الفصل الرابع عشر

الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية

بينا أنا نائم ليلة العشرين من شهر يوليو إذا صاحبي مقبل إليَّ في حُلَل تلوح كأنما لونها ريش الطاووس بهجة وجمالًا، فنرى سوادًا يتخلله بريق، يغشاه لمعان يعلوه لون ذهبي، يحيط به بياض، منقش في دوائر شمسية بهيجة أشبه بألوان العقيق والمرجان والزمرذ، وعلى رأسه تاج يضيء سناه للناظرين مكلل بكل ما جَمُل وغلا من الياقوت والمرجان والماس منظم دوائر منظومة من الجوهر داخلها مربعات ومخمسات ياقوتية مرتبة ترتيبًا بديعًا، فسلَّم وحيَّا ودنَا وتدلَّى.

وهنا أخذ لُبِّي بحسن سلامه، وبديع كلامه، وجميل خطابه، وعذب مؤانسته، ومعه آخران واقفان خلفه، خاضعان لأمره، مطرقان إجلالًا له، فسِرْنا والليل عاكف، حتى ركبنا المركب المعهود ووصلنا الكوكب الجديد، فلما أن توسطناه نظرت إذا قُرى عالية الذُّرى، فرأيت المدرسين في مدارسهم، والمهندسين في أعمالهم، والصانعين في مصانعهم، وشاهدت قطارات البخار، وآنست رسل الكلام من المسرة «التلفون» والبرق «التلغراف»، ورأيت الناس يرغبون ولا يرهبون، وهم بالشوق والحب يعملون، وسمعت نغمات الآلات الدائرة وموسيقى العجلات في السكك الحديدية، وكلها ذوات نغمات موسيقية، فلو رأيت ثَمَّ رأيت فلاحًا يحمل فأسًا ونغمات الآلات الرافعة للماء تُشَنِّف سمعه، وهو في طرب وفرح وجذل وسعادة وحبور.

فلما أن وصلنا ساحة القوم في ذلك القصر الفسيح الأرجاء البديع البناء، رأيت القوم مجتمعين والجمع محتشدين، وهم ألوف وألوف، صفوف خلفها صفوف، وعلى وجوههم سيمى الحب وفي هيآتهم بهاء الوقار، فسلمنا وسلموا، وأُجلسنا على كراسي في ساحة المكان، وبينما نحن جلوس إذ أقبل شيخ عظيم الهامة، طويل القامة، جليل القدر، رفيع الذكر، جلس بيننا وبين القوم وهم جميعًا له معظمون ولشيبته وهيبته مبجلون.

فقلت لصاحبي: من هذا؟ فقال: هذا عالِم الأرض والمريخ. فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: أليس للحشرات فيما بينكم علماء؟ قلت: نعم. قال: فهاهنا لكل شيء في العالم أخصائيون، وهذا أخصائي في علم الأرض والمريخ، يدرس ما أنتم عليهِ من الأحوال، ليكون عبرة لهم ولمن بعدهم من الأجيال.

ولقد جاءوا به ليحل مشاكلكم السياسية، وعُقدكم الاجتماعية، ويزيل المظالم الدولية، وليكون مخبرًا أمينًا، وصادقًا شهيدًا، ثم هو من وجه آخر يريد أن يهتدي إلى بعض ما غاب عنهُ بسؤالك، ويستخرج المجهول بجوابك، فليس كل ما لديكم عنده بحاصل، وما هو بكل دقيق وجليل عندكم بعالم، فأصغِ إلى سؤاله واستعدَّ لجوابه، فستستفيد وتفيد، ويسأل وتسأل، ويعلم وتعلم.

وهنا أصغت تلك الجموع، وخشعت القلوب، وخفتت الأصوات، وابتدأ الشيخ يقول: أيها الشخص، لقد بلغني عنك الليلة ما بلغني، فقيل لي إنك أسد من الآساد. أفحق ما يقولون أم باطل ما يدَّعون؟ فقلت: كلا وَمَنْ فَلَقَ الحَب والنوى، إن المخلوقات على سطح كرتنا على ثلاثة أقسام، نبات رأسه أسفل في الطين، وحيوان غير إنسان رأسه متجهة للجوانب الأربعة، والإنسان رأسه أعلى، فأنا من نوع الإنسان. فتبسم الشيخ وضحك وضحكوا، وقال: لعلكم كما قال شاعركم:

أمَّا الخيام فإنها كخيامهم
وأرى رجال الحي غير رجاله

فاعترتني الدهشة وعجبت كيف يحفظ شعر شعرائنا، وجاش بخَلَدي أن هذه النفوس لها صلة بنفوسنا وعلم بآرائنا، وإلا فكيف يعرف ما درسناه ويدرس ما قرأناه.

ثم قال: أيها الفتى، أنت أجبتني بالإنسانية الجسمية، ونحن نريد الإنسانية المعنوية، صورتكم صورة الإنسان، معدَّة للرقي إلى عوالم العرفان، وهل بعد ارتفاع الرأس من شرف في الجثمانية، ولكني وجهت سؤالي إلى أخلاقكم وأعمالكم وآرائكم ونفوسكم، أأنتم آساد؟ قلت: كلا. فقال: خبرني ماذا فعلتم بالإنسانية؟ وبماذا ارتقيتم عن الحيوان؟ إن مقياس الإنسانية يتجاوز أخلاق الحيوانية، فقل لي: بمذا علوتم على الحيوان؟ فقلت: زرعنا الحقول، وأنضجنا البقول، وحفرنا الترع، وأقمنا الجسور، ونظمنا البلاد، ونفعنا العباد، وأدرنا الآلات، فسقت الحقل، وحصدت الزرع، وخاطت الثوب، وفصلت النعل، ونقلت المتاع، وحملت الإنسان والحيوان، وتكلمنا بعد أميال بالبرق والتلفون، بل إن الإشارة البرقية تطوف الكرة الأرضية في سدس ثانية زمنية.

قلت ذلك وهو يتبسم ويقول: أنا أسألك عن الإنسانية وأنت تشرح لي الحيوانية؛ إن الزرع والحصد والثوب يشارككم فيها الحيوان، فهو يأكل ويلبس ويعيش، وقصارى الأمر أنكم محتاجون لما نقصكم، ساعون لتلحقوا الحيوان، فهو سهل الغذاء، حاضر الملابس، وأنتم بتلكم الآلات والعدد الحديدية والعلوم تريدون إدراك شأوه، فأنتم للحيوانية ساعون مضطرون، وعلى الحياة مجبورون. ولكني سألتك عن الإنسانية، وما سرعة النقل والبريد وقرب التخاطب إلَّا لتملئوا بطونكم وتكسوا جلودكم، وتعولوا نساءكم وأبناءكم، فأنتم بهذا تسارعون في الحيوانية لا الإنسانية، وما سرعة الخطا ورغد العيش، وكثرة الألوان على المائدة، ولا الذهب والفضة، ولا الخيل المسومة، ولا الأنعام ولا الحرث ولا النسل إلَّا حطام الطعام، تشارككم فيها الأنعام أكالة الحشيش، كالنعجة والخروف والعنز والتيس والبقرة والجاموسة، ولو كانت سرعة السير إنسانية لكانت الأرانب أعظم منكم، وما سرعة البرق والبريد إلَّا صوت امتد في الفضاء، كما زاد صوت الجمل على النملة، فلم يوجب له فخارًا ولم يدفع عنهُ عارًا، وما الآلات البخارية للإنسان إلَّا أرجل جديدة يجري عليها، فقصارى أمركم أنكم زدتم حيوانية وبعدتم عن الإنسانية، فإذا كان معنى الإنسانية هي الحيوانية العظيمة، فالفيل إنسان بالنسبة للعنز وهذا لا يقول به العاقلون.

ثم أراني خريطة فيها صورة جيوش حرب السبعين، وحرب الروس مع الترك واليابان وغير ذلك، وقال: كيف قطعتم هذه الرءوس وأزلتم تلك النفوس؟! فقلت: إن لنا مدارس فيها الفنون الحربية، والآلات الدفاعية، وكيفية الكر والفر، والإقبال والإدبار، ولقد وصلنا اليوم إلى أربع درجات في الحرب، السفن الغاطسة المائية، والسفن الجارية فوق البحر، والجيوش المنظمة البرية، والمناطيد الجوية. إن العالم الإنساني اليوم زادت قوته، ووصل إلى أن اكتشف المنطاد ليحارب في الجو.

فعجب الشيخ كل العجب، ثم أشار إلى أحد الواقفين بإشارة فغاب خمس دقائق وجاء ومعه حيوان هائل عظيم الجثة له أرجل يمشي بها، مثبت فيها عجل أسرع من القطار له أجنحة، فمشى أمامي وجرى بالعجلة أسرع من القطار، وطار في الجو بالأجنحة وهو محدب الأنياب والمخالب. فقال: أنتم كهذا الحيوان، إنهُ يطير ويجري، ويعدو، ويسبح في البحر، ويغطس في الماء، ويأكل، ويعيش، وصوته بعيد المدى يسمعه المشرقان. فقال: إذن لست بإنسان.

حينئذٍ زويت لي الدنيا كلها، وأصبح لديَّ الغربي والشرقي وسائر النوع الإنساني في مستوى واحد، فأخذت إذن أفتخر بأعمال العلماء في جميع الملل والنحل، وابتدأت بالأنبياء، وذكرت أعمالهم وعلومهم وهديهم. قال: أنا أعلم بهم منك، ولكن أوصافك لبني جنسك دلتني على أنكم لم تتجاوزوا الحيوانية قيد شبر، ولم تسمعوا كلامهم ولم تعملوا به، ولعلكم اكتفيتم بظواهر الرسوم، وعجزتم عن الصدق والإخلاص وسائر الأعمال الباطنة. فقلت: فينا المخترعون والمكتشفون في سائر الفنون كإسحاق نيوتن في الفلك وداروين في الفلسفة. فقال: هل منهم من أحد حاول انتفاع الإنسان كله؟ قلت: نعم، اسبنسر الإنجليزي وآخرون غائب عني أسماؤهم. فقال: دع عنك ذكر الفلاسفة والحكماء، فليس بحكيم من قَصَرَ عقله على أمة.

ألا إنما الحكماء نواب الله عز وجل في أرضه، فإذا رأيت المرء مغرمًا بسعادة الأمم، دائبًا لراحتهم، مكبًّا على دفع الأذى عنهم فاعلم أنما هو الحكيم النائب عن ربه، ومن عداه من علماء الأمم فإنما هم رجال صناعة كالتجار والزراع والموسيقيين وأحزابهم. فقلت: وعندنا من العلماء العلامة كاميل فلامريون الفرنساوي يجد في اكتشاف طبقات الأرض لنفع الإنسان. قال: عمل شريف ولكنه سعي للحيوانية، هل سعى أحد في تخفيف الحرب؟ قلت: أقوام يقال لهم: الاشتراكيون، وقد قال أديسون الأمريكي: إن الحرب ستبطل بإفلاس الدول، فإنهن إذا أُثقلت كواهلهن بالديون، وصفرت جيوب الرعايا من الدراهم، ثارت في وجوه الحكام، وأبطلت الحرب، فأنغض رأسه وقال: كما تتناطح الكباش والأعنز والثيران، فإنها لا تزال في نطاح حتى تضعف إحداها أو يتساقط المتناطحان.

أين الإنسان؟ إن أقوال علمائكم دلتني على خيبة الأمل فيكم، لا عقول، أين العقول؟ لقد وضح الحق واستبان السبيل، إنكم آساد من أقبح الآساد، فإذا كانت نتائج العقل البهيمية والسبعية فإنكم أنعام وآساد، فلا تتعالوا على الحيوان، وقولوا: نحن حيوان معنى إنسان حسًّا، ألا لا خير في الجسوم، ولا مدار على الصور، إنما الأمر كل الأمر في الأرواح والأعمال والآراء، هنالك طفقتُ أدافع عن الإنسان بالقضايا المعروفة. فقلت: أليس الأقوى له حق الأشراف على الأضعف، أليس في النمل سادة وعبيد، أليس النبات الأقوى يبيد الأضعف إذا اجتمعا، إن هذه قضايا بحثها علماؤنا، وليست تقبل النقض ولا التأويل. فقال: كم من قوي وضعيف جمعتهما السنن الطبيعية، وأقامتهما النواميس الكونية، ألم ترَ أن الفيل والنمل تعيش في مكان واحد فوق الشجرة وتحتها وفي ثنايا الأرض. فقلت: إن ذلك بحواجز طبيعية. فقال: وما منعكم أن تجنحوا إلى حواجز بعقولكم وأسوار تحد عاديات بعضكم عن بعض، ولئن رأيتم الباشق أكل العصفور، وأكل العصفور الدود، وأكل الدود جسم الإنسان، وأكل الإنسان العصفور، ثم شاهدتم الأسد يسطو على الغزال والأرنب فيأكلهما، فليس معنى ذلك أن يقتل الإنسان الإنسان أو يقهره بلا حق، وإنما هو نظام واجب، فإن آكلات اللحوم من الطيور والوحوش حكم عليها أن لا تأكل إلَّا اللحوم، فوظيفتها في العالم الحيواني وظيفة الأطباء في العالم الإنساني.

إن الوحوش الكاسرة والطيور الجارحة تصد عنكم هجمات الميكروبات الضارة بالوباء العام الناجم من جثث الحيوانات الميتة، فلولاها لخلت الأرض من ساكنيها وأصبحت الدار تنعي بانيها، فأما اتخاذ النمل لها عبيدًا فما أشبهه إلَّا باتخاذكم العجول والبقر من جنس الحيوان، فإنها تربيها على نبات وتمتص منها عصاراتها، فأما إذا حاربت نملًا مثلها فليس ذلك فضيلة تؤخذ عنها، ولا حكمة تقلد فيها.

ولو أنكم يا معشر الإنسان قلدتم الحيوان في سائر أعماله لوجب عليكم أن تأكلوا الحشائش والحبوب ولا تخبزون ولا تطحنون.

إن شأنكم أن تأتوا بحجة على دعواكم واهية داحضة لتستروا بها عوراتكم وتواروا بها سوآتكم، من أين أتيتم بهذه القضية الفارغة يا بني الإنسان؟ فهل استعبادكم الأمم وقتلكم الأنفس وتيتيمكم الأطفال إزاحة للوباء، كما فعلت كواسر الطير وسباع البر، قضيتكم في الطبيعة غريبة، ما أكثر أوهامكم، وأقل علومكم، وأجهل عقلائكم!

يا معشر الإنسان، الحيوان يمشي على رجلين، ويغني بصوتهِ، وأنتم اتخذتم العجلات للسير والسفر في البحر، وغنيتم بالأعواد، واستعنتم على الطرب بما حولكم من الناميات النباتية والحيوانية، فإذا سألناكم قلتم: اخترعنا وعقلنا ونحن أرقى من الحيوان. فإذا عذَّب بعضكم بعضًا، وغشت ظلمات ليل الجشع وجه نهار الرحمة المضيء في قلوبكم، فظلمتم وقتلتم وانقلبتم آسادًا ونمورًا قلنا: لماذا جهلتم؟ أحسبتم أن هذه قضية طبيعية كما تفعل الوحوش الكواسر؛ السباع والآساد لحكمة مقدرة، وما حكمتكم أنتم يا أيها الإنسان؟ إن قضية القتل والاستعباد بجهلكم أحدثتموها، وبعقلكم المغرور اخترعتموها، أليس لكل حيوان رأس؟ قلت: نعم. قال: فهل رأيت يومًا رأس حمار على جسم ثور، أو رأس معز على جسم أسد؟! قلت: كلا. قال: ولو أنه وضع رأس أحدهما مكان الآخر أفلا يكون الخلط والخبط في هيئة الحركات والسكنات والأمور المعاشية؟ قلت: بلى. قال: ألم يكن للغربان حكومة جمهورية؟ قلت: بلى. قال: ولكثير من الطير؟ قلت: بلى. قال: وهل شاهدت النحل، أليس له حكومة منظمة؟ قلت: بلى. قال: فالزنابير؟ قلت: بلى. قال: فالحيتان في البحر؟ قلت: بلى. قال: فكلاب الماء التي تبني قرى على شواطئ الأنهار مركبات من بيوت ذات طبقتين عليا وسفلى؟ قلت: بلى. قال: فهل رأيت أمة من هذه الأمم غادرت أمكنتها، وطغت على أخواتها من جنسها، فظلمته وقتلته أو سخرته ليجلب قوتها؟ قلت: كلا. قال: أرأيت الزنابير، أليست مؤذية لكم شريرة فاسقة فاجرة؟ قلت: بلى. قال: أغادرت أعشاشها وحاربت أخواتها؟ قلت: لم أرَ ذلك، ولكنها تحارب النحل، وتشرب عسله. قال: إنهُ من غير جنسها.

فقلت: لقد قرأت في كتاب داروين أن الأقوى يبيد الأضعف من الجنس الواحد كالخطاطيف. قال: لئن صح هذا فليس حجة لكم؛ فليس الخطاف في حاجة إلى الخطاف، وأنت تعلم أنكم مضطرون إلى الاجتماع والاتحاد في مشارق الأرض ومغاربها، وإبادة أمة أو رجل أو امرأة يُحدث نقصًا في مجموعكم الإنساني. قال: ألست تشعر بألم لما يصيب الأمم النائية عنك؟ قلت: بلى. قال: ألست تشعر بما يصنعه صانع أجنبي عن بلادك ودينك ولغتك؟ قلت: بلى. قال: ألست تُسَرُّ لما تسمع من شجاعة الشجاع، وعفة العفيف، وفضيلة الفاضل، وعلم العليم؟ قلت: بلى. قال: ألست تنقبض لجهل الجاهل، وجبن الجبان، وفجور الفاسق، ورذيلة الناقص من أي أمة وبلدة؟ قلت: بلى. قال: إذن يلحقك من نوع الإنسان الفرح والترح والسعادة والشقاء والمنفعة والضر؟ قلت: نعم. قال: ذلك ليس في الحيوان، فلئن أباد الحيوان الحيوان فأنتم في حال أشرف من حاله، واجعل قلبك ميزان سياستكم، وشعورك مقياس عدلكم.

قلت: إذن تريد أن يكون الناس أمة واحدة، فتجمع بين القلوب والأجسام والأرواح، وقد اختلفت لغاتنا ودياناتنا وعقائدنا وممالكنا، وقد كتب علينا أن نكون في حرب ونضال أمد الدهر معذبون؟ قال: أليس الحرب للقوت والمسكن والملبس، فهل غير ذلك؟ قلت: لا. قال: إنكم تحاربون لتساووا أخس الحيوان من الدود والميكروب؛ فإنها تأكل وتعيش. ما لهذا خلقتم، وإنكم عن طريق الحق عدلتم، إنكم بهذا الحرب والضرب والعداء تعلنون الكسل والجهل، أما الكسل فإن امرأً عمل عملًا فسطا عليهِ آخر فانتهبهُ فهو الكسول، تعلمون أبناءكم أن يكونوا عالة على غيرهم، تهدمون صروح الصناعات في الأمم المغلوبة، وتنيمون الغالب على فراش وثير.

وإني لأضرب لك مثلًا، هذه الممالك المتمدينة الأمريكية، أليست مركبة من ممالك كثيرة؟ قلت: بلى. قال: فالمملكة من إيالات؟ قلت: بلى. قال: فالإيالة من قرى؟ قلت: بلى. قال: فالقرى من بيوت؟ قلت: بلى. قال: أليس سكان البراري والقفار يعيشون قبائل قبائل، وكل واحدة ترى سعدها في أن تهضم حق جارتها، وتهلك حرثها ونسلها، ويقول شاعرهم ويغني مفتخرهم بما يقول عمرو بن كلثوم:

ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرًا وطينا
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ
تخرُّ له الجبابر ساجدينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا

قلت: بلى. قال: فلو جعلنا الممالك المتحدة قبائل كالتي في البادية لبلغت ألف قبيلة أو يزيدون. قال: أوَليسوا الآن أسعد حالًا، وأنعم بالًا، لو كانوا أشذاذًا متفرقين، يقتل بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، ومأواهم العذاب وما لهم من ناصرين؟ قلت: بلى. قال: أفلا يفخر اليوم كل رجل منهم بأنه أمريكي؟ قلت: بلى. قال: أفلا تُعَد الأمم اليوم قبائل متوحشة، كل قبيلة تنازع جارتها، وتناوئ قرينتها، وإنها لو تضامَّت لأصبحت ممالك متحدة وأسرة واحدة، يعلِّم عالمها جاهلها، ويرحم قويها ضعيفها، فتكون سعادتهم أوفر، وخيرهم أكثر، وعزهم أوسع، وهم جميعًا على سرر متقابلين.

الطبيعة وأسرارها محجوبة عنكم، ولن تنالوها إلَّا باتحادكم على استخراجها وتمالئكم على إظهارها، ومقامكم في العالم مقام رفيع، ولكنكم جهلتم أنفسكم، وتربصتم للشر، وارتبتم في الخير، وغرتكم الأماني، حتى صرتم في الأرض صاغرين. قلت: ليس الإنسان معذبًا للإنسان، إنما هو معلم له ومرشد وهادٍ، والأمم الراقية ترشد المقهورة. فقال: قد أجبتنا من قبل بما أفاد أنكم ظالمون طاغون، ولقد غلبت عليكَ صفة أممكم الأرضية، فأجبت بالإجابة اللفظية، وحققت أن لكم قولًا يخالف العمل، وظاهرًا يخالف الباطن، تقولون كما أخبرتنا ولا تفعلون، كَبُرَ مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، ولقد مزجتم صفات الآساد بأخلاق الذئاب، ووضعتم القوة العالية في مصاف الحيوان.

الآساد أشرف منكم نفوسًا وأطيب قلوبًا؛ فإن ظاهرها باطنها، وباطنها ظاهرها، فأما أنتم فباطنكم الفطري فيه الرحمة، وظاهركم من قبله العذاب، فتلوَّنتم وعذبتم وذقتم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى.

إنكم رحماء طبعًا، فلما أن ألفتم الصيد والحرب والفتك والقتل صار عادة، والعادات تلحق بالطبائع، فتصير ألزم من الشرائع، ولا تمتاز عن الخلقة الأولية للعالمين، الناس في حاجة إلى الناس، فاجتمعت القبائل والبلدان، والممالك، فتعاونوا، واختص كل بعمل لينفع الجميع، وتولدت من ذلك المطامع فنشأ الخصام والجدال والقتال، فالحرب فأصبح خلقًا فيكم، إنهُ ليس من طبعكم، إن طبعكم المعاونة، فالحرب عارض يزول.

ما أجهل الإنسان يجتمع مع الإنسان للتعاون، فلما طمع وشَرِهَ وجهل أخذ يستعد لمكافحة أخيه ليتخذ منزله وغذاءه وأرضه! ليس هذا طبعًا، هذه عارضة واهية زائلة، ومن عجب أن يدع الطبيعة وأسرارها، والحكمة وثمارها، ويستثمر ما غرس أخوه، عار عليكم أي عار، وجهل فاضح، وفساد واضح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤