديد والذهب، فكلما اشتدت الحاجة إلى شيء كثر وجوده وكلما قلَّت قل وجوده.
  • الثانية: أنه كلما اشتدت الحاجة للشيء سهل تحصيله كالخشب، وكلما قلت الحاجة له صعب تحصيله كالذهب.
  • الثالثة: كلما كثر الشيء رَخُص، وكلما قلَّ غلا في أكثر الأحوال.
  • الرابعة: متى وضع شيء في غير موضعه اختل النظام.

هذه القواعد الأربع سارية في الماديات والمضويات، العقول الإنسانية جارية على هذه القاعدة، فهل يحق لأمة من أمم الأرض أن تدعي أنها مختصة بالعقول الذهبية، فتنطلق أمة أخرى، وتقول: ضعوا خشبي موضع حديدكم وحديدي مكان ذهبكم، واجعلوا حديدكم خشبًا وذهبكم حديدًا، وكونوا إليَّ سامعين مطيعين.

أوَلا تكون هذه الأمة كالرجل الأحمق الذي يصنع حجرات القطار من الحديد، ويدعمها بالخشب، ويأمر الناس بالتعامل بالحديد بدل الذهب والفضة، ألا ساء مثلًا الطاغون الجاهلون، أوَلا يعلم الإنسان أنه إذا عطَّل بعض العقول الإنسانية، كان كمن حرم الناس من استخراج الذهب من معادنه الجبلية، فيقل الذهب في العالمين، ويكثر الشجار بين المتغاضين. حرص الناس على المعادن وفرطوا في العقول، جهلوا والله، إن الإنسان لظلوم كفار، تواطأ الناس على استخراج المعادن، وتحملوا المشاق ولما يألوا جهدًا في تحصيلها، فهل دأبوا في استخراج العقول الإنسانية، كما دأبوا في تحصيل القطع المعدنية، أولا يعلمون أن الغُنْم بالغُرْم، وأن أشق الأشياء تحصيلًا أنفعها. وهلَّا علموا أن العقول البشرية أعظم لهم نفعًا، وأبقى سعادة، عرف الناس كل شيء إلَّا عقولهم، وفهموا كل شيء إلَّا نفوسهم، ألا إن الإنسان لجهول كفور، سيسوس الناس في مستقبل الزمان أممهم بما ساس الله به خلقه، فالله وضع الميزان وأحكم النظام، وقام بالعدل، وجعل هذه الخليقة المنظمة كتابًا للسياسة يقرؤه الناس إن كانوا يعقلون، هذا ميزان الخليقة فزِنُوا به أعمالكم ولا تكونوا ظالمين.

المذكرة السابعة عشرة: جاموسة الناعورة

جلست مع أصدقاء في وسط روضة صغيرة وفيها ناعورة تديرها جاموسة، عيناها في غطاء لا تبصران، ولكن أذناها تسمعان، وما أدراك ما تسمعان، تسمعان صوت الهراوة ترنُّ ضربًا على جسمها، تسمعان صليل الجرس ليوهمها أن ضربة ستؤلمها، وبينما هي كذلك إذا غطاء عينيها انكشف قليلًا، فأبصرت، فلما أبصرت وقفت، فأخذ السائق يضربها وظلت الجاموسة في موقفها، كبرت نفسًا أن تسير، وظلت العصي على جنبها تسيل. فقال صاحب الجاموسة: ما العمل فيما أَلَمَّ؟ فقلت: يا هذا، لا يصبر على الذل إلَّا الجاهلون، ولا يرضى بالهوان المبصرون.

الجاموسة كالأمم المغلوبة، وغطاء عينيها أشبه شيء بغطاء ظلام الجهل المسدول على عقول الأمم الضعيفة، والسائق كالأمم الغالبة، فَغَشِّ عينيها بالغطاء، فإنها تسير بلا تَنَاءٍ، ففعل السائق فدارت.

الإنسان ظن جهلًا أنه ليس نوعًا واحدًا، فقام قوم مقام السادة وقام آخرون مقام العبيد والحيوان، فَغَشَّوْا أبصارهم وحرموهم من العلم، وقالوا لهم: كونوا عبيدًا أذلاء، ألا إن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، ألا ساء ما يفعل الجاهلون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤